الفصل الخامس والعشرون

ترجمة (كامل أفندي الخلعي)

(مؤلِّف هذا الكتاب)

بقلم حضرة الكاتب الأديب، والناثر الأريب، صديقه وتلميذه الفاضل. عبد الله أفندي كامل.

هو الموسيقار الأديب، ونابغة مصر الأريب، الذكي اللوذعي، (كامل أفندي الخلعي)، ابن سليمان أفندي الخلعي. من أسرة الخلعي الشهيرة بدمنهور.

وُلد المترجم بالإسكندرية لما كان والده ضابطًا بالجيش المصري في يوم عشرين رجب سنة ١٢٩٦ هجرية. وجاء به إلى مصر صغيرًا، فأدخله إحدى المدارس الأميرية. فأشرقت شمس ذلك المفضال. إشراقها في وجه الهلال. وكان يميل إلى مطالعة كل كتاب. ميل الأرض الماحلة لابن السحاب. فكنت تراه حليف رقاع.. أليف محبرة ويراع.

وينشأ ناشئ الفتيان منَّـا
على ما كان عوَّده أبوه

قد اطلع على كثير من كتب الأدب، ودرس أشعار العرب. وتصفح وسائل الأدباء. وطالع مقامات البلغاء والفصحاء. فعلق في ذاكرته النثر الفحل. والنظم الجزل. فكان في ذلك كالنحل تروح وتغدو على غصون الأشجار المختلفة الأجناس. فتختار منها أندر الأزهار. وأغرب الأنوار. وتنفث من مجموع ذلك شهدًا فيه شفاء للناس.

وأعقب ذلك بمصاحبته لخير من شعر وكتب. ونثر وخطب. العلامة الفاضل الذكي. سما حتلو أفندم (السيد توفيق أفندي البكري) — فصار كاتبًا ليده أزمانًا طويلة وهو له أقرب جليس. وأيمن نديم وأنيس.

ثم تنقل تنقل القمر في المنازل. وعاشر العظماء والأماثِل، فتراه يومًا في روضٍ أنيق، ويومًا بحزوي ويومًا بالعقيق.

ولما كان علو همته لا يقف عند حد. وليس لصدره ورد. شغِف بفن (الموسيقى) بعد فنيّ الرسم والخط شغف عمر بالثريا. وحارثة بن بدر بالحُميّا. وصافى أهل الفضل في ذلك الفن الجليل. كالموصلي والمغربي وعبد الرحيم وأبي خليل. فأخذ منهم ما أشجى وأطرب، وروى عنهم ما أعجب به وأغرب.

فما إسحاق الموصلي في توقيعه على الألحان. ولا إبراهيم بن المهدي في قدرته على تبديد الأحزان. ولا معبد في جلب السرور. ولا زِرياب وقد أهر خفايا القلوب ومكنونات الصدور. بأحسن صوت ولا أتقن في الصناعة. ولا أعلم مجيد هذه البضاعة. من هذا الذي ميَّز الغثَّ من الثمين. وأظهر الشك من اليقين. ولا غرو فالبحر الخضم، إذا فاض لم يحكِه اليم.

وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى ذليل

لعبت في أسرته أيدي الأيام ففرقتهم منه الآمال. بل جد واجتهد. وقيد ما شرد، ورحل إلى البلاد القاصية. والجهات النائية؛ ليستجلي غوامض أسرار هذا الفن النفيس. حتى صار أستاذًا يرجع إليه في المشكلات ويعول عليه في التدريس. متضلعًا من الموسيقى الشرقي قديمها وحديثها، حافظًا لتلحين الموشحات والأدوار المصرية. والشامية والتركية. ما يعجز عن حفظ عشره أكبر موسيقي في الشرق مع الدقة وحسن الإلقاء؛ حتى يخيل للسامع أنه ثمل بين الرياض الغناء. مشهورًا في توليد السرور في قلوب خلصائه حين غنائه. فلا يعتريهم ضجر أو سآمة. بل كأنّ المحل الذي هم فيه فم يفترُّ عن ابتسامة.

مر المذاق على أعدائه بشع
حلو الفكاهة للأصحاب كالعسل

وحسبك دليلاً قاطعًا، وبرهانًا قويًا ساطعًا، ما في ألحانه من المتانة والطرب. وهي كما شهد لها أئمة الفن والناس غايات الأرب. له كثير من الأفكار السامية والألفاظ الرقيقة. والمعاني السهلة العميقة. ما تشهد له بطول الباع. وسعة الاطلاع. وأنه من فصحاء الأدباء. قال منها في مؤلف مطبوع له هذا التشبيه في الغناء:

«اللحن البديع — من مغن مجيد — وعلى آلات الطرب، كالمعنى اللطيف — يكسوه اللفظ الشريف — ضمَّهما بيت بليغ من الشعر».

وله في الحكم العصرية. لتهذيب أنفس المسرفين من أبناء الأغنياء في الأزبكية: الأزبكية ملعب يمثل عليه إسراف الوارثين فيظهر الواحد منهم في الفصل الأول من الرواية ملكًا (يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرمًا) حتى إذا ما انتهت *** ظهر في الفصل المضحك أجيرًا يلعن الزمن ويذم الدهر وينشد مع الحكيم.

الناس من دنياهم في مأتـمِ
فالسحب تبكي والرواعد تندب

وخاصم مرة صديقًا له فقال: «لا أريد فراقك أبدًا — ولكني سأراك بالنظارة المعظمة معكوسة».

وله في الغرام: «الحب طائر يلتقط حبة القلب؛ فالبصير من قتله أو فر منه قبل أن يراه». وقال أيضًا: «لا يحزنك رغبة محبوبك عنك إلى سواك؛ فإنه ملك يتصرف في ملكه كيف شاء فيرضى عن هذا ويسخط على ذاك ولكن الذنب عليك حيث استهواك إلى الدخول في خدمته».

وكسا كثيرًا من المعاني الغربية — حللاً عربية. فقال منها: «كان بعض الملوك الفاتحين يسامر إحدى معشوقاته، في فتوحاته، ويذكر لها أنه كم سلب العاقل، واستنزل العصم من المعاقل، وكم ترك فوقا لأرض أرضًا ثانية من الأشلاء، وأذل دولاً شماء وكم هدم معلمًا. وأطاح عرمرمًا. وإن الدنيا طوع يديه، والأفلاك مسخرة إليه. فأجابته أجل أيها الملك الفاتح. والروض النافح. ولكن فتح المعاقل بقاذفة الشؤبوب، أخف من فتح القلوب، وإخضاع أمة من الأعداء، أهون من خداع غانية هيفاء».

وقال تحت عنوان (الداء الدفين): — لا يسلو العاشق ما تلذذ به من سلاف كأس الحب، كما لا ينسى ما تجرعه من مرارة آخره في القلب. فإن غدر به معشوقه فدب في قلبه له دبيب الملال. وصار معذبًا بين عزة النفس وذل الحال.

تريدين كيما تجمعيني وخالـدًا
وهل يجمع السيفان ويحك في غمد

لما أمكنه أن يتلوه مع ذلك ولو سُقي السلوان، ولا يطفأ ما اتقد في قلبه من لواعج الأشجان.

لا يخطر السلوان عنك بخاطري
إلا وردّ من الجوى بكمين

إلا بأمرين: إذا تغيرت صورة من يهواه، أو اتخذ له عشيقًا سواه.

فالأول: إذا رغبت العين أن تتمتع بحقيقة مرآي ما هو مطبوع في القلب. لما أجيبت بغير السلب. وهناك تذهب السكرة، ويتنبه العقل فتأتي الفكرة حاملة لواء النجاة، منقوشًا عليها بمداد الحياة، (من الوجود، يعشق المفقود).

والثاني: يتذرع المعشوق الجديد بسلاح عزم العاشق الوطيد. وينقض على المعشوق الأول فيقوض منه الدعائم، وينزعه ليحل محله من قليب قلب الهائم. والعاشق المسكين بين ذلك تتنازعه عوامل الأسى والأسف. ويشوَى كبده على جمر التلف. على ترك معشوقه السابق. وخشيته من اللاحق، وتستمر تلك الثورة في قلبه على قدم وساق. بين الحب والحزن والفراق، حتى يتغلب أخيرًا على نفسه وينبذ الأول ظهريًا، وضعيفان يغلبان قويًّا. فهو كما ترى في شفاء مقيم مهما تنوعت الأسباب، وبلاء عظيم ما دام يجري في عروقه دم الشباب؛ ذلك لأن المعشوق الجديد متى ثبتت قدمه في الدار، فعل ما يهوى ويختار. فران على قلبه. وأخذ بمجامع لبه. وربط جوارحه. وحل جوانحه. وتصرف كسابقه تصرف الملاك على مرأى من المالك. فيتلف معالم عقله ويسد في وجه صاحبه المسالك.

المستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار

فيرفع الدعوى من خصمه إليه، فيحكم له لا عليه.

يا أعدل الناس إلا في محاكمتي
فيك الخصام وأنت الخَصم والحكم

فمثل قلبه في ذلك كالبكر العذراء، إذا تزوجت رجلاً جميل الطلعة والرواء وبعد قليل من الزمان. سامها خسفًا وأذاقها الهوان. وانقلب عليها بعد العزة فاستذلها. وما كفاه قلاها حتى لابس عليها غيرها. فتطلب بالضرورة ما ينقصها من لذة الجماع. وتذهب إلى القاضي ليحكم لها في هذا النزاع، وبعد التثبت من أقوالها. يحكم بانفصالها عن زوجها. وهي مطلقة التصرف ثمت للتأهل بأي رجل تشاء. ممن فوق الغبراء. فلو أمكنها العدول عن تجديد عقد الزواج. وفضلت العزلة عن احتياجها في المستقبل إلى مر العلاج.

تفرد الشيء خير من تألُّفه
بغيره وتجرُّ الأُلفة النقما

لأمكن كذلك للعاشق أن يمتنع ثانية عن الغرام. بعد أن أذاقه صنوف الآلام. ولكن أنى له ذلك وبذوره كامنة في قلبه كمون النار في الحجر. والزهر في الشجر. وإرادته ضعيفة من أن تحجر على عينه من صرف إنسانها على كل جميل. أو تخلصه من شبكة الحب إذا أوقعه فيها قلبه العليل.

وويح إنسان عيني إن جنحت إلى السْـ
سَلوى فلي منه دومًا أوبُ مؤتاب
figure24
شكل ٢٥-١: كامل افندى الخلعى.

وقال تحت عنوان (النجاة من خطر الهوى):

إذا ضاق صدر الصب. وامتلأ بجيش سلطان الغرام فضاؤه الرحب. وعلى حرانه حتى صار كالبركان العظيم. من أُوار حر الجحيم. وغدا قلبُه مصبًا لسوط العذاب. وحطبًا لنار العقاب. وعقله كرة لصولجان الفكر ومأوى للهموم. وطرفه موكلاً يرعى النجوم، فانبرى كمن سبقه بالملائمة على العين. وادعى أنه داعية الأسى والغبن، حيث أعقبت النظرة بعد النظرة. فأوقعت باستحسانها المرثي القلب في الغصة والحسرة.

لأعذبن العين غير مفكـر
فيها؛ جرت بالدمع أو سالت دمًا
ولأهجرن من الرقاد لذيـذه
حتى يعود على الجفون محرما
هي أوقعتني في حبائل فتنة
لو لم تورطني لكنت مسلما
سفكت دمي فلأسفحن دموعها
وهي التي ابتدأت فكانت أظلما

فعاد ثمت ليلهُ نهارًا بالسهاد. ونهاره ليلاً في السواد. وحوصر على باب فمه بكاتم سر الملك وجنده. فأمسى معتقلاً بسلاسل الحيرة في حبس من جلده. فأذعن مرغمًا لإرادة أمره القاضي بأن لا تنبعث أشعته من الظلمات إلى النور. وأن لا يخرج سره المكنون من حيز الخفاء إلى شمس الظهور. وافترسته خلال ذلك لتوانيه في عمله أنياب الفقر. وتوالت عليه كوارث الدهر. قرح إلى قرح. وملح على جرح. فأثقلته صنوف الآلام: آلام الأرواح وآلام الأجسام. وأصبح صريع الغرام مسكينًا. وللنوائب مستكينًا. طرفه يقظان مغضوض. وإبهامه معضوض. وأُسْقِط في يده، ولم يدرِ كيف يهتدي سواء السبيل. ويفر من وجه هذا الظالم وجحفله العريض الثقيل. وينجو من حكم سلطانه المستعبد للأحرار. والمستأثر بذوي الأقدار. والمعطل عما ينفع من المصالح. والمدمى بسلاحه الماضي الجوارح. والمقلب القلب على جمر الغضا وضرام الألم. والمانع عن الاشتغال بالعلوم والحكم. والسائق إلى وليه غمام الغم. والهائم به في وادي الهم. فليهب ويستبد بالعزائم؛ لتشتد منه الدعائم. وينفش على ما سلم في قلبه من سهام العين النجلاء. هذه الحكمة لتكون كإنذار بوشك وقوع معركة شعواء لا تظهر قوة ساعد العقل في ضرب الحسام. إلا في محاربة النفس في ساحة الغرام.

أجل: فلا يلبث أن ينتبه العقل من غشيته، ويفيق بعد طول السبات من غفلته وسكرته. ويتألب على النفس المنغمسة في حماة الرذيلة. بعد أن يتدرع بالفضيلة. ويغل في عنق معشوقه سلسلة مساوية إذا تمكن من أسره؛ ليرد ما كاده له إبان ما كان مستسلمًا لأمره.

وبعد التحام القتال، واشتباك الطعن والنزال، ومعاناة كبير عناد ومجالدة. ومجادلة ومجاهدة. تضع الحرب أوزارها، فتتبدى عن العين الكليلة عن ذنوب المعشوق ظلمُ أستارها، فترى العقل وقد خرج من تحت النقع مكللاً بإكليل الفوز والظفر. منشورًا فوقه أعلام الفتح والنصر. واضًعا (الغيرة) أصل بلاء العشاق في القيود والأغلال، والشكائم الثقال، ثم يلفظ بها إلى أقصى مكان. ليخطب ودِّ أبيها ليزوجها منه من يرضى لنفسه الصَّغار والهوان. ومن ثَّم يعود إلى برجه آمنًا من العثار مرة أخرى في وهْدَة الخبال والجنون، متحدثًا بنعمة ربه الذي أفرج كربه صاحبه وأنقذه من ريب المنون. وألهمه من فيضه الإلهي الصواب، فاستنبط به دفائن نبات القلوب. واستخرج بصولته ودائع الغيوب. وأودع فيه القوة التي ملكته من عنان مركب ربه وهواه. فكفاه في الحقيقة أعدى أعداه. وسيَّره بسرعة البرق ليلجمه قبل أن يجمع فيهوي به في مهاوي المهالك، ويحيد عن الصراط المستقيم ليسلك أوعر المسالك.

وعلى أثر شكره الله. على ما منحه وأولاد. يشعر العاشق براحة البال. وانفراج الأزمة لهزيمة كتائب البلبال. وانبعاث روحه ثانية خالصة من الآثام. بعد أن كانت ملوثة بالغرام. فيبتهل إلى الله بخشوع. ويتضرع إليه بخنوع وخضوع. قائلاً سبحانك لا يأخذك نوم ولا سنه. ولا تحدك الأوهام والألسنة. تنتقم بقدرتك من الباغي. وتفضي بنيل المباغي. نعمك لا تحصى. مع كثرة ما تُعصى. خلقت لنا العقل نبراسًا نستضيء بنوره في خنادس الليالي المواثل. ونفرق بحسامه القاطع بين الحالي والعاطل والحق والباطل. ونسترشد بهديه لتحفظه من طوارئ الحدثان بزيادة التجارب. ونستنقذ بحكمته مما يكدر صفاء العيش من انصباب متاعب المصائب. وانتياب شوائب النوائب، فما ألطف صنعتك في إزالة اللأْواء. وأوسع رحمتك لإدامة الآلاء. لا يفي الشكر لمواهبك بجزائها. ولا بأقل جزء من أجزائها. أحمدك حمد المعترف بفضلك الجليل. المقر بإحسانك الجزيل. على إنجائك لي من فعل هذا الشراب. الممزوج بالزعاف والصاب. بعد أن كنت منه على شفا جُرُف هارٍ. وركوب مطية الدمار. كالمتلذذ في مضجعه باستنشاق الكثير من الأزهار. فتخدر أعصابه بسموم أريجها المعطار. ويقضي على مهل نحبه. ويلقى ربه.

ولما قرع باب السماء. بمثل هذا الدعاء. وسأل العفو وطلب الاستغفار. على ما جناه من العزيز الغفار. لاذ بالمتاب. وبعد أن زاغ عن سنن الرشاد آب. فتمسك بأطراف الورع والعفاف. وآلى أن لا يحتسي — ما دام حيًّا — من كأس هذا السلاف. الذي هوى به فأحال صبغة حاله. وكساه أثواب الضنى بذميم خلاله.

هذا ولمّا كان لا يمكن الاحتراز من الأقدار. والاحتراس من الفلك المدار.

إذا نزل المقدام ولم يبقَ للفتى
نهوضٌ ولا للمخضرات إباء

وحيث إن الحب راحته عنا. وبقاؤه فنا. والمرء يذنب ثم يتوب. واللب يعزب ثم يثوب؛ لذلك خلع لباس الجزع وسلم الأمر لله. ونسي ما جنته عليه عيناه.

فمن كان يؤتى من عدو وحاسد
فإني من عيني أتيت ومن قلبي

ثم أراد بعد برهة أن ينزه الفكر. في ملعب عجائب الدهر. فنظر من نافذة الاستقامة المشرفة على طريق السلامة. فرأى ثمّ رأى المعشوق خارجًا منه يتعثر في أذياله. ويتضاءل حسنه في أسماله. ينفض عن عطفيه عثير سقوطه من قمة السعادة والعلاء. إلى الدرك الأسفل من هوَّة التعاسة والشقاء. وكأنه به وهو يعض سبابة الندم. والسدم يجول في باطنه فيحرق الإرم. تعسًا لك أيتها النفس.. ما أسرعك في اتباعك فاسد الهوى. وسحقًا لكِ فإنكِ لا تميلين لغير معاشرة من ضل وغوى. فكفِّري عن ذنبك العظيم. وارجعي خاشعة إلى حظيرة ربك الكريم. فيسبل ستار التوبة على نحوس مطالع أيامك. ويغفر لك ما تقدم من ذنوبك وآثامك. واحفظي من الآن زمام الذمام. واصبري في هاجرة هجر عاشقك على الأوام. جزاء نكثك للعهد. وانتهاك حرمة الوفاء والود. واعلمي بأن العدل كل العدل. ما حكم به عليك العقل. وأن من لم يكن حكيمًا. لم يزل سقيمًا. ومن اتخذ الحكمة لجامًا. اتخذه الناس إمامًا. أما من آثر اللذات فقد تورَّط في البلوى. وانتهى من حرم الحرمان إلى الغاية القصوى. وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى.

يجمع إلى ذلك آداب الأخلاق ولطف الروح وحسن المعاشرة، وجودة التصور وطيب المسامرة. ووفاء العهد. وثبات الجأش والود. يتكلم بحكمة الشيوخ في سن الشباب. ويغرب إذا حدث في غير موضع الأغراب. ذو أفكار مصيبة. وفراسات عجيبة. وعزم بالثبات ناطق. ولدى الخطوب صادق. يكاد يهدي بأفكاره النجم الثاقب. ويستتبع بآراء فَراسته سهم كل كوكب صائب.

يشاهد أعقاب الأمور بعقله كما شاهد المحسوس بالعين ناظر

أقوى علماء فنه بيانًا وأطلقهم لسانًا. وأخفهم روحًا وأصفاهم نية. وأرقهم طبعًا وأنقاهم في حسن الطوية. وأسخاهم يدًا. وأجزلهم ندى. وأبعدهم في نظر الأشياء مرمى. وأسدهم في المناظر سهمًا.

فتى مثل صفو الماء أما لقاؤه
فبشرٌ وأمَّا وعده فجميل
غني عن الفحشاء أما لسانه
فعفٌ وأما طرفه فكليل

ولولا خوفي من القول بأني أنظر إليه بعين الرضا لأسهبت في المقال. ووفيته حقه في هذا المجال. بذكر محاسنه الغراء التي يطول شرحها. ويعز على البليغ البارع حصرها.

ولولا أن يظن بنا غـلـوٌ
لزدنا في الحديث من استزادا

ولقد سألته يومًا عن سر تأخر هذا الفن في بلادنا الآن. وهل يمكننا أن نراه وقد صعد إلى ذروة الكمال والإتقان؟ فأطرق زمانًا في الفكرة. وقال هذه الشذرة. بعد أن تنفس الصُّعداء. من كبد حراء. أتنتظر لهذا الفن الراقي وهو لم يزل في المهد. وسيبعث من المهد إلى اللحد. وكيف لا تتوقع الموت لفن، الحكومةُ لا تنظر له بعين الإكبار والإعظام. والأهالي يتكلفون لأربابه السلام. ولو شاءت الأولى لرفعته مكانًا عليًا. ولم يك شيئًا منسيًا. وابتنت له مدرسة ولو بمساعدة الأغنياء. ويجيء رقيّ هذا الفن من الأمراء؛ لأنها الأساس الذي يشيد على دعائمه رقي هذا الفن النفيس. فيتخرج ثمت كل إمام رئيس. ينشد لنا مع رصفائه ما يسمو بالنفس إلى معارج الأبهة والجلال؛ لنتناسى التافه من المقال، ولاكته الألسنة من عبارات العشق وذكر الغواني. وندب على ما بقي في هذا الفن من أحسن المعاني ولقد سمعنا أن بعضهم كان في العصر الأول يقول للمغني: أضحكنا. فلا يزال القوم في ضحك إلى أن يقال له أبكنا. فينتقل بهم ظفرة من الضحك إلى البكاء. أو يسكن أعصاب اثنين التهبت بينهما نيران الغضب والشحناء. فتصلح ضمائرهما ويندمان على ما سلف من الضغينة والجفاء. وترق قلوبهما ويعودان إلى الصفاء والولاء. أو يحرك النفس نحو قواها الشريفة من الجود والحلم والفضيلة في الأعمال. إلى المروءة والعدل والصدق في الأقوال. أو يستعمل لحنًا منومًا يخفف عن المريض ألم العلل والأسقام. فتتخدر أعصابه وتأخذه سنة المنام. إلى غير ذلك من الكيفيات الكامنة في الموسيقى التي يضيق عن شرحها البليغ اللبيق. والفصيح المقول المنطيق.

خفض عليك أيها الصديق. ولكن إذا عارضك بعض المعاصرين. أو عصابة من متكلفي السماع المتطفلين. وتصدوا للمعاكسة. والمشغابة والمشاكسة. واعترفوا بأنهم مستحسنون طريقتهم في الغناء. وراضون عنها تمام الرضاء، وما رأيك هذا من سقط المتاع. والحثالة التي تقل بها وجوه الانتفاع. بل ونتيجة القول فيه إلى الضباع. فماذا نقول. في هذا الجهل والفضول؟ والحسود لا يرضيه إلا زوال النعمة. وتثبيط الهمة!!

أجل، لا أنكر عليك ذلك ولكن إذا قورنت الأعمال بالحزم. والثبات والعزم. خرج صاحبها من حومة الوغى ظافرًا منتصرًا على العدى، ولم يذهب سعيه سدى، فالعزائم منازل الأبطال. واستعمال الصبر دأب الرجال. فمن فتح عمله بالجد وعظم درجة الاجتهاد. استفتح أبواب الخير. واقتعد غارب السداد. سيَّما ونحن ولله الحمد في عصر بزغت فيه أنوار العلوم. ولم يحرم من أدباء وفضلاء يدركون طريقي المنطوق منها والمفهوم. ويميزون بين العالم والجاهل. والحق والباطل. والحسن والقبيح. والفاسد والصحيح؛ ولذا يجب على النابه أن يثبت للنهاية؛ حتى يظفر بالغاية. ومن ثم لا تثني عزمه مواقع أو عراقيل. ولو اجتمع لمعاكسته أبناء فنه من جليل وضئيل١ أما الذين لا ترضيهم أقوالنا من بعض الملحنين والمغنين. فلا سبيل إلى إقناعهم مهما أتينا لهم بشموس الأدلة ومتين البراهين. ولا يجب علينا أن نجيبهم بشيء على قدحهم؛ لأننا لسنا بأول من قدح فيهم القادحون. وهجاهم الهاجون. ويحق له أن يقول مع من يقول:
إذا قال فيك الناس ما لا تحبه
فصبرًا يفِئ ودُّ العدو إليكا
وقد نطقوا مينا على الله وافترى
فما لهمُ لا يفتَرون عليكا

بل نتركهم مع الأيام طالبين لهم الهداية لأقوم سبيل، ولأنفسنا التوفيق لخدمة الأوطان بإحياء هذا الفن الجليل.

فيا رب هل إلا بك النصرُ يُرتجى
عليهم وهل إلا عليك المعول

وإذا كان الجاحظ على علوّ مرتبته في البلاغة وسموّ درجته في العلم. استعاذ بالله من أولئك الذين ما خُلقوا إلا لقرض الأمراض وعض عباد الله بأضراس من الوقاحة وأنياب من الشتم. فقال: من ألف كتابًا فقد عرض عرضه للمفاضح فإن أحسن فقد استهدف. وإن أساء فقد استقذف. فأعوذ بالله من أولئك الثرثارين. الحسدة المتفيهقين.

وقال شوبنهاور حكيم الألمان: وإذا كان من شأن أصحاب الفضل والذكاء أن لا يلتفتوا إلى حسد الحساد، ولا يكترثوا بهم ولا يثير فيهم ما يأتونه معهم من آثار العداوة والبغضاء ثائرة الحقد والغيظ، بل تكون معاملتهم دائمًا معاملة الشفقة والمرحمة؛ فإن أهلا لحسد والنقص لا يزدادون إلا عداوة وكراهة ولا يميلون أبدًا إليهم ولا يأنسون إلا بمن يكونوا على منالهم أو أدنى منهم طبقة في قلة الفضل وضعف الذهن، أما إذا وصل صاحب الفضل إلى حسن الذكر وعلو الصيت ونال حقه في زمانه فلا يكون ذلك إلا من باب حسن الاتفاق وتوافق الظروف ومساعدة الأقدار كما جرى ذلك للمرحوم (عبده أفندي الحمولي).

وعلى أية حال، فإن حسن الذكر كما يقول عنه أحد القدماء من الحكماء: «لا يفتر عن ملازمة الفضل ملازمة الظلال للأجسام فهو مثلها في حركتها وسيرها فتارة يكون من أمامه وتارة يكون من خلفه — فإن سكت عنك أهل عصرك ولم ينصفوك ولم يشهدوا لك بما أوتيته من الفضل لما يكون بهم من الحسد والنقص أنصفك من يأتي بعدهم وردوا إليك حقك بخلوهم عن كل هوى وغرض ***» وهذا القول من هذا الحكيم القديم يدلنا على أن السعي في إنكار ما ينفع الناس من الفضل والانتصار لما يضر من الجهل داء قديم في نفوس أهل النقص والعجز، وزد على ذلك أن انتشار الذكر بفضل الرجل الفاضل ينقص من أهل طبقته من معاصريه ويحطّ من شأنهم، فهم يسعون ما استطاعوا في كتمان فضله وانتقاص منزلته؛ حتى لا تعلو على منزلتهم ولا تغلب على شهرتهم ولا يروق لمن كان حاصلاً منهم على شيء من حسن الذكر أن يشاركه فيه خلافه ويزاحمه فيه ندُّه.

هوامش

(١) راجع تاريخ (فردي) الموسيقي الطلياني وما لاقاه من المشاغبة في أول ظهوره من معاصريه فقد مكث زهاء عشرين سنة يلحن وأهل عصره لا يعترفون بفضله ولا يشهدون بحسن تلحينه — وهو غير مكترث بهم ولا مهتم بدسائسهم وأقوالهم حتى صار أكبر أستاذ في العالم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤