الفصل الرابع عشر

فصول مهمة ومباحث ضرورية عمومية جدية بالالتفات التام

فصل في التحذير عن الأخذ من أصحاب قهاوي الحشيس المعروفين (بالصهبجية)

كان بودي أن لا أحوم حول هذا الموضوع وأتحاشى الخوض في عبابه؛ لبعده أصالة عن خطة كتابي هذا — غير أن للضرورة أحكامًا، فاعلم سيدي — حفظك الله وألهمنا جميعًا لما فيه الخير — أن بعضًا من المشتغلين بهذا الفن حينما لا يعرفون حقيقة وزن تلقوه على شخص غير خبير بدقائق هذه الصناعة يضعونه بأنفسهم على أي وزن كان (كالمخمس) أو (المدور) أو غيرهما — وبهذه الكيفية الملفقة فسد كثير من الموشحات البديعة — أقول ذلك عسى أن يتنبه أولئك فيتركوا التمسك بالمكابرة التي تضلّهم عن طريق الصواب — ويستبدلوها بالأخذ عمن يوثق به من الأساتذة. فإن العلم الصحيح — والشهرة الحقة — لا يأتيان مطلقًا بالسهل لك من أخذ عن أصحاب (تلك القهاوي) — وليست كلمة: (متفنن) أو ما يماثلها — يتصف بها كل من حفظ بعض الموشحات مشحونة بالخطأ — كما يفعل ذلك بعض المشايخ والطلاب الأغبياء الحديثي العهد بالدخول في هذا الفن الجليل — الذين يموهون على بسطاء بأنهم من فحول العلماء — حتى إذا ما امتحنتهم أمام خبير كشف لك ستار جهلهم وظهر حالاً بطلان ما يدعون.

ولأجل زيادة الإيضاح ومعرفة المطلع البصير بكنه هذه المسألة الجديرة بالالتفات سأشرح لحضرته من باب الفكاهة باختصار حقيقة أصحاب تلك القهاوي البلدية المعروفين (بالصهبجية) أو العصبجية) — وكيف كانوا قديمًا وما توصلوا إليه الآن.

من المعلوم أن رجال هذه الطبقة زعانف جهلاء — ومن أين لهم معرفة القراءة والكتابة اللتين عليهما مدار وقوام تعليم أي علم من العلوم وفن من الفنون — وقد شبوا فوجدوا أنفسهم بين أيدي أناس كبار السن من طبقتهم يرمون بهم في مهاوي الفساد والشرور — والنابغون منهم تلقوا بعض الموشحات على رؤسائهم في القهاوي (كسعد دبل) و(محمد الحضري) وغيرهما بدون أوزان — ولم يزل هذان الرئيسان موجودين للآن ويربو عمر كل منهما عن الثمانين — وقد اختبرتهما فوجدتهما لا يعرفان اسمًا لأي وزن كان.

فلما تعلم بعض الشبان الموشحات على أوزانها منا وصاروا يغنون بها في أخريات الليل في حالة أنسهم ونشوتهم في تلك القهاوي — تنبه أصحابها إلى أن هناك أوزانًا منظومة عليها تلك الموشحات وهي التي تحدث الطرب المطلوب البعيد عنهم — فأخذ بعضهم بطريق السرقة أو التودد بضعًا من هذه الأوزان١ وفي مدة عشر سنوات انتشر أكثرها — هذا من جهة الأوزان — أما من جهة تنغيم تلك الموشحات فحدث عن الخطأ البين والتبديل والتغيير فيه ولا حرج، وهم معذورون في ذلك لأسباب:

أولها لعدم استعداد أصواتهم لهذا الفن — ثانيًا لعدم أخذهم ممن يوثق بالأخذ عنه.

ولرب سائل يقول: وما هو السبب في اجتهاد هذه الطبقة في حفظ تلك الموشحات بعد أن علمنا من قصورهم في المعرفة ما علمنا؟ — أقول: — أن من الناس من يصنع (عرسًا) ولا مال عنده يساعده على استحضار (مغن مجيد) أو (فقيه شهير) فتجبره حالة العسر إلى وجود مثل هذه الفئة بعد أن يرتب حتمًا ما يلزم لهم: دكتين بلديتين أمام بعضهما في وسطهما (تربيزة) ملصوق عليها كثير من الشموع — يتخللها كاسات وزجاجات الخمر البخس الثمن — أو بعد أن يجلس المغنون ويقف السامعون — يمسك رئيسهم الدف ويبتدئ بالغناء مع أصحابه — حتى إذا ما انتهى الفصل الأول يرفع عقيرته أحد الصبية (بموال) غاية في سخافة الألفاظ وقبح المعاني وبعده الشائع عما يلزم أن يقال في مثل الأعراس، وأشهر موال عندهم هو موال يقال له موال (مهران المشنوق) — وهذا الموال هو عبارة عن واقعة محزنة يسردها هذا المغني الغبي لتعيس شُنِق، وما حصل له من الإهانة من فظاظة أخلاق الحرس وضيق السجن ومعاناة الموت الزؤام وتسيير الجنازة إلخ — ولولا خوفي على شعور حضرة المطلع لأتحفته به أو بغيره — كذا يشترط في مغنيهم أن يكون قبيح الصورة نكر الصوت — وبعد انتهاء الفصل الثاني الذي يغني به من مقام غير المقام الذي انتهت إليه حركة المغني السابق الذي ينطبق عليه القصيدة التي أنشأتها ودرجت في يوم الأحد ٥ جمادَى الثانية سنة ١٣٢٣ في جريدة (الخلاعة) العدد ٣١ وهي:

ومغن إن تغنى
أوسع الندمان غمّا
دقه يدوي كصوت الـ
ـرعد للآذان أصما
خارج عن كل وزن
يبدل التكات تما
أحسن الجلاس حظًا
(كل من كان أصما)
في غناء أخذه بالثأر
من موليه شتما
جاء في التنزل عنه
أنكر الأصوات حتما
صوته سوط عذاب
نستعيذ الله مما
يملأ الأسماع رعبًا
ويزيد القلب همًا
وهو بوق الموت للأحيـ
ـاء من يسمعه حُمّا
ذبحةٌ فيا كنبح الـ
كلب لو أعطوه سمًا
إن زفا في البيت ماتت
بومة مما ألما
أو طلا بالعطر ثوبا
أنفه بالنتن نما
أثقل الناس كلامًا
وأخف الناس حلمًا
وجهه فقر يزيل المـ
ـال مهما كان جمًا
نابهٌ يسطو على الفوـ
ـلاذ والصوان قصمًا
فكه أقوى من الطـ
ـاحون عند الأكل قضمًا
يدخل النار سريعًا
إن يجد في النار طعمًا
سادة النادي رويدًا
قد كفى صبرًا وحلمًا
وأطيعوا الله صحبي
لا تخافوا فيه إثمًا
واشتروا غلاً ثقيلاً
وانتقوا للفم لجمًا
واركبوه واضربوه
فوق ذاك الرأس جزمًا
يأخذ السامعون في الصياح والتهليل — وتارة يكون أمام تلك (الجوقة) جوقة أخرى تماثلها في الشهرة فبعد انتهاء الأولى من الغناء يهز الرئيس الدف علامة متبعة عندهم لتبتدئ الجوقة الثانية فيه — ولكن من المحتم الذي لا انفكاك عنه واللازم الذي لا بد منه أن تضرب هاتان الجوقتان بعضهما في أثناء الليل أو في آخره؛ لأن إحداهما غلبت الثانية بضروب الأغاني — فتحب الثانية أن تغلبها بضروب العصي — وفي أثناء رنات تلك المثاني والمثالث يأتي الخفراء ويسوقون الجميع إلى الحبس — وبذا ينتهي العرس٢.

فصل في كيفية التعليم

اعلم أن أساس التعليم وأصله وقوامه في كل صناعة الذكاء وجودة الخاطر ويقال الطبع والشهوة والميل ومعرفة المتعلم قدر الصناعة والتمييز وصفاء الذهن، فإن هذه الأمور إذا كملت في المتعلم خففت عنه وأعانته وكفته مئونة التعليم وصعوبته.

والمعلم يحتاج إلى لطف ورفق وسياسة وحلم وإقامة الهيبة بلا ترهيب، بل بترغيب وحيلة بين من يتعلم من الصبيان، ومناضلة يوقعها بينهم ومخابرة ومسابقة ومحاماة عن بعضهم ومواعيد كاذبة — أما الضرب والاستخفاف فما يجدي نفعًا ولا يكاد أن ينتفع معه أحد إلا اليسير؛ لأنه يشغل الخواطر ويكمد القلوب ويحيل عن الطباع ويخرج إلى كراهة ما يضربون عليه — والغناء وهو مبني على الطرب فيجب أن يستخرج بما يشاكله لا بما ينافره — وسبيل المعلمين أن لا يكثروا على الصبيان المبتدئين بالصنائع فإن خواطرهم تتلبد وأفكارهم تتقسم، وقدرتهم تمل، وآلاتهم تكل بل يروضوهم في شيء فشيء، إلا أن يأخذوا أولاً بالأصعب حتى يسهل عليهم ما بعده — ويأمره المعلم أن يغنيه، وإلا فهو ينفسد عليه بعجلته ودغدغته للجهة الصعبة التي في التلحين — وربما ينسى منه موضعًا فيضعه من عنده ويثبت معه مفسودًا ويتعب معلمه في قلعه تعبًا عظيمًا — وأن يخير في الآلات فهو أسرع لتعليمه وأنجب وأنجع — ويجب على المعلم أن لا يكلف الطالب ما لا يطيق ولا يقتصر به عما يطيق فذاك هو الصواب. غير أن ترتيب طبقات أصوات المغنين والمغنيات يحتاج إلى كبير معرفة بأحسن مواقعها وتصير بحيث تظهر جواهرها — والحذر من ترك المبتدئ والتعب والتنقل وزيادة التنقل من طبقة إلى أعلى منها، فربما لحقه بححٌ من التعب المفرط، وبقي معه إلى آخر عمره — وإني رأيت المعلمين يجبرون الصبيان قبل البلوغ ويلزمونهم أشد الطبقات يزعمون أن ذلك أصلح لأصواتهم وهو أضر ما عليهم؛ لأن ذلك يقطعهم ويستنفذ أصواتهم — والواجب أن يكون الغناء صباحًا قبل تناول الطعام — وبالعشي بعد انحداره وهضم المعدة له — ولكل صوت صنعة وموضع لا يجب تعديته إلى غيره — فإن الأصوات إذا خيف عليها كلت وانقطعت وضعفت الآلات المصونة أي (الأحبال الصوتية) وإهمال الأصوات يضربها وإغفالها والخلود إلى الراحة — والتوسط في ذلك أحسن لها. فإذا أعيدت إلى الشغل فليكن ذلك على تدريج، فإنها تعود إلى أصلها والعادة طبيعة ثانية فافهم.

فصل في كيفية اختيار من يتعلم

أما اختيار من يتعلم من الصبيان أو البنات فيلزم له الفراسة التامة — وذلك أنه لا يصلح لتعلم الغناء إلا من كان صوته شجيًّا، وصورته مقبولة وأعضاءه متناسبة ومحاسنه دقيقة والذكاء ينطق من عينيه ولسانه وأعضاؤه لينة وأطرافه سبطة ولسانه رقيق ولفظه عذب ومنطقه حلو ونغمته مليحة وفمه صغير وعنقه بارز وألحاظه سريعة وكلامه سالم من اللثغ والرنة والخونة والتشدق والكذب والنميمة — وليحذر من يكون منهم نظره مفسودًا وخاطره متبلدًا وتصوره فاسدًا وخلقه سيئًا ونشاطه قليلاً وجوابه بطيئًا وعقله مخبولاً.

فإذا وقع من هم بالصفات الجليلة السابقة الأولى فاجمع منهم من شئت واكسهم ما يستملح وأطعمهم ما يستطاب وطيبهم بما يستدعي حضور نشاطهم وأحضر لهم من يعمل بسائر الآلات ومرهم بالعمل والمطاولة — فمن رأيته يألف صاحب آلة — أو — كمنجة — أو رباب، فألزمه تلك الآلة والعمل بها والرياضة فيها ونقله إلى ما سواها وروضه في واحدة، فإنه لا بد أن ينجب فيها أو في الجميع — فإن لم ينجب مع كل هذا التلطف، فاعدل به إلى ما سوى هذه الصناعة.

فصل في صفة المغني الحاذق

فهو كل من كان لطيفًا في اختلاسه وافر الحظ من حسن الصوت والتصرف — والمغني يحتاج إلى ثلاث — الحكاية والرواية — والدراية — والمغني الكامل؛ من غنى فأصاب وأطرب وألهى — والمغني الحاذق من عدّل الأوزان وأشبع اللحون وملأ الأنفاس وفخم الألفاظ وأقام الإعراب — أي ليس يجب عليه أن يخطئ في الألفاظ حتى تتغير المعاني ويتمسك بقول الجاهل الذي قال: (ليس على المطرب أن يعرب) غير أنه يغتفر له وضع الهمزة بدل القاف في بعض الأحيان وترقيق بعض الألفاظ الضخمة مثلاً — لتكون أخف على السامع — ولكن أكثر المشتغلين بهذا الفن معذورون؛ لأنهم لا يحسنون القراءة والكتابة بل قل إنهم لا يعرفونهما — فيجب عليهم حينئذ أن يسألوا أهل الذكر ليدرءوا عنهم شبهة الجهل — والمغني الكامل أيضًا من تفرع في أجناس الإيقاع وملأ بإحسانه المسامع وأحسن مقاطع النغم القصار واستوفى الطوال — والمغني هو الذي يجتمع له العلم والعمل — فإن كان عالمًا ولا يخدم صناعة الموسيقى بصوته ويده وقلمه، فلا يسمى مغنيًا وإن كان عالمًا فاضلاً — وإن كان عملاً بلا علم فالأمر فيه كالأمر في ذلك؛ لأن وقوع الصواب إنما يقع بالاتفاق لا بالعلم ومن أصاب ولم يعلم الصواب فيجوز أن يخطئ ولا يعلم الخطأ — ولا يسمى مغنيًا حاذقًا إلا من اجتمع له العلم والعمل حتى ولو حسا الأقداح وحث على شرب الراح — ولكن المغني الكامل الحاذق من جمع إلى علمه وعمله المعرفةَ التامة بمواضع الصواب من الخطأ، فإن وقع فيه في وقت الضرورة وقادته إليه، رجع إلى الصواب من تلقاء نفسه لا بمراجعة الغير له — والحاذق هو الذي يدرك محاسن الغناء كلها — ولا كل مدع يحفل بقوله، فإن من الناس من يعتمد حفظ ما يوهم به من يناضله ولا علم معه ولا عمل فلا بد من الامتحان — وكيفية ذلك أن تطاوله وتديم الاستماع منه تجتهد أن لا ينسحب من موضوع لآخر يفقه جيدًا قبل أن يتم الأول فلا يخفى عنك ما هو عليه في أول ما يبتدئ — فقد قيل الحس عنوان الغناء — والعالم لا يقدر أن يكتم فضله وعلمه؛ لأنه يظهر في حركته ونظره وإشارته.

فصل في أسماء مُلَح الغناء وصفاتها

(الاجتهاد) هو أن يجتهد المغني عند الفواصل والمقاطع. (الاستهلال) مشتق من استهلال الطفل بالبكاء ساعة يولد. (الاسترسال) هو أن يسترسل المغني في غنائه من غير خروج. (التفخيم) تفخيم النغم وتعظيمها وتزيينها. (الترخيم) من رخامة الغناء وتلطيف الصوت، (الصياح) هو أن يكون في الأصوات ما يكون تحسينًا لها (الترجيع) تكرير النغم والمعاودة فيما يمضي. (التقريع) هو أن يخرج المغني من نوع إلى نوع ويعود إليه (التقدير) تقدير أزمان الأصوات وفصلوها. (المراسلة) تراسل المغنيين بعضهم لبعض (المطاولة) هي مطاولة المغنيين بعضهم بعضًا لينقطع كل ضيق النفس. (المخاتلة) أن يراسل المغني رفيقه فيسكت عنه ويقطع به. (المناضلة) هي أن يتناضلا ويتجاودا ليظهر فضل كل على صاحبه. (التغريد) مشتق من تغريد الطيور بحسن أصواتها. (التوطئة) ما يوطأ به للحركة قبل مجيئها من غناء أو صوت. (الاختلاس) أن تؤخذ النغمة قبل وصولها والفراغ من الأولى. (تقدير الأنفاس) أن يتنفس المغني في فصول الألحان بدون أن يشعر بذلك أحد. (الاشتراك) أن يمزج نوعًا بنوع ويرجع إلى الأول. (الإغراق) أن يتغارق في الموضع ليحسنه. (الإنفاق) هو أن ينفق المغني مع غيره بالأزمان. (الإضعاف) هو أن يضعف على المغني بضعف طبقته. (الابتداع) أن يؤلف اللحن من طبعه لا من غيره. (الاختراع) أن يلحن الدور من عدة نغمات. (التوجع) جنس من الأسف والحزن والجزع. (التفجع) أشد من التوجع ويليق بالمراثي. (التذلل) يكون في الألحان فيما يليق من الأشعار (التدلل) هو صوت من التشاجي مليح (التحرز) هو التحفظ من الزلل في الغناء. (الاتصال) اتصال المغني بمغن آخر ومعارضته بأحسن من قوله. (القهقهة) تجيء في الغناء بمعنى الضحك. (الهمزة) أن يهمز النغم في مواضع من الغناء وهو مستحسن. (الاستكانة) هو التوفيق والخضوع والتذلل. (الاستنابة) أن يستنيب الأوتار عن حلقه في الشدة. (الشجي) من التشاجي وحسن الصوت وهو من الطرب. (البكاء يحكي باللحن فيما يليق به من مرتبة أو شكوى. (التأوه) وهو شيء مطرب يشبه اسمه. (التكرير) تكرير النغمة المطربة المستحسنة. (التدريج) تدريج اللحن من شدة إلى لين وبالضد. (الزفرات) وهو من الزفير وهو مستحسن.

طريقة الغناء في مصر الآن

يبتدئ أولاً بالبيشروات لأنها الأصل — وهي من صناعة أهل الأستانة — ثم بالموشحات؛ لأنها فروعها ولو أنها قديمة فإن أهل الأندلس لما كثر الشعر في قطرهم وتهدبت مناحيه وفنونه، وبلغ التنميق فيه الغاية استحدث المتأخرون منهم فنًّا منه سموه بالموشح ينظمونه أسماطًا أسماطًا أو أغصانًا أغصانًا، يكثرون منها ومن أعاريضها المختلفة، ويسمون المتعدد منها بيتًا واحدًا ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتاليًا فيما بعد إلى آخر القطعة، وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد وتجاروا في ذلك إلى الغاية واستظرفه الناس جملة؛ الخاصة والكافة لسهولة تناوله وقرب طريقه — وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مُقدِم بن معافر الفريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني، وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد، ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر — وكسدت موشحاتهما — فكان أول من برع في هذا الشأن عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية — وقد ذكر الأعلم البطليموسي أنه سمع أبا بكر بن زهير يقول: كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز فيما اتفق له من قوله:

بدر تم
شمس ضحا
غصن نقا
مسك شم
ما أتم
ما أوضحا
ما أورقا
ما أتم
لا جرم
من لمحا
قد عشقا
قد حرم

وزعموا أنه لم يسبق عبادة وشاح من معاصريه الذين كانوا في زمن الطوائف — وجاء مصليًا خلفه منهم بن أرفع رأسه شاعر المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة — قالوا وقد أحسن في ابتدائه في موشحته التي طارت له حيث يقول:

العود قد ترنم
بأبدع تلحين
وسقت المذايب
رياض البساتين

وفي انتهائه حيث يقول:

تخطر ولا تسلم
عساك المأمون
مروع الكتائب
يحيى بن ذي النون

واستمر ذلك مستحسنًا عندهم فتفننوا فيه وجعلوه على أوزان كثيرة مختلفة — وانتقل هذا النوع على المشرق فنظموا منه مال لا يدخل تحت حصر — ومن أرق ما نظم من ذلك قول ابن سنا الملك:

(كللي — يا سحب تيجان الربا بالحلى
واجعلي — سوارك منعطف الجدول)

وسنذكر بقيته عند وضع كلام الموشحات — ثم بعد الموشحات ينشد المغني قصيدة أو موالاً — وفي أثناء ذلك يطرب بآلة مثل العود أو القانون — ويسمى بالتقسيم — وأهل مصر في هذا العصر لهم شغف بسماع الأدوار البسيطة فإنهم يطربون لها بمجرد سماعها لسهولة ألفاظها وفهم معانيها ولخلاعة المغني بها — فينشدون معًا القطعة الأولى من الدور المسماة بالمذهب — ثم ينشد المغني بمفرده أو بمساعدة رقيق له مساعدة بسيطة الدور — هذا إذا كان المغني حسن الصوت — أما إذا كان غير ذلك فينشد الدور مع واحد أو اثنين أو ثلاثة حسبما يتراءى له — ثم يختمون بإعادة المذهب — وبعد بالدوارج ويستريحون قليلاً، ويسمى هذا — (بالفصل الأول) أو (بالوصلة الأولى) ثم يعيدون الغناء كما كان إلى الفصل الثالث — وفي أخريات الليل ينشد المغني بمفرده قصيدة — أو يردون لازمة عليه وهو ينشد لهم أبياتًا مساوية لها في الوزن الشعري — ولي كلام هنا أيضًا — وهو أن بعض الأمراء؛ نظرًا لأن المغنين لا يبتدئون في الغناء إلا قرب نصف الليل تقريبًا، فيكتفون بسماع الفصل الأول — الذي يكون المغني فيه غير متحصل تمامًا على الاستعداد الكافي للطرب — فالأصوب لأصحاب الأفراح أن يعودوا المغنيين على أن يغنوا مبكرًا؛ ليكون للسامعين من انفساح الوقت ما يذهبون على منازلهم مستريحي الجسم منشرحي الصدر.

فصل في تفضيل الغناء القديم على الحديث وفيه بحث

لا جدال ولا خلاف في حسن الغناء القديم وصحته ووثاقته وبه اقتاد المحدثون وعليه مثل الملحنون جيلاً بعد جيل وأهل عصر بعد عصر — قبل لأحد المغنين لم تؤخرون الغناء المحدث وأنا أحس من الطرب عليه ما لا أجد من الطرب على القديم بالجملة؟ فقال: ما نؤخره إلا لعلة — وذلك أن الغناء المحدث موضوع على زجل ركيك المعنى سقيم اللفظ — والقديم بخلاف ذلك لأنه محصور القوانين صحيح القسمة جزل الألفاظ حلو المعاني — قال إبراهيم الموصلي: فضل الغناء القديم على المحدث كفضل الطعام الطيب على غيره؛ لأن الطعام يأكله الشبعان لطيبته وهو يعلم فضله — والطعام الغير طيب يأكله الجائع ضرورة ويعلم أن غيره أفضل منه وأشرف — وتنصرف عنه نفس الشبعان وتأباه — وسبيل الغناء القديم والحديث سبيل الحديث وأنه كرواية عن العلماء كلما قرب الأستاذ كان أصح وأشرف — ويحتاج الناقل أن يكون جيد التأدية صحيح التصور والتمثيل لا يزيد فيه ولا ينقص وإلا أفسده — وأن يحفظ أجزاءه ومقاطعة ويوفي نغمه.

وقد قال لي إنسان عارف بهذا الشأن وقد انتصرت للغناء القديم — نعم وإن كان محكًا وثيقًا صحيحًا، ولكنه ليس فيه من هذه المحاسن التي تذكرونها ونسمعها من شيء وإنما تولد فيه على طول الزمن واكتسب الحلاوة من الأصوات والطبائع والقرائح — فقلت له ليس كذلك؛ لأن ضد هذا بين لنا عند التأمل — ألا ترى أن الغناء القديم كلما أخذته عن صحيح الرواية قريب العهد من العلماء الذين تلقوه على سابقيهم كان أصح وأمتن وأقرب إلى الصواب — وأنه كلما بعد العهد وكثرت الرواة وانقرض الصدر الأول، زاد نقصًا وفسادًا — وذلك أن الذي يأخذ تلحينًا عن آخر لا يمكنه أن يتلقاه على أصله إما لسرعة الأخذ لفرحه به — أو لبخل المأخوذ عنه فيحذف محاسن القطعة شحًا — ويفعل الآخر كذلك مع الثالث وهلم جرا — وتوجد آفة أخرى وهي أنه يتعسر على المغني موضع من التلحين في بعض الأحيان فيضعه من عنده وربما كان في القطعة المرفوعة الطرب لأن صوت الملحن الأول لها كان أشجى — وبمثل هذه الطرق ينفسد التلحين ويتغير ويستحيل — فإن كان هذا فيما قرب فكيف فيما بعد؛ لأن سائر من نقل الغناء لا يشهد لهم كلهم بالحذق ولا يحكم لهم بالإحسان — وإنما وصل إلينا من مسيء ومحسن وعالم وجاهل وموقع وخارج — وعن نساء لا يعرفن شيئًا من الصناعة كعادتهن في كل زمان ومكان (كما هو حاصل بمصر الآن فإن أكثر المغنيات الشهيرات فيها قبيحات الصوت غير عالمات بأقل شيء من قواعد هذا الفن — وشفيعهن مع كل هذه المساوي التي لا ينكرها عاقل ويعترف بها كل بصير — (أنهن نساء). وإنما يأخذن تقليدًا بالطبع فإن شذ عنهن شيء أغفلته أو احتل موضع بدلته بما ليس في قسمة النغم — وأنا أسمع ما لحنته وأبدعته من بعض المغنين والممثلين والطلاب مع اجتهادي في الغاية معهم وقلة شحي عليهم به وهو ناقص مختل — وإن كانوا من رخامة الصوت وحسن الأيدي في الأصول — والحذق في الغناء على نهاية الحسن — ولكن لا بد من أن يزيدوا أو ينقصوا ويثبت معهم ولا يتغير.

ومن المعلوم أن الناس يتنازعون الفضل في كل زمان وأوان وإن كان الفضل والسبق للقدماء — ولكني أقول إن الغناء الحديث إذا كان متساوي الأجزاء صحيح القسمة معتدل النغم موقعًا جيدًا موضوعًا على أصول غير (المصمودي) فإنه يساوي الغناء القديم ويجري مجراه — وإنما الناس متعودون بتفضيل ما غاب عنهم وتنقيص ما حضر في زمانهم فما كل غناء قديم أجود من حديث — وكل غناء جديد متين فهو قديم إذا أضيق إلى ما بعده.

ولقد جربت الناس في كل شيء قديم وتهاونهم بما يحضرهم إنني أغني من الأصوات لحنًا ركيك الشعر قليل العمل خاليًا من المحاسن الصناعية أصالة وأنسبه إلى بعض المتقدمين فيقترح علي مرة أخرى ويقول السامعون هذا والله الحسن المعجز — ثم أغنيا للحن الحسن الطويل الأدوار الكثير العمال واجتهد فيه وأنسبه إلى بعض المحدثين فيعرضون ويتشاغلون عنه ويريدون اللحن الأول — وكل عالم محتقر عند أهل زمانه فإذا فقدوه عظمته صناعته وطلبوها وذكروها — ومن ذلك أن دواوين الشعراء لا تطلب إلا بعد وفاتهم ولله في خلقه شئون.

هوامش

(١) وقد نبغ من هذه الطبقة كثير أذكر بعضهم على سبيل المعرفة بالشيء ولا الجهل به — (الشيخ محمد البوشي) — (الخواجة قسطندي) (عبد العزيز البولاقي) — (الشيخ درويش الحريري) (محمد رزق) — (حسنين المكوجي) — (الحاج شحاتة الحلواني) — (إبراهيم السطوحي النجار) (محمد المغربي النقاش) (عبد الحميد الجزمجي) (يوسف كريم الخياط) — (محمد مراد) — (محمود الخضري) وغيرهم.
(٢) ملاحظة — قد تنبه من ذكرناهم من هذه الطبقة في كتابنا هذا إلى أكثر هذه المساوئ والقبائح، فابتعدوا عنها تدريجيًا وتمسكوا ببعض الكمالات بخلاف من لم نذكره منهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤