الفصل الثالث عشر

فصل في آداب المغني والسامع

اعلم أنه ينبغي للمغني عند دخوله مجلس الغناء أن يكون متأدبًا؛ لأنه لا يخفى أن هذه الصناعة صناعة أهل الذوق والفطنة والأدب — وأن يكون مجملاً بالثياب النظيفة المفرحة المعطرة — وأن يكون بشوش الوجه عذب الألفاظ — وينبغي له أن لا يتعاطى مسكرًا قبل غنائه أو في أثنائه؛ لأن ذلك ربما يدهش عقله ويمنعه من معرفة إيقاع الأنغام والأوزان في محلها — وربما يتكلم في المجلس بما لا يليق بسبب سكره مع أنه نديم المجلس وزينته، وأن يكون له دراية بضرب (الدف) لأن سير الغناء وآلات الطرب عليه بحيث لو اختل الدف في ضربه لاختلت الآلات وفسد الغناء — ولكن لما كان جل رؤساء (التخوت) أصحاب الأجور الكبيرة لا يعرفون إلا بعض الأوزان الصغيرة — ومعرفتهم في الضرب على الدف مقصورة جدًا — أراحوا أنفسهم من هذا العناء بأن جعلوا لهم في التخت دقاقًا مخصوصًا — واكتفى بعضهم بضربه على العود — حتى إذا ما ترك العود قليلاً وأراد أثناء الاشتغال أن يمسك الدف يظهر خطؤه حالاً لكل ذي بصيرة وعلم — أقول ذلك وأنا على يقين منه — فعسى أن يتركوا الكسل والغطرسة جانبًا ويتعلموا من الصغار الذين يشتغلون معهم بأقل الدريهمات (الأوزان) لأنها الجزء الثاني من صناعة هذا الفن الذي لا يتم إلا به (وذكر أن نفعت الذكرى).

ويجب على المغني أن لا يخرج بصوته دفعة واحدة بل ينتقل شيئًا فشيئًا — وإذا وجدت الآلات مع المغنين فيلزم أن تكون جاهزة للعمل قبل دخول المجلس؛ لأن التصليح فيه مما تمله وتسأمه النفوس خصوصًا في أول الليل — ثم ينظر إلى حال السامعين ويغني لهم بما تألفه نفوسهم ويطربون منه — ومن كمال المغني أيضًا أن يكون حسن الشمائل في الغناء، فمن ذلك حسن نصبته في الجلوس، فإنه إن لم تكن نصبته معتدلة أثر ذلك في صوته نقصًا وفسادًا — ولا يصلح أن يغني مستندًا ولا متكئًا؛ لأن ذلك يضعف صوته ومتى مالت الحنجرة ولا ينحني — ولا يتقاعس — ولا يتثاءب — ولا يحرك يديه ولا رجليه — ولا يتمايل ولا يشنج وجهه — ولا يجهد نفسه حتى تنتفخ أوداجُه وتزوَرّ عيناه (ككثير من الفقهاء القباح الذين يتركون الاشتغال بالقرآن الكريم ويتمسكون بعلم الغناء والحال أنهم لا يدرون منه شيئًا وهم من يسمون بأولاد الليالي) — ولا يتحرك ألبتة من جهة إلى أخرى — ولا يظهر عليه أنه مستحسنٌ لما يقول (كبعض مغني عصرنا الحديثي العهد في الفن) يجمع على أدب النفس أدب الدرس وصلف النفس — وتجنب الإكثار من الشراب — ولا يمعن في تناول التنقل واستعماله كثيرًا على الشرب؛ فإنه ينفخ ويفجج الشراب ويدعو إلى القيء ويحط من قدر صاحبه — قال بعض الظرفاء لشخص رآه يكثر من التنقل في مجلس الشراب: إنك تشرب النقل وتتنقل بالخمر. وينبغي للمغني أن يكون عفيف الطرق والفرج قليل الحديث مجتهدًا في ترك المزاح وكتمان السر، وأن لا يقول وصلني فلان وأعطاني فلان وحضرت البارحة الموضع الفلاني وجرى لنا كذا وكذا، فإنه إذا مدح رئيسًا يحضره رئيس وفخم الأول فقد هجا الثاني وصغر إليه نفسه — وأن لا يطلب شيئًا، فإن لم يكن عن ذلك مندوحة فلا يسأل في شيء يصعب؛ فإنه إن منعه صارت وحشة، وإن أعطاه مقت وثقل — وأن لا يلاحي مغنيًا حضر معه، ولا يفاخره ولا يرد عليه غلطًا فيفيده علمًا ويكسب عداوته، وربما أنكر الرد وكابر على الخطأ ووقعت العصبية وجرى ما لا يتلافى — ويحتاج أن يكون أيضًا بصيرًا بالغناء والثياب والجوهر والسيوف والخيل والطيور الصائدة والفرش والكتب والعلوم — فإن حضر الأمير شيء وسأله عنه عرف جواب ما يريده منه ولا يتكلم إلا جوابًا — إلا أن يستدعي منه المذاكرة والمطاولة في الحديث ولا يحكي ولا يستخف ولا يتبذل ولا يقلع ثيابه ولا يتروَّح — ولا ينتقل من الموضع الذي رسم له — ولا يكثر القيام لحاجاته — ولا يراسل ستارة أو شباكًا — ولا يشرب والأمير يشرب إلا إذا أمره — وإن قام فيحمل آلاته معه — ولا ينام عند رئيس — فإن نام فلينم مع جماعة — وإن غنى فليكن غناؤه بما يشتهي الرئيس دون من في المجلس — وإذا سأله أحدٌ أن يغني لا يقول والله إني مريض — ولقد غنيت كثيرًا أمس مثلاً — من هذه الاعتذارات الباردة التي تثقل على السامع — خصوصًا إذا كان من يطلب منه الغناء يعرفه — فإن كان لم يسمعه قط وكان مرضه صحيحًا اعتذر له بعذر غير هذا — كما أنه لا يكثر من وضع رباط على رقبته بدون مرض ليوهم الناس أنه مغن مجيد وحريص على صوته الرخيم جدًا الذي ربما يستحسن صوت الحمار بجانبه١.

وأحسن ما كان الافتتاح في حضرة الأمراء والكبراء بالدعاء والثناء — أي أنه يلحن على كلام المديح ألحانًا تشابه افتتاحيات التياترات — وأن يصاغ شعر كهذا مثلاً.

أسلم سلمت أمير المؤمنين ولا
يسلم عدوك إن الله خاذله

ومثل:

وعلى عدوك يا ابن عم محمد
رصدان ضوء الصبح والإظلام

ومثل:

والله أظهر منك نورًا ساطعًا
فبدا وأطلع منك نوًّا ممطرًا

ومثل:

فما أطيب الأيام ما عشت سالمًا
وأيسر ما يأتي به الدهر من خطب

ومثل:

أنتم سماء الفخر فافتخروا
وفي ذرى المجد أنجم زهر

ومثل:

قد تناهيت في المكارم والجود
وحزت المدى فأين تريد

ومثل:

ألم تر أن الله أعطاك سَورة
ترى كل مَلْك دونها يتذبذب

ومثل:

أنتم ذوو النسب القصير فطولكم
باد على الكبراء والأشراف
والراح إن قيل: ابنةُ العنب اكتفت
بأب عن الأسماء والأوصاف

ثم يقابل المغني الأوقات التي يقع فيها الاجتماع بما يشاكلُها فيغني في آخر الليل مثلاً من (الراست):

رب ليل سحرٌ كله
مفتضح البدر عليل النسيم

ويغني في الصبح:

أصبح اليوم كما
يهواه أهل الصبوح

ويغني في البساتين والرياض:

ولما نزلنا منزلاً طله الندى
أنيقًا وبستانًا من النور خاليًا

ويغني في اليوم الطرير:

ويوم من الزمهرير مقرور
عليه جيب السحاب مزرور

ولكن من الغريب أن أكثر الناس أيضًا إذا سمعوا أشعار العرب التي قيلت في الديار والرسوم. والآثار والمرابع والأوطان والأطلال والدِّمَن وصنعة الخيل والإبل والوحش والوقائع والثارات والأيام والأعلام والمهامه والسباسب والبيد والقفار يضحكون منها ويستبشعونها؛ لأنها تبعد عن أفهامهم ولا يؤثرون من الأشعار إلا ما كان ركيكًا وفي الغزل والروض والخمر والقيان والمجالس لقرب ذلك من أفهامهم، وسرعة ملاءمته لألفاظهم — فيحتاج المغني بهذه الصناعة على الارتياض بالنظر في النحو واللغة، واستفهام الغامض من كلام العرب ومعاني أشعارها وألفاظها ليسهل عليه حفظها وفهمهما؛ فإنها أشعار جزلة فحلة كأنها نحت من صخر تتضمن أخبار العرب ووقائعهم وأثمالهم وأقوالهم وأخلاقهم ومفاخرهم وكرمهم وأنسابهم وأحسابهم، ولكن على شرط أن لا يغنيها إلا لمن يفهمها ويقدرها قدرها — كما وأنه من العيب البيِّن على الأديب أن يطلب الكلام الركيك ويترك الشعر الجيد.

أما ما يجب على الملحن، فهو أن يعتمد العناية بوضع الأشعار فيما يشاكلها من الألحان — فما أغفل ذلك لم يعتد له بكبير فضل — قال قيدرس: الموسيقار الفاضل يجلب اللحن نحو المعنى ومتى لم يقدر الموسيقار على أن يجلب إلى معنى النفس بالشعر جسد اللحن، فليس هو بموسيقار كامل إذا كان شاعرًا — فإن لم يكن شاعرًا وكان صاحب لحن فقط فعلى الشاعر أن يخرج معنى النفس بالشعر وعلى الموسيقار أن يلبسه لحنًا مشاكلاً له — وقد تكون الأشعار أصنافًا عدة في الفخر — والشجاعة والزهد — والغزل — والصيد — والشرف — والحزن — والمراثي — والثارات — والقدر — والوفاء — والفرقة — والاجتماع — والغرام — والسلو — وصفة الخيل — والزهر — والمياه — والبرك — والبحار — والبساتين — والنزَه — والبعد — والقرب — والظفر — والفتح — والرياض — والحسد — والكتمان — والمصافاة — والكرم — والمواساة — والتهنئة — والدعاء — والحال — والثياب — والدواة — والقلم — والكتابة — والبلاغة — والخطابة — والسياسة — والحلم — والرياسة — والشرف — والأعراض — والشراء — والحدق — والقصور — والقدود — والنهود — والأرداف — والتثني — واستنجاز الوعد — والادكار بالحوائج — والحث — والحمية — والتحريض — والتعزية — والتسلية — والحضور — وماشا كل هذه الأحوال، وما يخلو أحد من أن تكون حالة متعلقة بشيء من هذه الخلال — ولكل معنى فيها ما يشاكله — فسبيل المغني أن يضع على كل معنى ما يليق به — فإن مدح فخَّم — وإن ذكر الوقائع أرهب وأرعد وأبرق — وإن ذكر الغزل رفق — وإن رثا ناح — وإن ذكر الموتى بكى — وإن ذكر الشباب تأسف — وعلى هذا المعنى يكون اعتماده.

وفي الألحان ما يحدث الانبساط — وما يحدث الانقباض وما يحدث الحركة — وما يحدث السكون — فأما الشكل الانبساطي، فهو الشكل الفخري الذي ينبئ عن المجد والنجدة وعلو الهمة وشرف النفس٢ وقد امتحنا بأنفسنا مقامي (الراست والعجم) فوجدناهما لائقين بما تقدّم — وأما الشكل الانقباضي فهو الشكل الشجوي الذي يحزن ويبكي ويكمد ويشعر الإنسان عند سماعه بالجبن والخوف (العشاق — الجهاركاه) — وأما اللحن الكوني فهو المنبئ عن السكون وهدوء النفس وسلامتها ودعتها (النهاوندي — الصبا) — وأما الشكل السروري فهو الذي ينبئ عن تحريك النفس وجذلها (الأوج) — مع مراعاة أن الأوزان السريعة هي التي تحرك النفس إلى النشاط والتهيج — بخلاف الأوزان البطيئة فإنها تسكن الأعصاب — فعلى الملحن المجيد أن يضع النغمات على الأوزان التي تشاكلها — كذا لكل هذه النغمات والأوزان من الأشعار ما يوافقها.
والطريقة الموصلة في وقت قريب لمن يريد معرفة أسرار التلحين هي:
  • أولاً: يجب على من يريد معرفة سر التلحين ليلحن — أن يكون حافظًا لمئات من الموشحات العربية والبستات التركية والبيشروات والأدوار والطرق وإلى غير ذلك من جميع المقامات؛ ليعلم كيف فعل الأولى سلفوا.
  • ثانيًا: أن يكون عالمًا يعلم التصوير أي نقل الطبقة من مقام إلى مقام آخر.
  • رابعًا: أن لا يستقبح تلاحين الأجانب، فإنه بالتعود على سماعها تصير عنده ملكه التمييز، فيعرف ثمة الحسن منها والردى.
  • خامسًا: يلزم أن يكون له معرفة بالأوزان، وما يصلح منها للحركات البطيئة والسريعة لتساعده على الكيفيات الموسيقية من حماسية ومسكنة ومفرحة ومحزنة إلخ.
  • سادسًا: أن تكون له ملكة التلحين؛ كي يكون تلحينه مقبولاً عند الناس.

والطريقة المثلى للملحن الماهر — هو أن يفرض بأنه واضع جميع ما يحفظه من التلاحين من المقام الذي يريد التلحين منه أمامه — كأنها أثواب مُحاكة من حرير وصوف وكتان وقطن إلى غير ذلك — وكل ثوب منها مركب من كل هذه الأصناف مثلاً — والغرض انتخاب الحرير من كل ثوب أي انتخاب القطع المطربة من كل تلحين منها — الملحن المتمكن الذكي يمكنه أن يلتقطها وبعلمه يربطها ببعضها بمناسبات نغمية — فتكون الخلاصة قطعة غاية في الطرب والإتقان لتزاحم القطع المطربة فيها. وفي هذه القدر كفاية لقوم يفقهون.

يروى أن الواثق سأل إبراهيم بن ميمون الموصلي عن التلحين؟ فقال يا أمير المؤمنين: أمثل الطرب بين عيني وأخلي من الفكر خاطري، وأسلك إلى الألحان بدليل من المعرفة فلا أرجع خائبًا، فقال: له بحق تقدمت.

وقد سأل الحسن بن الطحان نفس هذا السؤال فأجابه: — إذا أردت التلحين أجريت سوابق الأشعار في ميدان الأفكار بعد أن أخلي خاطري من خواطر الأفكار الرديئة، فأنتخب أغزلها وأجزلها شعرًا فألبسه حلل الألحان حلة بعد حلة فأي حلة رأيته متهللاً مشرقًا فيها أفضتها عليه، وحليت جيده بجواهر النغم وجلوته على سمعي وتأملته بعين معرفتي فإذا رزق حظوة الرضا، وسلم رأيي فيه من الهوى أظهرته للوجود وغنيته مرتادًا للجود — فأعجب بهذا الكلام ووصله وخلع عليه — وبلغ باقي المغنين ذلك فكادوا يموتون حسدًا.

ولي كلمة هنا لأبناء فن الموسيقى في مصر وهي:

أرجوكم بلسان كل محب لرقي هذا الفن أن تتركوا التحاسد الذي بلغ بينكم أقصى غاياته، وأن تتمسكوا بالوئام والاتفاق وتجتمعوا على المحب والألفة وتتفقوا في المحافظة على شرف الفن ورفع شأنه — وأن تنسوا المخاصمات والمشاحنات الواقعة بينكم — وبدلاً من أن تقولوا إذا سئلتم عن أحد أنه غبي جاهل لا يعرف من قواعد الفن شيئًا — أن تقولوا له: مجيدٌ في صناعته جاد في إتقانها مثلاً — حتى لا تثبط همته ويثابر على عمله بجد ونشاط، ولكي لا يعرف منا الغير موضع الضعف والخطأ، فيذكروه لنا وقت المجادلة. ومن جهة أخرى أقول: ولا تثريب عليّ اليوم بأن سمعتكم لدى الناس صارت رديئة، وكرهكم لبعض سارت بذكره الركبان فضربت به الأمثال في جميع الأصقاع والبلدان — وفوق ذلك فإنهم يتهمونكم بأنكم ذوو نفوس صغيرة لا تميلون إلى منفعة بعضكم البعض ولا ترغبون في أن يظهر من بينكم نابغةٌ تنتفعون بعلمه وينتفع الناس بعمله — وإن معاشرتكم لبني طائفتكم أساسها النفاق — وأعمدتها المداهنة والخداع، وهذا القول — والحق يقال — جارح لإحساس كل حر شريف ولهجة الناس به مرارًا ضربة شديدة على الفن وازدراء بأهله وتحقير لمن يود أن يتصف به وينسب إليه.

فيا أرباب الطرب والكياسة والأدب أني لا أحب من صميم فؤادي أن تتصفوا بهذه الصفات الممقوتة من الله والناس — فأسألكم بحق رابطةِ الفن وجامعة الصناعة أن تكملوا أنفسكم بمحاسن الأخلاق وأحاسن العادات، وأن تتركوا ظهريًا وساوس الشيطان وما يبثه في صدوركم من الغل والحقد وأن تنزعوا من أفئدتكم أدران النميمة والوقيعة بإخوانكم حتى تصل بكم إن شاء الله في القريب العاجل إلى ذروة كمال هذا الفن وإتقانه.

هذا ما يجب على المغني والملحن باختصار وإيجاز. أما ما يجب على السامع فهو: — يجب على السامع إذا دخل مجلس الغناء أن يكون بشوش الوجه مرحبًا بالمغنين؛ لأنهم زينة المجلس وعليهم يتوقف سرور الجميع — ولا ينبغي له أن يقطع على المغني غناءه ليطلب دورًا يحبه — ولعدم معرفته أصول الفن لا يدري أن الآلات تحتاج إلى تصليح — وأن المقام المصلحة عليه الآلات قد حلا وتمكن من آذان المغنين — وأنه غير المقام الذي يريد منه دوره — الذي إن لم يقله المغني ربما تزمر وتآمر مع أصحابه على معاكسته طول الليل، فليست كل هذه الأفعال من شيم الكرام — وإن كان لا مندوحة من طلبه، فليكن قبل تصليح الآلات — كما أنه لا يجوز له أن يصيح بكلمات التأوه قبل انتهاء الحركة — وأن لا يحتقر مغنيًا، أو يرى أنه أرفع مقامًا من أن يسلم عليه لا، فإن المغني إذا كانت خلاله شريفة، ولا يفعل فعلاً يخل بالمروءة، فقد وجب احترامه ويكون لا فرق بينه وبين الطبيب — والرسام — والمحامي — وغيرهم من ذوي الفنون الجميلة — فالموسيقيون والممثلون في أوربا غاية في التجلّة والتعظيم — ولكن أبى الله إلا أن نقلد الغربيين في رذائلهم ونترك محاسنهم — كما أنه لا ينبغي له أن يتنافس مع آخرين في أن المغني سيغني دوره الذي طلبه دون؛ سواه لأنه صاحبه أو عزيز لديه — بل يعلم أن المغني غير ملوم في أي شيء مطلقًا؛ لأنه لو أراد أن يغني لكل واحد ما يريد لما تأتى له أن يُرضي الجميع إلا في عشرة أيام على الأقل لتعدد الطلبات واختلاف النغمات — هذا من جهة — ومن جهة أخرى إذا لم يكن المغني مطروبًا وراضيًا عمّا يقول، فقلما يمكنه أن يطرب أحدًا — وأكرر النصح والمقال وإن ألقيته أيها السامع في زوايا الإهمال أن لا شيء أصعب وأثقل على المغني من تكرير الطلبات أو ادعائك علم النغمات فتقول مثلاً (الله كمان٣) هذه الحركة الجهاركاه — وتكون هي في الحقيقة عراقًا) — كما أنه يجب عليك أن لا تسكر كثيرًا وتقف على التخت ماسكًا بعود المغني أو يده ليقول لك ما تريد أو يعيد ما قال من هذه الأمور التي تستدعي عكس ما تطلب في أكثر الأحيان — بل الواجب عليك أن تراعي إحساساته وتنشطه بكلامك العذب الرقيق؛ ومن ثم ينشرح صدره فيطربك بما يفتح الله به عليه٤ — وليعلم الذين يعرفون قيمة السماع الحقيقي وليس بالتقليد، وجلُّ غرضهم أن يرفعوا بأبصارهم إلى الشبابيك أو أن يظهروا أربطة الرقبة الحريرية الحمراء و(الياقات) العالية البيضاء والأحذية الضيقة الزرقاء وتجعيد الشعور والخواتم الألماس — ثم يمنوا على المغني بعد كل نصف ساعة بلفظة (آه) في غير محلها — أن يمعنوا النظر ويدققوا الفكر ويعلموا أن الطرب الحقيقي في البيشراوات والموشحات إذا قيلت على مهل وباعتناء حتى تفهم ألفاظها ومعانيها — وليس في الأدوار كما يظنون إلا ما كان منها متينًا (كمليك الحسن — الحجاز كار) للمرحوم (عبده أفندي الحمولي) — و(في هواك أوهبت روحي) (الراست) للشيخ محمد عبد الرحيم — أقول ذلك لأني شاهدت بنفسي مرارًا أن بعضهم يقطع على المغني الموشحات البديعة التلحين المتينة الألفاظ والمعاني ليطلب دورًا غاية في سخافة الألفاظ وضعف التلحين.

ومن أقبح ما ترى العين وتسمع الأذن أن يقاطع المغني متشاعرٌ يدعي الخطابة فيضايق المغني والسامعين بوريقة لفق فيها بضع أبيات من الشعر الركيك أو النثر المستهجن فوقف موقف الخطيب ونعق نعيق الغراب، ونادى بما لا يسمع ولا يجاب — ولا بد أن يصادف مثل هذا الأحمق صفير أو تصفيق وكلاهما من علامات الاستهجان وإشارات عدم الاستحسان — إلا إذا كان التصفيق في النهاية؛ فإنه يكون استحسانًا ممقوتًا أيضًا؛ لأنه غير منطبق على عوائد الشرقيين وعلى من يضيع هذا الغر على السمر والمتسامرين هزيعًا من الليل لسماع كلمة الهُراء الذي لا يجدي نفعًا.

والأغرب أنه لا يكاد يجلس هذا الخطيب الصقيع الذقن حتى ينهض بعده مهزار يقابله آخر مثله خفة وظرفًا فيتبادلان أنواع الشتائم والقذف المسمى عندنا (تنكيتًا) ويأخذان على ذلك مكافأة من صاحب العرس يحرم منها الخطيب الأول حيث يتساوى الجميع على مائدة الطعام — فالأجدر بنا أن نقتلع جذور مثل هذه العوائد؛ فإنها من رأينا من مقدمات المفاسد.

هوامش

(١) وفي سفينة المرحوم الأستاذ الشيخ شهاب كلامٌ ظريف على آداب النديم فمن شاء فليراجعه ويضفه إلى ما تقدم.
(٢) وقد كتب بعض المؤلفين السابقين في كتبهم أشياء كثيرة بهذا المعنى، ونظرًا لعدم مطابقتها لعصرنا هذا قد ضربنا الصفح عن ذكرها؛ كي لا تضيع الفائدة المطلوبة وهي عدم كتابة الموضوع قبل التحقق من صحته.
(٣) كلمة عامية معناها: أعد ما قلت. (فصل فيما ينشط المغني وما يكسله).
(٤) لأحوال التي تنشط المغني وتزيد في إحسانه: شمول السلامة والعافية — وانفساح الأمل والقدرة — وميل الأمراء إليه — وتفضيل الناس له — وطيب العيش — وحسن الملبوس والمركب — وطيب الرائحة خصوصًا النرجس والبنفسج — والنظر إلى المياه والبساتين — ومجالسة الكبراء والرؤساء والعلماء. وأن يكون معلق الآمال بزيادة في حاله وجاهه — والعشق أيضًا مما يزيد في إحسانه وسخائه وإطرابه — ويوافقه جدًا خلو المجالس ممن يزري ويتغامز عليه؛ إما غيرة منه أو حسدًا لعدم قدرتهم على الوصول إلى درجته — أو ممن ينبهه على مساويه — أو يقدم عليه غيره — ومما يثبط همته ويكسر نفسه أيضًا: العلة والقلة — وشغل القلب — وفساد المزاج — والخوف — والتعب — والاستفراغ — والامتلاء — والجوع — والعطش — والغضب — وجفوة من يحسن إليه — وتغير إخوانه عليه — وانقطاع الموارد عنه — وقصور أمله — وضعف رجائه — وتضاعف ديونه — وكثرة غرمائه وقلة أعوانه — وتغير عاداته ووسخ ثيابه — وقبح مركبه — وتفضيل الناس عليه، ولا سيَّما من هم دونه علمًا وصوتًا — واستهجانهم لحسنه وتشاغل من في المجلس عما يقوله — وقلة فهمهم لما يأتي منه — وقبح المشتغلين معه وقصورهم عما يلقيه من بديع الصناعة — فقد حكي أن إسحاق بن إبراهيم كان له غلام اسمه زرياب قد عرف من صناعة الغناء ما لم يعرف غيره ممن كان في عصره — فكان إسحاق يحضره معه في المجالس ويصرف خاطره نحوه لتحسن نفسه أن معه عارفًا بما يقوله، فيزيد نشاطه وطربه وجميع فعله وقوله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤