التوبة الكاذبة

١

في يوم صفت سماؤه واعتلَّ هواؤه، كانت مركبة تسير سيرًا حثيثًا عائدة إلى باريس من الضواحي، وهي جميلة الرونق، تدل ظواهرها على أنَّها مركبةُ رجلٍ من النبلاء، وقد جلس في مؤخرها خادمان مرتديان أجمل الملابس التي يرتدي بها خدمة الأغنياء، وكان في هذه المركبة رجل يناهز الأربعين من العمر، وامرأة لا تزال في عهد الشباب ونضارة الصبى، وبينهما طفل صغير تقف عند رؤيته الأبصار معجبة بجماله البديع.

وكان الأب والأم يعبثان بشعر هذا الطفل الجميل، وهما ينظران إليه نظراتِ حنوٍّ لا يفهم سرَّه غيرُ الأباء والأمهات.

وكان هذا الرجل الكونت أرمان دي كركاز والمرأة قرينته، والطفل طفلهما وُلِد على إثر زواجهما الذي عرفه القراء في القسم الأول من هذه الرواية، وكانت المركبة تسير بهما في طريق ضيق، وهما يتجاذبان أطراف الحديث، ودلائل البشر والسعادة تلوح بين ثنايا وجهيهما فتُعرِب عما يختلج بنفسيهما من الحب والحنان.

وكان أرمان ينظر إلى ولده، ثم ينظر إلى امرأته ويقول: ما أهنأ الحب! وما أجمل ثمرة الزواج! لقد جعلتِني سعيدًا في الأرض حتى بتُّ غير طامع بسعادة السماء!

وكانت حنة تسمع قوله ويغلبها الحنو، ولا تجيبه بغير الدموع.

ثم جعل الزوجان يذكران ما لقياه من الهناء في إيطاليا، وكانت حنة تحن إلى هذه البلاد وتذكرها بالشوق والارتياح، وقال لها أرمان: ألعلك تؤثرينها على باريس؟

– إني أفضِّل كل بلد مهما صغرت في عيون الناس على تلك العاصمة السوداء؛ لقد لقينا بها من الأحداث السيئة ما يدفعني عند ذكرها إلى الحزن والاكتئاب.

فاضطرب أرمان وقال: لقد شغلت فؤادي أيتها الحبيبة، وما إخالك إلا تَعِسَة في سكنى باريس، لقد سمعتك مرة تذكرينها بخوف، وتذكرين معها أخي أندريا؛ ألعلكِ تخافينه إلى الآن؟

– إني لا أكتمك أيها الحبيب، لقد كنتُ أخافه خوفًا شديدًا لما عرفتُ به من الميل إلى الانتقام وقدرته على الشر، أما الآن فقد زالت هذه الأوهام بتقادم الأيام عليها، وأنا لا أخاف باريس، ولكني أفضِّل البُعْد عن الناس؛ لأن العالم بأسره قد جُمِع فيك، ومتى كنتُ وإياك فردين أكون مع العالم أجمع.

فابتسم أرمان وهو يعلم أن امرأته قد أرادت أن تتنصل بهذا الكلام العذب من مخاوفها، فقال لها: ليطمئن قلبك أيتها الحبيبة؛ فإن أخي فارقنا فراقًا لا لقاء بعده. ثم سكت هنيهة سكوت المتأمل وقال: إنني في اليوم الثاني من زواجنا أرسلت مع ليون رولاند مائتي فرنك هبة إلى هذا الأخ الجبَّار، وتعهَّدَ لي في مقابل ذلك تعهُّدًا كتابيًّا أن يبرح فرنسا إلى أميركا، حيث يجد مجالًا متسعًا للذنوب أو للنسيان أو للندم، ولا أعلم ما من أمره بعد ذاك، غير أني وثقت أنه سافر إلى أميركا، كما علمت من تقارير البوليس السري الذي لا تخفاه خافية.

وقبل أن يُتِمَّ أرمان حديثه سمع سائق المركبة يصيح منذعرًا ويقول: احذر. ثم أوقف المركبة مضطرًّا بعد أن كرَّرَ الإنذار مرارًا.

فاضطرب الزوجان وسأل أرمان السائقَ عمَّا أصابه، فأجابه وقد سكن روعه لزوال الخطر: لقيت رجلًا منطرحًا على الطريق، فما استطعت اجتنابه لضيق الطريق، ولم يسمع صوت تحذيري ويجتنب الخطر.

– إنه سكران ولا ريب. ثم نادى واحدًا من الخادمَيْن اللذين كانا في مؤخر المركبة، وقال له: اذهب وانظر في شأن هذا الرجل.

ثم لم يتمالك أن ذهب في إثره وخرج من المركبة، وتبعته امرأته حتى أشرفا على الرجل الممدَّد على الطريق، وإذا به رجل حافي القدمين ممزَّق الملابس، وعلائم الشقاء بادية على وجهه الضئيل، وهو في حالة تقرب من الإغماء.

فأشفقت حنة عليه وقالت: يا له من بائس مسكين! لقد قتله الجوع.

ونادى أرمان أحد خدمه قائلًا: أسرع بزجاجة الشراب.

ثم أخذها من الخادم، وجعل يسقي بيده من شرابها المنعش ذاك الرجل المسكين، غير أنه لم يلبث أن حدَّقَ به حتى اضطرب قائلًا: ما هذا الشبه الغريب؟! إنه لا يفرق عن أخي بشيء! ودنت منه حنة أيضًا، ورجعت إلى الوراء منذعرة وقالت: هو بعينه ولا مجال للريب.

وأقام أرمان هنيهة وهو مكبٌّ عليه ينشقه الروائح المنعشة حتى استفاق من إغمائه، فجعل يقول بصوت متقطع كصوت الحالم: لقد عضني الجوع. أين أنا؟ كيف سقطت في الأرض؟

ثم جعل يقلب طرفه بين الحاضرين حتى استقرَّ على أرمان، فحدَّق به تحديق المنذهل، ثم ظهرت عليه دلائل الخوف والذعر حين تبيَّنَه، فأجفل وحاول التخلص من يديه، ولكن رجلَيْه لم تقويا على حمله، فسقط ثانية على الأرض.

ولما رآه أرمان على هذه الحال جال الدمع في عينيه من الحنو، وصاح به: أأنت أندريا؟

فأجابه الشحاذ بصوت مختنق: من هو أندريا … إنه مات ولا أعرفه، وأنا أُدعَى جيروم الشحاذ. وقد نطق بهذه الكلمات بصوت يتلجلج، وحاول الإفلات ثانيةً من أيدي الخادم، فخانته قواه وسقط أرضًا مغميًّا عليه، وقد صُبِغت هيئته باصفرار الموت.

فنسي أرمان جميع ما ارتكبه أخوه من الذنوب، ولم يذكر غير شيء واحد، وهو أن هذا الرجل البائس أخوه، وسرت هذه العاطفة الشريفة نفسها إلى قلب امرأته؛ فأمرت وأمر الخادمين أن يحملاه إلى المركبة، فلما نقلاه إليها أمر السائق أن يذهب مسرعًا إلى باريس.

ولم يَفِقْ أندريا من إغمائه الطويل إلا وهو مُسجَّى فوق سرير في غرفة أخيه، وحوله الطبيب وجميع مَن في المنزل، فدنا أرمان منه وقال له: طِبْ نفسًا، إنك الآن عندي، أي في بيتك وبيت أخيك. فنظر إليه أندريا نظرة المنذعر، ثم قال له: كلا لستُ بأخيك، بل أنا رجل متشرد لا مأوى له ولا زاد، بل أنا رجل شقي ينتقم مني الله بعدلٍ لفرط ما أسأت إلى الله وإلى الناس، بل أنا ذلك المذنب الأثيم التائه في بوادي الندامة يلتمس الغفران، ويقتله تقريع ضميره مرارًا كل يوم.

وصاح أرمان صيحة فرح وقال: وا فرحتاه! إنك رجعت عن غرورك، وثُبْتَ إلى رشدك؛ فأسرع إلى أحضان أخيك، واعلم أن أمنا واحدة، وقد حملتنا في بطن واحد.

فقال أندريا بصوت أجش: أنسيت الذي قتل هذه الأم؟! ثم تنهَّدَ تنهُّد القانط وسأله: أَلَا تعدني يا أخي بإطلاق سراحي حين أثوب إلى العافية فأسير في طريقي. إن قطعة من الخبز وكأسًا من الماء يكفيان، ولا يحتاج جيروم الشحاذ إلى أكثر من هذا.

وأشفق أرمان عليه، وقال: ما أصابك؟ وما هذا الشقاء الذي بلغت إليه؟

– إنه شقاء اختيار لا شقاء اضطرار، لقد مثلت لي ذنوبي بشكل رائع هائل فندمت ولم أجد بدًّا من التكفير عن تلك الذنوب، وذلك أنك أعطيتني حين مبارحتي باريس مائتي ألف فرنك، فما أنفقت منها فلسًا، ولا تزال وديعة في مصارف نيويورك ليوزَّع رباها بأمري على المستشفيات؛ لأني لست في حاجة إلى شيء، وقد حتمت على نفسي أن أطوف الأرض، وأمرَّ بالناس متذلِّلًا مستجديًا؛ فلا آكل غير فضلات خبز المحسنين، ولا أبيت إلا على الطرق، فأفترش الأرض وألتحف السماء، وعسى أن يغفر الله لي بعد هذا التكفير، إنه لغفور رحيم.

فبرقت أسرة أرمان من الفرح باهتداء أخيه، وقال له: لقد كفى ما كفَّرْتَ به، وأنا أضمن لك عفو الله، وأغفر لك جميع ما أسأت به إليَّ. ثم طوَّقَه بذراعيه وقال له: كلا، إنك تعيش في منزلي كما يعيش الأخوَانِ، ابقَ أيها الأخ الحبيب بيننا، إنك ستكون سعيدًا مع أخيك وامرأة أخيك وابن أخيك.

٢

مضى على ذلك شهران تعافى في خلالها أندريا، وكان لا يزال مقيمًا في منزل أخيه، ولكنه كان يتقشف تقشُّف الزاهدين أمام أخيه، ويجلد نفسه بالسياط، لا يطالع غير الكتب المقدسة، ويشتغل النهار كله في محل تجاري، فيعطي جميع ما يكسبه لامرأة أخيه كي توزِّعه على الفقراء، ولا ينام في الليالي الباردة إلا على الأرض، وهو يُجرِي جميع ذلك دون أن يدع أحدًا في المنزل يقف على ما يصنع بنفسه لشدة مبالغته بالتكتم في الظاهر، غير أن أخاه أرمان كان يراقبه مراقبةً شديدة فيقف على جميع ما يصنعه، ويخبر امرأته بما يراه، فكانت تعجب بندامته إعجابًا شديدًا، حتى باتت تحسبه من الأبرار الصالحين وتشفق عليه إشفاق أخيه، وطالما طلبت إلى زوجها أن يلحَّ عليه ويُكرِهه على تغيير خطته والإشفاق على نفسه، فكان يظهر لها عجزه عن إرجاعه، حتى وثق الزوجان أن حياته لا تطول.

وفيما هما يتباحثان ليلةً في شأنه، قال أرمان لامرأته: لقد خطر لي رأي أرجو أن أتمكَّنَ به من إنقاذ حياة هذا الأخ التائب.

– وما عسى أن يكون هذا الرأي؟

– تعلمين أني حين سفري وإياك إلى إيطاليا عهدت إلى أصدقائنا فرناند روشي، وليون رولاند والأخت لويزا أن ينوبوا عني بإغاثة البائسين، ودفع نكبات الفقر عن أولئك العمال والعاملات الذين تصدهم المروءة عن الالتماس وارتكاب المحرمات، ولا يجدون من رواتبهم القليلة ما يردون مكائد الدهر ويدفعون به غدر الزمان، أولئك هم الفقراء والفقيرات، وليس الفقير ابن السبيل الملتمس ما بأيدي الناس.

– أعلم جميع هذا.

– ولقد وفَّى أولئك الأصدقاء بجميع ما عهدت به إليهم، فوقَوا كثيرات من البنات غوائل السقوط، وأنقذوا كثيرًا من الفتيان من مخالب اليأس، فجرى ذلك مشروع الخير في مجراه، ولكن مشروع العدالة لم يُنفَّذْ بعدُ.

– ماذا تريد بهذا القول؟

– أصغي إليَّ، لقد التقى منذ عشرة أعوام رجلان في مرتفع يشرف على باريس، فأشار أحد الرجلين بأصبعه إلى تلك العاصمة وجعل يقول: «يا مدينة باريس العظمى، ويا ملكة العواصم، بك اجتمع النعيم والهناء، وبساحتك استقرَّ البؤس والشقاء، يا بابل القديمة إن الذنوب فيك تحثك بالفضائل، وأصوات الضحك تقترن بأنات البكاء، وأغاني الحب تمتزج بدموع اليأس، والقاتل السفَّاك يمشي على الأرض التي يمشي عليها الوَرِع الزاهد، وقد عجزت شريعتك عن معاقبة المجرمين، وعجز أولو البر فيك عن إغاثة البائسين، فما عُوقِبَ مسيء، ولا كُوفِئ محسن، ومَن لك برجل موسر شريف يغل يد الظالم، ويجتر قلب البائس، ويرثي لدمع الأرملة، ويحن لشقاء اليتيم.»

ثم أشار الآخَر بأصبعه إلى العاصمة قائلًا: «يا ساحة الملذات، ونعيم الدنيا وقطب الأماني، لقد وُصِفْتِ بجمال نسائك، واشتهرت بالبدائع، فمَن لي بالذهب الكثير أستغوي بها الفتيات الطاهرات، وأشتري به النفوس الشريفة فأصرفها إلى الغواية، وأستخدمها فيما أريده من التمتع بملاذ الشباب.»

إن هذا الرجل، بل هذا الداهية الذي كان يتفوَّه بهذا الكلام كان أخي أندريا الذي بات اليوم من المساكين، وكان ذلك الرجل المشفق الذي كان يتمنى الثروة لإنفاقها في سبيل إغاثة الملهوف زوجك أرمان، وقد ظفر كلانا بما كان يرجوه ويتمناه. أما وقد تاب أخي توبة لا رجوع بعدها إلى المعاصي، فقد رأيت أن أستخدمه لردع شرور الفاسقين؛ فإنه إذا كان قد رجع عن الغي والضلال والمنكرات فإنه أعلم بأصحاب الآثام، وأبصر بطرق منع الشرور، ومثل هذا الرجل الحاذق الذي يُعَدُّ من النوابغ إذا جرَّدَ قريحته لمقاومة الشر يدفع كثيرًا من البلاء عن أخيه الإنسان.

ثم إنكِ تعلمين أني معين بوليسًا سريًّا لهذا الغرض، فإذا عيَّنتُ أخي رئيسًا لهذا البوليس السري يبلغ بحسن إدارته أقصى درجات الكمال.

فاستصوبت حنة هذا الرأي وقالت: لا أظن أن أخاك يأبى قبول هذه المهمة، فأنه إذا كان يزهد للاستغفار، فإن دفاعه عن الأبرياء ومقاومته للشر تدنيه أكثر من التقشُّف.

وفيما هما يتباحثان إذ دخل خادم الكونت وأعطاه غلافًا ضخمًا يتضمن كتابًا مسهبًا، ففضَّه أرمان وجعل يقرأ ما فيه كما يأتي:

إن بوليس سيدي الكونت السري أخذ الآن بالبحث عن جمعية سرية عُقِدت حديثًا في باريس، وقد ظهر أن هذه الشركة متشعبة في جميع العاصمة، ولم نقف بعدُ على شيء من طرقها في الإجراء، ولا عرفنا رئيسها وأعضاءها. غير أنه تبيَّنَ لنا أن الغرض من هذه الشركة أن يتحصل أعضاؤها على جميع الوسائل السرية المشوشة لنظام العائلات؛ فيستخدمونها للإنذار والتوصُّل لما يريدونه من الأغراض، وقد بذلنا الجهد للوقوف على أسرارها فلم نظفر بعدُ بشيء، ولكنَّا لا تفتر لنا همةٌ عن اقتفاء أثرها.

ولم فرغ أرمان من تلاوة هذا الكتاب أخبر امرأته بمضمونه وقال: إن الله أرسل لنا أندريا لمقاومة هؤلاء اللصوص.

ثم دعا خادمه وأمره أن يذهب ويدعو له أخاه أندريا.

إن مَن عرف الفيكونت أندريا، أي السير فيليام، أي أخا أرمان دي كركاز، أي ابن الكونت دي فيليبون، على ما مثل في رواية الإرث الخفي السابقة ينكره متى رآه الآن، وقد امتقع لونه وهزل جسمه، وهو بملابس تدل على الزهد، فإذا مشى أرخى نظره إلى الأرض، وإذا تكلَّم نطق بصوت ضعيف، وإذا نظر إلى محدِّثه نظر إليه نظرةَ الضعيف للقوي، وقد ذهب رواؤه القديم، وخمدت جذوة نظراته الجهنمية.

وكان لا يجسر أن يطيل النظر إلى امرأة أخيه، كأن مرور أربعة أعوام لم يمحُ آثارَ ذنوبه وإساءته إليها، فلما قَدِم إلى أخيه وقف أمامه وأمام امرأته وقفةَ الذليل وقال: ها قد أتيتُ فماذا تحتاج مني؟

– إني دعوتك لأني محتاج إليك.

فبرقت عين أندريا بأشعة الفرح وأضاف: حبذا الموت في خدمتك.

– إني لا أطلب إليك أن تموت بل أن تحيا.

وقالت امرأة أخيه: أي أن تعيش كما يعيش الناس.

ثم أخذت يده بين يديها وضغطت عليها بحنوٍّ وإشفاق، فاحمرَّ وجه أندريا وحاول أن يجذب يده وهو يخاطبها: لستُ أهلًا يا سيدتي لحنوك، فما أنا غير أثيم شريد.

فتنهَّدَتْ حنة ورفعت عينيها إلى السماء وهي تضيف: لا شك إنه من الأبرار.

وأضاف أرمان: إنك تعلم أيها الأخ العزيز أني موقف نفسي ومالي لعمل الخير، وأنا أرجو مساعدتك لي في هذه المهمات.

فارتعش أندريا وأجاب: أيبقى الخير خيرًا إذا تدنَّسَ بيدي الأثيمة؟

فردَّ أرمان: إني لا أطلب إليك أن تعمل الخير، بل أن تساعدني على مقاومة الشر.

ثم دفع إليه التقريرَ الذي ورده من البوليس السري.

وبعد أن قرأه أندريا وهو يظهر العجب والدهشة، أضاف أرمان: إنك قد شقيت في توبتك وندمك شقاء عظيمًا كان شفيعًا لك إلى عفو الله، والآن فعُدْ إلى ما كنتَ عليه من النشاط والذكاء والجرأة النادرة كي تستطيع أن تقاوم أولئك اللصوص.

وأطرق أندريا هنيهة ثم أجاب: سأكون ذلك الرجل.

فَسُرَّ الكونت غاية السرور وقال: الآن قد وثقت من كشف الستر عن هذه الجمعية الهائلة.

وفيما هم على ذلك فُتِح الباب، ودخلت منه امرأة لابسة ملابس سوداء كما تلبس الراهبات، ولم تكن هذه المرأة بل تلك الفتاة غير التى عرَفَها قرَّاء روايتنا السابقة باسم باكارا، وقد مات كل شيء من تلك الفتاة التي كانت من أشد بنات الهوى غدرًا، ولم يَبْقَ فيها حيًّا غير جمالها النادر الذي لا يقيدها بشيء، وقد استبدلت اسمها القديم باسم الأخت لويزا، على أننا نستسمح القراء ونبقي لها اسمها، فتبدو لهم بذلك الحال الغريب الذي كانت تسعى أن تخفيه بالملابس الضخمة، ولكن الوردة لا يستر جمالها ما يحيط بها من الشوك، غير أن هذه الفتاة التي عرفت أسرار الهوى، ثم تابت بعد أن حبسها أندريا في مستشفى المجانين لم تُبْقِ من مظاهر التجمُّل غير ذلك الشعر المنسدل على كتفيها كالأراقم السوداء.

ولما دخلت باكارا هشَّتْ إليها مدام دي كركاز ومدَّتْ لها يدها للسلام، فظهرت على وجهها علائم الخجل، كما بدت هذه العلائم على وجه أندريا. فقام أرمان وأمسك بيدَيْ باكارا وأخيه وخاطبهما قائلًا: لقد كنتما شيطانين على الأرض تتعاونان على الشر، فأصبحتما بعدَ توبتكما ملاكين، فتعاونا الآن على الخير.

ثم وضع يد باكارا بيد أخيه، فنظرت باكارا إلى أندريا وهي تقول في نفسها: لقد خُدِع أرمان وخُدِعت امرأة أرمان؛ فإن مثل هذا القلب لا تصل إليه التوبة.

٣

بينما هذه الحوادث تجري في بيت أرمان كانت حادثة أخرى تجري بعد ساعة في شارع آخَر.

وكان الليل حالك الأديم، والضباب كثيفًا، حتى إن المار بذلك الشارع لم يكن يستطيع أن يهتدي لسبيله على كثرة أنوار الغاز؛ لشدة عصف الهواء الذي كان يهب على تلك الأنوار فيقبض ألسنتها من حين إلى آخَر. وكان في عطفة من ذلك الشارع بيت كبير حسن الظاهر، فلما انتصف الليل كثر طَرْق باب هذا البيت ودخل إليه خمسة رجال الواحد بعد الآخَر، فكان الداخل منهم يدخل من الباب العام فيسير عدة خطوات في دهليز طويل حتى يبلغ إلى باب سري في حائط الدهليز، فيطرقه ثلاث مرات متوازنة، فيجيبه صوت من الداخل قائلًا: أين تذهب، ألعلك أتيت لتسرق خمري؟

فيجيبه الطارق من الخارج: كلا، فإن الحب صالح (وهي جملة مصطلح عليها بينهم).

فيفتح الباب عند ذلك، ويدخل الزائر ويجد بصيصًا من النور ينبعث من مصباح ضعيف، ويرى أمامه سلمًا طويلة، ولكنها غير ذاهبة صعدًا كالسلالم المألوفة، بل إنها كانت تخترق جوف الأرض، فينزل منها الزائر حتى يصل إلى غرفة متسعة رصفت بها براميل الخمر بعضها فوق بعض، وفي صدر هذه الغرفة منضدة حولها خمسة كراسي مصفوفة، ويرى جالسًا على المنضدة شابًّا جميل الطلعة، لا يتجاوز عمره الثامنة عشرة، وأشعة الذكاء تتوقد من عينيه، فيحيِّي هذا الغلامَ تحية المرءوس، ثم يجلس في مكانه من القاعة.

وكان عدد الحضور خمسة ما عدا الرئيس، فكان أحدهم حسن الملابس، وفي عروة ثوبه إشارة تدل على أنه من أصحاب الوسامات، والثاني يناهِز الثلاثين، والثالث شيخ عجوز تبدو عليه مظاهر القوة، والرابع غلام يبلغ سن الرئيس، والخامس شاب تدل هيئته على أنه من خدم البيوت الكبيرة.

ولما تكامَلَ عدد المدعوِّين نظر إليهم الرئيس وحدَّثهم قائلًا: إن جمعيتنا أيها السادة يُطلَق عليها عنوان الجمعية السرية، وأعضاؤها أربعة وعشرون عضوًا، ليس بينهم مَن يعرف الآخَر، على أن لكل منهم الحق بالوقوف على نظام هذه الجمعية، وأخص بنوده أن يطيع الأعضاء طاعة عمياء لا حدَّ لها رئيسَنا الذي لا يعرفه أحدٌ سواي؛ لأني الوسيط بينه وبينكم.

فانحنى الأعضاء عند ذكر الرئيس إشارةَ الاحترام.

وأضاف: وقد صدر أمر الرئيس أن تجتمعوا أنتم الذين دعوتكم دون سواكم كي يعرف بعضكم بعضًا؛ لأنكم ستشتركون بعمل واحد، نؤمل أن يعود علينا بالخير العميم، ولا أعلم شيئًا من ذلك؛ فإن مهمتي بينكم أن أنقل إليكم أوامر الرئيس السري، كما أتلقاها منه.

ثم التفت إلى أحد الأعضاء فناداه بلقب ماجور، وقال: إنك تزور كثيرًا من الأسرات النبيلة.

فأجاب المأجور: أجل.

فجعل الرئيس يقلِّب أوراق كتاب كُتِب عليها رموز اصطلاحية، إلى أن عثر بما يبحث عنه فسأله: ألك معرفة بالمركيزة فان هوب؟ وهل أنت مدعوٌّ إلى الحفلة الراقصة التي ستحييها ليلة الأربعاء القادمة؟

– أجل.

– أليست هذه المركيزة إسبانية أميركية تزوَّجَتْ بهولاندي وعمرها الآن ٣٠ عامًا؟

– أجل.

– أهي غنية كما يقولون؟

– إنهم يقدرون دخلها السنوي بمليون فرنك.

– أصحيح ما يُروَى عنها أنها تحب الفنون الجملية، وأنها كانت تتعلم صناعة النقش منذ عهد قريب؟

فنهض أحد الحاضرين وقال: ذلك لا ريب فيه، فإني كنتُ أستاذَها.

وأضاف الرئيس: أصحيح أن زوجها يغار عليها غيرة شديدة، وأنه لا يتجاوز الأربعين من العمر؟

– إنه بات بغيرته مضرب المثل، ولكنها غيرة في غير موضعها؛ لأن المركيزة معروفة بالطهارة والعفاف.

فأومأ الرئيس بيده إلى أحد أعضاء الجمعية، وأضاف: إنك ستصحب معك ليلة الرقص المسيو شاروبيم وتعرِّفه بالمركيز.

وكان شاروبيم هذا في مقتبل الشباب، وله جمال عجيب لُقِّبَ من أجله بأسماء الملائكة، ثم عرف به الماجور، وبعد ذلك قال له: أليس للمركيزة علاقة مودة مع امرأة تبلغ الخامسة والثلاثين؟

– أجل، وهي أرملة تُدعَى مدام ملاسيس، لقيتها مرارًا كثيرة عند المركيزة.

– ألم تكن متهمة بواجباتها الزوجية في حياة زوجها؟

– هي تهمة يدري بها الأكثرون.

– ولكن المركيزة لا تعلم شيئًا من حياتها السابقة، وتحسبها من أفضل النساء، وكذلك الدوق مايلي الشيخ فإنه يهواها ويحاول أن يتزوَّجَها فيحرم حفيده الكونت مايلي من إرثه العظيم، وقد أوشك أن يسقط هذا الكونت في مهاوي الإفلاس.

– بل سقط ولم يَبْقَ له من ماله غير الندم على ما فات.

فالتفت الرئيس إلى أحد أعضاء الشركة وقال له: إن هذه الأرملة التي نذكرها محتاجة إلى رجل يدير منزلها ويكون لها وكيلًا في أعمالها، فاذهب إليها واعرض عليها خدمتك.

فأحنى الرجل رأسه إشارة الامتثال، فقال له الرئيس: إنك كنتَ بالأمس مستخدَمًا في قصر الدوق مايلي الشيخ وطُرِدْتَ منه؟

– بل إني دعوته إلى طردي امتثالًا لأوامركم.

– هو ذاك ولكنك نسيت أن تردَّ الدوق مفتاحًا كان ائتمنَكَ عليه، وهو مفتاح حديقة بيت الأرملة، ولا بد أن تكون قد عرفت عوائد الدوق، وكيف ينفق وقته في مدة خدمتك له.

– أجل، لقد خبرته خبرة تامة، شأني في معرفة جميع مَن أخدمهم.

فأبدى الرئيس علامة الرضى وقال له: إنك تذهب في الغد إلى صانع أقفال فتصنع مفتاحًا آخَر مثل المفتاح القديم وترده إلى الدوق، وتُبقِي المفتاح الآخَر معك فتدفعه إلى هذا.

وأشار بيده إلى أحد أعضاء الجمعية.

ولما فرغ من ذلك قال للحضور: إنكم الآن قد عرفتم بعضكم بعضًا، فانصرفوا إلى شئونكم وستردكم التعليمات إلى منازلكم.

ثم فضَّ الجلسة وتفرَّق الحاضرون، فلم يَبْقَ في الغرفة إلا الرئيس الصغير، وعند ذلك سمع طرقًا على باب سري؛ فدنا من الباب وأجاب: ادخل أيها السيد فقد انصرف الجميع.

ففُتِح الباب وظهر منه أندريا وهو يقول بلهجة الساخر: لقد أعجبني منك يا روكامبول أنك ترأس الجلسات كما يرأسها القضاة.

أما روكامبول الذي يظهر الآن بمظاهر السيادة فما هو إلا روكامبول الذي عرفه القراء في آخِر رواية الإرث الخفي، أي ابن الأرملة فيبار الذي أَطْلَع أرمان على دسيسة أندريا حينما كان يريد اغتصاب عروسه، وقد سافر بعد هذه الحوادث مع أندريا إلى نيويورك، فتبنَّاه أندريا وأحسن إليه لما توسَّمَ فيه من الذكاء، ثم جعل يدرِّبه ويعلِّمه أسرار مهنته إلى أن نبغ فيها، ولما رجع من نيويورك إلى باريس صحبه معه وجعل يشاركه في كل إثم وزور، حتى ألَّفَ أخيرًا هذه العصابة التي تقدَّمَ ذكرها، فعيَّنَه رئيسًا بالظاهر عليها وبقي هو الرئيس الحقيقي.

فلما دخل أندريا عليه حاول أن يخبره بما كان من أمر العصابة، فقاطعه: لا حاجة لي بذلك فقد سمعت كل شيء، بل إني في حاجة إلى الطعام فأعِدَّ لي أفخره؛ لأني لم أبتلع شيئًا منذ الصباح.

– إذن، لندخل إلى البيت حيث تجد فيه جميع ما نشتهيه.

ثم دخل الاثنان يتأبَّط كلٌّ منهم ذراعَ الآخَر، وأندريا يقول: سترى أيها الأخ العزيز كيف يكون الانتقام.

٤

ولما بلغا إلى داخل البيت الذي كانا يجوزان إليه من أبواب سرية دخلا إلى غرفة الطعام، وجلسا حول المائدة يأكلان ويتحدثان، وقد افتتح الحديث أندريا فسأله: كيف حال الصندوق؟

فأجابه روكامبول: أي صندوق تعني؟ أصندوق الشركة أم صندوقي الخاص؟

– بل صندوقك؛ فإني أعلم ميزانية الشركة.

– لقد ذهب معظم مالي بما أخسره في المقامرة، فقد خسرت أمس مائة جنيه، وأنت الذي أمرتني أن أخسر.

– هو ذاك؛ فإنه يجب على المرء أن يزرع كي يجني، ومَن يُحسِن الزرع يُحسِن الحصاد.

– وإني أنفق كثيرًا على هذه الخليلة التي لا أعلم كيف أرضيها، وهي كالحوت لا يرويه شيء يلتهمه.

– إنك ستطلق سبيلها في القريب العاجل، فلم يَعُدْ لي بها حاجة وقد أدركت منها ما أريد.

فأجابه روكامبول: وقد جمعت نفقاتها ونفقات المنزل وخسائر القمار فبلغت ٤٠ ألف فرنك في هذا الشهر، ولا يمضي على ذلك زمن يسير حتى تفرغ جيوبي.

– لا بأس فسأملؤها إذا كنتَ تُحسِن الطاعة والسلوك.

فنفر روكامبول وقال: لعل مولاي يشكو مني قصورًا في طاعتي وامتثالي؟

– كلا، ولكننا مُقدِمون على أمر خطير يجب فيه الطاعة العمياء.

– أيطلعني سيدي على حقيقة ما ينويه؟

– نعم، فإن لي بك ملء الثقة، وما أتيتُ إليك في هذه الليلة المدلهمة إلا لهذا الغرض، ولا بد لي قبل إطلاعك على ما أريد من مقدمة صغيرة، وهي أن الطاعة والحب والإخلاص ومعرفة الواجبات كلها كلمات لا معنى لها في قاموسنا، ومَن كان مثلنا لا يدفعه إلى الإخلاص غير الفائدة والصالح، وهذا هو خير تعريف لما يدعوه الناس بالصداقة، ودليل ذلك أنك لو عثرت على رجل أشد مني في مواقف الذكاء، وأفادك مما أفيدك لتخليت عني ونقضت عهدك، أو تكون من زمرة الجهَّال، ولكنك لا تجد الآن؛ فأنا أطلعك على شيء من مقاصدي دون أن أخشى منك نقض عهد.

فأعجب روكامبول بكلامه وأجاب: إني طوع لإرادتك، فمُرْ بما تشاء.

– لنبدأ من الأمور بأهمها. فقُلْ كيف رأيت روايتي المضحكة في دخولي إلى بيت أخي؟

– هي خير ما رأيته على مسارح التمثيل، فقد أتقنت تمثيلك والإغماء على قارعة الطريق، حتى لقد خُدِعْتُ به أنا على ما أعرفه من حقيقته، ولو لم أكن أنا ذلك السائق الذي كان في مركبة أخيك لداستك المركبة، ثم إن توبتك وندمك وجميع ما تبديه من مظاهر الصلاح لا يقوى على بعضه أشهرُ الممثلين، ولكني لا أظنك تستطيع أن تعيش طويلًا على هذا التقشُّف والزهد.

– إني أعيش دهرًا عيشة الأَذِلَّاء كي أروي غِلِّي من الانتقام، وإن الانتقام أعرج بطيء السير، ولكنه يصل.

ثم أخذ أندريا يتأمل هنيهة، وهو يعدُّ أصابعه فقال: نبدأ بالكونت أرمان لأنه أعظم أعدائي.

– وأنا أبدأ بخنجري فإنه أفضل سلاحي.

– كلا لم يَحِن الوقت بعدُ. ثم أتليه بامرأته حنة؛ فإنها لم تحبني بعدُ ولكنها ستحبني، ثم أتليها بباكارا، فإنها ستبكي بكاء شديدًا حين أقبض عليها وتندم الندم العظيم لإفلاتها من مستشفى المجانين.

فقاطعه روكامبول: ولكنها في جمالها وذكائها، وخير لك أن تكون صديقتك.

– لديَّ أفضل منها، وهي ستكون لكَ بدلًا من خليلتك، إذا أحسنت السلوك.

ثم عاد إلى حسابه وأضاف: وبعد باكارا يأتي فرناند روشي؛ فقد اتَّهَمْنَاه بالسرقة فلم نفلح، ولا نفوز الآن أيضًا بمثل هذه التهم، فإنه من كبار الأغنياء. ولكننا سنمثله للقضاء قاتلًا سفَّاكًا، والثروة لا تعصم الأغنياء من جريمة القتل.

– وما عساك تصنع بامرأته هرمين؟

فأجابه أندريا ببرود: إن هذه المرأة قد تنازلت إلى حبها، فرفضت حبي؛ ولذلك سأسحق كبرياءها بقدمي وأرمي فؤادها بهوى يحطُّ مقامها ويصم حياتها الحاضرة والمستقبلة بوصمة عار لا تُمحَى، فأجعل عرضها مضغة الأفواه وأزج بها إلى الحضيض. ثم أضاف: وبعد ذلك يأتي دور ليون رولاند؛ فلقد قتل هذا الأبله كولار رئيس عصابتي السابق، ودم رجالي لا يذهب هدرًا.

– وماذا تصنع بامرأته سريز؟

– الحق أني لا أريد بهذه المرأة شرًّا، ولكن والد هرمين لا يزال مفتونًا بها، حتى لقد جن في هواها، وقد وعدْتُه وعودًا أحب أن أنقضها.

– أهذا كل ما تبغيه من الانتقام؟

– أجل.

– وحنة امرأة أخيك؟

– إني لا أكرهها بل أحبها.

وكأن هذه الكلمة التي خرجت من فم هذا الرجل الهائل كانت قضاءً مبرمًا على أرمان دي كركاز، وحكمًا بموته لا يُدفَع.

فسأله روكامبول: لقد أخبرتني بأسماء الذين تريد الانتقام منهم، ولكنك لم تقل لي شيئًا عن طريقة الانتقام.

فابتسم أندريا ابتسام الأبالسة وقال: إن مَن يريد الانتقام لا يكشف طرق الانتقام، بل يبقيها مكتومة في صدره.

فغيَّرَ روكامبول مجرى الحديث وقال: إذن فقد عوَّلْتَ على أن تستمر على زهدك الحاضر.

– أجل.

– أفي مثل هذا الشتاء القارص تنام بغرفة لا نار فيها؟

– إن في قلبي من نار الانتقام ما يكفيني للاصطلاء.

– أتشتغل جميع ساعات النهار في ضبط الحسابات ومسك الدفاتر في مخزن حقير؟

– كلا، فإن أخي العزيز قد كفاني مئونة هذا العمل الشاق، فجعلني رئيسًا لبوليسه السري.

ثم أخبره بجميع ما كان بينه وبين أرمان، وكيف أنه سيضل هذا البوليس فلا يدعه يقف على شيء من أسرار جمعيتهم السرية. ولما انتهى من حديثه سأله روكامبول: لقد كتمت عني طريقة انتقامك، أفتكتم عني أيضًا هذا السر الذي ألَّفْنَا من أجله هذه الجمعية؟

– نعم، أخبرك بما يجب أن تعلمه، أي بالمقدمات التي لا بد من إيقافك عليها، فاسمع: إن هذا المركيز الذي يُدعَى فان هوب والذي يقدرون ثروته بالملايين، لو لم يتزوج لكانت ثروته تُقدَّر بأضعاف ما هي عليه الآن، وذلك أنه كان لهذا المركيز عمٌّ فقير، فبرح وطنه الهولندي في صباه وسافر إلى الهند، فدرت له أخلاف الثروة وتزوَّج بامرأة هندية، فولدت له بنتًا ترك لها مهرًا يبلغ عشرين مليونًا، وقد ذهب المركيز فان هوب منذ عشرة أعوام لزيارة عمه في الهند، فأقام عنده زمنًا طويلًا وأحبته ابنة عمه حبًّا شديدًا، وقد جاهرت به لأبيها وأخبرته أنها لا تتزوج سوى ابن أخيه. فرضي الأب بهذا الزواج وتوافق عليه العاشقان.

وكان المركيز قبل الخطبة عازمًا على الطواف حول الأرض، فأجَّلَ الزواج إلى انتهاء الطواف وودَّعَ الخطيبة ورحل.

وقد بدأت رحلته من جزائر الأتيل، حتى إذا بلغ إلى هافانا رأى فيها فتاةً شغَفَتْ لبَّه وملكت قياده، فنسي ابنة عمه وحنث بوعوده واقترن بتلك الفتاة.

فقال روكامبول: يا له من أبله! أيترك عشرين مليونًا كي يمتثل لصوت فؤاده الضعيف؟

– ولكن امرأته غنية أيضًا، وهو يحبها حبًّا بلغ به حد العبادة، غير أن هذا المركيز لم يفطن لتلك الجذوة التي أشعلها في قلب ابنة عمه، فقد كانت تحبه حبًّا لا يحيط به وصف ولا تزال، وقد مضى على زواجه ثمانية أعوام، وهي تحبه ذلك الحب الشديد ولكنه حب مقرون بالانتقام.

– إذن تكرهه؟

– كلا، بل إنها تعبده، ولكنها تريد الانتقام من خصيمتها فيه، ومَن كان له عشرون مليونًا فلا يصعب عليه مثل هذا الانتقام.

– هذا ميسور، وأنا أتعهد لها بقتل امرأة المركيز إن أعطتني مائة ألف فرنك.

فقال أندريا ببرود: إنها ستعطيني خمسة ملايين.

فدهش روكامبول وقال: متى وعدتك؟

– منذ عام.

– أتعدك بهذه الثروة الطائلة منذ عام، وتصبر عليها إلى الآن؟

فضحك أندريا ضحك الساخر وقال: إنك لا تزال على سابق عهدي فيك، فإنك تستطيع أن تكون يدًا عاملة منفذة، ولكنك لا تقدر أن تكون الرأس المدبِّر.

– كيف ذلك؟

– لأن الهندية لا تريد الاقتصار على قتل المركيزة، بل إنها تريد أيضًا الزواج بالمركيز، وإذا كان هذا المركيز يحب امرأته هذا الحب، فهو لا يتزوج سواها إذا فُجِع بها بعد عهد قريب، بل قد يقتل نفسه بعد قتلها، فنخسر الملايين؛ ولذلك يجب أن يكره المركيز امرأته قبل أن تموت أو تُقتَل، ولا يجب أن يحب غير ابنة عمه الهندية، ولا نقبض الملايين الخمسة إلا بهذا الشرط.

فقال روكامبول: لقد بدأت أن أفهم، ولكنه عمل شاق يحتاج إلى الدهاء الكثير.

– وليس الجزاء بيسير.

– وأين رأيتَ هذه الهندية؟

– رأيتها في نيويورك. فاسمع حكايتها فإنها لا تخلو من الفكاهة.

٥

قبل أن نرجع من نيويورك، وذلك منذ بضعة أشهر، بينما كنتُ راجعًا إلى المنزل في المساء، رأيتُ مركبة يسوقها أربعة جياد تسير سير الهوينا، وفي صدرها صبيَّة تدل هيئتها على أنها بين الخامسة والعشرين، أو الثلاثين من العمر، فاستوقف نظري ما رأيته بهذه الصبيَّة من عينين متوقدتين كأنهما تخرج منهما شهب النار ووجه متجهم بالسويداء، وملامح تدل بجملتها على الاسترسال بالملاذ. غير أن تجهُّمَها على صباها وظواهر غناها كان يشير على أن في حياتها سرًّا من الأسرار، فوقفتُ أنظر إليها نظرة الفاحص، وأنا أبعد عنها عدة أمتار، ونظرت إليَّ وحدَّقت بي، ثم برقت أسرة وجهها كأنها تقول: هذا هو الرجل الذي أبحث عنه. ثم أمرت السائق بالوقوف فوقف، أما أنا فإني دنوت من المركبة وجعلت أنظر إليها نظرات تخترق النفس، ثم قلت لها: ماذا تبتغين؟ قالت بصوت أجش، تبدو من نبراته علائم الظمأ إلى الانتقام: أريد رجلًا قويًّا.

– إنك نكبت نكبة غرام؛ فغدوت كاللبوة فقدت أشبالها.

– هو ذاك؛ فإني أحب وأكره لحد الموت.

– إن الانتقام يقتضي له المال الكثير.

فقالت ببرود: أيكفي ٢٠ مليونًا؟

فلم أنبس بعد ذلك بحرف، وصعدت إلى المركبة فجلست بالقرب منها، فسارت بنا المركبة سيرًا حثيثًا حتى بلغنا إلى قصرها، فنزلْتُ وأخذت يدها ودخلنا إلى إحدى قاعات المنزل، فأقفلت الباب وأجلستني أمامها، ثم قالت: إني لم أرك غير الآن، ولا أعلم مَن أنت ولا مِن أي بلاد أتيتَ، ولكني قرأت في عينيك ما دلَّنِي على أنك ذلك الرجل الذي أبحث عنه من دهر طويل يكون عوني فيما أبغيه من الانتقام.

– لقد صدق نظرك، فأنا هو ذلك الرجل.

– إني أهوى ابن عمي وأريد أن أتزوَّج به.

– إذن فلا بد من قتل امرأته.

– أصبت وليس أسهل من قتلها، فإن لدي كثيرًا من الخدم إذا أمرتُ أحدهم بقتلها لا يعود إلا مخضبًا بدمائها، ولكنها إذا ماتت مثل هذه الميتة زاد شفقةً بها، ولا أنال منه شيئًا.

– إذن كم تعطي الرجل الذي يزيل جميع هذه الموانع ويجعل ابن عمك يهيم بك.

– أعطيه كل ما يريد، فاطلب ما تشاء.

– أطلب خمسة ملايين.

– أتموت امرأته موتًا فظيعًا وينساها زوجها؟

– أجل.

– ومَن يقتلها؟

– زوجها.

فصاحت صيحة فرح وقالت: لكَ ما طلبت من الملايين.

– إذن اطمئني فسيقتلها بيده ويلعنها بعد قتلها، ويعود إليك بعد شهرين من ترمله فيجثو مستغفرًا على قدميك.

فنهضت إلى منضدة عليها أدوات الكتابة، وأخذت ورقةً فكتبتْ عليها حوالة على أحد مصارف باريس بخمسمائة ألف فرنك، فدفعته إليَّ وهي تقول: خُذْ هذا المبلغ لنفقاتك الأولية.

ثم كتبتْ لي تعهُّدًا بالملايين الخمسة أقبضها حين انتهاء العمل، فأخذت الحوالة والتعهُّد وقلتُ: إني مسافر غدًا إلى باريس، فاصبري وكوني على ثقة مني، فإذا ورد إليك كتاب من بوجيفال قرب باريس دون توقيعٍ أدعوكِ فيه للحضور؛ فاحضري في الحال.

ثم تركتُها ومضيتُ وبعد يومين سافرت إلى باريس.

فقال له روكامبول: ألم ترها بعد ذلك؟

– نعم، فقد رأيتها أمس، وهي تنتظر في باريس منذ يومين.

ثم تبسَّمَ ابتسامًا علم روكامبول من خلاله أن المركيزة فان هوب حُكِم عليها بالموت، وبيعت حياتها بخمسة ملايين فرنك.

وبعد ذلك قال له روكامبول: بقي أن أسألك سؤالًا آخَر، وهو ما شأن الأرملة مالاسيس معنا؟

– إنها عماد روايتنا، فإنها بالظاهر لا علاقةَ لها مع المركيزة فان هوب، ولكنها في الحقيقة يدها العاملة؛ وذلك أن زوج المركيزة صديق للدوق دي مايلي، عشيق الأرملة، وسيتزوجها إذا تُرِك وشأنه، ويحرم حفيده من إرثه.

– أيهمك هذا الحفيد؟

– ولكنه يدفع على الأقل خمسمائة ألف فرنك إذا مات الدوق قبل أن يحرمه من الإرث.

– ولكن ملايين الهندية أعظم من آلافه وخير لنا لو تجرَّدْنا لها.

– هو ما تقول، ولكن لدينا أسبابًا كثيرة تقضي علينا بالتجرد للأمرين؛ وذلك لأن المركيز وامرأته لا يعرفان حقيقة علائق الدوق الشيخ مع الأرملة، ولكنهما يعلمان فقط أنه هائم بها، وأن المركيزة تحب الأرملة حب الإخاء، وتحسب أنها من أعف النساء، فهي تتمنى أن تراها زوجة الدوق، غير أن هناك أمرًا آخَر، وهو أن المركيز شديد الغيرة على زوجته، وقد اتفق مرة أن حفيد الدوق الشيخ طمع بحب المركيزة ولم يَفُزْ بشيء، فبات المركيز يكرهه أشد الكره؛ ولذلك فإنه يتمنى أيضًا أن يتزوج الدوق بالأرملة كي ينتقم بحرمان حفيده من الإرث.

وبهت روكامبول: أهذا كل ما تريد أن تقوله، فإني لم أفهم شيئًا من هذه الألغاز، ولم أَرَ شيئًا من التحام المسألتين.

– ستنجلي لك هذه الألغاز في المستقبل القريب، ولكنها منحصرة بكلمتين وهما: إن سقوط امرأتين متفقين أهون من سقوط امرأة واحدة، وذلك إذا أصيبت هذه الأرملة بسهام الغرام وهي تكاد تبلغ سن الكهولة، حيث يبلغ الغرام فيه إلى أقصى الحدود؛ فإنها تعترف بهذا الحب لصديقتها المركيزة، ومتى أحبت المركيزة شاروبيم الجميل، وهو من أعضاء جمعيتنا تقتدي بالأرملة وتبوح لها بهواها.

– إن هذا لا ريب فيه، ولكن …

فقطب أندريا حاجبيه قائلًا: كفى … لا أزيد حرفًا على ما قلتُ.

ثم قام يريد الذهاب، فسأله روكامبول: بقيت مسألة مالية أرجو أن توضِّح لي أمرها.

– قُلْ.

– إننا اتفقنا أن نقتسم ما نكسبه بجمعيتنا السرية، فيكون النصف لك والربع لي والربع الباقي لبقية الأعضاء، فهل تكون قسمة ملايين الهندية على هذه القاعدة؟

– بالتقريب، فإني سأعطيك مليونًا، والأعضاء مليونًا، وأبقي لنفسي ثلاثة ملايين!

فأحنى روكامبول رأسه دون أن يجيب، فأدرك أندريا استياءه وقال بلهجة المؤنب: أنسيت أني سأتزوج بامرأة أخي، وأن هذا الزواج يقتضي له كثير من النفقات؟

فابتسم روكامبول وقال له وقد رآه يهم بالذهاب: متى أراك؟

– بعد ثلاثة أيام!

– ومتى أستبدل الخليلة القديمة بالجديدة؟

– متى عرفت أن تصبر!

ثم ودَّعَه وخرج، فركب مركبة وسارت تقطع به شوارع باريس في تلك الليلة المدلهمة، حتى وصلت إلى عطفة شارع مونتمارتر فاستوقفها ونزل، ثم أطلق سراحها ومشى قليلًا إلى أن وصل إلى بيت مرتفع، ونظر إلى نافذة الدور الأخير فرأى نورًا ضعيفًا ينبعث منها فقال: إنها لا تزال تنتظرني.

ثم تقدَّمَ إلى الباب وصعد إلى الدور الأول حتى بلغ إلى آخِر بيت فيه، ولما طرقه سمع صوت فتاة من الداخل تقول: مَن الطارق؟

– هو الذي تنتظرينه. ففتحت له الباب ودخل.

٦

وكانت الغرفة التي دخل إليها حقيرة الأثاث، تدل على أن صاحبتها حديثة العهد في مهنة الغواية، فسرح أندريا نظره فيها، ثم نظر مبتسمًا إلى تلك الفتاة التي كانت تنتظره فيها، وهي فتاة في مقتبل الشباب تناهز العشرين من العمر، وتجول بين عينيها ملامح الذكاء على جمال بارع وعينين تعرفان مصارع القلوب.

وحكاية هذه الفتاة أنها خرجت من المدرسة وهي في الخامسة عشرة من سنيها، فزوَّجها أهلها على الكُرْه منها بشيخ عجوز، وأقامت معه على أحر من نار الغضى ثلاثة أعوام، ثم أفلتت من قيده كما يفلت العصفور من القفص، وانطلقت في سبيل الغي والضلال حتى أدركت أسرار هذه المهنة الشائنة.

وقد التقى بها أندريا وهو يبحث عن امرأة يستخدمها في سبيل مكائده، وهي تبحث عن رجل يحقق أطماعها الواسعة، فتعارفَا وتواعدَا على أن يزورها في منتصف الليل، دون أن يُطلِعها على شيء من مقاصده، ولما حان الموعد أقبل إليها كما قدمناه، وجلس أمامها قرب نار خفيفة، وجعل يفحص سماتها فحص المدقق الخبير، وهو معجب بجمالها النادر، وبما كان يتوسَّم فيها من مخائل الذكاء. وبعد وقت قصير قال: لقد آنَ لي أن أُطلِعك على مقاصدي، اعلمي قبل كل شيء أني واقف على أسرار حياتك، عالم بجميع ما تعانيه من الشقاء، فهل تريدين الخروج من هذا الشقاء واستبدال هذه الغرفة الحقيرة بقَصْر جميل في أشهر شوارع باريس؟

فبرقت أسرة عينيها وحسبت أنه فُتِن بجمالها، وقالت: ومَن يأبي سكنى القصور؟

– هو قصر بديع في شارع مونسي تكتنفه حديقة غنَّاء كان من قبلُ لفتاةٍ مومس كان يلقِّبها عشَّاقها باسم باكارا، باتت تُدعَى الآن الأخت لويزا.

فضحكت ضحك الساخر وقالت: لقد عرفتُ من صواحبي شيئًا من تاريخ هذه التائبة البلهاء، وما فعلَتْ بقصرها، ألعلها تريد بيعه الآن؟

– كلا! فإنه لي بل لكِ إذا كنتِ ترغبين، وقد اشتريته بما فيه من الأثاث منذ ثلاثة أشهر بمائة ألف فرنك، وعيَّنْتُ فيه الخدم والخادمات، وأرسلت إليه الخيل والمركبات …

فقاطعته تقول بصوت الوجل المضطرب: أتهديني كل هذا كما تقول؟

– هو لك إذا كنت توافقينني فيما أريد.

وضربت الأرض برجلها وقد نفد صبرها، ثم قالت بلهجة المتهكم: ماذا تبتغي مني؟ ألعلك عاشق لي!

فابتسم أندريا قائلًا: لو أردتُ هذا الغرام لما حالت دونه مظاهري.

– إنك تجاوزت عهد الشباب وبلغت الخمسين.

– كلا، إني لم أبلغ الثلاثين، ولو أردتُ الغرام كما قلت لعرفت طريق قلبك بالرغم من هذه المظاهر.

– ولكنك تجعل طريقك من هذا القصر.

– بل بغير هذا القصر.

– ربما، قد تكون منزلتك فوق منزلة البشر.

– لنَعُدِ الآن إلى حديثنا، فقد قلتُ لكِ أني سأعطيك القصر وأعيِّن لك الخدم والخادمات، وأهبك الخيل والمركبات، وأزيدك ألف فرنك أدفعها لكِ في كل شهر لنفقاتك الخاصة، ولكني سأعتمد عليك مقابل ذلك في كثير من الأمور الخطيرة.

– إذن أنت تريد المضارَبَة بجمالي.

– هو ذاك، فإني أطلب إليك غواية شابٍّ تبلغ ثروته اثني عشر مليونًا، غير أن غوايته ليست بالأمر اليسير؛ لأنه متزوج ويحب امرأته حبَّ العشَّاق.

فقالت بلهجة الواثق: كُنْ مطمئنًّا، سأنزع هذا الحب من قلبه.

– إذن أمهلك ثلاثة أشهر. اسلبي أمواله وانهبي فؤاده كما تشائين على أن تردِّيه إليَّ خاملًا مخبولًا، وهذا كل ما أبتغيه.

– والملايين؟

– هذا أمر خاص بي، وسنتفق عليها في غير هذا المقام لأني لا أكترث بها الآن!

– أَلَا تخبرني عن اسم هذا الرجل؟

– نعم، فهو فرناند روشي.

ثم نهض فودَّعَها قائلًا: إلى الغد.

فشيَّعَتْه إلى الباب وهي منذهلة لا تصدق ما سمعته، وقبل أن يخرج سألها عن اسمها فقالت: حنة.

– إنه اسم مبتذل لا يخلق بمَن ستمثِّل مثل دورك فغيِّريه.

– أي اسم تختاره لي؟

فنظر إلى عينيها الزرقاوين نظر المبهت من جمالها وقال: إني أستبدل اسمك بلقب ينطبق على صفاء عينيك، فأدعوك الفيروزة.

فضحكت وقالت: ليكن ما تريد.

ثم تركها أندريا وذهب مسرعًا إلى بيت أخيه، فرأى النور مضيئًا في غرفة الكونت، وقرع الباب ودخل، فانذهل الكونت لما رآه وقال: أين كنتَ!

فأجاب أندريا: كنتُ في باريس، ألم تجعلني رئيسًا لبوليسك السري؟

– وماذا علمتَ؟

– لقد وقفت على أسرار الجمعية السرية، ولكني لا أطلعك على شيء الآن، فنَمْ مطمئنًّا واعلم أن أعضاءها لا يزالون ضعفاء، وسأبدِّد شملهم قبل أن يشتدوا.

ثم ودَّعَه وخرج إلى غرفته، فأوصد بابها من الداخل وأخذ من خزانته كتابًا خطيًّا ضخمًا مكتوب عليه من الخارج بحروف كبيرة هذا العنوان: «تاريخ حياتي الثانية»، وكان يكتب فيه كل يوم بضعة أسطر، ففتحه وهو يقول: إنه رأي مبتدع سيكون له شأن خطير في تحقيق ما أبتغيه، ولقد أحسنت بما كتبته في صدره من الإشارة إلى أنه كتاب خاص لا يحق لأحد أن يطالع فيه. ثم كتب في إحدى صفحاته ما يأتي:

٣ ديسمبر

لله ما أشد شقائي وما أعظم ما قاسيت في هذا المساء! لقد تمثَّلَتْ لي حنة، امرأة أخي بشكل آلهة الجمال تلك التي أحبها حبًّا ليس بعده حب … رباه عفوك وتُبْ عليَّ، لقد تقطَّعَ قلبي اليوم حين رأيت زوجها يقبِّلها أمامي، واسبِلْ علي ستر رحمتك فإني أحبها منذ اختطفتها وجعلت بيني وبينها هوة عظيمة بهذا العمل الفظيع.

ثم أطبق الكتاب وابتسم ابتسام الأبالسة وهو يقول: إنها متى وقفت على هذه السطور، وعلمت حبي الصحيح، فلا تمانع عن الزواج بي بعد قتل زوجها.

٧

عرف القراء مما قدمناه عن باكارا كيف استحالت هذه الفتاة إثر توبتها، لقد كانت تبالغ بالزهد حتى باتت تشبه النسَّاك الزاهدين، واقفة حياتها على خدمة البائسين، وإلقاء البذور الصالحة في نفوس الفتيات، ومساعدة أرمان دي كركاز فيما كان ينفقه في سبيل الخير، فاشتهرت بهذه المعيشة الصالحة وأصبحت ملجأ المعوز اليتيم، وكان الفقراء يتوافدون إلى منزلها أفواجًا، والرجال الأغنياء يأتونها من كل فج يلتمسون منها توزيع حسناتهم على الفقراء البائسين.

على أنها مع شدة زهدها وانقلابها، كانت لا تزال حريصة على بعضٍ من آثار خلاعتها السابقة، فقد كان لها في منزلها الرحيب غرفة خاصة لا يدخلها أحد من الخدم، ولا يلجها سواها، وفي هذه الغرفة جميع ما كان لديها من أدوات التبرُّج والتزيُّن، ولعلها أبقتها كي تذكر برؤيتها أُوَيْقَاتها الهائلة، فتكون خير دافع لها إلى الاسترسال في التوبة.

وكان في صدر الغرفة صورة كبيرة تمثل فرناند روشي وهو نائم على سرير، إشارةً إلى الليلة التي حُمِل فيها إلى منزلها كما عرف القراء في القسم الأول من هذه الرواية، وفي جدارٍ آخَر صورتها وهي مجرِّدة حنجرًا تريد قتل خادمتها فاني إشارةً إلى خادمتها السابقة في مستشفى المجانين. وكانت في كل ليلة تدخل إلى هذه الغرفة وتنظر إلى صورتها، فتبدو عليها علائم الاشمئزاز والنفور، وتنظر إلى صورة فرناند حبيبها القديم فتنطبع على محياها الجميل دلائل الخشوع، وتنطلق عيناها بالدموع، فتركع أمام الرسم وتصلي.

ثم تخرج من الغرفة فتنفي هذه الذكرى من مخيلتها، ولا تفتكر إلا بمشاريع الإحسان والترقي إلى الله بما تصنعه من الخير، ولا يزال هذا دأبها منذ بدأت توبتها إلى هذا العهد من سياق الحديث.

ولقد تقدَّمَ لنا القول إن نساء الخير كُنَّ يأتينها ليعهدن إليها توزيع حسناتهن السرية، فاتفق أنه بعد يومين مضَيَا على اجتماع أندريا بالفتاة التي نعنيها بالفيروزة، قدمت المركيزة فان هوب إلى منزل باكارا وطلبت أن تراها، فأجفلت باكارا حين علمت بقدوم المركيزة، وكأنها خجلت من نفسها أن ترى أعظم نبيلة بين عقائل باريس تنسى حياتها السابقة وتزورها في منزلها، فقابلتها مطرقة باستحياء.

أما زيارة المركيزة فلم تكن إلا لأنها ورت إليها رسالة من عائلة فقيرة تلتمس منها الإحسان، وجاءت إلى منزل تلك العابدة كي تعهد إليها إيصال إحسانها إلى تلك العائلة.

ويسمح لنا القارى أن نسدل الحجاب على تلك المقابلة الأولى بين هاتين المرأتين اللتين سيؤلف بينهما الشقاء فيما سيجيئ من فصول هذه الرواية، غير أننا نقول إن هذه الليلة كانت موعد الليلة الراقصة التي تحييها المركيزة في قصرها، وهي الحفلة التي سيقدم فيها شاروبيم الجميل أحد أعضاء اللجنة السرية للمركيزة، كما تقدَّمَ في فصل سابق.

٨

بعد ساعتين من زيارة المركيزة، كان رجلان يسيران إلى منزلها لحضور الليلة الراقصة وهما شاروبيم والماجور العضوان العاملان في الجمعية السرية، وكان شاروبيم يقول لرفيقه الذي كان يريد تقديمه للمركيزة: إني لم أعلم المراد من تقديمي لهذه المركيزة، فهل تعلم أنت شيئًا من ذلك؟ أَلَا تعرف رئيسنا؟

– لا، فإني أتلقَّى أوامره بواسطة روكامبول.

– أَلَا ترى أننا نركب متن الطيش والغرور حين نقبل أن نُقَاد كالعميان؟

فقال له الماجور: وأي ضرر علينا من ذلك لا سيما أنت؛ فإن غاية ما يُطلَب إليك أن تحمل المركيزة على حبِّك، وما أنت بصديق لزوجها فترتكب خيانةً، وغاية ما تلقاه من الخطر في تمثيل دورك هذا أنك تضطر إلى مبارزة المركيز؛ فهل تخاف هذه المبارزة؟

– إذا كان هذا كل الخطر، فإني أسير كما تريد، بل كما يريد رئيسنا.

وانطلق الاثنان حتى بلغا إلى بيت المركيزة فدخلا إليه.

ولم يكن قد تكامَلَ عدد المدعوين، وكان المركيز وصديقه الدوق مايلي والشيخ يتخطران في قاعة الاستقبال ذهابًا وإيابًا، ولما دخل الماجور وشاروبيم قدَّمَه بيده للمركيز، فسلَّمَ عليه المركيز، ولكنه ما لبث أن رأى جماله النادر حتى هلع قلبه، فانحنى أمامه الاثنان ثم انصرف إلى المركيزة، وكانت جالسة في زاوية من القاعة العمومية، وأمامها حفيد الدوق مايلي والأرملة مالاسيس صديقتها، وهي تروي لها أحاديث مضحكة كان يعاونها فيها حفيد الدوق، فقدَّمَ الماجور رفيقه شاروبيم إلى المركيزة كما قدَّمَه للمركيز.

وبينما كانت المركيزة معجبة بشاروبيم تحادثه بارتياح وتنظر إليه نظرة الاستحسان، إذ دنا رجل عليه ملامح الإنكليز، فوضع يده على كتف الكونت مايلي حفيد الدوق وأشار إليه أن يتبعه، فتبعه الكونت منذهلًا لأنه لم يكن يعرفه من قبلُ.

أما الإنكليزي فلم يكن إلا أندريا، وقد تلبَّسَ بملابس الإنكليز وقلَّد لهجتهم وسائر حركاتهم بحيث لم يَعُدْ يفرق عنهم في شيء، وقد دعا نفسه السير أرثير وتعرَّف على المركيز بواسطة أحد أصحابه، فدعاه إلى ليلته الراقصة.

وسار أندريا والكونت حتى بلغا إلى قاعة مشرفة على القاعة العمومية، فجلسا إلى منضدة وافتتح أندريا الحديث فقال: أسألك المعذرة أيها الكونت، فإني ما دعوتك إلا لمباحثتك بأمر هام.

– قُلْ ما تشاء، فإني مصغٍ إليك.

فأشار أندريا إلى الأرملة وقال: ما رأيك بهذه المرأة؟

فالتفت الكونت ورأى الأرملة، فأجفل مضطربًا وقال: لا رأي لي فيها!

فابتسم أندريا ابتسامًا معنويًّا وقال: إنها حسناء.

فقال الكونت: إنها تبلغ الأربعين.

– كلا، إنها لا تتجاوز الخامسة والثلاثين، ولكنها لم تبلغ بعدُ العشرين في عين جدِّك الدوق.

واصفرَّ وجه الكونت وجعل ينظر إلى أندريا نظر المستطلع، فاستطرد أندريا الحديث قائلًا: إن هذه الأرملة التي كانت زوجةَ عطَّار ستغدو زوجة دوق وتحمل اسم أسرتك بعد شهر، وأنا أعلم أنك تتوقع ذلك منذ عهد بعيد، غير أني أرجوك أن لا تنظر إليَّ هذه النظرات، وأن تصغي إلى النهاية لأني لك من المخلصين.

واستبشر الكونت خيرًا بحديثه وقال: قُلْ إني مصغٍ إليك.

– إنك وريث الدوق الوحيد وهو ذو ثروة واسعة، فإذا تزوَّج هذه الأرملة انتهت الثروة إليها، غير أني أعرف رجلًا يستطيع منع هذا الزواج وإبقاء الثروة لوريثها الشرعي.

فاصفرَّ وجه الكونت وقال: مَن هذا الرجل؟

– هو أنا يا سيدي.

وعند ذلك دخل أحد الخدم وصاح معلنًا قدوم فرناند وامرأته حسب عادة الإفرنج في الحفلات الكبيرة.

٩

واختلج فؤاد أندريا عندما نظر فرناند وهرمين، غير أنه ما لبث أن عاد إلى رشده دون أن ينتبه إليه الكونت، أما الكونت فإنه اندهش لما قاله له أندريا وقال له: أنت تستطيع إبقاء إرثي؟

– نعم، إذا وافقتني فيما أريد.

– لا بد أن يكون لك شروط، فاقترح ما تشاء.

وابتسم أندريا وقال له: أخبرك قبل كل شيء أني لا أريد منك درهمًا من مالك، على أنك لو طُلِب إليك أن تدفع مليونًا مقابل حصولك على إرث الدوق، أَمَا كنتَ تدفع المليون؟

– أدفعه بملء الرضى.

– إذن، اطمئن فإني لا أسألك مالًا كما قلتُ، واعلم أن هذا الدوق الذي سترثه رجل شيخ، وقد تمكَّنَ الغرام من قلبه الضعيف حتى أصبح كل حياته، وإذا فقد تلك الأرملة التي كوته بهواها، فهو مائت لا محالة، ولكن هذه الأرملة على ما كانت عليه من الخفة والطيش كانت شديدة الحرص على كتمان غوايتها السابقة، حتى إنه لم يَبْقَ أثرٌ من آثارها يستند عليه في سبيل إرجاع الدوق عنها، ثم إن العاشق قد أعياه حبُّها، فهو لا يحفل بمثل هذه البراهين؛ ولذلك فإنه يجب أن يعلم بالبرهان ما طالما علمه بالخبر، وليس لديَّ شيء من هذه البراهين الحسية.

فاضطرب الكونت وقال: على ما عولتَ إذن؟

– على أن أوجد هذا البرهان.

– إنك لا تريد مالًا جزاءً عن هذا الصنيع، فلا بد أن يكون لك مطلبٌ آخَر.

– هو ذاك، فليس في هذا العالم شيء مجاني، وليس لي مطلب غير الانتقام من امرأةٍ أساءت إليَّ.

– عجبًا أتصنع جميع ما أنت عازم على صنعه من أجل الانتقام من امرأة؟

– إني إنكليزي.

وجم الكونت كأن هذا الجواب قد أفحمه، ثم قال له: كيف تريد أن تنتقم، فإني سأكون يدك في هذا الانتقام كما أرى.

– هو ما رأيت، والذي أطلبه إليك هو أن تحتال على تلك المرأة حتى تحبك.

– لا أحبَّ إليَّ من ذلك، ولكن هذه المرأة قد تكون فاضلة طاهرة بحيث لا يمكن جذب فؤادها بالزمن القصير.

– إني أمهلك قدر ما تشاء.

– وإذا تزوَّجَ الدوق قبل إنتهاء المهلة أَلَا يفسد كل شرط؟

فحدَّقَ به أندريا تحديق المستطلع ثم قال له: إن بين جنبيك قلبًا شريفًا، فإذا أقسمتَ بشرفك أن تفي بعهودي كما أفي بعهودك، أنلتكَ مأربكَ قبل أن تنيلني مأربي.

– أقسم لك بما تشاء، غير أن هناك أمرًا قد يحول بين قلبها وقلبي، وهو أنها قد لا تحبني مهما بذلت في مرضاتها من الجهد.

– عدني أنك تبذل جهدك هذا وتخضع لما أرشدك به، فإذا فعلتَ جميع ذلك دون أن تنجح فإني لا أطالبك بشيء.

فأقسَمَ له الكونت على الوفاء، وقال له: بقي أن تذكر لي اسم هذه المرأة.

فقال أندريا بصوت منخفض: لم يَحِن الوقت بعدُ، غير أنه قد يحدث في هذه الليلة بِرَاز بين رجلين يكون أحدهما زوج المرأة، وتكون أنت أحد الشاهدين، ومتى عرفت المرأة وربما تعرفها في هذه الليلة تبتدئ معها بتمثيل دورك، والآن فإني أستودعك الله إلى أن نلتقي، فكُنْ حريصًا على كتمان هذا السر أشد الكتمان؛ لأن أقل هفوة تبدر منك قد تهدم جميع ما تبنيه.

ثم حيَّاه وانصرف، فاختلط بين اللاعبين في قاعة اللعب ودخل الكونت إلى قاعة الرقص.

ودارت المخاصرة على أنغام الموسيقى إلى أن وهَتْ قوى الراقصين، فذهبت النساء إلى المقصف مع بعض الرجال، ودخل بعض الرجال إلى قاعة اللعب حتى غصت بهم، وكان بعضهم يلعبون لعبة الباكاراه على منضدة كبيرة كان حواليها كثير من الناس بينهم أندريا متنكِّر باسم إنكليزي، وروكامبول متنكِّر باسم كونت، فدخل فرناند روشي والورق بيد روكامبول فقامره فرناند فخسر، ثم الثانية والثالثة والرابعة وروكامبول يربح منه دائمًا، ثم أظهر روكامبول كأنه قد طمع بالربح، فعرض جميع ما لديه من النقود للمراهنة، فأجفل الحاضرون لجسامة المبلغ ولبثوا هنيهة يترددون إلى أن دفعت الجسارة فرناند روشي، فأخرج من جيبه جميع ما كان معه من الأوراق المالية وقال لروكامبول: أنا أراهنك، وهذا المال.

فنظر إليه روكامبول، ثم أعطى الذي بيده إلى جاره وقال له ببرود: إني تنازلت عن حقي بالورق.

فاحمرَّ وجه فرناند من الغضب وقال لروكامبول: ماذا تريد بذلك يا سيدي؟

– لا أريد شيئًا سوى أني تنازلت عن الورق، وذلك من حقوقي بنظام اللعب.

– ولكنك قد بسطت أموالك على المنضدة، وجعلت تطلب منذ حين مَن يراهنك عليها، فكيف تمتنع حين تقدَّمْتُ لمراهنتك؟

– ذلك لأني وجدتُ الانسحاب أفضل.

ثم ترك المنضدة وانصرف؛ فساد السكون بين الحضور لهذه الإهانة الظاهرة، وبات كلاهما يخشى عقباها، أما أندريا فإنه نظر إلى الكونت مايلي الذي كان جالسًا بالقرب منه، نظرةً خفية فهم منها أن فرناند هو زوج المرأة التي طُلِب إليه إغواؤها، فهمس في أذن أندريا وسأله قائلًا: مَن هو هذا الشاب الذي ترك الورق؟

– الفيكونت دي كمبول.

– والآخَر؟

– فرناند روشي زوج المرأة التي أخبرتك عنها والتي رقصت وإياها منذ حين، أفهمت الآن؟

فأجاب الكونت وهو يضطرب: نعم، لقد فهمت كل شيء.

١٠

أما فرناند فإنه غادر غرفة اللعب وذهب يبحث عن روكامبول، فلقيه في إحدى الغرف وهو بمعزل عن الناس، فبدأ معه بطلب الاعتذار عن إهانته، فأبى روكامبول، وما زالا يتدرجان من العتب إلى الملامة إلى الاحتجاج حتى انتهى بهما الأمر إلى المبارزة، فرفع إليه فرناند رقعة الزيارة المكتوب فيها اسمه وعنوانه وقال له: إلى الغد.

فأبى روكامبول أن يؤجل المبارزة إلى اليوم التالي، مدَّعِيًا أنه سيسافر إلى إيطاليا في الصباح وقال له: نتبارز الآن!

ووافقه فرناند وانطلق إلى القاعة العمومية يبحث فيها عن شاهد له، وكانت هذه أول مرة يزور فيها قصر المركيز فان هوب، ولم يَلْقَ بين المدعوين أحدًا من أصدقائه المخلصين، وفيما هو يبحث إذ لقي الماجور، وهو أحد أعضاء الجمعية السرية كما تقدَّم، فاستأنس بلباسه العسكري، والتمس منه أن يكون شاهدًا له في مبارزته بعد أن قصَّ عليه حكاية الخصام، فقبل الماجور راضيًا، وجعل الاثنان ينتظران عودة روكامبول الذي كان يبحث أيضًا عن شاهد له بين جمهور المدعوين.

أما روكامبول فإنه كان يبحث عن أندريا المتنكر في تلك الحفلة باسم السير أرثير، وقد لقيه في إحدى الغرف المعتزلة وهو جالس يحادث بيرابو والد هرمين وعاشق سريز باهتمام، ونظر إليه روكامبول نظرةً معنوية أجابه أندريا بمثلها، فوقف معتزلًا عنهما يتوقع تتمة الحديث.

وقد عرف القراء من القسم الأول من هذه الرواية حكاية بيرابو والد هرمين، وكيف أنه يهوى سريز، وقد كاد يفتك بها بمساعي أندريا لو لم ينقذها أرمان ورولاند، غير أن حب الشيوخ لا يزول من نفوسهم مهما تعاقبت عليه الأيام وحالت في سبيله العقبات.

وحكاية هذا الرجل أنه بعد أن فشل في اغتصاب سريز خرج مع أندريا ثم انقطعت أخباره، ولم يُعلَم منها شيء. وبعد أن مضى على اختفائه سنة كاملة ورد إلى صهره فرناند روشي كتاب من أحد مستشفيات المجاذيب، أُخبِر فيه أن حماه يقيم في هذا المستشفى خارج باريس منذ عهد طويل لإصابته بالجنون، وأن الداء قد خفَّتْ وطأته في هذه الأيام فتمكَّنُوا من معرفة اسمه، وأرسل فرناند في الحال مَن أتى به إلى باريس وأقام في منزله مع ابنته، فزالت عنه أعراض الجنون، ولم تكن تعود إليه إلا حين تُذكَر أمامه كلمة سريز، ولكن جنونه كان لطيفًا هادئًا يميل به إلى الهزل المقبول والنكات المضحكة، بحيث لم يكن يمنعه عن زيارة الأسرات.

وقد لقيه أندريا في تلك الليلة فعرَّفه بنفسه؛ لأنه لم يستطع أن يعرفه لتخفيه، وعاد معه إلى حديث سريز ومشروع انتقاله الجديد، وزخرَفَ له القول حتى أقنعه أن سريز باتت في قبضته، فطار فؤاد بيرابو من الفرح، وقبض على أندريا بيد من حديد، وبات طوعًا له في كل ما يريد، وكان آخِر ما ختم به الحديث معه أنه سيعرِّفه بالكونت مايلي، وطلب إليه أن يعرِّفه بابنته هرمين، فرضي بذلك هذا الشيخ شاكرًا وهو مستعدٌّ لتضحية كل عزيز في سبيل تحقيق أمنيته بسريز، وعند ذلك أخذه أندريا وسار به إلى الكونت مايلي حفيد الدوق، وعرف كلٌّ منهما بالآخَر وأخبر الكونت سرًّا أن بيرابو قدَّمَه إلى ابنته هرمين، ثم غادرهما وعاد إلى روكامبول وأخبره بجميع ما صنع، وأنه ترك فرناند يبحث عن شاهد قال: أنا شاهدك، فامضِ بنا واحذر أن تنسى ما علَّمْتُكَ إياه، ولا تُصِبْه إلا في المكان الذي أخبرتك عنه دون أن تقتله، فإني أريد أن أبلغ منه الآن ما هو أشد من القتل.

– سيكون ما تريد. وذهب الاثنان لمقابلة فرناند ولقياه في انتظارهما! وقد كان فرناند بعد أن لقي شاهده أخبر امرأته أنه ذاهب لمشروع خيري لا سبيل إلى تأجيله، وطلب إليها أن تعود مع أبيها عند انتهاء الحفلة، ولما عاد روكامبول بشاهده خرج الجميع من القصر دون أن ينتبهَ لهم أحد.

أما الكونت مايلي فإنه تعرَّف على هرمين ورقص معها تلك الليلة، وفيما هو ينتقل من مكان آخَر في تلك الغرفة الواسعة، لقي الأرملة مالاسيس وهي تتأهَّبُ للخروج مع الدوق، فابتسمت له مكرَهَة وقالت: لقد رأيتك مع الشيخ بيرابو، فهل راقت لك عِشْرته؟ وهل هو مجنون كما يقولون؟

– كلا، بل إنه قد يكون أوفر منكِ عقلًا.

– أصحيح ما تقول؟

– نعم، وفوق ذلك فإنه يقص حكايات غريبة.

– قُلْ لي شيئًا منها.

– إنها حكايات طويلة ما شاقني منها غير حكاية واحدة، وهي قصة شيخ شريف يحاول أن يتزوَّج بامرأة خادعة وأن يحرم أسرته من إرثه، ثم انحنى أمامها وابتسم لها ابتسامَ الهازئ وانصرف.

فاصفرَّ وجه الأرملة من الغضب والحقد، ثم التفتت فرأت الدوق قادمًا إليها، فنظرت إلى حفيده الكونت وضحكت ضحك الواثقة من الفوز وهي تقول: الأيام بيننا يا كونت، وسنرى لمَن يكون الإرث.

١١

ثم خرجت شامخة الأنف وقد تأبطت ذراع عاشقها الدوق حتى بلغت إلى موقف مركبتها، فصعدت إليها وقالت للدوق بلهجة حنان شغفت لبَّه: أَلَا تصعد معي!

فتلجلج لسانه من الفرح قائلًا: وأية ساعة أبرَكُ عندي من ساعةٍ أكون فيها بقربك؟!

ثم صعد فجلس بجانبها وأمر السائق أن يسير إلى منزلها، فقالت: إني أرى المنزل قريبًا في هذه الليلة، فَلْنذهب إلى الشانزليزه.

فأخذ الدوق يدها وقبَّلَها قائلًا: إن إشارتك أمرٌ لا مردَّ منه.

وسارت المركبة الهوينا والعاشقان واجمان إلى أن افتتحت الأرملة الحديث فقالت: إني أغتنم فرصةَ هذه الخلوة كي أخبرك بأمرٍ قد تدهش له لعدم توقُّعِك إياه، ذلك لأني سأسافر سفرًا قد يطول إلى عدة أعوام.

فأجفل الدوق وجمد الدم في عروقه فلم ينبس ببنت شفة، فعادت الأرملة إلى تتمة حديثها فقالت: وسأسافر صباح غد.

وعند ذلك حُلَّتْ عقدة لسان الدوق، فسألها بلهجة المأخوذ: أحقيقة ما تقولين، ولماذا تسافرين؟ وإلى أين؟

– إني أسافر لأسباب أعلمها، ولا أستطيع التصريح بها.

– إذن تريدين قتلي!

وقد تبيَّنَتِ الأرملة لهجة الصدق من قوله؛ فأيقنت أنه قد جُنَّ في هواها فقالت: كيف أريد قتلك، ألعلك جننتَ؟

– إذا لم أكن قد جننتُ، فإني على وشك الجنون، فبالله أيتها الحبيبة قولي لي الحقيقة وكفاك مزاحًا.

– لم أكذبك يا سيدي الدوق؛ فإني مسافرة في صباح الغد.

فأجاب بلهجة القانط: ولماذا تسافرين؟

– كي ينساني الناس في باريس.

– كيف ذلك وممَّن تطلبين أن ينساك؟

فأجابته ببرود: إني أطلب ذلك منك قبل كل الناس.

فزاد ذهول الشيخ الدوق ولم يردَّ جوابًا، أما الأرملة فإنها عادت إلى حديثها، وما زالت تستطرد من حديث إلى آخَر، حتى ذكَّرَتْه بما وعده إياها بالزواج، وكيف أنها باتت من أتعس النساء لاعتمادها على هذه الوعود.

فقال لها: إني لن أحنَثَ بوعدي، ولا أزال طوعًا لكِ فيما تريدين.

– لقد فات الأوان؛ فلقد علمتُ اليومَ حقيقة مقامي حين كنَّا في قصر المركيزة، وعلمتُ حقيقة موقفي من حفيدك الوقح.

– وما شأن حفيدي؟

فتظاهرت بالبكاء وهي تقول: إنه قال لي الليلةَ كلمات مرة شائنة لا أجسر على إعادة قولها، فلم أجد بعد ذلك بدًّا من الرحيل.

وكانت تمثِّل دورها تمثيلًا غريبًا حتى طار فؤاد هذا الشيخ المسكين، وقال لها وقد جحظت عيناه من القنوط: سأُرِي هذا الوقح كيف يجب عليه أن يحترم الدوقة مايلي.

فلما سمعَتْه الأرملة يدعوها بامرأته تظاهرت بالتأثُّر الشديد، فصاحت صيحةً شديدة وسقطت مغميًّا عليها فوق صدر الدوق.

أما الدوق فإنه أمر السائق أن يسير في الحال إلى قصره، وكان قريبًا من الطريق التي كانت تسير المركبة فيها، فسارت تقطع الأرض نهبًا حتى وصلت إلى القصر، فأخرج الأرملةَ من المركبة وأمر الخدم فحملوها إلى غرفته ووضعوها فوق سريره، وهي لا تزال متظاهِرةً بالإغماء. فجعل الدوق يعالجها بالمنعشات وهي تنظر إلى ملامحه من خلال أهدابها الطويلة، إلى أن خطر لها أن تستفيق بعد أن قطعت فؤاد عاشقها، فأجالت نظرها في ما حولها وعلمت أنها في غير منزلها فقالت له: بربك أين أنا؟ وكيف أتيتَ بي إلى هذا المنزل؟

– اطمئني؛ فأنت في منزلي.

فسترت وجهها بيديها وقالت: رباه! وماذا عسى أن يقول الناس؟

– إنك في منزلي أي في منزلك؛ إذ لا يمر ثلاثة أسابيع حتى تصبحي زوجتي، أي الدوقة مايلي.

فصاحت الأرملة صيحة إنكار دون أن يغمى عليها؛ لأنها رأت أن الإغماء لم يَعُدْ يفيدها، وقالت: لقد هتكْتَ شرفي بما فعلتَ، وإنك لن تُدخِلني إلى منزلك كعروسة بعد أن حملتني كخليلة على مرأى من الخدم.

ثم وثبت إلى الأرض غضبى، وقالت بلهجة المتهكم: لقد أصاب حفيدك حين قال إنك تسرق إرثه لتهبه إلى خليلتك.

ثم أخذت قبعتها دون أن تلبسها وخرجت وهي تقول: الوداع أيها الدوق وداعًا أبديًّا، واعلم أنك هتكتَ شرفي، ولكني أعفو عنك، وَلْيسامحك الله.

ثم خرجت مسرعة دون أن تدع له وقتًا لإمساكها، وانصرفت عائدة إلى منزلها والفرح ملء قلبها، لوثوقها من أن الدوق لا بد أن يُسرِع إليها ويدركها قبل أن تسافر؛ لأنه كان لديه مفتاح خاص لحديقة منزلها، يجيء كل ليلة من هذه الحديقة، فيدخل إلى غرفتها دون أن يعلم به أحدٌ من الخدم.

فلما وصلت إلى المنزل أمرت خادمتها أن تعدَّ لها أمتعة السفر، حتى إذا أقبل الدوق علم صدق عزمها. فلما أتمَّتِ المعدات أطلقت سراح الخادمة وجلست في سريرها تضرب أخماسًا لأسداس، وتتوقع من دقيقة إلى أخرى قدوم الدوق، ولبثت على ذلك إلى أن أشرق الفجر، فسمعت وقع أقدام على السلم المؤدية إلى غرفتها، فاختلج فؤادها وأسرعت إلى صندوق السفر ترتِّب الثياب فيه، ثم سمعت صرير المفتاح في القفل، ثم فُتِح الباب فأجفلت إجفال الظباء ورجعت منذعرةً إلى الوراء؛ ذلك لأن هذا الرجل الذي دخل غرفة نومها في الساعة الرابعة بعد منتصف الليل، وفتح الباب بمفتاح خاص لم يكن الدوق، بل كان بعلًا ما عرفَتْه من قبلُ.

١٢

وَلْنَعُدِ الآن إلى فرناند وخصمه، فإنه بعد أن لقي فرناند شاهده وهو الماجور، ولقي روكامبول شاهده وهو أندريا، خرج الأربعة خلسةً من قصر المركيز دون أن يشعر بهم أحد، حتى إذا بلغوا إلى قارعة الطريق قال روكامبول لفرناند: إن مخازن الأسلحة مقفلةٌ الآن، غير أن منزلي قريب، فإذا شئتَ مررنا به فأخذنا سيفين، وإلا فإننا نوقظ أحدَ أصحاب هذه المخازن.

فقال فرناند: لا حاجة إلى ذلك، فإن سيفَيْكَ يغنيانا عن إيقاظ الناس في هذه الساعة المتأخرة من الليل.

فشكره روكامبول وسار الأربعة إلى منزله، فأخذوا منه سيفين متساويين في الطول، ثم انطلقوا إلى محل قريب مقفر، ولما أيقنوا بخلائه أخذ الشاهدان السيفين وفحصاهما فحصًا مدققًا، ثم أعطيا سيفًا لكلٍّ من الخصمين وأوقفاهما في موقف القتال.

وكان أندريا تمكَّن في خلال مسيرهما أن يخلو بروكامبول فقال له: أعلمتَ أيها الحبيب أن تصيبه كما علَّمْتُكَ.

– أجل، حفظت كل شيء.

– إذن، فاحذر أن تقتله فإني لا أريد أن يموت الآن، وألَّا تدع حسامك يدخل في كتفه إلا بقدرِ ما علَّمْتُكَ.

– كن مطمئنًا؛ فلا يكون إلا ما تريد.

وأمر الشاهدان الخصمين أن يقتتلا، فانقضَّ كلٌّ منهما على الآخَر انقضاض الصاعقة، ولبثا مدةً طويلةً بين هجوم ودفاع إلى أن فاجأ روكامبول خصمه فرناند بضربة وقعت في كتفه، فاختلج لها فرناند وانصبَّ الدم من كتفه بغزارة، ثم اصفرَّ وجهه ووهت رجلاه، فسقط على الأرض لا يعي لفرط ما نزف من دمائه، وعند ذلك أسرع الشاهدان إليه فأوقفا المبارزة وانصرفا إلى العناية بالجريح، وعند ذلك دنا أندريا من روكامبول وقال له همسًا: لقد أحسنتَ، ولكن احذر من أن تكون قد قتلْتَه.

١٣

وقد رأى الماجور أن فرناند قد سقط على الأرض، ولم يكن واقفًا على شيء من أسرار أندريا بشأنه، فأسرع لمساعدته كما تقضيه الواجبات، غير أن روكامبول حال بينه وبين فرناند، فانحني عليه وقال له: إن مهمتك قد انتهت أيها الماجور، فارجع إلى منزل المركيز أو إلى منزلك كما تشاء، ودعني أعتني بهذا الجريح.

فأيقن الماجور أن فرناند قُضِي عليه بحكم صادر من الجمعية السرية، وأخذ سيكارة من جيبه فأشعلها من مصباح المركبة، وانطلق مطرق الرأس يفكر في أمر هذه الجمعية، وما يحيط بها من الأسرار.

وعند ذلك انحنى أندريا على فرناند وكشف عن جرحه فوجده بالغًا، غير أنه ليس بخطير؛ فأمر روكامبول أن يحضر له ضمادة من المركبة، فامتثل وضمد له جرحه، ثم حملاه برفق إلى المركبة، فجلس أندريا بقربه وأمر روكامبول أن يسوق المركبة إلى منزل الفيروزة، أي منزل باكارا القديم.

فسارت المركبة الهوينا رفقًا بالجريح، إلى أن بلغت ذلك المنزل ففتحا بابه وحملا فرناند، وهو لم يستَفِقْ بعدُ من إغمائه لفرط ما نزف من دمائه. فاستقبلتهم الفيروزة وقد باتت في قصرها الجديد شبيهة بالملكات، فتبسَّمَ لها أندريا معجبًا بجمالها وقال: هو ذا الطير، فهل أعدَدْتِ القفص؟

– كُنْ مطمئن البال، فلا يفلت منه إلا متى أردت له إطلاقَ السراح.

– أعلمتِ ما يُطلَب منكِ؟

– طِبْ نفسًا، فسأمثِّل دوري خير تمثيل.

– وأين الطبيب؟

– ها هو بالباب، وقد أمرتُ جميعَ الخدم بالنوم طوعًا لأمرك.

– أحسنتِ. والآن فَلْننظر في هذا الجريح.

فأقبل الطبيب يفحص جرحه، وهو من صنائع أندريا، فقال له: أيطول زمن شفائه؟

– سبعة أو ثمانية أيام، إلا إذا أردتَ أن يطول.

– كلا، فاعتنِ به خير عناية، وامتثل لأوامر صاحبة المنزل.

ثم قال لروكامبول: نذهب الآن إلى قصر المركيز، فلم يَعُدْ لنا عمل هنا.

وقبل أن يذهب همس في أذن الفيروزة يقول: إني أنتظر منك رسالتين كل يوم.

ثم ودَّعَها وانصرف مع روكامبول.

وكانت الساعة الرابعة بعد منتصف الليل، فذهب إلى قصر المركيز فان هوب وانخرطا في سلك الراقصين دون أن يشعر بهما أحد، ثم اختليا في زاوية القاعة، وجعلا يراقبان الراقصين فوجدا الكونت مايلي حفيد الدوق يراقص هرمين زوجة فرناند، ورأيا شاروبيم أحد أعضاء جمعيتهما السرية يراقص المركيزة فان هوب، وهي تبتسم له بلطف ودلال.

فقال أندريا: ألستَ ترى المركيزة كيف تبتسم معجبة بجمال شاروبيم؟

– أجل.

– فقد ذكَّرَتْنِي ابتسامتها تبسُّمَ أولاد شارل الأول لِلَمَعَانِ فأس الجلَّاد، وهم لا يعلمون أنه سيقطع رأس أبيهم بعد حين، وهكذا المركيزة غير أنها تبتسم للخنجر وليس للفأس.

– ومَن عسى أن يكون الخنجر، ألعله شاروبيم؟

– كلا، ولكنه سيضع هذا الخنجر بيد المركيز المفتون بزوجته.

ثم تبسَّمَ تبسُّمًا تضطرب له الجريمة نفسها وترتعش لرؤيته الشياطين.

١٤

وَلْنَعُدِ الآن إلى فرناند روشي، فلقد غادرناه مغميًّا عليه في منزل تلك الفتاة التي استخدمها أندريا لغوايته، فلما أفاق من إغمائه نظر إلى ما حوله نظرةَ المنذهل؛ إذ رأى نفسه في مكان لم يعرفه، وفي غرفةٍ مزدانة بأفخر الرياش، غير أنه لم يَرَ بين أثاثها شيئًا كان يعهده من قبلُ، فعلم أنه في غير منزله، ولم يذكر ما هو فيه إلى أن تحرَّكَ في فراشه فشعر بألم شديد أعاد إليه رشده، وذكَّرَه أمرَ المبارزة، وكيف أن خصمه أصابه بكتفه، فعلم أنه أغمي عليه لما نزف من دمائه، وأن شاهده أو خصمه حمله إلى هذا المكان القريب.

وفيما هو يفكِّر مهمومًا حائرًا فُتِح باب الغرفة التي هو فيها، وولج منها رجل بملابس سوداء، فمشى إلى سرير الجريح مشيًا خفيفًا حتى وصل إليه، فأخذ يده دون أن ينبس بكلمة وجسَّ نبضه وهو يقول: إني أراك محمومًا يا سيدي، وهو دليل حسن.

ثم حلَّ ضماد جرحه وطهَّرَه، فعلم فرناند أنه طبيب وقال له: أترى جرحي بالغًا خطرًا؟

– إنه بالغ، ولكني أرجو أن لا يكون خطرٌ فيه، وفي كل حال فإنك لا تستطيع الخروج قبل أسبوع.

فلم يحفل فرناند بهذا القول لانشغاله بمعرفة المكان الذي هو فيه، فقال للطبيب: أين أنا؟ أفي المستشفى؟

– كلا يا سيدي.

– إذن إني في منزل شاهدي أو خصمي؟

فتكلَّفَ الطبيب هيأة البساطة وقال: لا أعلم شيئًا من هذا يا سيدي، وجلُّ ما أعرفه أني دُعِيتُ لمعالجتك منذ ساعتين، فلم أَرَ في هذا المنزل غير فتاة.

– صِفْها لي لعلَّها امرأتي.

– فتاة تناهز العشرين جميلة شقراء ربعة القوام، وقد رأيتها منحنية فوق سريرك تستعين بخادمتها على تنظيف جرحك.

– ألم تَرَ رجالًا في البيت؟

– كلا.

فاضطرب فرناند وقال: إذن أين أنا وما هذا السر؟ فإن الفتاة التي وصفتها لي ليست امرأتي.

وطال الحديث بينهما دون أن يتمكَّنَ فرناند من الوقوف على شيء، وبقي مُسَجَّى فوق سريره وهو غائص في بحار التأملات.

وفيما هو سارح في عالم الخيال، فتح الباب ودخلت منه امرأة تتهادى في مشيتها، وقد برزت في حلة من الجمال تدهش لها العيون، إلى أن استقرت أمام سرير فرناند فنظرت إليه نظرة المشفق وقالت له بصوت رخيم: كيف أنت؟

فتلجلج فرناند وقد دهش بجمالها ولم يَدْرِ كيف يجيب، ثم حاول أن يتكلم فوضعت بنانها المترف الناعم فوق فمها الصغير وهي تقول: اسكتْ فإن الكلام يؤذيك.

وعند ذلك اقترب منها الطبيب وقال لها بلهجة الاحترام: سيدتي، إن حالته الصحية متحسنة، ولم يَعُدْ لبقائي حاجة، على أني سأرجع بعد ساعتين.

فأطلقت الفتاة سراحه وخرجت معه، غير أنها لم تصل إلى الباب حتى سمعت فرناند يناديها، فرجعت إليه وهي تبتسم له ألطف ابتسام، فقال فرناند: إنك أمرتني بالسكوت، ولكني أستحلفك بالله أن تجيبي على سؤال واحد.

فقالت له مبتسمة: سَلْ ما تشاء.

– إن لي امرأة أحبها وتحبني، وهي لابد أن تكون في أسوأ حال لغيابي.

– طِبْ نفسًا، فلقد علمَتْ امرأتك أنك ستغيب عنها بضعة أيام لأشغال خطيرة.

ثم نظرت إليه نظرة دلال تسبي فؤاد العابد وقالت: وأنا أسألك سؤالًا واحدًا أرجو أن تُجِيبني عليه.

– مُرِي يا سيدتي بما تشائين.

– هو أن تعلم أنك بمنزل امرأة أنقذت حياتك من الخطر، وهي لا تسألك مقابل ذلك غير السكوت.

ثم غادرته مبتسمةً وانصرفت.

فعاد فرناند إلى هواجسه، ثم اشتدت عليه الحمى وعقبها الهذيان، فأصبح يخلط بين زوجته والفيروزة وخصمه في المبارزة، إلى أن نام فتمثَّلَتْ له هذه الفتاة في منامه بأجمل مثال، ولمَّا أفاق من رقاده وجدها واقفةً أمام سريره وعيناها شاخصتان إليه يجول فيهما الدمع الكاذب، كأنها كانت شفقة لما كانت تسمعه من هذيانه. فلما رأته صحا مدَّتْ يدها إلى يده تجسُّها، فأخذ فرناند يدها وقد أثَّر به حنوُّها وأدناها من فمه، فقبَّلَها قبلة حارة تدل على امتنانه، ثم لم يلبث أن عادت إليه الحمى وجعل يذكر زوجته، فاغتنمت الفيروزة فرصةَ عودة الحمى إليه وقالت له: لقد خدعْتُكَ حين قلتُ لك إني أخبرت زوجتك خشية عليك من التأثير، أما وقد زال ما كنتُ أتوقعه من الخطر، فإنك تستطيع الآن أن تكتب ما تشاء إلى السيدة هرمين، مدام روشي.

فدهش فرناند وقال: أتعلمين اسمي؟

– لو لم أكن أعرفك لما كنتَ الآن عندي.

– لقد أصبتِ.

ثم عاد إلى ذكر زوجته فقال: إني لا أستطيع الكتابة.

– لا بأس، فإني أكتب عنك، وفي كل حال فإنك تستطيع التوقيع.

ثم تركته وقامت إلى المنضدة وكتبت كتابًا إلى هرمين قالت فيه بلسان زوجها أنه تبارَزَ مع شاب من أجل فتاةٍ، فأصيب بجرح غير خطير، وأنه مقيم في منزل تلك الفتاة، وأن الطبيب أمره أن لا يخرج قبل ثمانية أيام، وقد كلَّفَ تلك الفتاة أن تكتب إليها بيدها البيضاء يطمئنها عنه، إلى غير ذلك من هذه الجمل التي تثير الغيرة في قلوب الزوجات. وجعلت كلما كتبَتْ سطرًا تنظر إلى فرناند وتكلِّمه، حتى علمت أن الحمى قد تمكَّنَتْ منه، وأن لم يَعُدْ يستطيع القراءة، فأتت إليه وقرأت أمامه هذا الكتاب الذي كتبته، ولكنها كانت تقرأ غير ما كتبتَ، ثم أعطته القلم كي يوقِّعَ عليه اسمه تحت هذا الكتاب، وخبَّأَتْه في درج في غرفة أخرى. وعادت إلى الجريح فاستمرت جالسةً إلى أن فارقته الحمى وثاب إلى رشده، فرأى الفتاة أمامه وهي تنظر إليه نظرة الملائكة، فأخذ يدها وقبَّلَها قبلة اشتياق وهو يقول في نفسه: أيمكن للرجل أن يحب امرأتين؟

أما هي فإنها أفلتت منه إفلات الظبي، وقد عبق وجهها بالاحمرار، ثم عادت إليه وحدَّثَتْه كما تحدِّث الأخت أخاها قائلةً: أرجوك أن تنام وتستريح، وأن لا تتحرك حركةً عنيفةً، وسيعودك الطبيب بعد قليل، أما أنا فسأعود إليك بعد حين.

وبعد ذلك خرجت إلى غرفتها، فتزَّيَتْ بزيٍّ بسيط كما تلبس البنات العاملات، وخرجت من منزلها وركبت مركبة وقالت للسائق: سِرْ بي إلى شارع سانت أنطوان، وقِفْ بي في أول عطفة شارع.

١٥

ولا بد لنا هنا من إيضاح خطة أندريا الهائلة، فإنه كان يقسمها بين الفائدة والانتقام، أما الفائدة فهي ما كان يرجو أن يكسبه من الهندية وهو خمسة ملايين، بعد أن يدع المركيز فان هوب يثق من بغي زوجته ويقتلها بيده، ثم يتزوَّج بعد ذلك بابنة عمه الهندية، فكان يستخدم شاروبيم الجميل لإغواء المركيزة، ويستخدم الأرملة صديقة المركيزة لهذه الغواية، ثم إنه كان يطمع بفائدة أخرى ينالها من أموال فرناند روشي الذي سلَّطَ عليه الفيروزة وعلَّمَها طرق إغوائه وابتزاز أمواله.

أما انتقامه فإنه كان يحاول أن ينتقم من جميع أعدائه القدماء، مبتدئًا بأخيه الكونت أرمان، فإنه قد تلبَّسَ أمامه بلباس التوبة الكاذبة، وظهر أمام زوجته بمظاهر الأبرار. وكان يكتب كل يوم بضعة سطور في مذكرته اليومية تشير إلى ما يقاسيه من حبه لامرأة أخيه، وما يكابده من العناء في سبيل قمع نفسه عن هذا الجور، ذاكرًا ذنوبه السابقة بالندم الشديد، ثم يضع هذه المذكرات بحيث تقف عليها امرأة أخيه، حتى إذا قرأتها في غرفته أشفقت عليه، وبين الشفقة والحب مسافة قصيرة.

وكان يريد بذلك أنه متى تمكَّنَ من خدعة أخيه وحمله على الوثوق به، دفع روكامبول إلى قتله بمبارزة، فيغدو أندريا بعد قتل أخيه قيِّمًا على ولده وزوجًا لامرأته، فيجري على ما جرى عليه أبوه قبله.

ثم إنه كان يحاول الانتقام من باكارا لأنه علم أنها غير منخدعة بتوبته، وخشي أن تتصدى له في سبيل انتقامه، وتحول بينه وبين أغراضه؛ فقرَّر قتلها. أما فرناند فإنه كان يريد أن ينتقم منه بتجريده من أمواله، وبقتله بيد صديقه ليون رولاند، وذلك أنه جعل الفيروزة تسطو على الاثنين وترمي في شَرَك غرامها الفؤادين، فتظهر أمام فرناند بالمظهر الذي عرفناه، وتتمثل أمام ليون بزي عاملة فقيرة تلتمس العمل في معمله لإنقاذ أبيها من الشقاء، ولهذا فإنها عندما خرجت من لدن فرناند غيَّرَتْ ملابسها ولبست ملابس العاملات، وانطلقت إلى غرفة حقيرة أقامت فيها رجلًا أعمى كانت تقول لليون أنه أبوها، وكان يريد أندريا بهذا الحب المزدوج أن يلقي التحاسد بين العاشقين دون أن يعرف أحدهما الآخَر، ثم يحمل ليون على قتل فرناند في ظلام ليل دامس كما سيجيء بيانه بالتفصيل.

وكان آخِر ما في كنانته الجهنمية من السهام أنه كان يريد أن ينتقم من هرمين زوجة فرناند، فيهتك عرضها ويجعلها مضغة بالأفواه، ولهذا فقط سلَّطَ عليها الكونت مايلي حفيد الدوق، ووعده بمنع زواج الدوق بالأرملة، وإبقاء أمواله العظيمة له إذا تمكَّنَ من إغوائها وتمثيلها للعيون على ما يريد مما يخالف الشرف وواجبات الزواج. هذه هي مقاصد هذا الرجل الهائل التي يدور عليها محور هذه القصة.

•••

وَلْنَعُدِ الآن إلى الفيروزة، فإنها خرجت بلباس العاملات إلى الغرفة التي أقامت فيها أباها الكاذب كما قدَّمناه، فأتى ليون إلى تلك الغرفة كي يساعد ذلك الأعمى المنكود، فتلبَّسَتْ أمامه بلباس الفتيات الطاهرات، وأثارت في فؤاده مكامن غرام جديد.

ثم فارقها على أن يعود إلى أبيها في اليوم التالي كي ينظر إلى أمره، وفي نفسه الضعيفة من غرامها القوي أشياء. فلم يكد يخرج من تلك الغرفة حتى خرجت في إثره، فركبت مركبة وأسرعت بالرجوع إلى منزلها الذي تركت فيه فرناند، وهي تقول في نفسها: لقد وقع ليون، فَلْننظر في ملايين فرناند.

فلما بلغت إلى المنزل غيَّرَتْ ملابسها، ودخلت إلى غرفة فرناند، فألقته جازعًا لفراقها، وقد ظهر الحب بين ثنايا وجهه، فابتسمت له وقالت: كيف أنت؟

– بخير لولا ما كنتُ أشكوه من الوحدة.

– هو حق ما تقول؛ فإن المريض أشبه بالمسجون.

فحاول أن يجيبها، ولكنها وضعت أصبعها فوق شفتيها القرمزيتين وقالت وهي تبتسم له: دعني أتمم حديثي.

ثم أضافت: إن السجين ينتظر كل يوم بذاهب الصبر أن يأتي إليه حارسه بالزاد، وكذلك المريض فإنه يتوقَّع كل ساعة، متى كان منفردًا، أن يأتي إليه ممرضه، فينتهي الأمر بالسجين أن يحب الحارس، وبالمريض أن يحب الممرض.

فقاطعها فرناند وقال: يا سيدتي، إن ضجري من وحدتي لم يكن لذلك السبب.

– لا ريب عندي فيما تقول؛ فإنك تنتظر أنباء زوجتك.

فاختلج فرناند واضطرب وجعل يفتكر بهرمين، غير أن الفيروزة نظرت إليه نظرات ملؤها الحب والحنو خلبت لبَّه ونسي هرمين.

ودام بهما الحال على ذلك ثمانية أيام، وهي في كل يوم تجذب قطعةً من فؤاده، وتسترق بقية عقله، حتى أصبح لا عقل له ولا قلب.

فلما كان اليوم الثامن، وقد شفي جرحه وأصبح قادرًا على الذهاب، دخلت إلى غرفته وجلست بقربه وقالت: إنك تعلم بأني لا أستطيع أن أخبرك باسمي ولا اسم الشارع الذي أنا فيه، وقد آنَ زمن رجوعك إلى منزلك لتعافيك، ولكني لا أطلق سراحك قبل أن تُقسِم لي أنك تمتثل لما أريد.

– إني أقسم لك بما تشائين.

– إنك لا تخرج من هنا إلا بعد أن أعصب عينيك، فتخرج بك مركبة إلى أن تبلغ إلى مكان معين، وعند ذلك تزيح العصابة عن عينيك وتقرأ هذا الكتاب الذي أعطيك أياه الآن، فتعلم ما أريد منك.

فحار فرناند بين هذه الألغاز، وقال: ليكن ما تريدين، فمتى أذهب؟

– الآن.

ثم أخذت منديلًا فعصبت به عينيه، وقادته بيدها حتى وصلت به إلى الباب الخارجي، وكانت مركبتها تنتظر قرب الباب، فأصعدته إليها وودَّعته وهي تقول: كُنْ وَفِيًّا بالقَسَم.

وسارت المركبة تقطع به الأرض نهبًا، فاجتازت جميع شوارع باريس حتى انتهت إلى شارع غير مطروق، فأوقفها السائق وقال لفرناند: هنا أمرتني سيدتي أن أقف.

فنزع فرناند العصابة عن عينيه، ونزل من المركبة وانطلق مسرعًا إلى زاوية مقفرة بالشارع، ثم فضَّ غلاف الكتاب، وقد سأم صبرًا وقرأ ما يأتي:

أيها الصديق

إنك أوشكت أن تشفى أتمَّ الشفاء، بحيث أصبحتَ قادرًا على الرجوع إلى زوجتك التي تحبك وتنتظر عودتك بذاهب الصبر، فأودعك وداعًا لا لقاء بعده. وأسألك أن لا تعود بعد ذلك إلى مبارزة أحد، فإذا جال يومًا ذكري في خاطرك فقُلْ أن الحياة تكتنفها الأسرار، ولا تبحث عني لأنك لا تراني وذلك لأني مقيَّدَة، وبحثك عني يعرِّضك لأخطار شديدة، ثم لأنك مقترن بامرأة تهواها وتهواك. الوداع، ولا تفتكر بي إلا كما تفتكر في حادثة جَرَتْ لك في حلم، واعلم أن الأحلام خير أوقات الحياة.

فاضطرب فرناند عند الفراغ من تلاوة الكتاب وقال: إني سأجدها ولو ذهبت إلى أقصى مكان في الأرض.

١٦

في اليوم التالي لحمل فرناند إلى منزل الفيروزة، كان أندريا عند منتصف الليل في منزل روكامبول، وقد جلس هذان الاثنان حول منضدة، فكان أندريا يتعشى ويأكل أفخر المآكل نافضًا عنه غبار الزهد في منزل أخيه، وكان روكامبول يتلو عليه تقارير أعضاء الجمعية السرية، مبتدئًا بتقرير شاروبيم.

وكانت خلاصة تقرير شاروبيم أنه راقَصَ المركيزة فان هوب، فظهرت عليها ملامح الاضطراب، وأنه بسط مقدمة غرامه فتكلَّفَتْ عدم المبالاة، وأنه لقيها في اليوم الثاني في أحد المنتزهات، فاحمرَّ وجهها حين سلَّم عليها وبرحت المنتزه دون سائر المتنزهين، كأنها تحاول الفرار منه، إلى غير ذلك من هذه المقدمات.

فقال أندريا: إنه لم يصنع بعدُ شيئًا يُذكَرُ، ولكن اضطرابها واحمرار وجهها حين لقياه، خير دليل على أنها خَطَتِ الخطوة الأولى في سبيل غرامه.

ثم قال: ما لديك غير هذا التقرير؟

ففتح روكامبول محفظة كبيرة وأخرج منها ملفًّا مكتوبًا عليه «الأرملة ملاسيس»، ففتحه وقرأ فيه ما معناه أن هذه الأرملة عادت إلى منزلها عند منتصف الليل، وبينما هي مقيمة في غرفتها سمعت وقع أقدام، فحسبت أن القادم هو الدوق إذ لا يزورها أحد في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل، غير أن القادم لم يكن الدوق بل كان أرثير كامبي أحد أعضاء جمعيتنا، فأجفلت حين مرآه وحاولت أن تصيح، غير أنه أقفل الباب بهدوء وجلس بقربها، فلم يُعلَم ما دار بينهما، ولكنه لم يخرج من منزلها إلا عند بزوغ الفجر.

وكان هذا التقرير أن هذه الأرملة تخرج كل يوم في الساعة الثانية بعد الظهر فلا تعود إلا في الساعة الرابعة، وأن الدوق زارها في صباح اليوم التالي للحفلة فوجدها منشغلة بإعداد معدات السفر، ودار بينهما حديث طويل، فكان الدوق يلتمس منها وهو راكع أمامها أن ترجع عن السفر، وما زال بها حتى أقنعها على البقاء على شرط أن يتزوَّج بها قريبًا، وأن يسافرا على إثر الزواج إلى إيطاليا، وأن لا يزورها ولا يحاول أن يراها قبل أن توزِّع رقاع الدعوة لحضور حفلة الزواج.

فقال أندريا: إن مسألة هذه الأرملة تسير سيرًا خلافًا لمسألة المركيزة والكونت مايلي، ولكن النصر مضمون لمَن يتمكَّن أن يصبر. ثم قال له: ألَمْ يَرِدك شيء عن الفيروزة؟

– أجل.

وأخرج ملفًّا مكتوبًا عليه ليون رولاند، فكان خلاصة ما فيه أن الفيروزة تأتي كل يوم بملابس العاملات في الساعة الثانية بعد الظهر إلى الغرفة التي يقيم فيها الأعمى الكاذب، وأن ليون يأتي كل يوم متعلِّلًا بعيادة هذا الأب ويحادِث الفتاة مليًّا، فإذا ذهب إلى معمله ذهبت هي في إثره إلى منزلها. وقد بدأ ليون يُفتَن بها، فإنه حين يأتي يسأل خادمة البيت إذا كان والد الفتاة فيه، فإذا أجابت بالإيجاب اضطرب واصفرَّ وجهه.

فتبسَّمَ أندريا وقال: وقَعَ الطيرُ في القفص.

ثم أخذ من جيبه كتابًا من الفيروزة وقرأ ما يأتي:

أظن أن زمن عذاب سريز قد دنا، فإن زوجها الأبله سقط في الفخ، وهو في كل ساعة يراني يحاول أن يجثو أمامي ويكاشفني بحبه، فيمنعه حضور أبي، ولكني أقرأ صورة الهيام بين عينيه، وعندي أن دور هذا الأب قد انتهى، ويجدر إرساله بالظاهر إلى إحدى المستشفيات كي يخلو الجو لليون ويكاشفني بما يريد. إني أنتظرك في الموعد المعين كي أتلقَّى أوامرك الجديدة وأعلم ما ينبغي أن أعمل.

فأعاد أندريا الرسالة ثم أدناها من الشمعة وأشعلها، ونظر إلى روكامبول فقال: لننظر الآن في أمر هذه الملايين، فإن هذه المركيزة فاضلة محقة لزوجها، ولكنها بدأت أن تحب شاروبيم بالسر، فينبغي علينا أن نساعده كي نحملها على الإباحة بهذا الحب.

– أتظن ذلك سهلًا ميسورًا؟

– ليس هو بالشيء السهل، غير أن كل شيء ممكن في الوجود، فاعلم الآن أنهم سيمثلون روايةً بعد غدٍ في الأوبرا، وستحضرها المركيزة دون ريب فتقيم في لوج خاص بها.

– أجل.

– فاذهب غدًا إلى شاروبيم وأخبره بأنك ستبارزه وتجرحه جرحًا بسيطًا في يده لا ينال منه أدنى مشقة، ولكنه يؤثِّر تأثيرَ إشفاقٍ على المركيزة.

فدهش روكامبول وقال: وكيف ذلك؟

– ذلك أنك تستأجر في الأوبرا اللوج الملاصق للوج المركيزة وتقيم شاروبيم فيه، ثم تزوره في لوجه وتخاصمه بصوت مرتفع يبلغ إلى مسامع المركيزة، لتلاصُقِ اللوجين، خصامًا يدعو إلى المبارزة بينكما، وتعيِّن موعد المبارزة، وتذكر نمرة منزل شاروبيم، واسم الشارع المقيم فيه، بحيث لا يفوت المركيزة حرف من جميع هذه التفاصيل.

قال روكامبول: فهمت كل شيء.

– بقي أمر واحد، وهو أنك تدع شاروبيم يستأجر غدًا المنزل الكائن تحت منزل الأرملة ملاسيس صديقة المركيزة، وهو معَدٌّ للإيجار وكائن ببينار نمرة ٤٠، فإن نوافذ منزل الأرملة تطل على هذا المنزل، والمركيزة تزور صديقتها في أكثر الأيام.

– كفى، قد فهمت كل شيء.

وعند ذلك تركه أندريا وانصرف إلى منزل الفيروزة، فلقيها تنتظره فقال لها: اذهبي غدًا إلى غرفة أبيك وخذيه إلى مستشفى ديبوا وانتظري تعليماتي الجديدة.

فبرقت أسرة الفيروزة وقالت: وفرناند؟

– صبرًا، فإن ملايينه تستحق شيئًا من الصبر.

١٧

بينما كانت المركيزة في اليوم التالي تتأهَّب للذهاب إلى الأوبرا وزوجها واقف أمامها ينظر إليها نظرة العاشق المفتون، إذ دخل أحد الخدم وأخبرهما بقدوم الماجور غاردن (وهو أحد أعضاء الجمعية السرية وصديق المركيز)، فأمره المركيز بإدخاله وقد سُرَّ لحضوره؛ لأنه كان مولعًا بلعب الشطرنج، وهو يبحث منذ حين في ضميره عن صديق ينوب عنه بمرافقة امرأته إلى الأوبرا؛ لأنه كان يؤثر الشطرنج على حضور الملاعب، ولما دخل الماجور طلب إليه أن يصحب امرأته إلى الأوبرا بدلًا منه، على ما عرف به من الغيرة عليها، وذلك لأن هذا الماجور قد تجاوَزَ عهد الشباب بمراحل، وهو صديق البيت منذ عهد بعيد، فقبل شاكرًا وهو لم يأتِ إلا لهذا الغرض مدفوعًا من روكامبول، أما المركيز فإنه ودَّعَهما واعدًا امرأته أن يوافيها إلى الملعب عند تمثيل الفصل الأخير من الرواية ومضى، فذهب الماجور والمركيزة في إثره إلى الأوبرا، ودخلا إلى اللوج الخاص بالمركيزة ووجدا القاعة غاصَّةً بالناس.

وفيما هما يجيلان النظر بالحضور إذ دخل شاب إلى لوج مقابل للوجهما، وجعل ينظر إلى الناس بنظارته وهو يبسم تارةً ويتجهم أخرى، حتى وقع نظره على لوج المركيزة فانحنى أمامه مسلِّمًا، فنبَّهَها الماجور إليه وقال: أتعرفين هذا الشاب؟

– نعم، لقد قدَّمُوه إليَّ في الليلة الراقصة، وهو أسوجي كما قيل لي.

– نعم، غير أنه مولود في فرنسا وهو من أسرة نبيلة، عاقل وافر الذكاء، غير أنه على فرط ذكائه حاد المزاج شديد النزوع إلى الخصام كثير المبارزات، ممرس بإطلاق الرصاص ولا يخطئ مرماه، وندر أن سلم مبارِزه من الموت.

فأجفلت تنظر إلى اللوجات القريبة منها، فرأت شاروبيم باللوج الملاصق، ثم رأت روكامبول ينظر إليه نظرات الحقد، فوجف قلبها وخشيت أن يكون بين الاثنين ما يدعو إلى المبارزة.

ولما انتهى الفصل الأول من الرواية، سمعت طرقًا على باب لوج شاروبيم، ففتح وسمعت الحديث الآتي:

قال الداخل وهو روكامبول: هل أنا بحضرة الكونت أومسكار دي فرني (وهو اسم شاروبيم).

وقال شاروبيم: هو أنا.

– أتأذن لي بخلوة معك لشأن خطير؟

– ليكن ما تريد.

– إني أُدعَى الفيكونت دي كامبل.

– قد تشرَّفْتُ بمعرفتك في منزل المركيزة فان هوب منذ ثمانية أيام.

واختلج فؤاد المركيزة وأسندت رأسها إلى جدار اللوج وهو من الخشب الرفيع؛ كي لا تفوتها كلمة من هذا الحديث.

فقال روكامبول: إني أقمت ثمانية أيام أبحث عن اسمك ومنزلك ولم أعلمهما إلا الآن حين أخبرني باسمك أحد الأصدقاء.

– إني مستعد لإرضائك يا سيدى في كل ما تريد فقد عرفتَ اسمي، وأما منزلي فهو في شارع ببينار نمرة أربعين، غير أني أعجب لما أراه من انشغالك بي والبحث عني.

– ذلك لأني لقيتك في منزل المركيزة، فأحببت أن أعرف اسمك.

– ألعلك مكلَّف بقضاء مهمة سرية؟

– كلا يا سيدي، فإني لا أهتم إلا بأشغالي الخاصة، وإذا أذنْتَ لي أوضحت لك ما أريد.

– قُلْ ما تشاء، فإني مصغٍ إليك.

– تذكر إننا كنَّا نقامر في منزل المركيزة في تلك الليلة الراقصة، وكنَّا على طاولة واحدة.

– أذكر ذلك ولا أنساه.

– وكنتَ من الرابحين في تلك الليلة، وكان الورق بيدي فدفعته إلى سواي وقمت، فخاصمني أحد اللاعبين، وبالاختصار فإني تركت الحفلة لمبارزة خصمي فبارزته بسرعة زائدة وتغلَّبْتُ عليه، ثم عدت حالًا إلى الحفلة كي أرصد حسابي مع بقية اللاعبين الذين سمعت منهم حين ذهابي كلمات مرَّة اضطررت إلى الصبر عليها لانشغالي بمبارزة ذلك الخصم، وكنتَ أنت من الذين قالوا عني إني قد اتخذت المقامرة مهنةً لي، ولكني عندما رجعت لم أجدك بين الراقصين واللاعبين، أما وقد رأيتك الآن فقد جئتُ أسألك أن تعتذر إليَّ عما قلتَ.

– يسوءني أن لا أعتذر إليك، فقد تعوَّدْتُ أن لا أندم عمَّا أفعل، ولا أرجع في شيء مما أقول.

– إذن، أفلا تسحب كلامك؟

– كلا!

– لم يَبْقَ لي إلا أن أسألك عن المكان الذي تريد فيه أن أرسل إليك شهودي.

– لقد قلتُ لك إني أقيم في منزل في شارع ببينار نمرة ٤٠.

– بقي أن ألتمس منك أمرًا واحدًا، وهو أن تكون المبارزة هذه الليلة لأني مضطر إلى السفر في الصباح.

– ليكن ما تريد لأني أجد الأمر سهلًا.

– كيف ذلك؟

– ذلك أني رأيت في هذا اللوج المجاور لنا، وهو الذي تقيم فيه المركيزة فان هوب، الماجورَ غاردن وهو من أصدقائي وسأسأله أن يكون شاهدي، فانتظرنا عند منتصف شارع ريشليو مع شهودك.

ثم ودَّعه روكامبول وخرج وقد اضطرب فؤاد المركيزة؛ إذ لم يفتها سماع حرف من هذا الحديث، وجعلت تمعن الفكرة في إيجاد وسيلةٍ لمنع هذه المبارزة، فأُغلِق في وجهها كل باب إلا إذا تداخلت بين المتبارزين، وفي ذلك أعظم مساس بشرفها؛ إذ لا وصلة قربى بينها وبين المتبارزين تشفع بالوساطة، وبينما هي تفكر مهمومة والماجور متشاغل عنها بالنظر إلى الحضور إذ سمعت صوت شاروبيم يخاطب صديقًا له، فعادت وسمعته يقول لصديقه ما يأتي: إني أعترف لك بأمر لم يدعني إلى إفشائه غير ما أنا فيه من الخطر، وذلك أني سأبارز رجلًا شديدًا، وخير ما أرجوه أن يكون الظافرَ فأبلغ من الموت ما طالما تمنَّيْتُه.

– أراك مللت من الحياة وأنت لم تتجاوز بعدُ عهدَ الشباب.

فتنهَّدَ شاروبيم وقال: بئس الشباب إذا كان رائده الخيبة وكانت حلاوته مرارًا وعذابًا، واعلم أيها الصديق أني أحب امرأةً حبًّا مبرحًا، ولكنها لا تعلم شيئًا من حبي لها، ولا أحب أن تعلم سرَّ غرامي إلا بعد أن أموت وأُزَجَّ في ظلمات الأبد.

– ويحك ما هذا القنوط ألعلك جُنِنْتَ؟

– لم أجن إلا بهواها، وخلاصة أمري أني سئمتُ الحياة لأني أحب حبًّا لا رجاء فيه ولا أمل لي بمكاشفتها به في الحياة، فأنا أرجو أن تعلمه بعد موتي وأن تكون رسولي بهذا البلاغ.

– كيف ذلك؟

– ذلك أني سأدفع إليك رسالةً مختومةً أكتب فوق غلافها عنوانَ مَن أحبُّ، وأضع هذا الغلافَ ضمن غلافٍ آخَر لا كتابة عليه، فإذا قُتِلتُ في المبارزة تمزِّق الغلاف الأبيض وتضع الرسالة في صندوق البريد، وإذا سلمتُ من الموت وهو ما لا أرجوه، تعيد إليَّ الرسالة كي أدفن سرَّها بصدري إلى أن ييسِّر الله لي موتًا آخَر.

فبهت صديق شاروبيم ثم قال: أهذا كل ما تريد؟

– نعم، وقد بقي عليَّ أن أستحلفك بإنفاذ هذه المهمة. فأقْسَمَ له صديقه على تنفيذها وغادره وانصرف.

أما المركيزة فقد هلع قلبها من الخوف، وأيقنت أن هذا الرجل قد خلب قلبه حبها، وأنه سيبحث عن الموت بحث الراغب فيه لما تولَّاه من القنوط، فحارت في أمرها، غير أنها فطنت لأمر أملت أن يكون فيه نجاة شاروبيم، وهو أنها سمعته يقول أنه سينتدب الماجور ليكون أحد شاهديه، فقالت في نفسها: إنه لا بد أن يأتي الآن لإخبار الماجور أمامي، فإذا سمعت الحديث تداخلت في الأمر ولا تلحقني وصمة هذه المداخلة لأني ما سعيت إليها.

غير أن فأل المركيزة قد ساء؛ فإن شاروبيم لم يتزحزح من لوجه، بل نزع ورقةً من دفتر جيبه وكتب عليها للماجور يرجوه أن يكون شاهده في المبارزة المتقدم ذكرها، وأرسلها إليه مع إحدى خادمات المرسح، فأعطته إياها أمام المركيزة وهي تقول إنها من شاروبيم، فعلمت المركيزة مضمونها وحاولت أن تدع الماجور يُطلِعها على كُنْهِها فلم تنجح لشدة مبالغته بالكتمان، وما زالت تستنبط الحيل لحمله على الإقرار وهو يصرفها عن مرادها، إلى أن قدم زوجها المركيز فاستأذن الماجور وانصرف ذاهبًا للقاء شاروبيم، أما المركيزة فإنها عادت مع زوجها بعد انتهاء الرواية إلى القصر، وباتت من إشفاقها وخوفها بليلة العين.

ولم تستيقظ من رقادها إلا في الساعة الحادية عشرة من الصباح، وهي مختلة مشردة الفكر لا تعلم ما تعمل لتطمئن على شاروبيم، وفيما هي والهة حائرة إذ دخلت عليها وصيفتها تحمل إليها كتابًا من صديقتها الأرملة تدعوها فيه إلى زيارتها لشأن خطير، وكانت تعلم أنها تقيم في منزل مُجاوِر لشاروبيم، فطار فؤادها سرورًا وأسرعت فركبت مركبتها وانطلقت إلى منزل تلك الأرملة.

ولما خلت بها أخبرتها الأرملة على سبيل الاتفاق أن شابًّا منزله تحت منزلها أُتِيَ به أمس محمولًا على الأكف، لإصابته بجرح بالغ على إثر مبارزة.

فصاحت المركيزة صيحة رعب وسقطت مغميًّا عليها، فأسرعت الأرملة بقرع الجرس، وعند ذلك دخل الخادم وهو من صنائع أندريا، فلما رأى المركيزة مغميًّا عليها، نظر إلى الأرملة متبسِّمًا وقال: وقع الطير في الشَّرَك.

– أوشك أن يقع، فإنه بدأ يلتقط الحب.

وكانت هذه الأرملة في عداد الذين وقعوا في فخاخ أندريا، فباتت يده العاملة في غواية المركيزة لطمعها بزواج الدوق الشيخ، وكان خادمها يحمل إليها أوامر أندريا فتصنع بها مكرهة مضطرة؛ لأنه كان لديه أدلة تثبت حبها لأحد أعضاء الجمعية السرية، ورسائل إليه بخطها إذا وقعت بأيدي الدوق نفر منها وقذف بها إلى الحضيض. فلما صحت المركيزة من إغمائها هشَّتْ لها الأرملة وأظهرت لها أنها واقفة على سر غرامها وقالت: خفِّفِي عنك أيتها الحبيبة، فإن جرحه لا خطر فيه، وهو سيبرأ في زمن قريب.

فظهرت علائم السرور بين ثنايا وجهها، ثم تجهَّمَ جبينها وعبق خداها بحمرة الخجل حين علمت أنها باحت بشيء من سرها، وأرخت عينيها إلى الأرض كالمذنب النادم وهي تقول: رباه ماذا صنعت؟

فأخذت الأرملة يدها وقالت: لقد كنتِ لي صديقةً، أفلا تريدين أن أكونَ لكِ أختًا؟

ثم جعلت تهوِّن عليها الخطوب، وتستدرجها إلى الإباحة بغرامها حتى بلغت منها ما تريد، وبعد حين خرجت المركيزة عائدةً إلى قصرها، وقد فتحت لها الأرملة هوة الشقاء.

١٨

بينما كان ليون رولاند يسهر الليل مفكرًا حائرًا بأمر تلك الفتاة التي خلبت لبَّه، والكونت دي مايلي يحاول أن يجذب قلب هرمين وقد بات مستودع سرها، إذ كان يتزلف إليها بلباس الإخاء وهي تثق بوداده الكاذب وتخبره بما اقترفه زوجها، فيَعِدها خيرًا، ويذكر لها من أحوال الفيروزة ما يضرم نار الحقد في قلبها، وقد اتفق وإياها على أن لا تخبر زوجها حين يعود إليها بشيء مما تعلمه عن هذه البغيِّ إلى أن يجد وسيلة لإبعادها.

فوثقت بوعوده وجعلت تتغذى بقرب ولدها عن بعد هذا الزوج، وبينما كانت الأرملة تفتح هوة الضلال كي تزجَّ بها صديقتها، وبينما كان أندريا يراقب جميع هذه الحوادث ويعمل على إغواء امرأة أخيه المحسِن إليه، وبينما كانت جميع هذه الدسائس التي استنبطتها قريحة السير فيليام تسير على ما يريد، كان فرناند روشي ينزل من مركبته بعد أن أزاح العصابة عن عينيه ووقف في عطفة الشارع يتلو كتاب الفيروزة.

فلما أتم تلاوة الكتاب اصفرَّ وجهه وقال: لا بد لي أن أراها ولو سافرت إلى أقصى المعمورة.

ثم مشى مشية المفكر المهموم إلى أن وصل إلى منزله ودخل إليه دون أن يدري أين هو، حتى انتبه وهو في الحديقة إلى صوت ولده يناديه من النافذة بصوت الجذل المندهش، فوجف فؤاده وسرت إلى نفسه عواطف الحنو، فأسرع إلى لقاء هذا الولد، فبلغ إليه وهو في حجر أمه واندفع يعانق الاثنين ويقبِّلهما قبلات صادقة، أَنْسَتْه حبَّ الفيروزة الكاذب إلى حين.

وكان بينه وبين امرأته حديث طويل، فأخبرهما بحديث مبارزته واعتقاله كما شاء، وتظاهرت بتصديقه كي لا يعود إلى الجفاء، وبات تلك الليلة في منزله وهو على أحر من الجمر، وكان إذا تمثَّلَتْ له الفيروزة تشاغَلَ عنها بمداعبة طفله إخفاءً لبوادر غرامه الشديد.

ولما كان الصباح ركب فرسًا عربيًّا أصيلًا، وخرج إلى النزهة في الغابات كما تعوَّدَ فاطمأنت هرمين لما رأته من ظواهر حبه القديم، ولم تَعُدْ تخطر لها خيانته في بال، فلما حان وقت الغذاء لم يرجع، فانتظرته إلى العشاء فلم يَعُدْ، وانتصف الليل فلم يحضر؛ فعادت إليها هواجسها وأقامت في نافذة غرفتها منتظرة دون أن يكتحل جفْنُها بالرقاد حتى طلع النهار، فرأت باب الحديقة قد فُتِح ودخل منه ذلك الفرس الذي كان يمتطيه فرناند دون فارسه، وكان يقوده أحد الخدم، فهلع قلبها ونادت الخادم وسألته عن زوجها، فقال: إنه دفع إليَّ الفرس كي أُرجِعه إلى المنزل، وكان ذلك مساء أمس خارج باريس.

قالت: كيف أعطاك الحصان ولماذا؟

– إنه كان يطارد مركبة فيها فتاة حسناء عليها ملابس السفر، فلما أدرك المركبة استوقفها فوقفت، وتباحث مع الفتاة بحثًا طويلًا تبيَّنْتُ من إشارته أنه يدعوها إلى الرجوع إلى باريس، وكأنه قد أقنعها فنظر إلى الشارع فرآني واقفًا أنظر إليهما، فكتب نمرتي في دفتره ثم قال: خُذْ هذا الجواد وانتظرني في غابة بولونيا إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، إذا لم أَعُدْ إليك أرجعه في الصباح إلى منزلي. ثم دلَّنِي على المنزل ودفع لي أجرتي وعاد إلى المركبة فركب بجانب الفتاة وعاد كلاهما إلى باريس.

دقت هرمين يدًا بيد وقد أيقنت أن زوجها قد علق بتلك البغي، وللحال خرجت من المنزل فركبت مركبة وأمرت السائق أن يسير بها إلى منزل الكونت دي مايلي كي تستشيره في أمرها، فقد باتت تثق به وثوق الأخ بأخيها.

وحكاية فرناند أنه خرج للتنزُّه صباحًا في غابات بولونيا كما تقدَّم، وفيما هو يسير الهوينا إذ أبصر مركبة تسير على مسافة بعيدة عنه مسير المستعجل المسافر لأمر خطير، تجرها أربعة جياد، دفعه الفضول إلى تعقُّب هذه المركبة لا سيما بعد أن رأى فيها فتاةً وأمتعةَ سفر، وما زال يتعقَّبُها حتى أوشك أن يدنو منها، فعلم أن تلك الفتاة لم تكن إلا الفيروزة، وذكر ما كتبته إليه عن عزمها على مغادرة باريس.

وكان في مؤخر المركبة خادمة غرفة الفيروزة، فتظاهرت أنها تلتفت إلى ورائها اتفاقًا، حتى إذا رأت فرناند يسير بإثر المركبة أظهرت الانذهال وقالت لمولاتها كلمةً لم يسمعها فرناند لبُعْده عنها، ولكنه علم أنها أخبرتها بأمره؛ وذلك لأن الفيروزة أمرت السائق بالإسراع، فضرب الجياد بسوطه الطويل فاندفعت تنهب الأرض وتسبق الرياح.

وحسب فرناند أنها تريد الفرار منه، فلكز بطن جواده وأطلقه في إثرها، وما زال يطاردها حتى أدركها بعد أن خرجت من أبواب باريس وسار جواده بجانب مركبتها.

نظرت إليه وصاحت صيحة انذهال، ثم قالت: كيف أنت هنا وما أتيت تعمل؟

فتلعثم لسانه ولم يَدْرِ ماذا يجيب، ولكنها أجابتها عيناه بلغة تفصح أكثر من أبلغ الكلام عن مراد القلوب، فابتسمت له وقالت: إلى أين أنت ذاهب؟

– لا أعلم.

– ومن أين أتيت؟

– من باريس. وقد سكن اضطراب فرناند وقال: وأنتِ إلى أين تذهبين؟

– إني مغادرة باريس كما ترى.

– أيطول غيابك عنها؟

فأَرْخَتْ عينيها وقالت بصوت يتهدج: سأغيب عامًا على الأقل.

فاضطرب فرناند وقال: كلا، إن هذا محال.

– كيف تراه محالًا وأنت تراني مسافرة على الطريق! ثم أشارت إليه مسلِّمة بيدها وهي تقول: إني ذاهبة إلى فلورنسا لأقضي فيها بقية الشتاء، فأستودعك الله واذكر كتابي.

غير أن فرناند قد عزم عزمًا أكيدًا، فاستوقف السائق وقال لها: سيدتي قلتُ لكِ أن سفرك محال لأنك لا تستطيعين السفر الآن.

فقطبت حاجبيها وقالت: مَن يمنعني عن السفر؟

– أنا، وذلك لأني أقفو أثرك حين خروجك من باريس لأني أود محادثتك في شأن خطير، فإن أبيتِ عليَّ ذلك، فإني ألقي نفسي بين دواليب مركبتك.

قالت وهي تبتسم تبسُّم الرضى: إني لا أريد لك الموت، ماذا تريد؟

ثم أوقفت المركبة ونزلت منها ونزل فرناند عن جواده، فتأبَّطَ ذراعها وسار وإياها إلى فندق قريب وهو يقول: إننا سنتغدى في هذا الفندق ونتباحث فيه، فإما تعودين إلى باريس أو تسافرين بعد الغداء.

وذهب بها إلى الفندق، فدار بينهما حديث طويل أسفر عن رضى تلك الفتاة بالرجوع مع فرناند إلى باريس بعد أن تعاقدا على الحب واستوثقت منه بأشد المواثيق، وفي المساء عادا إلى باريس فذهبا إلى منزلها، وكان جواد فرناند لا يزال يرافق المركبة، فأمرت خادمها عند الصباح بإرجاعه إلى منزله بعد أن علَّمته ما يقول كما عَلِمناه حين سألته هرمين.

١٩

وَلْنعد الآن إلى باكارا التي ستمثل أعظم دور في هذه الرواية العجيبة، فنقول إنها بعد أن تابت إلى الله توبةً صادقةً إثر غرامها بفرناند، جعلت قصاراها إغاثة المعوزين ودفع نكبات الدهر عن البائسين بالإنفاق عليهم من مالها الخاص، ومستعينة بأموال الكونت دي كركاز، وكانت صارفة معظم اهتمامها إلى إنقاذ البنات الفقيرات من وهدة البغي الذي يدفعهن إلى هاوية الجوع، وما يلقينه من المسكنة والمذلة.

وقد اتفق لها في تلك الليلة التي وقع فيها فرناند بشَرَك الفيروزة أنها أنقذت ثلاث أخوات إسرائيليات من السقوط في هذه الهاوية، فجعلت الكبرى وصيفةً لإحدى ربَّات القصور، وأَدْخَلَتِ الثانية في أحد معامل الخياطة، وعادت بالصغرى إلى منزلها وهي تؤمل متى طالت صحبتها لها أن تجعلها تعتنق الديانة المسيحية لفرط تعصُّبِها بدينها بعد أن تابت تلك التوبة الصادقة.

وكانت الفتاة الإسرائيلية بارعة الجمال، وقد بالغت باكارا بملاطفتها حتى استأنست بها وتعلَّقَ بها فؤادها، فلما عادت بها إلى المنزل خصَّصَتْ لها غرفة فيه، وأوصت بها الخدم خير وصاية، وفيما هي تُلقِي عليها الإرشاد وتبث فيها روح الفضيلة كي تستأصل من نفسها ما خلَّفَتْه دواعي الشقاء من مبادئ البغي والفساد، إذ دخلت عليها الخادمة تخبرها بقدوم أختها سريز، وكانت لا تزورها إلا في النادر لانصرافها عن الزيارات.

وفرحت بقدومها فرحًا شديدًا، غير أنها ما أوشكت أن تراها حتى تراجعت منذهلة لما رأته من شحوبها ونحولها، ثم أكَبَّتْ على عنقها تقبِّلها باكيةً وهي تقول: أختاه ماذا أصابك؟

ولم يكن نحول سريز إلا لما لقيته من انشغال زوجها بحب سواها وهيامه بالفيروزة، وهو يحسبها إحدى العاملات، فشَكَتْ لأختها جميع ما تلقاه من انحراف ليون عنها، وقالت إنه لولا ولده لمَا قَدِم إلى البيت، وإنه لا يأتي من محل عمله إلا حين الحاجة الشديدة لافتتانه بمَن يهواها، وإنه لا يعاملها إلا بالنفور، وإذا عاتبته ابتدرها بالقول الغليظ والسخط والحدة إلى غير ذلك مما يفسد عيش الزوجين، وآخِر ما قالته أنها باتت تخشى عليه أن يصاب بالجنون؛ فإنه حين يبيت في المنزل يلبث طول ليله سهران يجول في ردحة البيت لا يكلِّم أحدًا ولا يريد أن يكلِّمه أحد.

فسمعت باكارا جميع قول أختها وهي آسفة متوجعة، ثم سألتها أتعرفين هذه الفتاة التي يهواها؟

– كلا!

– أتتهمين أحدًا بإغرائه على هذه الخيانة؟

– كلا.

وجعلت تبكي وهي متكأة على صدر أختها بكاء الأطفال، وفيما هي تعزيها وتَعِدُها الوعود الجميلة إذ دخلت الخادمة تقول: سيدتي، إن الفيكونت أندريا يطلب مقابلتك.

فأجفلت سريز عند سماع اسمه، ونظرت إلى أختها نظرة الخائف الوجل، ثم قالت: قلبي يحدِّثني بأنه لم يسلبني قلبَ زوجي سوى هذا التائب.

فاضطربت باكارا وقالت: وأنا أرى ما ترينه، فإن توبته كاذبة وستفضحها الأيام؛ فاذهبي الآن كي أرى ما يريد، واطمئني فإن نفور زوجك لا يطول.

وذهبت سريز فدخل في إثر ذهابها أندريا، فسلَّمَ على باكارا ووقف وعيناه مطرقتان إلى الأرض، إلى أن أمرته بالجلوس فجلس بإزائها وجعل كلٌّ منهما ينظر إلى الآخَر نظر مَن يفحص خصمه قبل القتال كي يعلم مبلغ قوته وإذا كان كفؤًا له.

وساد السكوت بينهما إلى أن افتتحت باكارا الحديث فقالت: هل اكتشفتَ شيئًا من أمور الجمعية السرية؟

فأجابها: نعم، وأخص ما علمتُه أن معظم أعضائها من النساء، وأنها ترتكِب من المنكرات الفظيعة ما لا يخطر في بال، وأن رئيستها امرأة.

فدهشت باكارا وقالت: مَن هي هذه المرأة؟

فقال أندريا: أصغي إليَّ ودعيني الآن أخبرك بما أتيت من أجله، فإن رجلًا ينبغي عليَّ وعليك أن نحبه بقدر ما أسأنا إليه، في خطر شديد.

فاختلج فؤاد باكارا وقالت: مَن عسى أن يكون هذا الرجل، ألعله فرناند؟

فأطرق إطراق الأسف والحزن وقال: هو يا سيدتي بعينه.

فجزعت باكارا وصاحت: رباه! ماذا أصابه أهو مريض؟ قُلْ أي خطر تعني؟

– كلا ما هو بمرض، ولكنه وقع في شَرَك تلك الجمعية الهائلة، فسلَّطَتْ عليه امرأة أحَبَّها حبًّا مبرحًا.

وكأن الصاعقة قد انقضَّتْ على باكارا؛ فقد تأججت في فؤادها براكين الغيرة، وهاجت مكامن حبها القديم حتى أوشكت أن يُغمَى عليها، وذلك أنها كانت لا تزال تهوى فرناند، ولكنها شُغِلت عن هواه بعد زواجه بتوبتها الصادقة، فلما رأته قد نقض عهد الزوجية ثار حبها القديم، حتى أوشكت أن تنقض عهدَ التوبة.

وكأن أندريا قد علم ما يجول في خاطرها، فعاد إلى ذكر عشيقها فقال بلهجة الآسف: إنه يحب فتاة بغيًّا يلقِّبها الشبان بالفيروزة لصفاء عينيها، وهي تقيم في منزلك القديم في شارع مونسي.

فصاحت باكارا صيحةً منكرةً، وقد جحظت مقلتاها واصفرَّ وجهها، فتكلَّفَ أندريا هيئة الحزن وجعل يقص عليها حوادث عشق فرناند كما أراد مبتدئًا بجرحه على إثر المبارزة، وحَمْلِه إلى منزل تلك العشيقة، ثم أظهر لها كتابين بخط الفيروزة أحدهما إلى هرمين والآخَر إلى رئيسة العصابة، فلما قابلت باكارا بين الخطين ورأت أنهما واحد أيقنت بصدق اكتشافه، ولكن قلبها كان يحدِّثها أنه خائن، وأن توبته ومظاهر نسكه خداع وتضليل، وأن يده هي التي ضربت هرمين وأختها سريز بغية الانتقام، ولكنها لم تُظهِر شيئًا من ذلك بل تظاهرت بتصديقه لما يقول، وجعلت تراقِب بعينيها النقادتين جميعَ سكناته وحركاته.

وبعد أن انتهيا من حديث العصابة قال لها: إن أخي الكونت أرمان يدعوك في الساعة العاشرة من هذه الليلة لنجتمع في منزله للمباحثة في هذا الشأن الخطير. فوعدَتْه بالذهاب، ونهض أندريا يحاول الانصراف، وفيما هو يسلِّم عليها دخلت الفتاة اليهودية التي تقدَّمَ ذِكْرها ووقفت بإزاء باكارا، فنظر إليها أندريا نظرةً فضحت سره لفرط إعجابه بجمالها، ولم يَدْرِ في خاطره أن باكارا تراقبه، فقبَّلَ يدها وانصرف وفي نفسه من تلك الفتاة اليهودية أشياء.

أما باكارا فرجعت بعد أن شيعته إلى الخارج وهي تقول: لقد كنتُ مشكِّكة بك، أما الآن فقد أصبح الظن حقيقة لا ريب فيها، وقد ثبت لي أنك من الخائنين.

وسمعتها الفتاة تقول هذا القول فقالت: لقد صدقتِ يا أماه، فإنه نظر إليَّ نظرةً جفَّ لها قلبي وأذكرتني نظرات ذلك الشيخ الذي كان يزور أمي في تلك الليلة، فلم تنتبه باكارا لكلامها ودخلت إلى مخدعها، فكتبت إلى أرمان دي كركاز تسأله أن يقابلها في الساعة الثامنة بدلًا من العاشرة، والتمست منه أن تكون هذه المقابلة سرية لا يعلم بها أحدٌ، ثم ختمت الكتاب وأرسلته مع خادمها إلى الكونت، فذهب به وعاد بعد حين يحمل جواب الكونت بالإيجاب.

فلما حان الموعد أرخت على وجهها نقابًا كثيفًا وذهبت إلى الكونت، فألفته ينتظرها في قاعة منزله في الحديقة، ودار بينهما حديث طويل عن أندريا، فأظهرت له جميع ما يخامرها من الريبة بأخيه، إلا أن الكونت كان يناقضها في جميع ما تقول لأنه كان يرى بعينيه كل ليلة ما يعانيه أخوه من العذاب، وكان يراقبه في بعض الليالي من قفل الباب، فيراه يجلد نفسه حتى تنتهك قواه، ويقرأ أسفار الشهداء حتى تغمض عيناه فينام على الأرض دون غطاء بعد أن يغيِّر نظام الفراش كي يظن الخدم أنه نام عليه، ولا يفطنون إلى أنه نام على الأرض.

فلما يئست باكارا من إقناعه قالت: لا بأس من أن تبقى على اعتقادك فيه، ولكني سأراقبه في الليل والنهار وأصرف كيده عنك بإذن الله، ولا ألتمس منك غير أمر واحد.

– ما هو؟

– هو أن تكتم ريبتي هذه عنه، وعن زوجتك، وعن جميع أعوانك.

– سأفعل ما تريدين.

– أتُقسِم لي على الكتمان؟

– أقسم لك وأبر باليمين.

فودَّعَتْه باكارا وانصرفت وهي تقول في نفسها: لقد انتصرت على هذا الشيطان المريد وأنا بغي مومس، وسأنتصر عليه الآن وأنا نائبة مؤمنة ليس لي نصير عليه غير الله، وكفى بالله نصيرًا.

٢٠

بينما كانت باكارا عائدة إلى منزلها، وهي تدعو الله في ضميرها كي ينصرها على أندريا، كان أندريا جالسًا قرب منضدة في منزل روكامبول، وهو يتداول مع تلميذه بشأن العصابة، وقد أخبره بجميع ما فعل وبزيارته لباكارا وإطلاعها على حب فرناند؛ فأجفل روكامبول ثم سكن روعه ووقف أمام رئيسه وقفة الاحترام وقال: أتأذن لي أن أسألك عمَّا أشكل عليَّ فهمه من أعمالك؟

فابتسم له أندريا وقال: قُلْ ما تشاء.

– إنك استكتبت الفيروزة رسالتين، واتفقت مع الكونت مايلي والأرملة مالاسيس، فكأنك قد أخبرتهم بأسرار جمعيتنا وأخبرتهم بحقيقة فرناند، فأي قصد تريد من إظهار هذه الحقيقة التي يجب أن تبالغ في كتمانها، أليس في ما فعلتَ خطر علينا؟

فقال أندريا ببرود: أي خطر تعني؟

– أولًا أنك قلتَ الحقيقة بتمامها ومهَّدْتَ لأخيك الكونت السبيل الذي نسعى إليه.

– وبعد ذلك؟

– ثم إنك أوقفت الفيروزة على بعض سرنا، وهي إنما ينبغي أن تكون آلةً صماءَ في أيدينا.

فقاطعه أندريا وقال: كفى! إنك لا تزال جاهلًا لدقائق أسرار الصناعة؛ فأصغِ إليَّ الآن لتعلم حقيقة هذه الخطة التي أشكلَتْ عليكَ؛ فإن هذه الجمعية السرية مؤلَّفةٌ من رئيس وهو أنا، ونائب وهو أنت، وأعضاء يُعَدُّون بمثابة الآلات العاملة كالفيروزة والأرملة والماجور والكونت وغيرهم، ولكل جمعية سرية في الأرض من الماسونية إلى جمعيتنا سر دقيق يكون خاصًّا بالرئيس المدبِّر، وقد يُطلِع هذا الرئيس نائبه على نصف هذا السر، ويُوقِف الأعضاء على ربعه، ولكن السر بجملته يبقى مكتومًا في صدره. أما الفيروزة والأرملة والكونت دي مايلي فإنهم لا يعلمون شيئًا من أسرارنا، فإن هذا الكونت يعتقد بخداعه لهرمين وإغوائها أنه ينتقم لرجل شريف، وهو لم يخابر بذلك غير السير أرثير الإنكليزي، وأين له أن يعلم أنني والإنكليزي واحد. وفوق ذلك فإنه رجل نبيل وقد أقسم بشرفه أن لا يبوح باسم السير أرثير، وأما الأرملة فإنها لا تعرف أحدًا منا غير خادمها فانتير، وبيدنا من رسائلها ما يجعلها أطوع لنا من ظلها، لا سيما وهي لا تزال طامعة بزواج الدوق، ولا تجهل أن رسالة واحدة من هذه الرسائل يقف عليها الدوق تحبط جميع أمانيها، وفوق ذلك فهي لا تعلم شيئًا من أسرارنا، ولو علمتها وأرادت أن تبوح بها فإنها لا تستطيع أن تتهم أحدًا غير ذلك الخادم، ولا خطر علينا من اتهامه. وأما الفيروزة فإنها لا تعلم من أسرارنا سوى أننا نريد استخدامها في سلب أموال فرناند، وهي التي ستتولى سلبه بإرشادنا، فهي شريكة لنا ومثل هذه البغي الفقيرة لا تخوننا وهي تطمع بتلك الملايين.

– بقي عليَّ أن أُجِيبك على اعتراضك الثاني، وهو كيف أني أَطْلَعتُ أرمان وباكارا على الحقيقة، وذلك لأنه سيعتمد عليَّ بعد هذا، لا سيما إذ حقق ما أخبرته به ووجده صحيحًا لا ريب فيه، فنأمن بوليسه السري، لأني أديره كيف أشاء، وأنا لم أخبره بعدُ إلا بحب فرناند لتلك الفتاة، وهو أمر لا بد من أن يظهر. وأما باكارا فلأنها ستخدمنا بعد ذلك أجلَّ خدمة دون أن تريد.

فبهت روكامبول وقال: كيف ذلك؟

– ذلك أن باكارا سيكون أول ما تجريه أنها تقابل الفيروزة، وتحاول إرجاعها عن فرناند، وقد علَّمْتُها ما تقول. ثم تذهب إلى فرناند وتحذِّره من تلك الفتاة مُظهِرة له أنها لا تريد غير الاحتيال على سلب أمواله، فيزيد فرناند حبًّا بخليلته؛ لأنه يرى أنها لم تقبل منه هدية إلى الآن، وأنها غير طامعة بشيء من ماله، فيعلم أن باكارا قد غارت منها وأنها تتهم تلك الفتاة.

فلما أتمَّ أندريا كلامه قال لروكامبول: أفهمتَ الآن؟

– نعم، قد فهمتُ كلَّ شيء.

– إذن فأصغِ إليَّ الآن لتعلم ما يجب أن تعمله في الغد، ذلك أنه يجب أن تمتطي حصانًا وتذهب عليه إلى الشانزليزه في الساعة الثانية بعد الظهر، فتجول حول المنتزه. وبينما أنت سائر الهوينا تمر بك مركبة فيها رجل وامرأة هما الفيروزة وفرناند، فتدنو بجوادك من المركبة فتنظر إلى المرأة نظرة احتقار وتحيي فرناند تحية احترام، ثم تقول له: أعرفتني يا سيدي؟ فيُجِيبك هو لا ريب بالإيجاب؛ لأنه لم ينسَ مبارزتك بعدُ، وعند ذلك تقول له: إنني عندما بارزتك يا سيدي، وجُرِحت بعد منتصف الليل أُغمِيَ عليك فارتأيت بالاتفاق مع الشهود عدم حملك إلى منزلك كي لا تصاب زوجتك بسوء عندما تراك على تلك الحال، ورأينا أن نحملك إلى منزل تلك الفتاة المجاور لمحل الحادثة.

أما هذه الفتاة التي حملتك إلى منزلها، وهنا تشير إليها باحتقار، فقد كانت عشيقةً لي وقد خُدِعت بها وارتكبت خطأ حبها، فاشتريت لها ذلك المنزل الذي تقيم فيه وفرشته لها بأحسن الرياش كما رأيتَ حين كنتَ فيه، وجعلت لها المركبات والخيول المطهمة إلى غير ذلك مما يفعله كل شاب يغترُّ مثلي بجمال هذه الحظايا وزخارف أقوالهن الكاذبة، وقد سافرت على إثر مبارزتي وحملتك إلى منزلها. فلمَّا عُدْتُ اليوم من سفري علمت أنك خلفتني في قلبها وفي منزلها، وأن لك وحدك الحق في الركوب معها في هذه المركبة التي اشترتها بأموالي.

فأجفل روكامبول وقال: ألعلك تريد بذلك أن فرناند يتحمس فيدفع لي ثمن المنزل والفرش والمركبات والمجوهرات، وجميع ما تقتنيه تلك الفتاة؟

فأجابه أندريا بلهجة الساخر: لقد علمت بعض الشيء، فإن الفيروزة ستغادر هذا القصر بعد هذه الحادثة كما علَّمْتُها، فتستأجر غرفةً حقيرةً تقيم فيها وهو ما يرضاه فرناند، ولكنه يثق بعد ذلك من حبها ويُكرِهها على قبول جميع ما تحتاج إليه من قصر جديد ومجوهرات ومركبات جديدة، إلى غير ذلك مما سيكلِّفه نصف مليون على الأقل.

– وهذا المال؟

– نعطي الفيروزة ٥٠ ألف فرنك منه، ويدخل الباقي لصندوق الشركة تحت الحساب … وَلْنَعُدِ الآن إلى فرناند، فإن حديثك معه على ما تقدَّمَ لا بد أن يدعو إلى مبارزة بينكم، ولكن الفيروزة تصلح بينكما لأنه سيكون لها أطوع من بنانها.

فأظهر روكامبول إشارة الامتثال وقال: أهذا كل ما تريد مني؟

– كلا، بل بقي لي حاجتان: إحداهما أن توصل كتابي هذا (وأعطاه رسالة ضخمة) إلى أدايي ناتها الهندية وتحمل إليَّ جوابها. والثانية أن تذهب غدًا إلى معلم السلاح المعروف في شارع رشوات نمرة ٤١، وتطلب إليه أن يعلِّمَك ضربة السيف المعروفة باسم «مائة ريال»، فإنها سُمِّيَتْ بهذا الاسم لأن أجرة تعليمها مائة ريال.

– وما الفائدة من تعليمها؟

– إنك متى أتقنتها تستطيع أن تطعن خصمك طعنةً تقتله قتلًا بطيئًا بحيث يستطيع أن يكتب وصيته قبل أن يفاجئه الموت.

فذعر روكامبول وقال: أَقُضِيَ عليَّ أن أقتل أحدًا؟

– أجل.

– متى؟

– ربما كان ذلك بعد خمسة عشر يومًا.

– مَن هو هذا الرجل المنكود؟

– هو الذي سأتزوج أرملته.

فأحنى روكامبول رأسه وهو يقول: مسكين أرمان دي كركاز.

أما أندريا فلم يحفل بكلامه، ولكنه قام فودَّعه على أن يراه بعد يومين، وذهب ليجتمع مع أخيه وباكارا في الساعة العاشرة، غير أنه بينما كان ذاهبًا إلى منزل أرمان وهو يَعُدُّ له وسائل الموت، كانت باكارا عائدة من ذلك المنزل وهي تَعُدُّ لصاحبه وسائل الحياة.

٢١

لم نبسط في ما تقدَّمَ من فصول هذا القسم غير مقدمات تلك المكائد الهائلة التي أسَّسَ أركانها أندريا، ونحن آخذون الآن ببسط نتائج تلك المقدمات وسرد حوادثها العجيبة فنقول: في اليوم الثاني لاجتماع أندريا بروكامبول، كان فرناند روشي في منزل الفيروزة وقد جلس إليها يُعرِب عن غرام فؤاده، وهي تُظهِر له حبًّا أكيدًا خالصًا من شوائب الغايات، فتلفِّق له من حوادث ماضيها قصصًا تلبسها حلة الازدراء، مبيِّنَةً له فضائل الحب الصحيح، وكيف أنه إذا دخل إلى القلوب الأثيمة طهَّرَها من الآثام، إلى غير ذلك مما كانت تجعله مقدمة لما ستنصبه له من حبائل دهائها، وكانت تقف معه موقف المشفق الحنون فتذكر له واجباته الزوجية، وتلتمس منه أن يسلوها ويعود إلى زوجته، فكان يُصغِي إليها إصغاء المفتون بجمالها، وقد شَغَلَ فؤادَه هواها فأعماه عن دهائها بحيث بات يحمل نصحها على محامل الإخلاص الصحيح، فتبدو لعينيه بمثال الفضيلة والكمال، ويقاطعها كلما ألَحَّتْ عليه بالقبل الحارة.

فما زالا على ذلك إلى الساعة الثانية، وهو الموعد الذي عيَّنَه أندريا لروكامبول، فاقترحت عليه أن يخرجا للنزهة، فركبا مركبة وانطلقت بهما حسب أمرها إلى الشانزليزه.

وبينما كانت المركبة تسير بهما الهوينا وهما يتناجيان مناجاة الأطيار، إذ بصر بها فرآها قد امتقع وجهها وجعلت تضطرب كالريشة تقاذفها الهواء؛ فأجفل فرناند لمنظرها وقال: ماذا أصابك؟

فلم تُجِبْه ولكنها نظرت نظرةً إلى الطريق ثم غطت وجهها بيدها، فنظر فرناند إلى حيث تطلعت فرأى روكامبول ممتطيًا جواده وهو يسير بإزاء المركبة ويبتسم للفتاة ابتسام الاحتقار، ولكنه حين رأى فرناند ينظر إليه رفع قبعته وحيَّاه باحترام، ثم هنَّأه بسلامته من الجرح واندفع في محادثته على ما علَّمَه أندريا وذكرناه في الفصل المتقدم.

وكان يتكلم والفيروزة مطرقة الرأس تتنهد، وفرناند مصغٍ إليه أتم الإصغاء، فلما فرغ من حديثه قال فرناند ببرود: طِبْ نفسًا أيها الصديق، فسترجع إليك جميع أموالك.

فقال له روكامبول بازدراء: لا حاجة لذلك، فإني أَهِبُ هذه الفتاة تلك الأموال.

فأجابه بعظمة: كلا، فإنها لا تقبل شيئًا دون إذني.

فنظرت عند ذلك الفيروزة نظرة احتقار إلى روكامبول، وقالت: كلا، لا أقبل شيئًا.

فانحنى روكامبول أمام فرناند وقال: ولكني أؤمل أن نلتقي بعد أن اغتصبتَ مني تلك الفتاة؛ فإن لدينا حسابًا آخَر نرصده، وهو ليس حساب المال.

– هو ذاك، فنوفيك غدًا حساب المال، ونرى حسابك الآخَر بعد الغد.

– حبذا ذاك يا سيدي لو لم أكن مضطرًّا إلى السفر بعد الغد، فَلْنرجئ هذا الحساب الأخير إلى الأسبوع القادم.

– ليكن ما تريد، وسأُرسِل لك شهودي بعد ثمانية أيام.

ثم أمر السائق بالعودة إلى المنزل، فعادت بهما وفرناند يتميز من الغيظ، حتى إذا بلغا إليه أخذت الفيروزة بالبكاء، ثم تظاهرت بالغشيان، فلما أفاقت من الغشيان وقفت أمامه موقف التائب النادم، وقالت: دعني وشأني أيها الحبيب وعُدْ إلى زوجتك، فقد بدأت أكون شؤمًا عليك.

٢٢

وطال حديث العاشقين، فكانت تسأله وتلح عليه أن يسلوها وهو لا يزداد بها إلا تعلُّقًا وهيامًا ويدفع البرهان، إلى أن تظاهرت بأن حبه قد تغلَّب عليها، فقالت: إني أرضى أن أعيش وإياك، إذا قبلتَ شروطي.

فطار فؤاده فرحًا وقال: سَلِي ما تشائين فإني أقبل كل شرط.

فتنهدت طويلًا وقالت: إصغِ إليَّ يا فرناند، إني قد شُغِفت بحبك وأحببتك حبًّا أكيدًا صالحًا، فصغرت في عين نفسي وتمثَّل ماضي أيامي الأثيمة بشكل رائع مخيف سئمتُ لأجله الحياة، ولكني قبل أن أُلقِيَ تلك النفس إلى هاوية الغواية، كنتُ فتاةً طاهِرةً شريفةً. فإن أهلي زوَّجوني بالرغم عني بشيخ عجوز حملني لسوء طباعه على الفرار منه، وأنفق جميع مهري على السكر والمجون، بحيث لم يَبْقَ لي من ذلك المهر سوى عشرة آلاف فرنك، ولا تزال هذه الأموال لديَّ أحترس عليها؛ لأنها وصلت إليَّ من أشرف مورد، وقد زادت من رباها إلى الآن ألفي فرنك.

فقال فرناند وهو لم يدرك قصدها: ما تريدين من هذا القول؟

قالت: أريد أن أعيش من ربا هذا المال، ومن شغل يدي كما تشتغل العاملات.

فأجفل فرناند وقال: أنتِ تعيشين هذه العيشة التعيسة وأنا أغنى الأغنياء؟

– نعم، ولا أكون منكودة بل أكون من أسعد النساء. ويكفيني من نعيم الحياة أن فرناند يحبني وأنا أحبه.

فحاول فرناند الاعتراض، ولكنها أسكتته بما اتَّخَذَتْه من مظاهر الحب، وقالت: هذا هو شرطي الذي وعدتَ أن تقبله مني كيف كان؛ فاعلم الآن أنك مُخيَّر بين الرفض والقبول، وأني لا أرجع عن هذا الغرام.

فأطرق فرناند إطراق المتأمل، وجعل ينكث الأرض بعصاه فقالت: على ماذا عولت؟

– لا يسعني إلا الامتثال لما تريدين.

– أتخضع لي في كل ما أريد؟

– أجل.

– إذن قُمِ الآن واذهب إلى زوجتك، فإنك لم ترها منذ يومين، ولا تَعُدْ إليَّ إلا في صباح الغد.

فحاول فرناند أن يعترض، ولكنها ضربت بيديها مغضبة على منضدة، وقالت: لقد وعدتني ألَّا تخالفني فيما أريد.

فامتثل فرناند وخرج مطأطئ الرأس، والحب ملء فؤاده، فوقفت ترمقه من النافذة حتى إذا رأته يسير في الشارع سير المخبول قهقهت ضاحكة، وقالت: لقد بلغت من قلبه ما رجوت، وسأبلغ من ماله ما أريد، فما أجهل الرجال!

ثم غيَّرَتْ ملابسها فتزَيَّتْ بزي العاملات وانصرفت إلى غرفتها الحقيرة لتمثِّل دورها الثاني مع ليون رولاند.

وكان ليون قد فُتِنَ بها حتى لم يَعُدْ يطيق صبرًا على فراقها، وقد أرسل أباها إلى المستشفى كي يخلو له الجو معها، وهو يعتقد أنها عاملة وأن ذلك الأعمى أبوها، وكانت الفيروزة قد مدَّتْ له حبل هواها، حتى حسب أنها باتت رهن حبه وطوع إشارته، فلما رأى أندريا أن خدعته قد نجحت وأن الهوى قد برح بذلك العامل المسكين، أمر الفيروزة أن تقاطِعه وتهرب منه على ما علَّمَها. فذهبت إلى غرفتها وكتبت إليه كتابًا تخبره فيها أنها لم تَعُدْ تحتمل الإقامة معه لأن شكوى زوجته قد بلغت إلى قلبها، فهي تودِّعه وداعًا أبديًّا، وتبرح تلك الغرفة إلى غيرها في شارع لا تسميه، حذرًا من أن يتبعها.

فلما انتهت من الكتاب نادت البوابة، وكانت مدام فيبار التي عرفها القراء في القسم الأول من هذه الرواية، فأعطتها الكتاب وقالت لها أن تعطيه لليون حين حضوره، ثم أخبرتها أن تقول له إنها رأتها في مركبة بديعة مع شاب عليه مظاهر النعمة، وانصرفت عائدةً إلى منزلها كي تهتمَّ بأمر فرناند تاركةً أمر النظر في إتمام مسألة ليون لرئيسها السير فيليام.

٢٣

بينما كانت الفيروزة تبرح غرفتها الصغيرة وهي بملابس العاملات إلى منزلها في شارع مونسي، كانت باكارا تطرق باب ذلك المنزل، أي منزلها القديم، ففتح لها الخادم وسألها: ماذا تريدين؟

– أريد أن أرى سيدتك.

– إنها لم تَعُدْ بعدُ.

فدخلت باكارا بعظمة وهي تقول: لا بأس، فاذهب بي إلى قاعة الاستقبال لأني أريد أن أنتظرها فيها.

فامتثل الخادم وذهب بها إلى القاعة، فلما وصلت إليها صرفته في شأنه وجلست تنتظر، ولم يَطُلْ جلوسها حتى عادت الفيروزة إلى منزلها، ثم دخلت إلى القاعة لترى الزائرة وهي تعلم أنها باكارا.

وكانت الفيروزة لا تزال بملابس العاملات وعلى رأسها قبعة بيضاء، فحسبت باكارا أنها إحدى خادمات القصر، وقالت: ألم تحضر سيدتك بعدُ؟

– نعم يا سيدتي، قد حضرت.

– إذن فأخبريها أني أنتظرها.

فذهبت الفيروزة وأغلقت الباب ثم قالت: عفوك يا سيدتي، فإني لبست هذه الملابس لبعض الأغراض، وأنا هي السيدة التى تريدين أن تريها والتي يلقِّبونها بالفيروزة.

فنظرت إليها باكارا عند ذلك نظرةَ الفاحص الخبير وقالت: أحقيقة أنت هي؟

– نعم يا سيدتي، إني مستعدة لخدمتك، وإن أكن لم أتشرَّف قبل الآن بمعرفتك.

– إن لي اسمًا آخَر غير الذي قرأته على رقعة زيارتي، ولا بد أن تكوني قد سمعتِ بهذا الاسم، فإنه باكارا.

فأظهرت الفيروزة عند ذلك حركةً عجبيةً جمعت بين الإعجاب والانذهال والاحترام، فقالت: أنت هي باكارا؟

– كلا، ولكني كنت أُدعَى بهذا الاسم حين كنتُ تائهةً في بوادي الغي والضلال، أما اليوم فقد تبتُ توبة صادقة عما اقترفته من الآثام، وصرت أُدعَى مدام شارمت كما ترينه على رقعة زيارتي.

فأحنت الفيروزة رأسها وقالت: نعم، لقد علمتُ بتوبتك أيضًا، ولكني كنتُ أذكرك كل يوم بما أجده في هذا المنزل الذي كنتِ تقيمين فيه قبلي، وكل ما فيه يدل على سلامة الذوق وحُسْن الاختيار.

– كيف علمتِ أني كنتُ أقيم في هذا المنزل؟

– علمتُه من سائق مركبتك الذي كان في خدمتي.

– ألم يخبرك عني سوى هذا؟

فتلبَّسَتِ الفيروزة بملابس السذاجة وقالت: إنه كان يخبرني بكل ما يعلمه من أمرك ومعاملتك لعشَّاقِك، فكنتُ أجعلك مثالًا لي لخداع أولئك الأغرار، حتى إني كنتُ أقلِّدُك في كل شأن، لما بلغتِ من الشهرة، بل إني أبقيت جميع ما في هذا المنزل على حالته القديمة كي لا أخرج عن تقليدك في شيء.

فابتسمت لها باكارا وقالت: ألم يخبرك هذا السائق أيضًا كيف أني خرجت من منزلي هذا؟

– نعم، فلقد قال لي إنك أنتِ التي كان يترامى الأمراء على أقدامك ويموتون لكلمة تخرج من فمك، بل كنتِ تفتخرين بأن قلبك لا يعرف الهوى، ولكن نفذت أشعة الغرام إلى هذا القلب وأحببتِ ذلك الحب الذي كنتِ تجهلينه، فتخلَّيْتِ عن كل هوى واعتزلت الناس وجميع ما كان يحيط بك من السعادة من أجل هذا الحبيب، أليس ذلك أكيدًا؟

– إنه إذا لم يصدق كله فقد صدق بعضه، والآن أتِمِّي حديثك ألم يخبرك هذا السائق شيئًا عن الذي كنتُ أحبه؟

– نعم، ولكني أسألك الصفح يا سيدتي، فإني أخاف إذا قلتُ أن يكون هذا السائق كاذبًا فيما أقول، أو أكون قد فتحتُ منك جرحًا قديمًا قد اندمل بتقادم الأيام.

– لا بأس قولي ما تعلمين.

– أخبرني هذا السائق أن ذلك الحبيب الذي خرجتِ لأجله من نعيمك كما خرجَتْ حواء من الفردوس، لم يكن غير لص.

فلم تضطرب باكارا بل قالت لها: أصدَّقْتِيه فيما يقول؟

– بل قال لي أيضًا أن الجنود قبضوا عليه في منزلك، وأخرجوه منه وأنت مغمى عليكِ، فلما عاد إليك رشادك وعلمتِ بما كان، خرجت من ذلك المنزل تائهة والهة لا تلوين على أحدٍ، فلم يعلم ما كان من أمرك.

– أهذا كل ما علمته؟

– نعم، ولكني قلتُ في نفسي إنك لا بد أن تكوني قد أفرغت جهدك في سبيل إنقاذه.

– لقد أصبتِ في ما ظننتِه، ولكن أنقذَتْه براءتُهُ لأنه لم يكن سارقًا.

فتظاهرت الفيروزة بالسرور وقالت: إذن أنت سعيدة وإياه؟

– كلا، لأنه كان يحب سواي.

فانذهلت الفيروزة وقالت: أتراه تخلَّى عنكِ؟

– بل أنا تخلَّيْتُ عنه، فقولي لي ألَمْ تعلمي اسمه من ذاك السائق؟

– كلا، لقد أخبرني عن صفاته ولم يذكر لي اسمه، لأنه كان يجهله.

فحدقت بها باكارا وقالت: أصحيح ما تقولين؟

فتنهدت الفيروزة وقالت: هي الحقيقة بعينها، ومَن ولَجَ الحبُّ الصحيحُ في قلبه بَعُدَ الكذبُ عن لسانه.

– ألعلك أحببتِ هذا الحبَّ؟

فوضعت يدها على قلبها وقالت: إصغي لي يا سيدتي، لقد كنتُ منذ أسبوعين أنظر إليك بعين الخيال، وأعجب بك أشد الإعجاب. أما وقد رأيتك حقيقةً ورأيت علائم الصلاح باديةً بين ثنايا وجهك، فقد تبدَّلَ ذلك الإعجاب بالاحترام، وأحبَبْتُ أن أُطلِعك على حقيقة ما أُعانِيه كي يكون لي من كلامك الصالح بعض العزاء.

واعلمي يا سيدتي أني لا أزال أجهل القصد من زيارتك، ولكن مهما يكن هذا القصد فهو نبيل لا يمنعني عن أن أبوح لك بسري، فقد تسدين إليَّ نصيحة تُخرِجني من هذا الموقف الحرج الذي أنا فيه.

فتظاهرت باكارا بالإشفاق عليها وقالت: قولي ما تشائين، فلعلي أفيدك في ما تؤملين.

– إن هذا المنزل الذي ترينني فيه هو لرجل كان يحبني فاشتراه لي ووهبني أثاثه، واتفق منذ أسبوعين أن كان عازمًا على السفر إلى لندرا، فخرج في الليلة التي كان عازمًا في صباحها على السفر وجلستُ أنتظره على هذا الكرسي إلى أن دقَّتِ الساعة الثانية بعد منتصف الليل، فسمعت طرقًا شديدًا على الباب الخارجي، ثم سمعت أن باب الحديقة قد فُتِح، فأسرعت كي أرى مَن القادم، فرأيتُ عشيقي ومعه رجلان يحملان رجلًا سالت دماؤه وهو مغمى عليه، فعلمت أنه تبارز مع عشيقي فجرحه وحمله إلى منزلي كي يتعالج فيه.

ثم سكتت كأنها تخاف أن تُتِمَّ حديثها، ولكن باكارا شجَّعَتْها على إتمامه، فاندفعت في حديثها، وذكرت لها كيف أن فرناند أقام عندها ثمانية أيام، وكيف أنها أحبته وأشفقت عليه لأنه متزوج، فأخرجته من منزلها معصوبَ العينين كي لا يهتدي إذا أراد الرجوع إليه، ثم أخبرتها عن سفرها في اليوم التالي، وكيف أن فرناند لقيها خارج باريس وحملها على الرجوع، إلى غير ذلك مما علمه القراء. فلما أتمَّتْ حديثها قالت لها باكارا: والآن على ماذا عولتِ؟

– عزمتُ على أن أرجع عن هذا العيش الذميم، فأهجر هذا القصر واستأجر غرفةً حقيرةً فأعيش من عمل يدي شأن العاملات الشريفات.

فقالت لها باكارا وهي منذهلة مما تسمع: أتفعلين ذلك؟

– أجل، أفعله ما زال يحبني، ولا أريد منه سوى حبه فلا يقال إني أحببته لابتزاز أمواله.

فما كادت باكارا تسمع هذا القول حتى وقفت مغضبة، وقد اتقدت عيناها بشرر الغيظ، ثم دنت من الفيروزة فهزَّتْ كتفيها هزًّا عنيفًا وقالت: إنك داهية شديدة الذكاء، إلا أنك تكلِّمِين باكارا، وإني طالما مثَّلْتُ قبلك مثل هذه الأدوار على هذه المراسح.

وكان قد تمكَّنَ الحقد من باكارا بحيث لم يكن يعوزها سوى الخنجر لقتل مزاحمتها على فرناند، أما الفيروزة فإنها لبثت في مكانها دون أن تُظهِر شيئًا من ملامح الخوف، ولكنها نظرت إلى باكارا نظرة المنذهل، وقالت: لقد رابني انقلابك ياسيدتي، فإما تكوني قد جُنِنْتِ أو أنك تهوين الذي يهواني وأهواه.

– نعم، فلقد صدقتِ في قولك الأخير.

ثم عادت فجلست على كرسيها متكلفة هيئة الوداعة والسكون، وقالت: إصغي إليَّ الآن كما أصغيتُ إليك، واعلمي أن هذا الرجل الذي تزعمين أنك تحبينه، أحببته أنا منذ أربعة أعوام، ولم أغيِّر طريقة حياتي إلا من أجل هذا الغرام، ولا أنكر أنك قد تكونين أحببتِه حبًّا أكيدًا، فإذا كان ذلك فبرهني على هذا الحب الأكيد كما برهنتُ عليه أنا من قبلُ.

فأظهرت الفيروزة الانذهال وقالت: أَلَا تكفي ملابسي هذه للدلالة على صِدْق هذا الحب؟

– كلا، ليس هذا ببرهان.

فأسرعت الفيروزة إلى خزانة في الغرفة المجاورة، ثم عادت تحمل غلافًا كبيرًا، ففتحته وجعلت تنثر ما فيه من الأوراق.

فقالت باكارا: ما هذا؟

– انظري!

ثم التقطت ورقةً من الأرض وقالت: هذا عقد بيع تام الشروط للمنزل الذي أنا فيه، وهو الذي وَهَبَني إياه عشيقي الفيكونت دي كامبل.

ثم أخذَتْ ورقة ثانية وقالت: هذه أسهم مالية قيمتها ١٦٠ ألف فرنك أعطاني إياها الفيكونت؟ وهذه أوراق أخرى تبلغ فائدتها ستة آلاف فرنك في العام.

– ماذا تقصدين؟

– اقرأي هذا الغلاف، أليس مكتوبًا عليه اسم الفيكونت؟

– أجل.

– إذن فاقرأي هذا الكتاب الذي كتبتُه إليه، ووضعت في طيِّه هذه الأوراق.

فأخذت باكارا الكتابَ وقرأت ما يأتي:

سيدي الفيكونت

أرجو عفوك؛ فلقد خدعْتُكَ حين تظاهرت بحبك، ولم أكن أحب سوى أموالك، ولقد كرهت هذه الأموال بعد مقابلتنا بالأمس، فأنا أُرجِعها إليك الآن مع حجة المنزل الذي يعود إليك، فاحضر لاستلامه متى شئتَ.

الفيروزة

فلما أتمت باكارا تلاوة الكتاب قالت الفيروزة: ألديك شكٌّ بعد ذلك بصدق حبي لفرناند؟

– نعم، ولو كان فرناند فقيرًا كما كان عندما أحببته أنا، لعددت ردَّكِ الأموالَ إلى الفيكونت خير برهان، إلا أن فرناند واسع الثروة، وهو قد يعوض عليك أضعاف ما بذلته.

– إن هذا قد يكون، ولكني لا أحبه لماله وهو ذا برهان آخَر.

ثم دفعَتْ إليها كتابًا كانت مزمعة أن ترسله إلى فرناند، كتبَتْ فيه ما يأتي:

صديقي المحبوب

إذا كنتَ قد رضيتَ بشروطي التي عرضتُها عليك اليوم، ورضيتَ أن تحبني فقيرةً معدمةً لا مال لي سوى الغرام الصادق؛ فلا تزورني في منزلي بل في شارع بلانش نمرة ١٧.

الفيروزة

فما كادت باكارا تتم تلاوة الكتاب حتى نظرت إليها نظرة ملؤها الوعيد، ثم انقضت عليها انقضاض الصاعقة، وقبضت بيديها على عنقها وضغطت عليها ضغطًا شديدًا حتى أوشكت أن تخنقها؛ فصاحت الفيروزة صياح المختنق، أما باكارا فإنها خفَّفَتْ ضغطها وقالت لها: إن حياتك بين يدي، فاصدقي القول وإلا فإنك مائتة لا محالة.

فقالت الفيروزة وقد اعترت وجهها صفرة الموت: ماذا تريدين؟

– قولي الحقيقة، أتحبين فرناند؟

– لا أحبه حبًّا، بل أعبده عبادة.

– إذن، فإني أمهلك دقيقة واحدة لتختاري فيها بين رجوعك عن حبه وبين الموت!

فقالت الفيروزة بعظمة دهشت لها باكارا: لا حاجة إلى المهلة فقد اخترت الموت، فإذا شئتِ فاقتليني، ولكن لتعلمي أنه يحبني فوق ما أحبه وأنه ينتقم لي.

فوقع هذا الكلام وقعًا شديدًا على باكارا؛ فأنَّتْ أنين المتوجع وأفلتت فريستها، لأنه خطر لها أن فرناند يموت بعدها إذا قتلتها لفرط حبه لها، ولكنها أرادت أن تجرِّب معها تجربة أخرى فقالت: لا تخافي الآن، فإني لا أقتلك لأنك تحبين فرناند، ولكني أقتلك دون إشفاق إذا لم تطيعيني مدة ساعة.

– ماذا تريدين أن أصنع؟

– اقرعي الجرس ومُرِي السائق أن يهيِّئ المركبة.

فامتثلت الفيروزة طائعة وهي تجهل ما تريد. أما باكارا فإنها أخذت الأوراق التي نثرتها الفيروزة من الغلاف، وفيها حجة المنزل والكتابان اللذان قرأتهما وألقتهما جميعًا في النار، ثم نادت الخادمة وأمرتها أن تحضر لمولاتها قبعة ورداء، ولما عادت بهما ذهبت بالفيروزة إلى خارج المنزل وركبت وإياها المركبة التي أمرت بإعدادها، وأوعزت إلى السائق أن يسير إلى شارع بيسي، أي إلى المنزل الذي تقيم فيه باكارا، ولما وصلتا إليه دخلتا فذهبت باكارا إلى خزانتها؛ فأخرجت منها أوراقًا مالية تبلغ قيمتها ١٦٠ ألف فرنك، وفيما هي تقفل الخزانة أقبلت إليها الفتاة اليهودية فقبَّلَتْها ونادت الخادمة وقالت لها: إني سأغيب يومين عن المنزل، فاحرصي على هذه الفتاة كل الحرص ولا تحرميها شيئًا مما تطلبه. ثم ذهبت مع الفيروزة وأمرت سائق المركبة أن يسير بها إلى المسجل؛ فأجفلت الفيروزة وقالت: ما حاجتنا بالذهاب إلى المسجل؟

– إننا نذهب إليه لنسجِّلَ عنده عقد بيع منزلك.

– ولكنه للفيكونت وليس لي.

فقالت باكارا: لا بأس، ولا فرق لدى الفيكونت بين أن يسترجع أمواله ذهبًا أو عقارًا.

– ومَن يشتري هذا المنزل؟

– أنا التي سأشتريه، فإني ما تُبْتُ إلى الله ورجعت عن حياتي السابقة إلا لحبي لفرناند ولاعتقادي أنه يحب امرأته الشرعية، فضحَّيْتُ ما ضحيت في سبيل حبه غير نادمة على شيء. أما الآن وقد نسي حبه لزوجته، فلم أجد بدًّا من نسيان توبتي؛ لأنه إذا كان يريد أن يحب فتاةً مثلك، فأنا أولى بهذا الحب.

فبهتت الفيروزة وقالت: إذن عزمت على أن تعودي إلى حياتك السابقة؟

– هو ذاك، فإن كلَّ فتاةٍ تزجُّ بنفسها إلى هاوية الغواية فقد قُدِّرَ عليها أن لا تخرج منها إلا إلى حينٍ، كما يُخرِج الغواص رأسه من الماء ليتنفس الهواء. وأنتِ فإنك قد تصبحين شريفة طاهرة ما زال فرناند يحبك وما دمتِ تهوينه، غير أن هذا الحب لا يلبث أن يزول حتى تعودي إلى حياتك السابقة، ولقبك القديم وهو الفيروزة كما عدتُ أنا إلى لقبي وهو باكارا.

ولما وصلت إلى هذا الحد من الحديث، وقفت المركبة عند باب المسجل، فدخلتا إليه وبعد أن كتب لهما عقد البيع عادتا إلى المنزل، فأمرت باكارا الفيروزة أن تكتب للفيكونت أنها مرسلة إليه أمواله وثمن المنزل، ففعلت، وأخذت باكارا كتابها ووضعته ضمن غلاف ووضعت في طيه ثمن البيت أوراقًا مالية، ثم ختمته وأمرت الخادم أن يحمله في الحال إلى الفيكونت، وبعد ذلك نظرت إلى الفيروزة وقالت لها: هو ذا المنزل قد عاد إليَّ بجميع أثاثه، فهل لك حاجة فيه بعدُ؟

– أريد أن أكتب لفرناند.

– كلا، إني أريد أن يأتي إلى هذا المنزل فيراني فيه بدلًا منك.

– إني أقبل بذلك بشرط أن تخبريه أين أقيم.

– أقسم لك أني أخبره، اطمئني.

وعند ذلك دخل الخادم وهو يقول: هو ذا الحمَّال الذي أمرتِني بإحضاره.

– ليدخلْ.

دخل الحمال وأمرته الفيروزة أن يحمل صندوق أمتعتها، ثم ودَّعَتْ باكارا وداع الفائز المنتصر وانصرفت، فاستوقفتها باكارا وهي خارجة وقالت: أصغي إليَّ واسمعي مني هذه الكلمة الأخيرة، وهي أنكِ إذا عبثتِ بفرناند وسلبتِه درهمًا واحدًا، فإني لا أعفو عنك بل إني أبحث عن خنجرٍ خبأته وأغمده في صدرك.

فخرجت الفيروزة دون أن تجيب بحرف على هذا الإنذار، ولحقت بالحمال، فلما أدركته خارج الباب قال لها: الحق إنها قوية فقد كادَتْ تخنقكِ بيديها.

– كيف علمتَ هذا؟

– ذلك لأني حضرت المعركة، وكنتُ مختبئًا في الغرفة المجاورة سمعت ورأيت كل شيء، وأنا الذي لبست ثياب السائق وذهبت بك إلى منزلها ثم إلى المسجل.

فعلمَتِ الفيروزة من صوته أنه أندريا وانذهلت لإقدامه الغريب، فقال لها: إن هذه المرأة شؤم عليَّ، وفي وسعها أن تلقي بي إلى الحضيض إذا علمَتْ بأني أنا الذي أدبِّر هذه المكيدة، وهي قالت لك أنها تغمد خنجرها في صدرك إذا سلبتِ فرناند، أما أنا فأقول لك أني أشويك على النار الحامية إذا خطرَتْ لكِ خيانتي.

وبينما هما يذهبان كانت باكارا جاثية تصلي، وقد أنهت صلاتها بقولها: رباه عفوك، إني لم أَعُدْ إلى حياتي السابقة إلا لكي أنقذ فرناند، بل أنقذهم جميعًا.

٢٤

وَلْنَعُدِ الآن إلى روكامبول، فإنه بعد أن ترك فرناند والفيروزة على ما تقدَّم برح الشانزاليزه وذهب إلى معلم السيف ليدرس عليه الأمثولة التي أمره أندريا بتعلُّمها، وبعد ذلك ذهب إلى منزل الهندية يحمل إليها كتاب أندريا، فلما قابلها دفع الكتاب إليها، نظرت إلى عنوانه أنه من السير فيليام، اتقدت عيناها وفضَّتِ الغلاف فقرأت الكتاب مسرعة كأنها تريد أن تلتهم سطوره.

ولم يُعلَم ماذا دار بين هذه النمرة الهندية وبين هذا الأسد الباريسي من الحديث، غير أنهما بعد أن تباحثا مباحثة طويلة غادرها، فركب مركبة وذهب إلى قصر المركيز فان هوب، فدخل وسأل عن المركيز فقيل له إنه لم يَعُدْ، ولكنه علم أن المركيزة في المنزل، فأمر الخادم أن يخبرها بقدومه وتبعه إلى قاعة الاستقبال، فقام ينتظر فيها، وبعد حين أقبلت المركيزة فحيَّتْه مبتسمة، ولكنها لم تتمالك من إظهار انقباضها؛ لأنها ذكرت حين رأته أنه عدو شاروبيم، ولكنها لم تجد بدًّا من مجاملته ومحادثته، وما زالت وإياه يتباحثان في الأحاديث المألوفة حتى أتى المركيز، فذهب بروكامبول إلى غرفة أشغاله كي يخبره بالسبب الذي أتى من أجله.

ولما اختليا ولم يكن روكامبول قد زار المركيز غير مرة واحدة، فعرَّفَه بنفسه وقال له: عفوك يا سيدي، فإني ما أتيت إلا لشأن خطير قد يثقل عليك، ولكني لا أجد بدًّا من إخبارك به، ثم أني لا أجد بدًّا لإطلاعك على ما أتيت لأجله من أن أخبرك بشيء من تاريخ حياتي لشدة علاقته بهذا الشأن.

فأظهر المركيز الانذهال وقال: قُلْ ما تشاء، فإني مصغٍ إليك.

فقال روكامبول: كنتُ يا سيدي منذ عام في مدينة نيويورك، وليس لي من العمر غير أربعة وعشرين عامًا، فكان لي من الجرأة والإقدام والمطامع ما ينطبق على هذه السن، وقد لقيت في هذه المدينة العظمى فتاةً غريبةَ العادات والأخلاق بارعةَ الجمال، وهي تسمى باسم أسرتك لأنها تُدعَى مسز دابي ناتها فان هوب.

فدهش المركيز وقال: إنها ابنة عمي، وقد مات أبوها في الهند، فكيف هي في نيويورك؟

– لقد كانت فيها، أما الآن فهي هنا في باريس.

– ألعلك قادم من قِبَلها؟

– نعم، هي التي أرسلتني إليك، ولكنكَ وعدتني يا سيدي أن تسمع حديثي.

– نعم، وها أنا مصغٍ إليك.

فقال روكامبول: إني عندما لقيتها في نيويورك بذلت جهدي مع كثيرين غيري من أعيان تلك العاصمة للتعرُّف بهذه الهندية، فكنتُ الفائز دون سواي، وبلغ من جسارتي أني كاشفتها بغرامي، فكانت تصغي إليَّ وتبتسم ابتسامًا حزينًا لا يظهر إلا على شفتَيْ مَن لقي عناءً شديدًا في جهاد الحياة، وقالت لي: إن القلب الكريم لا يحب غير مرة واحدة، وقد أحببت هذا الحب. فاضطرب المركيز عند سماع هذا القول، غير أن روكامبول تظاهَرَ أنه لم ينتبه إليه واندفع في حديثه فقال: ولكني لم أقتنع بجوابها، وتردَّدْتُ عليها كثيرًا وكل يوم أكاشفها بهذا الغرام، فلم تكن تحتفل بي إلى أن مَدَّتْ لي يدها يومًا وهي تقول: أتريد أن تكون صديقًا لي؟ فقبَّلْتُ تلك اليد وقلتُ لها: سأكون ما تشائين فدعيني أرجو على الأقل. فهزَّتْ رأسها وقالت: لعلك ترجو رجاءً باطلًا، فلقد مات الحب في قلبي.

ثم نظر روكامبول إلى المركيز وقال له: أسألك العفو يا سيدي، فإني لم أذكر لك جميع هذه التفاصيل إلا لغرض واحد، وهو أن أُظهِر لك أن ابنة عمك كانت تحب حبًّا قديمًا برح بها وألقى في قلبها اليأس.

وكانت تدعوني دائمًا إلى زيارتها، فما زلت اختلف إليها ستة أشهر حتى شعرت بأني أصبحت عاشقًا مفتونًا بها، ولكنها لم تشأ أن تقف معي إلا موقف الصديق، ثم طرأ عليَّ من الشئون ما دعاني إلى الرجوع إلى باريس، فعدتُ إليها منذ عام، وكأن ملاذ هذه العاصمة وزخارف الحياة فيها شفتني من ذلك الغرام، فنسيت كل ما مضى، إلا أني أصبحت اليوم وإذا بكتاب ورد إليَّ من ابنة عمك تقول فيه هذا القول المتقطع. ثم أطلعه على كتاب بخط الهندية يتضمن ما يأتي:

أنا في باريس. أسرع إليَّ، فلم يَبْقَ لي من الحياة إلا ساعات معدودة، وإني أعتمد على صداقتك.

فقرأه المركيز وعرف أنه خطُّ ابنة عمه، وصاح منذعرًا: بربك قُلْ لي ماذا أصابها، أهي ميتة أم لا تزال في قيد الحياة؟

– كلا، فإنها لم تَمُتْ بعدُ، فأصغِ إليَّ، إني عندما قرأت هذا الكتاب أصابني من الاضطراب ما أصابك، فأسرعت إليها فوجدتها جالسة على مقعد شرقي، وهي تبتسم حسب عادتها وليس بين ثنايا وجهها ما يدل على ما جاء في كتابها، فدهشت وحسبت أنها أرادت المزاح.

وكأنها علمت ما كان يجول في نفسي، فمَدَّتْ إليَّ يدها وقالت: إنك تراني في أتم عافية، إلا أنه لا يمر بي ثمانية أيام حتى أفارق هذه الحياة.

فذعرت وقلت: كيف ذلك؟

فأجلستني بقربها وقالت: أتعلم أيها الصديق السبب الذي رفضتُ من أجله هواك وقنعت بصداقتك؟ ذلك أنه ليس لي الآن من العمر إلا ثلاثين عامًا، ولكنني أحببت وأنا في الخامسة عشرة من عمري حبًّا بلغت به حد القنوط، ولم أكن أنظر وأنا في الهند إلا لهذه العاصمة الفرنسية التي دفنْتُ بها قلبي.

فدهشت لقولها وقلت: ألعل هذا الرجل الباريسي قد جُنَّ فتعامى عن هواك.

– كلا، ولكنه أحَبَّ سواي. ثم تبسمت وقالت: أتعلم أيضًا لماذا أتيت إلى باريس؛ إني أتيتها ورجائي أن أراه مطلق القياد، أو أراه مطلق القلب، ولكني علمت — وا أسفاه — أنه لا يزال يهواها، وعلمت أني لم يَعُدْ لي رجاء في الحياة.

فما تمالكتُ أن أخذت يدها وجعلت أغسلها بدموعي وأقول:

أَتَمُوتِينَ هَكَذَا فِي صِبَاكِ
حُلْوَةً يَفْتِنُ الْجَمَادَ هَوَاكِ

بالله سيدتي إلا ما رجعت عن هذا القصد السيئ، واشغلي نفسك عن ذلك الحب القديم.

– لقد فات الأوان وقُضِيَ الأمرُ. ثم أخذت زجاجة صغيرة فارغة كانت على منضدة أمامها قائلة: لقد شربت عند الصباح ما كان في هذه الزجاجة، وهو سم زُعَاف.

فوقف المركيز وهو لا يملك نفسه من الاضطراب، فأجلسه روكامبول وقال له: أصغِ يا سيدي لتتمة الحديث؛ فلقد قالت لي إن هذا السم بطيء التأثير، لا يُحدِث آلامًا ولكنه يقتل بعد ثمانية أيام، وليس لهذا السم إلا دواء واحد، ولكنه لا يوجد في القارة الأوروبية لعدم وجود هذا السم فيها، فهو لا يوجد إلا في الهند، وعلى ذلك فقد أصبح موتي محتمًا لأنه لا يمكن إحضار الدواء من الهند في هذا الزمن الوجيز. وقد دعوتك إليَّ كي أودِّعك وداعًا أبديًّا، ثم لأعهد إليك بقضاء مهمة أرجو أن لا يثقل قضاؤها عليك.

فقلت وأنا أجهش للبكاء: مُرِي سيدتي بما تشائين. قالت: أريد أن أبعث بك إلى الرجل الذي أحببته وأنا أموت من أجله؛ كي تلتمس منه أن يحضر إليَّ، فإني أحب أن أتزوَّدَ منه بنظرة قبل الموت.

فاصفرَّ المركيز اصفرار الأموات، وقال له: وبعد ذلك؟

– لا حاجة إلى أن أقول لك شيئًا بعد ذلك، فإن الرجلَ الذي أحبَّتْه وأقدمت على الموت من أجله هو أنت.

فوقف المركيز عند سماع كلمة روكامبول الأخيرة، ولكن رجليه وَهَنَا حتى أوشك أن يسقط، فأسند يده على الكرسي كي لا يقع.

٢٥

وكان بين الرجلين سكوت طويل خشي روكامبول على إثره أن يصاب المركيز بموت فجائي، فتخسر الجمعية السرية أملها الوحيد، وهو الملايين الخمسة التي وعدت الهندية بدفعها لأندريا، ولكنه لم يلبث هنيهة حتى تبدَّلَ خوفه بالانذهال، فإنه رأى المركيز زال عنه التجهُّم وعاد إلى السكينة، فقال لروكامبول: ألم تخبرك ابنة عمي باسم السم الذي شربته؟

– نعم، ولكني لا أذكر بالتدقيق لغرابته، فقد قالت أنه خلاصة عصير ورق شجر يُدعَى «مانسانيليه» ينبت في جزائر الأنتيل، وأنه ممزوج بورق شجر يُدعَى «ليلياس».

فافتكر المركيز هنيهة ثم قال ببرود: لقد صدَقَتِ ابنة عمي، فلا يوجد لهذا السم إلا دواء واحد، ولا يوجد هذا الدواء إلا في الهند. ثم جعل يقص على روكامبول تأثير هذا السم إلى أن قال عن دوائه، حجر أزرق نادر الوجود لا يوجد إلا في أحشاء الأفاعي التي لها ثلاثة رءوس، تبدو منها بشكل قسم مثلث الزوايا، وهي سوداء الظهر وبطنها ذو لون أصفر برَّاق كلون الذهب، فلا يوجد إلا في نواحي لاهور وفيرايور، على أن هذا الحجر الغريب لا يوجد في أحشاء جميع هذه الأفاعي، بل إنه شديد الندور فيها، حتى إنه لا يكاد يوجد غير حجر واحد بين أحشاء عشر حيَّات؛ ولهذا فقد غلا ثمن هذا الحجر حتى إنه يبلغ في بلاده ألفَيْ جنيه، ولا يوجد منه إلا لدى بعض الأفراد، فإذا شرب أحد الناس مثل هذا السم الذي شربته ابنة عمي فإنه لا علاج له إلا هذا الحجر، وذلك أنه يوضع في قدح ماء فتنحلُّ أجزاؤه في الماء ويصبح أزرق بلون الحجر المذاب فيه، فإذا شرب المسموم المزيج شفي للحال، ولكن لشفائه شرطًا وهو أن هذا الدواء لا يؤثر إلا بعد أن يمر بالمسموم سبعة أيام، وإلا فلا يكون له شيء من التأثير.

فقاطعه روكامبول وقد اضطرب لما رآه من بروده، وقال له: تسمح لي يا سيدي أن أُظهِر انذهالي مما أراه منك؟

– لماذا؟

– لأني أخبرك أن ابنة عمك قد تجرَّعَتِ السم وأنها أرادت الموت من أجلك، وإنْ كنتَ بريئًا من انتحارها، وأنك تعلم أنه لا يوجد للسم الذي شربته إلا دواء واحد، وأن هذا الدواء لا يوجد منه في هذه البلاد، وأنك تعلم جميع هذا يا سيدي، وبدلًا أن تيأس لنكد هذه الفتاة ويضيع رشدك لمصابها، أراك تحدِّثني بتاريخ هذا السم وترياقه دون أن يبدو منك شيء من الاكتراث.

فابتسم المركيز وقال: إن كلمة واحدة تبطل عجبك، وهي أن المركيزة مخطئة بزعمها أن الحجر لا يوجد منه في باريس، ثم مدَّ يده اليسرى وقال لمحادثه، انظر إلى هذا الخاتم الثخين الذي ألبسه في خنصري، وإلى هذا الحجر فيه الذي يشبه الفيروز.

فنظر إليه روكامبول وقال: ما هذا الحجر الأزرق؟

– هو ترياق ذلك السم، وقد اشتريته حين كنتُ في الهند، وذلك منذ اثني عشر عامًا، ولم يخطر لي في بال أنني سأشفي بمذوبه ابنة عمي.

ثم نهض فنهض معه روكامبول وخرج الاثنان إلى منزل الهندية، وفيما هما على الطريق قال له المركيز: إني لا أجد بدًّا من إخبارك ببعض أمري كي تعلم أني لست بخائن، ولكني شقي تَعِس؛ ذلك أني سافرت منذ ثلاثة عشر عامًا أريد الطواف حول الأرض، فبدأتُ طوافي بالذهاب إلى هافانا الإسبانية، وتعرَّفْتُ فيها بعائلة أقمت معها ستة شهور، وهي عائلة امرأتي المركيزة، ثم برحت هافانا إلى الهند بعد أن أحببت التي غدت اليوم امرأتي وعاهدتها على الزواج، فلما وصلت إلى الهند نزلت في منزل عمي والد دابي ذاتها، فأحبتني هذه الفتاة حبًّا غريبًا ورضيت بي زوجًا لها، إلا أني كنتُ منشغل القلب مرتبط العهد، فرجعت إلى هافانا وتزوَّجْتُ التي كنت أحبها وصحبتها إلى أوروبا، وعشت معها للآن بأحسن عيش وأنا أحسب أني قد برحت من بال ابنة عمي إلى أن أخبرتني اليوم بأمرها، وأنا لم أسمع بذكرها منذ ذلك العهد، أفلا تحسبني شقيًّا بعد هذا؟

فتلبس روكامبول بلباس الكآبة وقال: الحق إنك جدير بالإشفاق، فإنك السبب في موت الفتاة ولكنك بريء من انتحارها.

فقال المركيز: إنها لا تموت ما زلتُ أحمل الدواء بيدي.

– بل إنها ستموت يا سيدي؛ لأنك سترى أنها لا تريد هذا الدواء.

– ولكني أُكرِهها على شربه.

– إنك لا تستطيع إنقاذها إلا إذا أحببتها.

فتنهَّدَ المركيز وقال: أيمكن للقلب أن يعلق باثنين، وأنا لا أزال أحب امرأتي كما كنتُ أحبها يوم الزفاف، ولكني سأنقذ ابنة عمي لأني سأحبها كما يحب الأخ أخته.

وعند ذلك وصلت المركبة إلى منزل الهندية، فدخل الاثنان وجعلا ينتظران قدوم صاحبة المنزل في قاعة الاستقبال، فما طال انتظارهما حتى أقبلت تتهادى وقد استبدلت ملابسها الهندية بملابس باريسية، وتأنَّقَتْ بالتجمل على جمالها، فباتت فتنة العيون بحيث ذهل المركيز حين رآها وهو يحسب أنه سيرى فتاة همجية من فتيات الهند، أما هي فإنها سلمت على زائريها، ثم قالت لابن عمها باللغة الإنكليزية لجهلها الفرنسوية: إني ألتمس منك خلوة أُطلِعكَ فيها على بعض الشئون السرية. ثم اعتذرت من روكامبول وتأبَّطَتْ ذراع المركيز فدخلت وإياه إلى قاعة أخرى، وبعد أن أوصدت بابها جلست على مقعد شرقي وأجلسته بقربها وقالت: إني أشكرك يا ابن عمي العزيز لإسراعك بتلبية دعوتي، وأرجو أن لا تقاطعني فيما أقول، وأن تصغي إليَّ أتم الإصغاء فاسمع. إنك حين جئتَ إلى الهند ونزلت في منزل أبي منذ اثني عشر عامًا، كنتُ عند ذلك في حداثة عمري لا أدرك شيئًا من أسرار القلوب وأمور الحياة، وكنتَ أنت جميل الوجه غضَّ الصبى، وقد طالما سمعت أبي يقول لي «إنك ستتزوجين ابن عمك»، حتى أفضى بي الأمر إلى حبك.

وقد أحببتك وأنا لا أعلم أنك كنتَ مقيَّدَ القلب واللسان، فلما سافرتَ من عندنا جعلت أتوقع عودتك كل يوم وأعد الساعات والأيام، إلى أن جعلت أعد الأعوام دون أن تعود، ثم علمت السبب في جفائك الطويل، وعلمت أنك تزوَّجْتَ سواي، ولو لم يحل البحر خصمًا بيني وبين تلك المرأة في ذلك اليوم الذي علمت فيه هذا المصاب، لَهجمتُ عليها هجوم العقبان الكاسرة وأغمدتُ خنجرًا في صدرها.

اضطرب المركيز وقد رأى الانتقام يتَّقِدُ في عينيها، ولكنها لم تقل هذا القول حتى عادت إلى الابتسام، وقالت: لا تخشى على امرأتك، فقد أصبحتُ اليومَ غير ما كنتُ فيه أمس، وصرت متمدنة بعد طول اختلاطي بالمتمدنين، أما الدم الهندي الذي يثور في عروقي ثورة البراكين، وذلك الانتقام الذي كنت أستحل معه قتل النفوس، فقد صرفته لنفسي فلا يتناول شرُّه إلَّاي، غير أني أحببت أن أتزوَّدَ بنظرة أخيرة قبل الموت، كي أقول لك إنك ممثَّل في فؤادي منذ نظَرْتُك النظرة الأولى، ولم تبرح منه إلى الآن، وإني أحببتك اثني عشر عامًا كنتَ تنام ملء جفْنَيْكَ، ولم أكن أبيت ليلةً من حبك إلا بليلة الملسوع.

ولم يكن مثل حبي لك إلا مثل تلك الأمراض الوبيلة التي لا ينجح فيها دواء، ولا سبيل في شفائها إلى حيلة طبيب، وقد أتى ذلك اليوم الذي طفح فيه كأس قنوطي، فرزحت تحت حملي الثقيل وكرهت الحياة، ولم يكن هذا اليوم غير يوم أمس. ثم أخرجت من صدرها زجاجة صغيرة فيها بقية من سائل أحمر، وقالت له: لقد شربت السم النقيع وسأموت بعد ثمانية أيام.

فاصفرَّ وجه المركيز حين نظر إلى الزجاجة، وعلم أنه ذات السم الذي وصفه له روكامبول، فقال لابنة عمه بلهجة حنان صادقة: كلا أيتها الحبيبة، إنك لا تموتين وأنا أحمل هذا الحجر، وهو دواء السم الذي شربتيه، ثم أخذ يدها بين يديه وقال لها: اذكري أن أبوينا كانا أخوين متحابين، فلما لا نقتدي بهما بهذا الحب؟

فصاحت صيحة فرح، ولكن المركيز لم يمهلها أن تتكلم حتى أتمَّ جملته، فقال: ألسنا أبناء هذين الأخوين؟ أَلَا يجب عليَّ أن أحبكِ كما أحبُّ أختي؟

فاصفرَّ وجه الهندية، وانطفأ ذلك النور الذي اتَّقَدَ في عينيها، وقالت: إنك قد جننت دون شك! أتعرض حب الإخاء على فتاة تنتحر ليأسها من الغرام؟ ألْقِ بهذا الخاتم حيث شِئْتَ فإنه لا ينقذني من الموت لأني غير طامعة بالحياة.

فركع المركيز أمامها وقال لها: بربك ارجعي عن هذا القصد السيئ، واذكري ما بيننا من صلة النسب.

– إني ذكرت هذا النسب وجعلتك وريثي الوحيد، بحيث تزيد ثروتك ٣٠ مليونًا بعد ثمانية أيام.

– بالله لا تعيدي هذا القول، فإني لا أريد ملايينك بل حياتك.

ووقفت الهندية عند ذلك قائلةً: انظر إليَّ، أَلَا تجدني حسناء؟

– بل إنك بارعة الجمال.

– ألست أجمل من امرأتك؟

فأطرق برأسه إلى الأرض وقال: نعم.

– أكنتَ تحبني لو لم تكن موجودة؟

– محب شغف!

فأَنَّتْ أنين المتوجع قائلةً: وإذا ماتت؟

فقال المركيز بصوت يتهدج: إن المرء قد يحب الأموات، وقد ألبث على حب امرأتي حتى بعد الموت.

فاصفرَّ وجه الهندية من الغيرة، ثم خطر لها خاطر ظهر من بريق عينيها، فقالت: إذا طلبتُ إليك حلف يمين غليظة قد أوافق على الحياة بعدها، أتقسم لي هذه اليمين أنا التي أموت من أجلك؟

– أقسم لك بما تريدين كي تبقي في قيد الحياة.

– إني سأطلعك على أمر هائل يضطرب له قلبك وعقلك، أتقسم لي أن تطيعني طاعةً عمياء إلى أن أُظهِر لك البرهان الجَلِيَّ عمَّا سأخبرك به؟

– إني أقسم بتربة أبي أن أطيعك فيما تريدين.

– إذن فإني أسألك الآن سؤالًا.

– سَلِي.

– أَلَمْ تقل إنه إذا لم تكن امرأتك موجودة فإنك تحبني؟

– نعم، ولا أزال أعيد ما أقول.

– وإذا كانت تلك المرأة خائنةً لعهدك؟

فصاح المركيز صيحة غضب وقال: احذري من أن تشتميها.

– ولكني أقول الحقيقة، وهي أنك ستحبني متى عرفت هذه الحقيقة.

فلم يُجِبْ المركيز بحرف، ولكنه قام إلى منضدة لقي عليها خنجرًا، فأخذ الخنجر وهو يقول: إنكِ أخطأتِ بشرب السم، لأنك لا تموتين بالسم بل بهذا الخنجر.

٢٦

كل مَن عرف هذا المركيز وخبر أخلاقه وعلم ما فُطِر عليه من الدعة والسكون ورقة الطبع ينكره أشد الإنكار، وقد رآه يُزبِد إزبادَ الجِمَال، وقد اصفرَّ وجهه ورجفت شفتاه وبرقت عيناه بريق الخنجر المطرب في يده.

وقد أشهر هذا الخنجر وحاول أن يغمده في صدر تلك الفتاة التي جسرت على تدنيس سمعة امرأته، واتهامه بأقبح العيوب، ولكنه رأى ابنة عمه واقفة أمامه تستقبل الموت بابتسام وهي تقول: إذا أبيتَ أن تنتظر البرهان فاغمد هذا الخنجر في صدري.

وكأن المركيز قد ذكر اليمين التي حلفها، أو هاله ابتسام ابنة عمه للموت وذِكْرها للبرهان، فرمى الخنجر إلى الأرض وقال وهو يوشك أن يتميز من الغيظ: إذن هاتي برهانك، واعلمي أنه إذا كان كلامك حقًّا فلستِ أنت التي تموتين بل هي، وليست هي التي تكون امرأتي بل أنت.

– أحق ما تقول؟

– نعم، فأسرعي بالبرهان.

– إذن فأصغِ إليَّ، إنك تعلم أن حياتي بيدك الآن، وأني لم يَبْقَ لي في هذه الحياة غير سبعة أيام، فإذا لم تجد منذ اليوم إلى اليوم السابع رجلًا جاثيًا أمام امرأتك يغازلها في منزل غير منزلك، فأبْقِ هذا الخاتم في يدك ودعني أموت.

– أتبرهنين لي أيضًا على أنها خائنة؟

– نعم، على شرط أن تطيعني كما أقسمتَ.

– إني لا أرجع بقسمي.

– إذن فاذكر أنك رجل، وأنه ينبغي على الرجل العاقل عند المصيبة أن يدفن حزنه في أعماق قلبه، وأن يكتم ما يجول في ضميره ولا يُظهِر سرَّه بين ثنايا وجهه حتى يعثر على البرهان الذي يُخرِجه من موقفه؛ كي لا يفسح لعدوه مجال الحذر ويصبح مضغة في الأفواه، فإذا عرفت هذا فاذهب الآن إلى منزلك وكُنْ مع امرأتك على ما عوَّدْتَها، دون أن تبدر منك بادرة تدل على الريبة إلى أن أسلمك هذين المذنبين.

فوقع هذا الكلام وقع الصاعقة على رأس المركيز؛ لأن ابنة عمه كانت تتكلم بلهجة الواثقة المطمئنة وقال: أَلَا تذكرين لي اسم هذا الرجل؟

– كلا، لم يَحِن الوقتُ بعدُ، ولكني أردُّ إليك هذا الخنجر الذي كنتَ تحاول قتلي به، كي تغمده في صدر مَن خانتكَ لا في صدري.

ثم أخذَتِ الخنجر عن الأرض وأعطته إياه وهي تقول: اذهب بسلام، وكُنْ حكيمًا واعمل بما أوصيتك.

فأخذ الخنجر من يدها وقال: سأطيعك فيما تريدين، ولكن اعلمي أن هذا الخنجر لا بد له أن يُدفَن في قلب واحدة منكما، فإما أن يُغمَد في صدر النمَّامَة الكاذبة، أو يخترق قلب الخادعة الخائنة.

ثم انصرف يمشي لاضطرابه مِشية السكران، فشيَّعَتْه ابنة عمه إلى الباب وبقيت تودِّعه بالنظر إلى أن غاب عن عينيها، فعادت إلى روكامبول الذي كان ينتظر في القاعة على أحر من جمر الغضا، فقال لها: أمَضَى؟

– نعم، لقد ذهب واليأس ملء فؤاده، وهو واثق من خيانة امرأته، ولكنه يطلب البرهان.

فأجابها روكامبول ببرود: إنه سيرى خيانة امرأته بالعين.

– أواثق أنت مما تقول؟ لأن بهذا البرهان تتعلق حياتي.

– إني واثق ملء الثقة، فإن ثروتنا متوقفة أيضًا عليه.

– ولكنك تجهل أمرًا، وهو إذا وجد امرأته برئية فإني مائتة لا محالة.

– كيف ذلك؟

– أولًا إنه يقتلني.

– وإذا منعناه عن قتلك، فكيف تموتين وأنت لم تشربي السم به؟

– ذلك لأني سأشربه.

– وأية فائدة من شربه؟

– إن الحجر الأزرق الذي يشفي شارب السم يقتل مذوبُه مَن لم يشربه، فإذا أراد أن يشفيني بعد سبعة أيام وسقاني محلول الحجر الذي في يده، ولم أكن قد شربت السم فإني أموت، وإذا كنتُ قد شربته فإني أشفى، وفي كل حال لقد عولت متى يئست من الزواج به على الموت.

– اطمئني، فإنك ستتزوجين به.

فأخرجت الهندية عند ذلك زجاجة السم من صدرها وشربت ما فيها دفعةً واحدة، ثم وضعتها بسكينة على المنضدة وقالت: لا يُحْيِيني الآن إلا حجره الأزرق.

فقال روكامبول وقد كان يثق ثقة عمياء بقريحة أستاذه: قلتُ لكِ اطمئني، فستكوني زوجة المركيز.

٢٧

وَلْنَعُدِ الآن إلى باكارا، فإنها بعد أن اشترت من الفيروزة منزلها القديم وأطلقت سراحها، بقيت وحدها في المنزل، كان أول ما فعلته أنها طردت جميع مَن كان فيه من الخدم، ولكنها أبقت خادمة غرفة الفيروزة، وهى تؤمل أن تعلم منها شيئًا من أسرار سيدتها، إلا أن أندريا كان يتوقع حدوث جميع ما مرَّ من الحوادث، فأحضر للفيروزة خادمة جديدة، فلما سألتها باكارا عن سيدتها القديمة أخبرتها جميع ما حدث بالأمس بينها وبين فرناند، وكيف أنها لبست بعد ذهابه لباس العاملات، وعزمت على مبارحة القصر والإقامة في غرفة صغيرة تعيش فيها من كسب أيديها، فلم تستفد منها باكارا شيئًا، ولكنها أبقتها في عملها وقالت لها: سيحضر غدًا فرناند، فمتى حضر أدخليه إلى قاعة الاستقبال، ولا تذكري له شيئًا من أمري.

فامتثلت الخادمة، وأقامت باكارا طول ليلها ساهرة وهي تُعمِل الفكرة في طريقة تنقذ بها فرناند، وترد قلبه إلى زوجته وولده.

ولما كانت الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي، أقبل فرناند حسب اتفاقه مع الفيروزة، وفيما هو منتظِر إذ فُتِح الباب ودخلت منه باكارا وهي بالملابس التي كانت تلبسها في عهد غوايتها السابقة، فما صدَّقَ نظره حين رآها إلى أن أقبلت إليه تبتسم ومدت له يدها للسلام، فتلعثم لسان فرناند وقال: مَن أرى هنا، ألستِ مدام شارمت؟

لقد خدعَتْكَ عيناك، فإني كنت بالأمس مدام شارمت، أما اليوم فإني باكارا. ثم قدَّمَتْ كرسيًّا لفرناند وقالت له: أشكرك لأنك أول قادم يهنِّئني بالعودة إلى حياتي السابقة، وقد تفاءلت خيرًا بقدومك.

فبهت فرناند وقال: ماذا أسمع، ألعلك جننت؟

فابتسمت باكارا وقالت: ألمثل هذا أتيتني في هذه الساعة المتقدمة من الصباح؟

فزاد انذهال فرناند ولم يعلم كيف يجيب، فقالت: ما هذا السكوت؟ ألعلك لم تكن تتوقع أن تراني هنا وأنت آتٍ لترى الفيروزة؟

فاضطرب فرناند وقال: ربما …

– لقد ساء فألك؛ فإن الفيروزة قد باعتني هذا المنزل وبرحته منذ أمس. أَلَا تذكر هذا المنزل حين كان لي من قبلُ وكنتَ فيه؟

قال فرناند: كفى مزاحًا، وأوضحي لي هذه الألغاز.

– إني لا أمزح. ولا ألغاز، فإن المنزل قد اشتريته والفيروزة برحته.

فزاد انذهال فرناند وقال: أنتِ التي كنتِ مثال الفضيلة والطهارة أربعة أعوام، لا يذكرك الناس إلا بالخير والثناء، أتستطعين العودة إلى حياتك السابقة؟

فقهقهت باكارا ضاحكة: لا تكثر المواعظ والنصح؛ فقد تجد أولى مني بهما، بل أصغِ لهذا الحديث الذي أقصه عليك، فقد كان في سالف الزمن امرأة مكروهة ينظر إليها الناس نظرات الاحتقار لاسترسالها للغي والضلال، واتفق يومًا أنها رأت في السماء الزرقاء نجمة تضيء، وكانت هذه النجمة نجمة الحب، وكان الرجل الذي أحبته موظَّفًا فقيرًا ولكنه كان يحب فتاة طاهرة نقية، ويرجو الاقتران بها …

فقاطعها فرناند وقال: كفى، لقد علمتُ مَن تعنين.

– إذا كنتَ عرفته فسأقص الغرض من سرد الحكاية. فاعلم أن هذه المرأة ارتكبت جريمة من أَجْلِ مَن تحب، ثم ندمت على ما فعلَتْ فأنقذت مَن تحبه وسهلت له طرق الاقتران بالفتاة التي كان يحبها، ولما رأته سعيدًا بالقرب منها تابت إلى الله عن حياتها السابقة توبةً صادقةً، وخلعت عنها اسم باكارا فاستبدلته باسم مدام شارمت.

فقال لها فرناند: أرأيت كيف أنك تمزحين، فإنكِ ما تزالين مدام شارمت.

– لقد خُدِعت أيها الحبيب؛ فإن الحب قد ردَّنِي عن حياتي السابقة، وهذا الحب قد أعادني إليها، ولا تعجب لما أقول؛ فإني لما رأيتُ من قبلُ خصيمتي فيك كانت فتاة طاهرة رجعت القهقرى، ولبست حلة الفضيلة ولم تكن في الحقيقة غير حلة لليأس، أما وقد باتت تلك الخصيمة من بنات الهوى، وهي لا توازيني في شيء بل هي فتاة ساقطة لا أدب لها ولا شرف …

فصرخ بها فرناند يقول: كفى، فإنك تهينين التي أحبها.

أما باكارا فإنها لما سمعت إقراره وجف فؤادها، فوضعت يدها على جبهتها ولبثت صامتة وهي أشبه بالأموات، إلا أن فرناند لم يكترث لما حلَّ بها فقال: إذا كان هذا المنزل منزلك كما تقولين، فهل لكِ أن تخبريني أين ذهبت صاحبته القديمة؟

فقالت باكارا بعظمة: معاذ الله أن أكتم عنك محلها، فإنها تقيم في شارع بلانتين نمرة ١٧. ثم صرفته بإشارة من يدها، فانحنى مسلِّمًا ومضى.

فلما أصبحت وحدها، وجعلت الدموع تسيل من عينيها وهي تقول: رباه، إني أردتُ إقناعه بالحجة والبرهان، فتغلَّبَتْ عواطف قلبي على عقلي.

٢٨

بعد ذلك بساعتين وقفت مركبة باكارا أمام منزل أختها سريز، فخرجت منها ودخلت إلى المنزل، فوجدت أختها على أسوأ حال وقد قرح البكاء جفنيها، وبعد حديث طويل علمت منها أن زوجها ليون وقع في شَرَكِ إحدى العاملات، وأنها كتبت إليه بالأمس كتابًا قاطعته فيه، فتمكَّنَ منه القنوط حتى عول على الانتحار، ثم أخبرتها أنه أراد أن يلقي بنفسه من النافذة وهو يحسبها نائمة، فوثَبَتْ إليه ولم تتمكَّنْ من إرجاعه عن قصده إلا بعد أن ذكرت له ولده الصغير، فحَنَّ فؤاده وذهب إلى الطفل النائم وجعل يقبِّله وهو يبكي بكاء الأطفال، ثم خرج من المنزل بعد أن عاهدها على أن لا يُقدِم على الانتحار.

فعجبت باكارا وأشفقت على أختها ثم سألتها: كيف علمتِ بهذا الكتاب الذي ورد إليه؟

– رأيته في جيبه.

فسألتها إحضاره، وكان هذا الكتاب الرسالة التي كتبتها الفيروزة في غرفتها عند مدام فيبار، ولما وقفت عليها باكارا وتأمَّلَتْ بخطه، صاحت صيحة منكرة وقالت: الخط واحد والمرأتان واحدة، فما هذا السر؟

ثم افتكرت هنيهة وعادت إلى أختها فقبَّلَتْها وهي تقول: اطمئني أيتها الأخت العزيزة، فإن ليون سيعود إلى حبك ويرجع عن هذه الداهية في أقرب حين.

وحاولت سريز أن تعلم من أختها شيئًا عما ذكرته من اتفاق الخطين والمرأتين، ولكن باكارا لم تُجِبْها بشيء، بل اقتصرت على تطمينها وخرجت فركبت مركبتها وذهبت إلى منزلها الذي كانت تقيم فيه باسم مدام شارمت، فسألت الخادمة إذا كان قد زارها أحدٌ في مدة غيابها، فأجابت: لقد أتى الفيكونت أندريا أمس مرتين، وقد أتى اليوم أيضًا منذ ساعة وترك لكِ هذه الرسالة. ففضَّتْها باكارا وقرأت ما يأتي:

سيدتي

لديَّ كثير من الشئون الخطيرة الخاصة بالجمعية السرية يجب إطلاعك عليها، وأن أراك في القريب العاجل.

الإمضاء
أخوكِ بالتوبة: أندريا

فمزَّقَتِ الرسالة وألقتها في النار وقالت للخادمة: إذا جاء يسأل عني فقولي له أني لست بالمنزل. ثم دعت جميع الخدم وقالت لهم: إني قد أبيع هذا المنزل وقد أبقيه، وأغيب عنه عدة أيام، فإذا أبقيته فإنكم تبقون في خدمتي، وإذا بعته أطلقتُ سبيلكم وكافأتكم خير مكافأة.

فأسرعت الفتاة اليهودية إليها بعد خروج الخدم وقالت لها: وأنا ماذا تصنعين بي؟

– إنكِ ستكونين معي حيث أكون.

فأظهرت لها فرحًا عظيمًا وجعلت تبكي، فسألتها باكارا عن السبب في بكائها، فقالت لها: ذلك لأني خفت خوفًا شديدًا من الرجل الذي زارك أمس واليوم، وترك لكِ الرسالة.

– لماذا خفت منه؟

– لأنه كان ينظر إليَّ نظرات ذلك الرجل الذي كان ينوِّمني تنويمًا مغنطيسيًّا كل ليلة بالرغم عني.

فعجبت باكارا لأمرها وسألتها: مَن هو هذا الرجل؟

فحكت لها اليهودية حكايتها، وخلاصتها أن أحد المشتغلين بصناعة التنويم كان يعطي أمها كل يوم عشرة فرنكات كي تأذن له بتنويم ابنتها.

فزاد عجب باكارا وسألتها: أكنتِ تنامين؟

– لم أكن أريد النوم، ولكنه كان يحدِّق بي تحديقًا شديدًا، فأنام مُكرَهةً وحين أصحو من الرقاد الكاذب كانت أمي تقبِّلني ضاحكةً وهي تقول: إنك قابلة للتنويم، وستكفينا شر الفقر.

وكانت باكارا مصغية لحديث الفتاة أتم الإصغاء، ثم غاصت في تأملاتها وذكرت أنها كانت تستخدم هذا النوم في أيامها السابقة لتعلم حقيقة أميال عشَّاقها، ثم ذكرت أن الذين كانوا ينامون هذا النوم كانوا يخطئون في معرفة خفايا القلوب مرات، ولكنهم كانوا مصيبون في بعض الأحيان، وعند ذلك برقت أسرتها بأشعة الأمل وقالت في نفسها سوف أرى؛ فقد أقف على أسرار أندريا بتنويم هذه الفتاة.

٢٩

ثم عادت إلى الفتاة الإسرائيلية، وبعد سكوت قليل دار بينهما الحديث الآتي، فقالت باكارا: إذن فإن هذا الرجل كان ينومك؟

– نعم يا سيدتي.

– أكنتِ تخافين؟

– خوفًا شديدًا.

– ولو خطر لي أن أنومك، أَلَا تخافين أيضًا؟

– كلا، بل أنام بملء السرور؛ لأني أحبك ولا أخافك.

– إذن فاجلسي أمامي.

فامتثلت الفتاة وذهبت باكارا وأوصدت الباب والنوافذ، ثم عادت وجلست أمام الفتاة وحدَّقَتْ بها تحديقًا طويلًا، وهي تقول لها: نامي. فكانت الفتاة تنظر إليها وهي لا تستطيع أن تقاوم نظراتها، وما زالت تحدِّق بها وهي تأمرها بالنوم حتى تثاقلت عيناها، ثم أطبقت جفنيها وسقط رأسها على جانب الكرسي، فشعرت باكارا بسرور عظيم وقالت للفتاة النائمة: أنائمة أنت؟ فأجابتها وهي مغمضة العينين قائلة: نعم.

ودار بينهما ذلك الحديث التالي، فسألتها باكارا: أي نوم تنامين؟

– النوم الذي أمرتني أن أنامه.

– انظري إليَّ، وقولي لي ماذا ترين، وبأي شيء أفتكر؟

– إنك تفتكرين به.

– بمَن؟

– بذلك الرجل الذي أتى، وكان ينظر إليَّ.

– أترين هذا الرجل؟

– نعم، نعم، إني أراه!

– أين هو؟

– لا أعلم، إني لا أراه جيدًا. اصبري … إنه يسير في شارع كبير عريض. ثم مدت يدها مشيرة إلى الغرب.

– أترين كنيسة في هذا الشارع؟

– نعم.

– أين يذهب هذا الرجل؟

– إنه يمشي مسرعًا، إنه يسرع جدًّا. هي ذي مركبة.

– أَصَعَدَ إلى المركبة؟

– كلا، بل إنه صادفها.

ثم كأن هذه الفتاة النائمة قد انصرفت أفكارها إلى المركبة ومَن كان بها، فأخذت تقول: ما أجمل هذه المرأة!

– أية امرأة تعنين؟

– إنها امرأة جميلة لم أَرَهَا من قبلُ.

– إذن، فلماذا انصرف فكرك إليها؟

– لأنها آتية إلى هنا.

– إلى هنا! إلى منزلي؟

– نعم، وهي جميلة جدًّا ولكنها شديدة الحزن.

– ولماذا هي حزينة؟

فوضعت الإسرائيلية يدها على قلبها وقالت: لأنها تشكو.

– ألم تعرفيها؟

– كلا، ولكنها قد أتت من قبلُ إلى منزلك.

– أكانت تزورني دائمًا؟

– كلا، فإنها لم تَزُرْكِ غير مرة واحدة.

– وهي آتية إلى منزلي كما تقولين؟

– نعم، فإني أراها قادمة، وهذه مركبتها الجميلة قد مرت فوق الجسر، إنها تجاوزته، مرَّتْ بالشارع الجديد الموصل إلى منزلك، إنها دنت من المنزل وأنه أراها الآن جليًّا. ما أسرع هذه الجياد! وما أجمل هذه المركبة! ها هي قد قربت من الباب. وقفت أمام باب منزلك.

فدهشت باكارا دهشة عظيمة لأنها سمعت صوت مركبة وقفت على باب منزلها، وبعد هنيهة دخلت الخادمة تحمل بيدها بطاقة المركيزة فان هوب، فقالت لها: اذهبي بها إلى قاعة الاستقبال وقولي لها أني قادمة في الحال.

ثم عادت إلى الفتاة فسألتها: مَن يوجد عندي في قاعة الاستقبال؟

– هي هي التي رأيتها في المركبة.

– ماذا ترين بها؟

– انقباضا شديدًا.

– أتعلمين أسباب حزنها؟

– نعم، فإنها تحب.

– انظري إليها وانبئيني عن أحوالها.

فلم تُجِب الفتاة في البدء، ولكنها ما لبثت أن تراجعت منذعرة إلى الوراء وقالت: هذا هو؟

– مَن هو؟

– الرجل الذي يزورك وينظر إليَّ نظرات تخيفني.

فعلمت باكارا أنها تقصد أندريا فقالت لها: أين ترينه؟

– إنه يصعد سلم منزل في الشارع مع رجل في مقتبل الشباب.

– بماذا يتحدثان؟

– بها، بتلك المرأة الحزينة التي أتت إليك.

فعلمت باكارا أن أفكار الفتاة لم تنصرف إلى أندريا إلا لعلاقته بالمركيزة، فقالت لها: ماذا يقولان عنها؟

– لا أعلم، لا أفهم شيئًا، ولكنهما يريدان قتلها.

فاضطربت باكارا وقالت: لماذا؟ انظري جيدًا في نفسيهما.

– لا أعلم، إني لم أَعُدْ أرى شيئًا. ثم سقط رأسها على كتفيها واستغرقت في سبات نوم عميق، وكانت باكارا تعلم أن التنويم المغناطيسي لا يصلح أن يُسمَّى علمًا صحيحًا يبسط أسرار المستقبل، ويكشف خفايا القلوب، ولكنه قد يدل بعض الدلالة على تلك الأسرار ويصدق في بعض الأمور، كما اتفق صدق الفتاة حين أشارت إلى قدوم المركيزة، فانقطعت عن سؤال الفتاة، وتركتها نائمة في الغرفة، ثم ذهبت لاستقبال زائرتها فوجدتها حزينة منقبضة الصدر كما قالت لها اليهودية.

وكانت المركيزة قد زارت باكارا كي تسألها عن تلك الفتاة التي كلَّفَتْها بإرسال إحسانها إليها والسؤال عنها، وأخبرتها باكارا أنها أتمت المهمة التي انتدبتها لها، وذكرت لها عن أخلاق الفتاة ما رغبها باستخدامها في منزلها، وطلبت أن تراها فلم يسع باكارا إلا الامتثال، وذهبت معها إلى حيث تقيم تلك الفتاة البائسة لتختبرها بنفسها.

وبينما كانتا ذاهبتين بالمركبة، مرَّ بهما فارس كان يمتطي جوادًا كريمًا، ولما رأى المركيزة رفع قبعته وحياها بمنتهى الاحترام، فردت المركيزة تحيته وقد عبق وجهها، ثم اصفرت وبرقت عينها بريقًا يدل على كره الفارس، فلم يَغِبْ عن باكارا شيء من اضطرابها، وخطر في بالها ما قالته لها الفتاة الإسرائيلية عن حزن المركيزة وحبها، فحسبت أنها مولعة بهذا الفارس الذي حيَّاها، فطبع رسمه في ذاكرتها.

وبعد ذلك بساعة عادت باكارا بعد أن قضت مهمة المركيزة، وفيما هي عائدة رأت ذلك الفارس نفسه يسير بجواده الهوينا، فخطر لها أن تعرف اسمه، وللحال نادت السائق وأمرته أن يقفو أثره على مسافة بعيدة، فامتثل وما زال يسير متعقبًا الفارس حتى بلغ إلى منزله، وأسرع أحد الخدم فأخذ الجواد ودخل سيده إلى المنزل.

أما باكارا فإنها نادت حمَّالًا كان واقفًا على قارعة الطريق، فسألته: أتعرف هذا الرجل الذي كان يمتطي جوادًا، ودخل إلى المنزل؟

فقال لها: نعم، إني أعرفه فهو الكونت دي كامبول، وقد أخبرني خادمه أنه تبارَزَ منذ ثلاثة أيام مع رجل فجرحه.

وعادت باكارا وقد كادت تشرف على هذا الخطر الذي كان ينذر المركيزة، بحيث تكفيها كلمة واحدة لإماطة الحجاب عن هذا السر الخطير.

٣٠

وفي اليوم التالي أظهرت باكارا لجميع عارفيها أنها عادت إلى حياتها السابقة وعادت عن توبتها، وذلك أنها خرجت مع صديقة قديمة لها من بنات الهوى الشهيرات، وتزَيَّتْ بزيها وانطلقت تجول في المنتزهات المألوفة، ولم تغرب شمس ذلك اليوم حتى عرف جميع أهل المجون بهذا الانقلاب الغريب، أما باكارا فإنها عادت إلى منزلها واليأس ملء قلبها؛ لأنها خشيت أن لا تفوز بما تسعى إليه من الخير فتخسر سمعتها الصالحة، وتسقط إلى الحضيض، ولما دخلت إلى غرفتها أخبرتها الخادمة أن الفيكونت أندريا ينتظرها في القاعة. فاضطرب فؤادها عند ذكره وقالت لها: دعيه ينتظر. ثم أحضرت الفتاة الإسرائيلية فنوَّمَتْها حتى إذا نامت دار بينهما الحديث الآتي، فسألتها باكارا: أتستطيعين أن تنظري ما وراء هذا الجدار؟

فقالت الفتاة النائمة: نعم.

– إذن فانظري إلى قاعة الاستقبال وأخبريني مَن تجدين فيها.

فأجفلت الفتاة وهي مغمضة العينين وقالت: هو … هو!

– مَن هو؟

– الرجل الذي ينظر إليَّ ويخيفني.

– أتقدرين أن تنظري إلى نفس هذا الرجل وتعلمي ما يجول فيها.

– لا أجد غير الظلام، ولكنه يفتكر بأمور سافلة.

– أيكرهني؟

– كما يكره الموت.

– أيكره سواي أيضًا؟

– نعم، نعم، أجد رجلًا عالي القامة أسمر اللون، يكرهه أكثر مما يكرهك.

فعلمت باكارا أن هذا الرجل هو أخوه الكونت دي كركاز، فسألتها: أيفتكر بي الآن؟

– كلا.

– ألعله يفتكر بالرجل الأسمر؟

– كلا.

– إذن بمَن يفتكر؟

فاضطربت الفتاة اضطرابًا شديدًا وقالت: إنه يفتكر بي أنا.

٣١

وكان أندريا قد هاله انقلاب باكارا الفجائي، وأمعن الفكرة في هذا الانقلاب؛ فلم يهتدِ إلى سبب، ولم يعلم مرادها منه، وقد بقي طول ليلته مفكِّرًا مهمومًا تتردد في مخيلته ثلاث مسائل: أصدَّقَتْ باكارا توبته؟ وهل توبتها صادقة وقد رجعت عنها بالظاهر كي تنقذ فرناند من مخالب الفيروزة، أم أنها عادت حقيقة إلى حياتها السابقة لما رأته من خيانة فرناند لامرأته؟

وقد كان يرجح هذا الفكر الأخير لاعتقاده أن الغيرة حملتها على نقض توبتها، ولكنه بقي مشكِّكًا في أمرها، وقال في نفسه: إنني سأزورها؛ فإذا كانت تريد حقيقةً إنقاذ فرناند فلا بد لها أن تطلعني على قصدها كي أشاركها في إنقاذه، فإني أنا الذي أخبرها بهذا السر، وإذا كتمَتْ عني ما تبذله من المساعي لا يبقى لديَّ ريب باحتراسها مني وعدم وثوقها من توبتي.

ولكنه لم يطمئن له خاطر لأنه كان يخشاها لما عرفه من شدة دهائها، وبقي يمعن الفكرة إلى الصباح، فلم يغمض له جفن حتى استقر على رأي وهو الحكم بالموت على باكارا؛ وذلك لاعتقاده أنها إذا عرفت بمقاصده فلا بد من موتها، وإذا كانت تعتقد بصدق توبته فلا بد من موتها أيضًا كي لا تزاحمه بغيرتها.

وقد تركناه في منزل باكارا الجديد، وإنما قدم إليها لسببين: أحدهما بغية الوقوف على أسرارها، والآخَر رجاؤه أن يرى تلك الفتاة اليهودية التي عزم على اختطافها لما لقي من حبها، فإن هذا الرجل الذي جرَّدَتْه أمياله الشريرة من عواطف الإنسانية لم يلبث أن رأى تلك الفتاة حتى شغف بها شغفًا لم يكن يخطر له في بال، وكان إذا رآها يضطرب وتبدو علائم غرامه الفاسد بين ثنايا وجهه، وبمثل هذا الاضراب تمكَّنَتْ باكارا من الشك والريبة بإخلاصه في توبته.

وأما باكارا فإنها لما علمت من اليهودية حين نوَّمَتْها ما أرادت أن تعلمه، تركتها وأقبلت إلى قاعة الاستقبال التي كان ينتظرها أندريا فيها، فتظاهرت بالاندهاش حين رؤياه، ثم اعتذرت إليه لتأخُّرِها عن الحضور.

وذهل أندريا لما رآه من مظاهر انقلابها ولباسها الجديد، أما هي فإنها دنت منه وقالت له: إنك يا سيدي الفيكونت كنتَ في مقدمة المذنبين، ثم أصبحت على أتم الصلاح، فلا بد لك من أن تشفق على خاطئة مثلي إذا كان قد دعاها الحب إلى التوبة، فقد حملها هذا المحب نفسه على نقضها؛ وذلك أني حين علمت أن فرناند مولع ببَغِيٍّ مثلي، خلعت ثوب التوبة وعدت إلى البغي، أي إني كنتُ مدام شارمت فأصبحت باكارا، والآن وقد بات يفصل بيني وبينك هوة عميقة، وإنك ستشفق عليَّ دون ريب لصلاحك، ولكنك لا تراني بعد الآن، أليس كذلك؟

ثم تراجعت عنه والتفتت إلى صديقة لها كانت أتت لزيارتها، فقالت لها: أتذهبين معي إلى الغرفة؟

فلبس أندريا قبعته وخرج مطرق الرأس، وهو يقول بصوت مرتفع كي تسمعه: ليأخذ الله بيدك ويرشدك إلى محجة الصواب. ثم خرج من المنزل، وذهب إلى الفيروزة وهو مقتنع بأن باكارا واثقة من توبته أشد الوثوق.

وبعد حين خرجت باكارا مع صديقتها القديمة، فركبت مركبة ذهبت بهما إلى غابة بولينا، وكان مَن يعرفها من المتنزهين ينظر إليها، وهو منذهل مما يراه من رجوعها إلى سُبُل الفساد بعد أن اشتهرت بتوبتها منذ أربعة أعوام.

وكان بين المتنزهين رجل يقال له البارون دي مينيرف، يصحب في مركبته شابًّا روسيًّا يُدعَى الكونت أرتوف، فلما رأى باكارا مع إحدى بنات الهوى لم يتمالك عن إظهار دهشته ولفظ اسمها، فقال له الروسي: مَن هي باكارا؟ ولماذا انذهلت حين رأيتها؟

– عجبًا! ألم تسمع بهذه الفتاة؟

– كلا، فإني ما برحت بطرسبرج إلا منذ بضعة أسابيع.

– ألم تسمع بها في تلك العاصمة؛ فإن اسمها قد اشتهر في جميع العواصم. ثم سأله وقد تنَّبَهَ إلى حداثة سنه: كم عمرك؟

– عشرون عامًا.

– لقد كنتَ صبيًّا في عهد هذه الفاتنة، فإنها أشد أمثالها خطرًا، وهي زكية اللسان رشيقة التعابير، حتى إن رجال المراسح يختلفون إليها كي يسرقوا من ألفاظها ما يدمجونه في سلك رواياتهم، ولقد فُتِنَ بها كثير من الأمراء وأعاظم الرجال، فإن أحد كبار الموسيقيين بلغ به هواها إلى الجنون ولا يزال مجنونًا إلى الآن، والبارون … باع ما لديه لإرضائها ثم انتحر بعد إفلاسه، والبرنس لي … قتل نفسه في سبيلها.

فارتعد الكونت وقال: ما هذه المرأة؟ ألعلها دون قلب؟

– هو ذاك أيها الصبي، فإذا أحببتَ أن أعرفك بها فأسرع بجوادك كي ندركها.

فامتثل الروسي وسار الاثنان يعدو بهما الجوادان حتى وقفت المركبة في ظل شجرة باسقة، فدنا البارون مع رفيقه من المركبة وقال: إنها باكارا ولم أخطئ.

فالتفتت باكارا، ولما رأت البارون قالت: هي بعينها وقد انبعثت، ولكن بَعْثَها سر من الأسرار.

– ولكنكِ ستبوحين لي بهذا السر في غير هذا المكان. ثم أشار إلى رفيقه وقال لها: إني أقدِّم لكِ صديقي الكونت أرتوف، وهو شاب روسي لا يعلم عدد ما لديه من القرى، وقد أنفق عمره وهو يحصي عدد الفلاحين في أراضيه، ولم يبلغ إلى المجموع بعدُ.

فأحنت باكارا رأسها وحيَّتْه باحترام، فقال لها البارون: هو ذا رجل لا يتيسر لك أن تلقيه في مهاوي الإفلاس.

فقالت له ضاحكة: إذن سيكون شاذًّا عن القاعدة، وفي كل حال فسنرى فإني سأحتفل بتدشين منزلي القديم وعيشي الجديد بعد يوم، وأنا أبدأ بدعوتكما كي تكونا في مقدمة المدعوين.

فحيَّاها البارون والكونت، وانصرفا إلى النادي الذي يجتمعان مع أصحابهما فيه.

٣٢

وكان في ذلك النادي كثيرون من أصدقائهم، وبينهم روكامبول باسم الكونت كامبول، وشاروبيم باسم البارون دي فرني وغيرهما، فلما دخلا إلى النادي وجدا أعضاءه، وكلهم في مقتبل الشباب، يتحدثون بشأن باكارا ورجوعها عن توبتها، وهم بين مصدِّق ومشكِّك. فكان أحدهم يقول: إني رأيتها اليوم في غابات بولونيا مع إحدى بنات الهوى. فيناقضه آخَر ويقول: أنَّى ذلك! وقد شُبِّهَتْ لكَ. ثم يقول آخَر: قد تكون صحبت تلك المرأة لغرض من الأغراض.

وما زالوا بين مصدِّق ومكذِّب إلى أن دخل البارون دي مينرف والكونت أرتوف الروسي، فلما سمعهم البارون يتجادلون، وكان روكامبول من فريق المنكرين، قال له: إنك مخطئ في اعتقادك، فقد رأيت باكارا بعيني وكلَّمْتُها.

فظنَّ روكامبول أن لأندريا يدًا في رجوعها إلى حياتها السابقة، وسكت عن الاعتراض، فقال معظم الحاضرين: ولكن كيف رجعت عن توبتها؟ وهل هي غنية؟

– لا أعلم، ولكنها إذا لم تكن غنية فسيكون لها من أموال صديقي الكونت ما تشاء.

وأشار إلى الكونت الروسي، فقال الكونت: قد تنال مني ما تريد، ولكني لم أقرِّرْ شيئًا بعدُ بشأنها.

فقال له شاروبيم: حسنًا فعلت.

– لماذا؟

– لا بد لي قبل ذلك أن أخبرك بشيء من أحوالي وماضي حياتي ومهنتي. فاعلم أني إسباني الأصل، أميركي المولد، باريسي الموطن، غير أن نسبي يتصل بالدون جيان، ومهنتي غواية النساء كما كان يصنع جدي الذي أنتسب إليه.

فضحك الحاضرون لمزاحه، أما شاروبيم فإنه عاد إلى حديثه فقال: ولقد خدعتُ كثيرًا من النساء، ولكني لا أزال طامحًا إلى غواية اثنتين، إحداهما كليوباترا ملكة مصر.

فضحك الجميع ضحكًا شديدًا، ثم طلبوا إليه أن يخبرهم باسم الثانية، فقال: هي باكارا المعروفة بأنها دون قلب، إلا أنه كان يفصلني عن كليوباترا ما بيني وبينها من الأدهار، وكان يفصلني عن باكارا عيشتها الطاهرة وتوبتها التي لم يكن يشك أحد بصِدْقها، أما وقد عادت إلى العيش، فلا يفصلني عنها شيء بعد الآن.

فقال له البارون صديق الروسي: إنك ستضيع وقتك عبثًا، فإن باكارا لا تحب سوى الذهب، ومهما بلغ من جمالك فإنك لا تبلغ شيئًا من قلبها، ولو تلبَّسْتَ بلباس جدك الدون جيان؛ لأنها دون قلب، ومَن كان مُفلِسًا فإن الملوك أنفسهم لا تستطيع نيل حق منه.

– ولكني سأعرف أين أجد منها حقوقي.

فانبرى له عند ذلك الكونت الروسي وقال له: أتأذن لي بكلمة؟

– بل بعشرين.

– إنك تدَّعِي أنك قادر على غواية باكارا.

– لا أدَّعِي ذلك ادِّعَاءً، بل أعتقده اعتقادًا.

– ألعلك واسع الثروة؟

– كلا، فإن إيرادي لا يتجاوز ثلاثين ألف فرنك في العام.

– أما أنا، فإن إيرادي يبلغ عشرين مليونًا، وربما تجاوز هذا القدر، وقد عزمت على أن تكون لي.

– إذن فستفعل فِعْلِي.

– نعم، فهل لكَ أن تعقد رهانًا بسيطًا؟

– أجل، بملء الرضى.

– إني أُمهِلك خمسة عشر يومًا، فإذا ظفرتَ بفؤادها وحملْتَها على حبك، فإني أدفع لك خمسمائة ألف فرنك في هذا المكان الذي نحن فيه.

– أقْبَلُ.

فصاح الجميع قائلين: وإذا خسر الرهان؟

فأجاب الروسي ببرود: إنه ليس بغني أراهنه على المال، ولكنه إذا لم يَفُزْ بحمل باكارا على حبه بعد هذا الأجل المعين، فإني أقتله.

فأجفل الحاضرون، وقد رأوا من ملامح الكونت الروسي أن وجهه يتجهم من الغضب، وأنه لم يمزح فيما يقول، وقالوا لشاروبيم: ماذا تقول في هذا الاقتراح؟

– إنه شرط صعب يقتضي له الإمعان والتفكير.

وقال البارون دي مينرف: بل إن تنفيذه محال.

فقال الروسي: لماذا؟

– لأننا في فرنسا، وهي بلاد لا تأذن شرائعها لأحد ببيع النفوس وشرائها، فإذا قبل شاروبيم أن تقتله، فإن الشريعة الفرنسية لا تقبل.

– إني درست شرائع بلادكم، وأنا أعلم منها ما تعلمون. إلا أني أجد لهذه العقدة حلًّا بسيطًا يتيسر فيه بيع النفوس، وذلك أنه إذا خسر خصمي الرهان تبارزت وإياه بالمسدسات، إلا أن مسدسه يكون خاليًا من الرصاص ومسدسي محشوًّا، فيموت في عين الحكومة موت المبارِز، وفي عين الحقيقة موت الخاسر في وجميعكم من أهل النبل والشرف، فإذا قتلته على هذا الشكل، فإنكم تكتمون دون ريب حقيقة السبب في قتله.

وصاح الجميع: كلا إن هذا محال!

– إذن فَلْيرجع عن قصده.

فقال شاروبيم: كلا، إني لا أرجع عنه.

– إذن إنك تقبل شرطي، إلا إذا كنتَ تخشى الفشل بالرهان.

– أقبل بشرطك.

وأقبل الجميع على شاروبيم يسألونه التروِّي والإمعان، ولكنه بقي مصرًّا على ما قال، إلى أن رأى روكامبول أنه قد استفحل، وأن هزله قد انقلب إلى جد، فتقدَّمَ من الكونت الروسي وقال له: إن المسيو شاروبيم نسي حين راهنك يا سيدي على حياته، أنه مقيَّد بتعهُّد لا يستطيع الإفلات منه، ورجائي أن لا تعتبر هذا الرهان جديًّا إلا بعد أن أخلو هنيهة معه، وأخابره بشأن خاص.

– ليكن ما تريد.

فأخذ روكامبول شاروبيم ودخل به إلى إحدى غرف النادي وقال له: ويحك ماذا فعلت؟ أتخاطر بحياتك من أجل مبلغ من المال ستربح ضعفه دون عناء؟ وبعدُ فكيف تخاطر بحياتك وهي ليست لك!

فدهش شاروبيم وقال: إذا لم تكن حياتي لي، فلمَن تكون؟

– إنها لنا، أي للجمعية، فإذا لم يأذن لك الرئيس بعقد هذا الرهان فلا حق لك بعقده.

– ولو رفض هذا الريئس وأبيت الامتثال، فماذا يكون؟

– يكون أنك لا تنال الموت من مسدس روسي بل من خنجر فرنسي، ولا أعلم مَن يقتلك، ولكنك إذا أبيت الامتثال فإنك مائت لا محالة.

– ومتى يصدر أمر الرئيس؟

– في الغد.

– إذن أنتظر للغد.

وعاد به روكامبول إلى القاعة وقال للروسي: لقد قُضِي الأمر يا سيدي.

– كيف؟ أبالرفض أم بالقبول؟

– لا هذا وذاك، ولكنه سيتمعن في هذا الشأن إلى الغد.

– إني أمهله إلى الغد، بشرط أن يحق لي زيارة باكارا في المساء.

– يحق لك ذلك.

فأخذ الروسي يد صديقه البارون ثم حيَّا الحاضرين وانصرف.

وبعد ذلك خرج روكامبول وشاروبيم، ثم افترقا على أن يحمل إليه روكامبول جواب الرئيس في الغد، فذهب روكامبول إلى منزله فوجد أندريا ينتظره فيه، فسُرَّ روكامبول لرؤياه وقال: لديَّ أمور خَيِّرة يجب إطلاعك عليها.

– ما هي؟

– أولًا، إن باكارا خلعت ثوب التوبة وعادت إلى حياتها القديمة.

– عرفتُ ذلك فما لديك أيضًا؟

– شاروبيم يريد أن يراهن على حياته، وقد أوقفت هذا الرهان إلى أن أستشيرك.

ثم أخبره بجميع ما حدث، فقطَّبَ أندريا جبينه ثم خاض في تأملات عميقة إلى أن استقر على رأي، فقال: ليعقِدْ هذا الرهان، فلا ضرر فيه علينا.

فدهش روكامبول وقال: كيف ذلك؟

– ذلك أنه قبل أن تحضر كنت أفكر في طريقة لقتل باكارا، فلما أخبرتني بهذا الرهان وجدت الطريقة.

ثم أمره أن يخبر شاروبيم أن الرئيس يأذن له بقبول الرهان، وانصرف تاركًا روكامبول في أشد الانذهال لما يحيط به من الأسرار.

٣٣

كانت باكارا جالسة في غرفة منزلها الجديد، وبينما هي مستغرقة في خلواتها تسأل الله الغفران عن هذه الحياة الجديدة، التي لم تكن تريد بها سوى إنقاذ فرناند وجميع أشخاص هذه الرواية من مخالب أندريا، إذ سمعت صوت جسم ثقيل قد سقط في الحديقة، فأسرعت إلى النافذة وأطلت منها، فرأت رجلًا قد تسلَّقَ الجدران وألقى بنفسه منه إلى الحديقة، ثم جعل يمشي إلى المنزل فصعد السلم، وهي تراه دون أن يراها، إلى أن بلغ الغرفة التي هي فيها وقرع بابها بلطف، ففتحت باكارا الباب دون أن تتهيب، ودخل منه هذا الرجل ورفع قبعته مسلِّمًا عليها باحترام عظيم.

فاندهشت باكارا حينما رأته، ولكنها قابلته بابتسام ورحَّبَتْ به ترحيبًا لطيفًا حلَّ عقدة لسانه، وجعل يعتذر إليها عن قدومه وتسلُّقه جدار منزلها بأعذار تظاهرت بقبولها.

وكان هذا الرجل الكونت الروسي، وقد أتى ليغزو قلب باكارا متسلِّحًا بملايينه، فلما استقر به المقام جلست باكارا بقربه وخاطبته: كفاك اعتذارًا وأصغِ لي فإني أعلم بشيء من مقاصدك، وأحب أن أوقفك على شيء من أمري فاسمع.

إنك لقيتني اليوم وهي أول مرة رأيتني فيها فرُقْتُ في عينيك، ودفَعَتْك ثروتُك وشهرتي السابقةُ إلى غزو فؤاد لم يتمكَّن أحدٌ من الاستيلاء عليه، كما أخبرك صديقك البارون دون ريب، وهو لا بد أن يكون أخبرك بكثير من الأمور الشائعة عني.

فأراد الكونت أن يجيب، ولكنها منعته عن الكلام بإشارة، واستطردت حديثها قائلة: إنك لا تزال أيها الكونت في مقتبل الشباب فتيًّا لا يتجاوز عمرك العشرين، وهو العمر الذي لا يقف بصاحبه عن حد، أما أنا فقد بلغت السابعة والعشرين، ولكني جريت شوطًا بعيدًا في مضمار اللهو والغرور، حتى كأني قد بلغت ضعف عمري، وقلبت جميع صفحات الحياة في حين أنك لم تقرأ بعدُ الصفحةَ الأولى من كتابها؛ ولهذا فقد حقَّ لي أن أكلمك بلهجة السيادة إذا أذنت.

– تكلمي يا سيدتي كيف تشائين؛ فإنك السيدة الآمرة كيف كنتِ.

– إني بالأمس كنت أجهل كل شيء عنك حتى اسمك، أما اليوم فإني أعرف ما يجول في خاطرك، فأصغِ إليَّ ولا تشك بما أقول ولا تبتسم هذا الابتسام الدال على الريبة، فلقد دلوك عليَّ أمس، وقالوا لك هي ذي امرأة حسناء لا رحمة عندها ولا قلب لها، وما أحبت في حياتها سوى المال، فقلتَ لهم إني في شرخ الشباب وثروتي لا عدَّ لها، وسأجد بين جنبي هذه الحسناء قلبًا يحب، أليس كذلك يا سيدي؟

فانحنى باسمًا وقال: هو ما تقولين.

– إلا أني أقسم لك بأنك خُدِعت لانخداعهم، فإني لا أستطيع أن أحبك ولا طمع لي بمالك، وإذا أردت أن تتبيَّنَ الصدق في قولي؛ فانظر إليَّ، فإني لا أنظر إليك نظرات الأمس، بل أقف في موقف طبيعي تبدو فيه حقائق النفس بما ينبعث من خفاياها من العيون، فتعلم أني على غير ما يظنه بي أولئك الأغرار.

ونظر إليها الكونت فرأى علائم الحزن الشديد بادية بين ثناياها، وعلم أن لها سرًّا تخفيه، ولكنه لم يتمالك عن أن يُظهِر حبه؛ فابتسمت له ابتسام الأم لطفلها، وقالت له: إنك لا تزال فتًى، ومَن كان له سنك فإن قلبه يكون طاهرًا لم تدنِّسه عوادي الأيام بعدُ، فينطبع عليه كل قول شريف، ويصادف القول الصالح خير هوى في ذلك الفؤاد. انظر إليَّ تجد امرأة مسكينة تمثِّل دورًا فوق طاقتها، بل تجد امرأة صالحة تجل نفسها التائبة عن الانغماس في حمأة الآثام، وهي تسألك الغوث بإخلاص دفعها إليه ما رأته يتَّقِد بعينيك من أشعة الصدق، وما يجول بين ثناياك من علائم النبل والطهارة والشرف.

وكان الكونت ينظر إليها وهو منذهل مما رأى وسمع، فتبيَّنَ الصدقَ من لهجتها، ورأى دمعة قد سقطت على وجنتها، فعلم أن الناس قد خُدِعوا بها، وأنها ليست دون قلب كما يشيعون عنها، بل علم أنها أرفع مما مثَّلها له رفاقه، وأن لديها حزنًا عظيمًا تكتمه عن جميع الناس، وتستره بمظاهر الخلاعة والمجون، ثم حسب أنه أساء إليها بتجرئه على زيارتها؛ فقال لها: لقد أصبتِ يا سيدتي حين دعوتني فتًى، فإني لولا حداثتي وطيش صباي لما تجاسرت على الإساءة إليك، ولكني أعتذر تائبًا عن هذا الذنب.

فقاطعته باكارا قائلة: قُلْ، أتريد أن تُقسِم يمينًا؟

– أقسم لك بما تشائين.

– أتقسم لي بشرفك وبشرف الأمة الروسية التي تنتسب إليها أنك لا تذكر حرفًا أمام أحد من الناس عمَّا دار بيني وبينك من الحديث؟

– أحلف حلفةَ وَفِيٍّ صادق.

فنظرت إليه باكارا بإمعان نظرةَ الفاحص المتردِّد في أمره، ثم قالت له: إني أفضلك على سواك وأجعلك مستودع سري، مع أني لم أعرفك قبل الآن، وذلك لما توسَّمْتُه فيك من دلائل الخير والشرف ولحاجتي إلى معين، فاعلم الآن أن لي سرًّا من الأسرار الخطيرة لا يمكن الإباحة به لأحد من الناس، إلا أن قلبي يحدِّثني أنك ستكون لي خير صديق.

– إني الآن ذلك الصديق.

– سوف نرى، سأسألك قضاء أمر دون أن أكلِّفك شيئًا من المال، فلقد كنتُ من قبلُ كما قيل لك لا أعبد سوى المال، أما المرأة التي تراها أمامك الآن، فإنها لم يَعُدْ لها مطمع في مال أو جمال، وإذا قُدِّرَ لها أن تحب فإنها تعيش من كسب أيديها كي تكفِّر عن هذا الحب.

فقاطعها الكونت وقال: كفى يا سيدتي ولا تذكري المال، فإنه من سفاسف الأمور لديَّ، وأخبريني بهذه المهمة.

– إنكَ أتيتَ طامعًا بحبي، وقد قلت لك إني لا أستطيع أن أحبك ولا أن أدعك تحبني لسبب قد تعلمه في مستقبل الأيام، وغاية ما أسألك إياه أن تكون لي صديقًا مخلصًا، وأن تطيعني طاعة الإخلاص إذا اقتضت الحال.

– سأكون لكِ أطوع من البَنَان.

– إذن فستكون أمام أصحابك وفي عيون العالم أجمع عشيقي، وأتظاهر أنا بحبك بحيث تكون السيد المطلق في هذا المنزل.

فدهش الكونت وقال: ما هذه الألغاز؟

– هو سر خفي لا أستطيع أن أبوح به لأحد، واعلم أيها الصديق أني لا أستطيع أن أحب أحدًا، وأن قلبي لا يسعه إلا أن يتجرد لحب الله، وأني سأمضي الآن خاشية باكية مصلية، إلى أن أنفق النهار متظاهرة بالخلاغة والمجون والاسترسال ظاهرًا في الغي والضلال، فلا تسألني أن أبوح بسري، ولكني إذا بحت به يومًا فلا يعلمه سواك.

وأنا أعلم أن أمري يشكل عليك، فإن المرأة إما أن تكون شريفة طاهرة، وإما أن تكون على عكس ذلك، غير أنه لا بد لي من الجمع بين الطهارة الباطنة والغواية الظاهرة لهذا السر الغريب، الذي لا بد لك أن تعلمه، كما يحدثني قلبي، فإذا شئتَ أن تكون صديقي وعضدي، جعلتُ اعتمادي بعد الله عليك.

فتأثَّر الكونت من كلامها وقال: إني أوقف لكِ يا سيدتي قلبًا لا ينبض فيه سوى الإخلاص، وقد أحسنتِ في اعتمادك عليَّ، فإني إذا كنتُ لا أزال فتيًّا فإني سأكون رجلًا عند الاقتضاء يحق الاعتماد عليه عند المهمات، وسأكون لك خير صديق لا يطلب إليك سوى الصداقة.

ثم ركع أمامها وقبَّلَ يدها باحترام، فقبَّلَتْ باكارا جبينه وأنهضته وهي تقول: إنك شريف ونبيل، ويكفيني عزاءً أنك عرفتني دون سواك.

– إني منذ الآن عبد لك تدفعين بي إلى حيث تشائين، وبإشارة منك ألقي بنفسي إلى غمرات الموت.

ثم استأذنته هنيهة وخرجت إلى إحدى الغرف، وعادت تحمل أوراقًا مالية قيمتها مائة ألف فرنك، فدفعتها إليه، فدهش الكونت وقال: لِمَ هذا المال؟

– هو المال الذي ستنفقه عليَّ. أَلَمْ نتفق على أن تكون عشيقي في عيون الناس؟ وإذا كنتَ عشيقي فلا بد لك من أن تشتري لي أمامهم كل يوم ما يروق في عينك من النفائس.

– ذلك لا ريب فيه، ولكن ألعلك نسيتِ أني أثرى الأثرياء، وأن إيرادي يُعَدُّ بالملايين.

– كلا، بل أنت نسيتَ أني صديقتك في الحقيقة لا عشيقتك، فكيف أستطيع قبول شيء منك؟ وأنا قد رضيت أن يحتقرني الناس مكتفية بأن تحترمني أنت.

فوجم الكونت، وأخذ المال ثم خطر في باله الرهان الذي عقده مع شاروبيم، ولم يجد بدًّا بعدما عرَفَ من فضائل باكارا ما عرَفَ من أن يُطلِعها على كل شيء، فقصَّ عليها بلهجة النادم جميع ما دار بينه وبين شاروبيم في النادي، فأصغت إليه باكارا بانتباه شديد.

ولما فرغ من حكايته نظر إلى وجهها، فرآه قد امتقع فقال لها: ألعلك تعرفين هذا الرجل؟

– كلا، إني لم أَرَه في حياتي.

– إذن، لماذا اصفرَّ وجهك؟

أجابته باكارا بصوت منخفض: ذلك لأني بدأت أظن أن الله قد أرسلكَ إليَّ، فاقبل الرهان.

فاندهش الكونت وقال: كيف يسعني قبوله بعد أن علمت أن هذا الشاب لا يمكن له أن يستغويك، وبالتالي أكون كأني قد حكمت عليه بالقتل وهو بريء.

فقالت له باكارا بصوت أجش: وكيف علمتَ أن هذا الرجل لا يستحق الموت؟

وقد قالت هذا القول بلهجة الواثقة من وجوب موته، كالقاضي يحكم على الجاني وهو مطمئن الضمير بعد ثبوت الجناية. فطأطأ الكونت رأسه، وقد علم أنها تكتم سرًّا هائلًا.

ودقت الساعة مؤذنة بانتصاف الليل، فقالت له باكارا لقد دنا موعد الفراق أيها الصديق، فعُدْ لي في ظهر الغد للغداء، واحضر بمركبتك وخَدَمك كي يقفوا بها على الباب، فيعلم الناس أنك في منزلي.

ثم مدت له يدها فقبَّلَها وخرج وهو يقول: ما هذا السر العجيب في القلوب، إني دخلت إلى منزلها وأنا أعتبرها اعتبار بنات الهوى، فما خرجت من عندها إلا وأنا أحترمها احترامًا لا مزيد فيه، حتى لقد ألقي بنفسي إلى الموت من أجلها، فما هذا التأثير؟ ألعلي أحبها؟

أما باكارا فإنها دخلت بعد ذهابه إلى الغرفة التي كانت تنام فيها الفتاة اليهودية، فألفتها لا تزال مستيقظة، وكانت باكارا قد بدأت تعتقد بصدق أقوالها في نومها، ولكنها لم تكن قد علمت منها إلى الآن سوى أن أندريا يكرهها ويكره أخاه وفرناند وليون، وأنه يحاول قتل المركيزة فان هوب بواسطة حبها لرجل جميل هو شاروبيم، وقد بقي عليها أن تعلم كيف يدبِّر أندريا هذه المكيدة الهائلة، ومَن هم أعوانه فيها، فأجلست الفتاة بإزائها، وجعلت تطيل التحديق بعينيها وهي تقول لها: إني آمرك أن تنامي. حتى نامت نومها المغناطيسي.

٣٤

وَلْنَعُدِ الآن إلى شاروبيم، فإنه بعد أن غادر روكامبول جعل يفكِّر وهو سائر إلى منزله تفكير النادم لدخوله في هذه الجمعية السرية، وما وراءها من الأخطار والقيود إلى أن بلغ منزله، فدخل غرفته وحاول أن ينام، ولكنه أطل من النافذة فرأى مصباحًا قد وُضِع خاصة في نافذة الأرملة ملاسيس، وهي علامةٌ متَّفَق عليها بينها وبينه؛ فعلم أنها تنتظره، وللحال خرج من منزله وصعد إليها، فجعلت تؤنِّبه تأنيبًا شديدًا لخروجه من منزله، وقد قالت له إن المركيزة كانت مشفقة عليه أشد الإشفاق، فكانت تزورها كل يوم كي تطمئن عليه، ولكنها حين علمت أنه لم يُقِمْ في الفراش غير أسبوع، وأنه خرج من المنزل أمس انقطعت عن زيارتها لاطمئنانها.

فعضَّ شاروبيم شفته من الغيظ وقال: متى تزورك؟

– إنها لا تزورني إلا بعد ثمانية أيام كما أخبرتني، وذلك إما لاطمئنانها عليك أو لأنها تريد أن تنساك، وعلى كل حال فإنك قد ارتكبت خطأ عظيمًا بخروجك من المنزل، فقد كان يجب أن تبقى متمارضًا فيه كي يزيد حنوها عليك ويكثر تردادها عليَّ، والآن فماذا تريد أن أعمل؟

فوجم شاروبيم هنيهة ثم افتكر بروكامبول فقال: غدًا سأخبرك.

– بل اكتب لي لأني أخشى أن يزورني الدوق فجأةً ويجدك عندي، وهو شيخ غيور، فتفسد عليَّ أمري.

فوعدها بالكتابة إليها وانصرف إلى منزله، وهو لا يعلم أيفتكر بالمركيزة أم بباكارا، ولكنه جعل يفتكر فلا يجد غير المصاعب والأخطار.

وفي اليوم التالي وردته رسالة روكامبول وهي تتضمن إذن رئيس الجمعية له بالمراهنة على باكارا، فذهب إلى النادي الذي جرى فيه حديث الرهان، وأخبر جميع أصحابه أنه عزم على قبول الرهان، وفيما هو يفتخر سلفًا بالفوز سمع البارون دي مينزف يقول لأحد أصحابه: انصحه كي لا يقبل الرهان.

فالتفت شاروبيم وقال: لماذا؟

فقال له البارون: ذلك لأن الكونت أرتوف قد سبقك إلى باكارا، وهذا كتاب منه يدعوني إلى الغداء معه عندها.

ثم أعطاه الكتاب، فقرأه إلى آخره ورده إليه وهو يبتسم ابتسام الهازئ، فقال له البارون: أَلَا تزال على عزمك؟

– بل زدتُ إصرارًا، وسوف ترى لمَن يكون النصر.

ثم برح النادي وذهب للقاء روكامبول حسب الاتفاق، فأخبره بما دار بينه وبين الأرملة، وكيف أن المركيزة انقطعت عن زيارة الأرملة بحيث لم يَعُدْ أمل بإغوائها إلا إذا تمكَّنَ من الاختلاء بها، فقال له روكامبول: ونحن لم يَعُدْ لنا من الوقت سوى سبعة أيام، فإذا لم نَفُزْ بعدها خسرنا كل شيء. أما هذه الخلوة فسنعدُّها لكَ.

– متى؟

– في هذه الليلة عند الأرملة ملاسيس.

– أيجب أن أكتب إليها؟

– لا حاجة إلى ذلك؛ فإنَّا أعددنا كل شيء، إلا أنه يجب أن تكون في منزلك في الساعة الثامنة.

وقبل أن يفترقا أخبره شاروبيم بما جرى له في النادي بشأن الرهان، وكيف أنه أخبر أصحابه بقبول هذا الرهان، فقال روكامبول في نفسه: إن أندريا يرى هذا الرهان مفيدًا ولكني أراه ضربًا من الجنون. ثم قال لشاروبيم: لقد أحسنتَ في قبولكَ؛ إذ لا بد لك من الفوز.

وفيما هما يتكلمان مرَّتْ بهما مركبة الكونت الروسي وباكارا، فقال له روكامبول: هذه فرصة مناسبة لإخبار الكونت بقبولك، فاذهب إليه لأن مركبته قد وقفت.

وكانت باكارا قد اتفقت مع الكونت على أن تطمِّع شاروبيم بها لأغراض لها ستظهر في سياق الكلام، فلما قابلها شاروبيم هشَّتْ له وأكرمته، فأخبر الكونت أنه قبل برهانه، أما باكارا فإنها لم تُظهِر شيئًا من الاستياء، بل إنها قالت لشاروبيم حين انصرافه: إنكما الآن بمثابة الخصمين إذا تبارزا وجب أن يكونا متكافئين بالسلاح، ولهذا فإني أأذن لك كما أذنت للكونت أن تجيء إلى منزلي متى أردتَ كي لا يمتاز عنك في شيء.

فشكرها شاروبيم، ثم قبَّلَ يدها وانصرف.

أما باكارا فإنها أتمت نزهتها مع الكونت، وعند عودتها طلبت إليه أن يذهب بها إلى منزله، فامتثل دون أن يعرف ما تريد، حتى إذا بلغا إليه جعلت تفحص غرفه ثم صعدت معه إلى السطح، فجعلت تنظر إلى المنازل المجاورة إلى أن وقع نظرها على منزل تحيط به حديقة كبيرة، فسألته: لمَن هذا المنزل؟

– إنه لخصمي شاروبيم.

فأطرقت باكارا هنيهة إطراق المتأمل ثم نظرت إلى الكونت وقالت: إني أسألك أن تتخلى لي عن منزلك هذه الليلة دون أن تسألني عن السبب.

فامتثل الكونت وهو لا يفقه شيئًا من هذه الأسرار.

ولما نزلَا عن السطح دخلت إلى غرفة الكتابة وكتبت إلى خادمتها ما يأتي:

ألبسي الفتاة اليهودية ملابسها في الساعة الثامنة من هذا المساء، واحضري بها إلى منزل الكونت أرتوف في شارع بوبينار حيث أنتظرها فيه.

باكارا

٣٥

يذكر القراء أن روكامبول وعد شاروبيم أن يعدَّ له خلوة مع المركيزة، ففي مساء ذلك اليوم ورد إلى المركيزة كتاب من وكيل منزل صديقتها الأرملة، يخبرها فيه أن سيدته أُصِيبت بمرض فجائي باتت بعده في خطر الموت السريع، وأنه قد تجاسر على أن يكتب إليها لأن سيدته قد فقدت رشدها، ولم تَعُدْ تعي على شيء، فأسرعت المركيزة لزيارة صديقتها فرأتها على ما وصفها الخادم بحالة تقرب من الاحتضار، ولقيت الطبيب بقربها ينظر إليها نظر القانط.

وكان الطيبب ووكيل المنزل والأرملة وخادمتها من صنائع أندريا، وكل واحد يمثِّل الدور الذي أُمِر بتمثيله، غير أن الأرملة أتقنت تمثيل الاحتضار حتى كانت دموع المركيزة تسيل إشفاقًا عليها.

ولفَّقَ لها الطبيب ما شاء عن هذا المرض الفجائي، إلى أن أخبرها بيأسه من شفائها، ولكنه بقي له أمل وحيد بتغيير قد يحدث لها في الليل، فإذا لم يحدث لها شيء من ذلك فلا رجاء بحياتها، غير أنه يجب السهر عليها، فهاجت المروءة بصدر المركيزة وقالت: أنا أسهر على هذه الصديقة، فعسى أن ينقذها الله مما هي فيه. ثم دعت فانتر وهو وكيل المنزل فأعطته رسالة إلى زوجها المركيز أخبرته فيها بمصاب صديقتها، وأنها اضطرت إلى البقاء عندها هذه الليلة وطلبت إليه أن يحضر إليها في الصباح كي يعود بها، فأخذ الرسالة وانصرف ثم خرج في إثره الطبيبُ، بعد أن وصف لها دواء تستعمله متى عاد إليها رشادها.

وجلست المركيزة بإزاء سرير هذه الصديقة الكاذبة تنتابها الهواجس والأفكار، وكانت نوافذ الغرفة مقفلة بأمر الطبيب، فبينما المركيزة تجيل نظرها، رأت نور مصباح يضيء في إحدى غرف المنزل المجاور، فعلمت أن النور في منزل شاروبيم وأنه لا بد أن يكون فيه، فجعل فؤادها يضطرب اضطراب ذلك النور. ثم انطفأ النور وساد السكوت.

وبعد هنيهة سمعت وقع أقدام ووجف فؤادها، وحدَّثَها قلبها أن القادم هو شاروبيم، فما طال انتظارها حتى صدق ظنها، ورأت شاروبيم داخلًا وقبعته بيده، فأظهر الانذهال حين رآها، ثم دنا منها فحيَّاها باحترام وقال: إني عدت الآن إلى منزلي يا سيدتي فأخبروني أن مدام ملاسيس في خطر شديد، فلم يسعني إلا الإسراع للاطمئنان عنها، وكنت أرجو أن أرى خادمتها غير أني رأيت الأبواب مفتوحة، ولم أَرَ أحدًا فتقدَّمْتُ حتى بلغت غرفتها وأنا لا أعلم شيئًا حتى الآن، فاصفرَّ وجه المركيزة، وأوشك لسانها أن ينعقد مما تولاها من الاضطراب، غير أنها تغلَّبَتْ على عواطفها وقالت: أشكرك يا سيدي لاهتمامك بأمر صديقتي، وهي الآن نائمة كما ترى، وأرجو أن يكون نومها دليل خير.

فانحنى شاروبيم شاكرًا ثم قال: إذا كان الأمر كذلك، فَأْذَنِي لي يا سيدتي بالانصراف.

وقد قال هذا القول وهو يؤمل أن تستوقفه، غير أن المركيزة لم تحقِّق أمانيه، بل إنها ردت له التحية بأحسن منها، فمشى شاروبيم مِشية القَلِق المضطرب، حتى إذا وصل إلى الباب خطر له أن يعود، فأقفل الباب وعاد إلى المركيزة وهي تكاد تسقط من الاضطراب، وقال لها: عفوك يا سيدتي، فإني لا أستطيع الذهاب قبل أن أبوح لك بخطأ ارتكبته.

فأجفلت المركيزة وسألته: أي خطأ؟

فقال شاروبيم بصوت تكلَّفَ فيه لهجة الاضطراب: خطأ كذبي عليك الآن، نعم يا سيدتي فلقد كذبت عليك. ثم سكت وجعل ينظر إليها كي يعلم ما يكون من تأثيرها، فرآها قد سقطت على كرسيها كأن رجليها لم تَقْوَيَا على حملها، غير أنها ما لبثت أن استقرت على الكرسي حتى هبت لها قوة من لدن السماء، فتمكَّنَتْ من إخفاء اضطرابها وأجابته بسكينة: لا أعلم يا سيدي أي كذب تعني، فتفضَّلْ بالجلوس وقُلْ ما تشاء؛ فإني مصغية إليك.

فلبث شاروبيم واقفًا وقد تلبَّسَ بلباس الحزن والسويداء، وقال: إني عدت إلى منزلي وعرفت بمرض جارتي الآن كما قلت لكِ، غير أني ما أتيت لمنزلها بغية السؤال عنها، بل لدافع أشد وهو أني علمت يا سيدتي من بوَّاب المنزل أن مدام ملاسيس مريضة وأنك عندها.

فحاولت المركيزة أن تعترضه وتوقفه عند حده، فقال لها شاروبيم بصوت الملتمس: بالله يا سيدتي ألا ما أصغيت لي إلى النهاية، فإني اختلائي بك بعد الآن محال، وإذا لم أخبرك بأحزاني، وأبوح لك بما أقدمت عليه من الجرأة، فلا أستطيعه بعدُ؛ لأني سأودع باريس بل أوروبا بأسرها وداعًا أبديًّا بعد ثمانية أيام.

فوجف فؤاد المركيزة وقالت: أتسافر؟

– نعم، ولا أحمل في قلبي غير حب واحد قد تزول حياتي ولا يزول، وإن تلك السيدة التي أحببتها لا يفصل بيني وبينها غير تلك الهوة العميقة، وهي طهارتها وفضيلتها لأنها غير مطلقة القياد.

ثم دنا خطوة منها فركع أمامها وقال: سيدتي، إني لن أراك بعد الآن، وقد ينقضي العمر ولا يُذكَر اسمي أمامك، غير أنك إذا خطر لك في ساعات خلوتك خاطرُ حزنٍ، فاذكري بين هذه الأحزان ذلك الرجل التعس الجاثي أمامك، لا يسألك غير أن تأذني له بلثم أطراف ثوبك.

وكان شاروبيم يرجو أن تُنهِضه بعد هذا الاعتراف، غير أنها سمعت حديثه إلى النهاية دون أن تخونها عواطفها، وهي تجد منه أشد الوَجْد، غير أن الله الذي يصون الطاهرات أرسل إليها روحه الأمين، فصانها من مواقف الزلل، فنهض شاروبيم وانحنى مسلِّمًا، ثم خرج يمشي بطيئًا إلى أن توارى عنها؛ فتنهَّد تنهُّد مَن سلم من خطر شديد، وسرت لتصاممها عن صوت قلبها وانصرافها إلى سماع صوت الواجب الشريف، ولبثت جديرة بأن تحمل اسم زوجها. أما الأرملة فإنها لم يفتها حرف من ذلك الحديث، ولكنها كانت متظاهرة بالنوم.

وَلْنَعُدِ الآن إلى باكارا؛ فإنها بينما كان شاروبيم يحاول إغواء المركيزة، كانت باكارا في منزل صديقها الكونت الروسي، وقد أرسلت إليه خادمتها الفتاة اليهودية، فلما وصلت استأذنت من الكونت وخلت مع الفتاة فأنامتها النوم المغنطيسي، ثم أدارت وجهها إلى جهة منزل شاروبيم وقالت للنائمة: أريد أن أعرف ما يفعل هذا الرجل الآن.

ثم خرجت بها بعد أن أيقظتها إلى حيث كان ينتظرها الكونت، فقالت له: إني عائدة الآن إلى المنزل لأن شاروبيم سيزورني، فعُدْ إليَّ في الغد.

فانذهل الكونت وقال: كيف عرفتِ أنه يزورك؟

– سيزورني بعد ساعة. ثم قالت له باسمة: لقد عرفت ذلك؛ لأني أشتغل بالكهانة والسحر.

٣٦

ولما وصلت باكارا إلى منزلها وجدت به رسالة من شاروبيم يخبرها فيها أنه سيزورها بعد ساعة ويذكرها بالرهان، فلما اطَّلَعَتْ عليها زادت ثقتها بالتنويم المغنطيسي، وعلمت أن اليهودية تصدق حين تنويمها بأكثر ما تقول، فنوَّمَتْها أيضًا وعلمت منها ما تريد أن تعلمه بشأن زيارة شاروبيم، ثم خرجت إلى قاعة الاستقبال تنتظره فيها إلى أن حضر في الوقت المعين، فمدت له يدها وقالت باسمة: أهلًا بالرجل الهائل.

وكان شاروبيم قد سُرَّ بهذا الاستقبال، فقال لها: إني قد أستحق أن أُلقَّبَ بهذا اللقب غير أني …

فقاطعته باكارا وقالت: دعني أباحثك بأمر خاص قبل أن تخوض في أبحاثك، وأعلم أني قد أفرغت جهدي كي أقنع الكونت أرتوف بالرجوع عن الرهان فلم أنجح.

فقال لها شاروبيم مُنكِرًا عليها هذا الجهد: لماذا أردتِ أن تقنعيه؟

– لأنه قد حمله على محمل الجد.

– وإذا حمله هذا المحمل؟

– إنك لا تعرف هذا الروسي، فإنه إذا كان مُجِدًّا لا تكون عاقبته محمودة.

– إن ذلك سِيَّان عندي.

– لا تقل سيان فلقد كنتُ جميلةً ولا أزال، وقد اشتهرت بعدم الاكتراث؛ فأنت الآن تخاطِر لإغواء امرأة بحبك، وهي امرأة لا قلب لها كما يقولون، فإذا كنت حقيقة كما يقولون فلا بد لك أن تخسر الرهان، وبالتالي فلا بد للكونت من قتلك.

– إنه يقتلني ولا حرج عليه، فإن ذلك لا ريب فيه، إنه حقه.

– ولكن إذا كنتَ الفائز؟ ثم حدَّقَتْ به تحديق الساخر، فلم يسعه إلا الإطراق بنظره استحياءً إلى الأرض، فأتمت حديثها وهي تقول: ألستَ يا سيدي قد أردتَ أن تراهن على حبي بالمال؟

وكأن هذا الكلام قد انقضَّ على شاروبيم انقضاض الصاعقة، فأجفل منه إجفالًا شديدًا وعلم أنه ارتكب بهذا الرهان ما لا يرتكبه الأشراف.

فعادت باكارا إلى هزئها السابق، ثم قالت: إنك قد جريتَ في هذا الرهان شوطًا بعيدًا، وسلكتَ مسلكًا لا يسلكه العُقَّال؛ ألَمْ يقل لك الناس أني فتاة دون قلب؟

– نعم، ولكن مَن كان مثلي لا يصدق هذه الأقوال.

– ربما تكون قد أصبتَ، غير أنه كان يجب عليكَ في كل حال أن تستشيرني قبل أن تعقد هذا الرهان الشائن، غير أنك قلت في نفسك إني قد اشتهرتُ بجمالي وعرفت طرق القلوب من النساء فلا بد لي من الفوز، ثم جعلت تفتخر برهانك في النوادي، وأنت لو أجريت فيه على مناهج العقل لأمكن لك أن تعرف طريق قلبي. إنك … ثم توقَّفَتْ عن الكلام تنظر إليه.

– إذن أنتِ تعتبرين أنني سأكون الخاسر في هذا الرهان؟

– هذا ما أراه إلا إذا … ثم قطعت كلامها أيضًا لتسمع ما يقول.

– أرى أنكِ تقترحين شروطًا، اقترحي ما تشائين؟

– أريد أن أقتنع بها قبل كل شيء أنك لا تحبني وتريد إغوائي من أجل كسب المال فقط.

– ألعلك تشكِّين بهذا؟ وما حاجتي بالمال وأنت أعظم جواهر الأرض؟

– إذا كان ذلك فارجع إذن عن هذا الرهان إذا أردتَ أن أحبك.

– إني لا أريد غير هذا الحب. ثم عضَّ شفته من الغيظ وهو يخشى أن تكون قد علمت ما يجول بنفسه.

– إذن أصغِ لي وبعد ذلك أنت مخيَّر بين أن تزورني أم تنقطع عن زيارتي، أما الذي أقترحه عليك فهو أن تكتب الآن إلى الكونت تخبره برجوعك عن الرهان.

– وإذا كتبتُ هذا الكتاب؟

– إني أغفر لك.

فأطرق شاروبيم هنيهة إطراق المفكِّر المهموم، ثم استقر رأيه على الخضوع فقال: ليكن ما تشائين.

– إذن، قُمْ إلى هذه المنضدة واكتب ما أُملِيه عليك.

فقام شاروبيم وهو يضطرب وأخذ القلم بيده، فأملت عليه ما يلي:

سيدي الكونت

أرجو أن تتناسى ما أخطأت به إليك، وأن تعتبر رهاننا لغوًا غير معمول به.

فتوقَّفَ شاروبيم عن إتمام الكتابة وقال: إن هذا اعتذار محض لا أكتبه لأني لم أخطئ.

– بل تكتب كلَّ ما أمليه عليك متى علمتَ أن خضوعكَ يرضيني، وأنه لا يكون وراءه غير الحب. فامتثل شاروبيم مُكرَهًا مضطرًّا، وأتم الرسالة على مثال ما تقدَّم، حتى إذا فرغ منها أخذتها منه وهي تقول باسمة: بقي عليك أن تقبِّل يدي وتأخذ قبعتك وتنصرف بسلام.

فأجفل شاروبيم وقال: إلى أين أذهب؟

– إن الليل قد انتصف، فإذا أردتَ أن تحب فابدأ بالخضوع.

– متى أعود؟

– بعد غدٍ.

فقبَّلَ يدها وانصرف وهو يفكِّر بالكتاب الذي كتبه إلى الكونت، وخسارة ما يرجو أن يكسبه من المال، غير أنه خطر له خاطر أخرجه من هذا الموقف، فانطلق مسرعًا إلى النادي حيث رأى الكونت فيه، فخلا به وقال له: خرجتُ الآن من عند باكارا، فأكرهتني بدلالها على أن أكتب إليكَ كتابًا أنقض فيه الرهان لأنها لا تحب أن يُراهَن عليها.

– لقد أصابتْ.

– فكتبتُ إليك الكتاب مُكرَهًا، ولكني أسرعتُ إليك كي أنقض بكلامي ذلك الكتاب، فيبقى الرهان معقودًا بيننا.

– ليكن ما تريد.

– إذن أرجوك أن تحسب الكتاب لغوًا متى وصل إليك على شرط واحد، وهو أن تقسم لي بشرفك أن لا تخبر باكارا بحرف مما دار بيننا، كي لا تعلم أمر عودنا إلى الرهان. فأقسم له الكونت على الكتمان ثم افترقا.

وفي اليوم التالي ذهب الكونت الروسي إلى باكارا فاستقبلته وقالت له: إني سأخبرك بأمر تظن أنه لا يعلمه سواكَ.

فقال لها الكونت: أي أمر تعنين؟

– ما قاله شاروبيم لكَ أمسِ عند منتصف الليل.

فذهل الكونت وقال: كيف عرفتِ ذلك؟

– بل عرفت ما دار بيكما من الحديث، ألم يَقُلْ لكَ أنه لا يرجع عن رهان وينقض بالقول ما كتبه بالقلم؟

فذكر الكونت اليمين التي حلفها وقال: كلا، إنه لم يقل لي شيئًا من هذا.

فأجابته باكارا بلهجة الحنو: إنك شريف وكل شريف يبر بيمينه، غير أني قلت لك أني ساحرة أخرق حجب الغيب، وقد علمت جميع ما قاله لك شاروبيم، ولكن هذا الرجل لا يعلم أنه حكم على نفسه بالموت، ثم سكنت هنيهة وقالت: إن هذا الرجل لو لم يكن غير نذل خسيس يفتخر بإغواء النساء لَكنتُ أكتفي بطرده من هذا المنزل، غير أن شره لا يقتصر عند هذا الحد، فهو رجل مجرم سفَّاك، رضي أن يكون آلة صماء بيد رجل داهية لا يعرف اسمه، وهو يشاركه بجريمة هائلة يضيع عندها كل رحمة وإشفاق.

فحاول الكونت أن يسألها، غير أنها قاطعته وقالت: لا تَسَلْني شيئًا؛ فإن ما أقوله لك سر خفي لا يسعني إظهاره الآن، ولكني أريد أن ألقي عليك هذا السؤال، وهو أني إذا كشفت لك يومًا بالبرهان الجلي مكائد هذا القاتل السفَّاك، ثم دفعته إليك وقلتُ لكَ أنه قد خسر الرهان فحقَّ لك قتله، أتقتله؟

– أقسم لكِ أني أقتله دون شك؛ فإنه يستحق الموت مرتين.

٣٧

تركنا الفيروزة تعبث بفرناند وليون كما يشاء فيليام، وهي قد غادرت زوج سريز هائمًا مفتونًا لا يستقر على حال من يأسه، ويبحث عنها في كل مكان ولا يجدها، وتركت فرناند متولهًا بحبها، وهو يحسبها هائمة وأنها من فضليات النساء لإيثارها الفقر على الغنى، ورفضها ما كان لها من النعمة، غير أن فرناند لم يكن يطيق أن يراها تقيم في غرفة حقيرة، فما زال بها حتى أقنعها على سكنى القصور، فاشترى لها قصرًا بديعًا وفرشه بأجمل الأثاث، وأحضر لها المركبات وأصائل الجياد بحيث تكلَّف عليها نصف مليون أول دفعة من ثمن هذا الحب الشائن.

غير أن أندريا لم يكن غرضه الاقتصار على كسب مال فرناند، بل إنه كان يريد سلب ماله وشرفه وحياته، وقد بدأ بسلب المال والشرف، فبقي عليه سلب الحياة. وكان قد هاج مكامن الغرام في صدر ليون وفرناند وجعلهما يحبان امرأة واحدة ابتغاءَ إثارة الغيرة في قلب ليون، وحمله على قتل مزاحمه، ولهذا دفع الفيروزة إلى مقاطعة ليون والاحتجاب عنه، حتى أوشك أن يجن من يأسه، وجعل يبحث عنها كل يوم في جميع أنحاء باريس وهو لا يهتدي إليها لفرط مبالغتها في الاحتجاب، فلما رأى أندريا أن وقت الانتقام قد دنا، أمرها أن تمر بمعمل هذا الرجل كي يراها، ثم علَّمَها ماذا تصنع حين اجتماعه بها. فلبست أفخر ما لديها من الثياب، وركبت خير المركبات التي اشتراها لها فرناند، وأمرت السائق أن يسير الهوينا في الشارع الذي يوجد فيه معمل ليون، فامتثل السائق، ولما مرت المركبة بباب المعمل نظرت ليون جالسًا على كرسي، مطرقًا بنظره إلى الأرض، فمرت دون أن ينتبه إليها فاستمرت في مسيرها، ثم عادت فألقته واقفًا على الباب ينظر إلى المارين نظرات القَلِق المضطرب.

وقد استلفت نظره صوت المركبة، فنظر إليها وهي لا تزال بعيدة عنه عدة أمتار، فاستوقف بصرَه حُسْنُ رونقها، ولباس سائقها وجمال جيادها، فأطال النظر بها حتى مرَّتْ به، ورأى الفيروزة تنظر إليه دون اكتراث كأنها ما عرفته من قبلُ، ثم ذكر أنها كانت عاملة فقيرة ورأى ظواهر نعمتها فجُنَّ من الغيرة، وعلم أنها لم تصده إلا لانشغالها بسواه من الأغنياء، فأسرع يعدو وراء مركبتها، حتى عثر بمركبة مُعدَّة للأجرة، فركب فيها ووعد السائق بجزاء حسن إذا أدرك مركبة الفيروزة.

فاندفعت المركبة في إثرها حتى أدركتها حين دخلت إلى حديقة القصر، فاستوقفها ليون وأطلق سراحها، ثم ذهب إلى القصر الذي أقفل بابه بعد دخول الفيروزة، فطرقه بكلتا يديه وهو يود لو تمكَّنَ من كسره، فخرج إليه البوَّاب وقال له: ماذا تريد؟

– أريد أن أرى سيدتك في الحال.

– لا بأس في ذلك، غير أن سيدتي لا تستقبل إلا مَن تعرفه.

فذكر له ليون اسمه، فاستوقفه البوَّاب وذهب إلى الفيروزة يخبرها بأمره، ثم عاد إليه فقال: إن سيدتي لا تعرفك، ولكنها تستقبلك لتعلم ما تريد.

وطاش رأس ليون وقال في نفسه: إما أن أكون منخدعًا وإما أن تكون قد أنكرتني. ولكنه تبع الخادم حتى أوصله إلى غرفة الاستقبال وتركه فيها وانصرف، فجلس ليون يفكِّر تفكير المهموم، ثم نظر إلى ما يحيط به من مظاهر الثروة، وذكر أن الفتاة قالت حين عرض عليها اسمه إنها لا تعرفه، فخشي أن يكون منخدعًا وأن تكون تلك الفتاة قد تمثَّلَتْ له بالتي يحبها، وحاول أن يخرج من القاعة ويفر، إلا أنه ما لبث أن نهض عن كرسيه حتى فُتِح الباب ودخلت الفيروزة، فصاح صيحة الفرح المستبشر قائلًا: هي … هي بعينها. ثم أسرع إليها.

ولكنها تراجعت عنه ونظرت إليه نظرة إنكار وهي تقول: أأنت ليون رولاند الذي طلب أن يراني؟

فانقضَّ هذا الكلام عليه انقضاض الصاعقة، وسقط على كرسي وقد عُقد لسانه عن الكلام.

وقالت له: يظهر أنك قد غلطت بي يا سيدي!

– كلا، يستحيل أن يخلق الله فتاتين تتشابها إلى هذا الحد، وأنتِ أوجيني ابنة غارين التي طالما أظهرَتْ لي حبَّها وأظهرتُ لها حبي.

فأظهرت الفيروزة عدم الاكتراث ثم قالت: أعيد عليك القول يا سيدي، إنك مخطئ فإني لا أُدعَى الآنسة أوجيني، بل أُدعَى مدام دولار.

فجثا ليون على ركبتيه وقال لها: بالله كفِّي، فإني أبحث عنك منذ ثمانية أيام، ولا تخدعيني إلى هذا الحد. إني لا أعلم ما أصبحتِ عليه الآن، ولكني أعلم أنك ابنة غارين التي كان أبوها عاملًا عندي، وأني أحببتك ولا أزال مفتونًا بكِ بعد احتجابك، وجعلت أعدو في إثر مركبته كالمجانين حتى عرفتُ منزلك ووصلت إليك، فلا تقطعي قلبي بهذا الإنكار.

وكانت الفيروزة تصغي إليه صامتة، حتى إذا فرغ من حديثه قالت له بإشفاق: انظر إليَّ جيدًا تعلم أنك مخطئ.

– كلا، إن الله لا يخلق مثلك؛ لأنك تكفيه لفتنة عباده.

فهزَّتِ الفيروزة رأسها وقالت: قُلْ لي شيئًا عن تلك الفتاة التي تحبها.

– إنها ابنة أحد عمالي، وهي فتاة عاملة.

– إذا كان ذلك فانظر بما يحيط بك من النعمة، أيمكن أن يكون للعاملات مثل هذا الرِّيَاش؟

فأطرق ليون برأسه لأن البرهان قد غلبه، فلم يعلم ماذا يقول، وأنَّ أنينَ المتوجِّع، فقالت له: خفض عليك، وأصغِ إليَّ فإني سأزيل هذا الاعتقاد الراسخ في ذهنك، وَلْنفرض الآن أني أنا هي تلك الفتاة العاملة التي تحبها والتي احتجبَتْ عنك كما تقول.

فصاح ليون: نعم، أنتِ هي.

فأجابته باسمة: لنفرض أني أنا تلك الفتاة وأني كنت عاملة فقيرة حين كنت تحبني، فلا بد لي إذن أن أكون من بنات الجن، وإلا فكيف تتبدل حالي من الفقر المدقع إلى أقصى درجات الغنى في مدة ثمانية أيام. وإذا كنتَ لا تزال بعد هذا على اعتقادك فَلْندخل في باب الافتراض، فإنه باب واسع، وَلْنفرض أولًا أن والدي غارين كما تقول كان له أخ، وأن هذا الأخ قد سافر إلى البلاد الأمريكية ثم عاد في هذه الأيام وهو من أصحاب الملايين، فأقام ابنة أخيه في هذا القصر.

فهزَّ ليون رأسه وقال: هذا مستحيل.

– إذن لنفرض افتراضًا ثانيًا، وهو أن هذه الفتاة العاملة حين احتجبت عنك لقيت غنيًّا هنديًّا أو أميرًا روسيًّا، فأحبها وخرجت منك إليه.

فعضت الغيرة قلب هذا المسكين، ووثب عن كرسيه يصيح: هو ذاك، أرأيتِ الآن كيف أني لم أخطئ؟

– لا تَنْسَ يا سيدي أني أفترض افتراضًا، ثم إنه إذا كانت ثروتي قد تغيَّرَتْ بثمانية أيام، فإن آثار العمل لا تزول من يدي في هذا الزمان الوجيز، انظر إلى يدي أَتَرَى عليها آثارَ الاشتغال بالصناعة؟

وأطرق بنظره إلى الأرض دون أن يجيب، فقالت الفيروزة: لنفترض أيضًا فرضًا ثالثًا، وهو أن ابنة غارين لم تكن ابنة غارين، ولم تكن عاملة حين عرفتها، بل كانت على ما أنا عليه الآن.

– كلا، إن هذا محال.

– إذن، اختر ما تشاء بين أن أكون ابنة غارين العاملة، أو مدام دلاكور التي تراها الآن.

فغطَّى ليون عينيه بيديه وقال: رباه! أحقيقة ما أراه أو حلم من الأحلام؟

– اسمع بقية الافتراض، إن هذه الفتاة كانت من أشد بنات الهوى دلالًا، ولكنها كانت تحب الحوادث والأسرار والغرائب، وقد اتفق أنها رأتك يومًا فشغفت بك؛ وذلك لأن الحب كثير العجائب، فقد يحب المرء بنظرة واحدة، فتَزَيَّتْ بزي عاملة فقيرة حتى يحبها هذا العامل الفقير؛ لأنها لو بدت له بمظاهر ترفها لأحجم عنها، ثم لما عاشرته علمت أنه رجل محتهد شريف وأن له امرأةً تحبه وطفلًا صغيرًا.

فصرخ ليون بسرور كاد يقتله: إذن أنتِ هي، ولا سبيل بعدُ للإنكار.

فابتسمت الفيروزة وأجابته: ربما.

فحاول ليون أن يركع أيضًا أمامها، ولكنها نظرت إليه نظرة اضطراب لها، ولبث في مكانه فأتمت حديثها تقول: إن ما تريده المرأة يريده الله، وهو مثل صادق، ولهذا فإن تلك الفتاة تزَيَّتْ بزي العاملة كي تحملك على حبها، ففازت بك وبلغت منك ما تريد، إلا أنه لنكد الناس أن لكل شيء نهاية، وعلى هذا فإن الحب مهما اشتد فإنه يزول عند حدوث طارىء، وقد كان هذا الطارئ أن تلك الفتاة ذكرت أنها تسيء إلى رجل شريف، وأنها من بنات الهوى الشهيرات، وأنها تُلقَّب بالفيروزة، ولكنها كانت تحب هذا العامل حبًّا شديدًا، فآثرت أن تعيش تعسة منكودة بالبعد عنه، وقاطعته كي لا تسيء إليه بحمله على الافتتان بها، لأنها تحبه حبًّا أكيدًا، ولكنه متزوج وله طفل صغير أولى بحبه منها، فإذا جفته فقد ينساها بتقادم الأيام، دون أن تغادر في فؤاده أثرًا من الاحتقار.

وكانت تقول هذا القول وهي تتظاهر بالتأثر الشديد، حتى إن ليون نظر إليها فرأى دمعة قد سقطت على وجهها، ولم يستطع أن يضبط نفسه بل أكَبَّ عليها يُقبِّلها، وهو يقول باكيًا: أنتِ هي … لا تنكري بالله وكفاني ما صبرتُ.

فجعلت تبكي لبكائه وتقول: أنا، أجل أنا هي … أنا التي أحبتك وخدعتك، ولا تريد أن تراك … اذهب عني فقد عرفت الآن مَن أنا، وعرفت أنك لا تستطيع أن تحبني.

– كيف أستطيع فراقك؟

– كيف تحبني وأنا امرأة ساقطة، أؤثر أن يقتلني الغرام على أن تحتقرني، فانساني ولا تفتكر بغير امرأتك وولدك، فإني مسافرة إلى البلاد الأمريكية.

– إني أسافر معكِ، ولو ذهبتِ إلى أقصى المعمورة.

– كلا، بل أسافر وحدي لأنك مقيَّد بحب سواي.

فركع ليون أمامها وقال: إني لا أحبك حبًّا بل أعبدك عبادة، وسأكون لك أتبع من ظلك وأطوع من بنانك.

– لا ريب عندي في حبك، ولكني أخشى أن تحتقرني لأني من بنات الهوى.

– أقسم لكِ بكل عزيز في الأرض ومقدَّس في السماء أني أنسى الماضي وأحترمك أجلَّ احترام.

– إذن فَلْنهرب وَلْنَدَعْ هذه العاصمة السوداء التي لا يلقي فيها المرء سوى الخجل والذنوب، إلى بلاد نجني فيها ثمرات الحب دون رقيب.

فجُنَّ هذا المنكود من فرحه وقال: لنسافر حيث تشائين.

ولكنه ما لبث أن تفوَّه بهذا القول حتى مرت بخاطره امرأته سريز، وتمثَّلت له حاملة على ذراعها طفله الصغير وهو يبتسم له ابتسام الملائكة الأطهار، فتنبَّهَتْ منه عواطف الأب وأجفل وهو يقول: ولدي!

فتراجعت الفيروزة إلى الوراء وقد اصفرَّ وجهها وقالت: أرأيت كيف أنه يجب أن نفترق فراقًا أبديًّا لأن لكَ امرأة وولدًا؟

ثم تركته مسرعة، فبرحت القاعة وأقفلت بابها، فبقي المسكين وحده وهو لا يعلم ما يعمل. ولكنه لم يَطُلِ انتظاره حتى فُتِح الباب ودخل خادم يحمل إليه رسالة، ففتحها وتلا فيها ما يأتي:

وإن لك امرأة وولدًا، سوى أنك إذا كنتَ تحبني كما أحبك، فلا ينبغي أن تحب امرأتك، بل خُذْ ولدَك وَلْنهرب به، فإني سأحبه كما تحبه أمه، وسأكون له خير أم. فاخْتَرْ بين أن تدعني أسافر وحدي، فلا تراني إلى الأبد، وبين أن تسافر معي، فإذا شئتَ السفر، احضر بولدك غدًا، بل هذه الليلة إذا أردت، ولا تكتب لي لأني لا أرجع عن هذا العزم.

فلما أتم ليون قراءة الرسالة وضعها في جيبه، وخرج من هذا المنزل الجهنمي بحالة تحمل على الإشفاق.

٣٨

وكانت الرسالة من إملاء أندريا، وذلك أنه كان مقيمًا في غرفة مجاورة للقاعة يسمع جميع الحديث، ولما غادرت الفيروزة ليون وحده دخلت إلى الغرفة المقيم فيها أندريا، فأمرها أن تكتب الرسالة المتقدمة. ولما ذهب ليون أملى عليها رسالة لفرناند تخبره فيها أنها ستغيب عنه يومين بشأن خاص، ثم قال لها: إنك تجدين في صباح الغد مركبة على باب المنزل، وسائقها من أعواني فاعتمدي عليه، وإذا حضر ليون مع ولده ولا بد له أن يحضر، اركبي معه هذه المركبة ودعي السائق يسير حيث يشاء، وإذا سألك ليون أين تذهبين فقولي سوف تعرف متى بلغنا المحطة الأولى، وهناك يخبرك السائق بما يجب أن تفعليه.

– سأمتثل لجميع ما تريد دون أن أعلم شيئًا من هذه الأسرار التي تحيط بي، فإني أغوي فرناند لابتزاز أمواله، وأغوي هذا العامل المسكين لأنك تريد أن أغويه، ولكن ما عسى أن يكون بعد فراره من امرأته؟ وما عساي أصنع بهذا الطفل؟

– أما المرأة فإنها تدبِّر نفسها كما تشاء، وأما الطفل فإني سأضعه في أحد ملاجئ اللقطاء.

ووجمت الفيروزة، وهي لا تعلم ما الذي يدعوه إلى هذا الانتقام، أما أندريا فإنه ذهب من عندها إلى الكونت مايلي حفيد الدوق الذي عاهده على إغواء هرمين زوجة فرناند، فوجده نادمًا على ما فعل، وقد سرت إليه روح شريفة أرجعته عمَّا كان عازمًا عليه من الإغواء السافل. ورجع أندريا من عنده وهو موجس شرًّا من نقض الكونت لعهده وإفلات هرمين من انتقامه، وقد تشاءَمَ بهذا النقض وعدَّه دليلًا على بدء حبوط أمانيه.

أما ليون رولاند فإنه أخذ الرسالة وانطلق بها إلى معمله، وأخذ يقرؤها ويُعِيد قراءتها مرات كثيرة فتتنازعه العوامل المتناقضة، وبينما هو يميل إلى اختطاف ابنه واللحاق بالفيروزة، تتمثل له امرأته سريز صائحة نادبة فراق زوجها وولدها، فيجفل قلبه من الفيروزة ويذكر واجباته الزوجية، ثم يذكر الفيروزة ويتمثل له جمالها النادر وألفاظها الرخيمة، ويجن غرامًا بها وغيرةً عليها، وينسى كل واجب لدى هذا الغرام. واستمر على هذه الهواجس ساعات طويلة يمشي في معمله ذهابًا وإيابًا وهو ضائع الرشد مبلبل الحواس، حتى تغلبت عليه عواطف الأبوة والمروءة، فدعك الرسالة بيديه وألقاها مغضبًا في أرض المعمل، ثم برحه دون أن يقفل بابه وصعد منه إلى منزله.

وكانت الساعة قد بلغت الثانية بعد منتصف الليل، وجميع مَن في المنزل نيام، ولما خلا بغرفته هاله ما يحيط به من السكوت، وعادت إليه هواجسه السابقة، وذكر الفيروزة وكيف أنها ستسافر ولا يعود يراها، فهجات به مكامن ذلك الغرام الفاسد، وعزم عزمًا أكيدًا على اختطاف ابنه غير مكترث بتلك الوالدة المسكينة، وقام إلى غرفتها يمشي على رءوس أصابعه، ودنا من سرير الطفل الذي كان بجانب سريرها، وأخذه من السرير واحتمله بين يديه، ثم حاول الخروج به.

وكأنَّ الله أبى أن يلقي عليه تبعة هذه الجريمة، فإنه عثر وهو يمشي بكرسي فسقط الكرسي، واستيقظت سريز لصوته ورأت ولدها بين يديه وهو يحاول الخروج به، فصاحت صيحة أمٍّ توجس خطرًا على ولدها.

أما ليون فإنه أرجع الطفل إلى مهده وخرج من المنزل دون أن يصغي لنداء امرأته قائلًا: احتقريني ما شاء الاحتقار، فما أنا إلا نذل أثيم.

ثم برح المنزل هائمًا على وجهه لا يعرف أين يستقر حتى قاده يأسه إلى نهر السين، وذكر ولده ثم ذكر الفيروزة، وعزم أن يلقي بنفسه في مياه النهر، ولكنه شعر بيد قوية قبضت عليه وأرجعته إلى الوراء، والتفت فرأى رجلًا شديدًا عرف أنه خادم الفيروزة وانتهره وقال له: ما تريد مني؟

– أريد أن أمنعك عن الانتحار.

– لماذا؟

– لأن سيدتي تموت لموتك وهي تنتظرك الآن، ولا يمنعها عن السفر إلا حضورك، فاذهب معي.

وكأن ذكرى الفيروزة هاجت فيه حب الحياة وردت إليه بعض صوابه، وذكر ما سيلقاه بقربها من النعيم، وانطلق يجري مع الخادم مطرق الرأس لا يفتكر إلا بما سيلقاه.

أما سريز فإنها لما سمعت من زوجها ما سمعت، وأنه قد خرج من المنزل خروج المجانين، خرجت في إثره راجية أن تدركه على باب الطريق، ونزلت إلى السلم وعندما بلغت إلى منتصفه رأت باب المعمل مفتوحًا، وقد كان نسي ليون أن يقفله لذهوله، فحسبت أنه فيه ودخلت إليه تبحث عنه، ولم تجده ولكنها لم تكن تشكك أنه فيه، وأوقدت شمعة وجعلت تطوف في الغرفة مفتشة حتى بلغت إلى غرفته الخصوصية ولم تجد أحدًا. وبينما هي تجيل نظرها إذ رأت ورقةً مدعوكة وملقاة على الأرض، وهي الرسالة التي أرسلتها الفيروزة إلى ليون تغريه بها على اختطاف ابنه والفرار معها. وأخذت سريز الرسالة وما لبثت أن قرأتها وعرفت ما فيها حتى عرفت قصد زوجها من حمل الطفل، وصاحت صيحة منكرة وسقطت مغميًّا عليها.

وعند الصباح أقبل العمال يشتغلون ورأوا امرأة سيدهم لا تزال مغميًّا عليها، وعالجوها حتى صحت من إغمائها وحملوها إلى المنزل. وقد اتفق أن باكارا جاءت لزيارتها في تلك الساعة لانشغال بالها عليها، ولما علمت ما كان من أمر زوجها وقرأت رسالة الفيروزة وعلمت أن ليون قد رحل، هاجت هياج اللبوة فقدت أشبالها، وقالت: إن الفيروزة لا تموت إلا من يدي.

٣٩

وَلْنَعُدِ الآن إلى السير فيليام أو السير أرثير أو أندريا، فإن هذا الرجل الهائل عندما برح منزل الكونت مايلي كما قدمناه، ذهب توًّا إلى روكامبول الذي كان ينتظره في منزله لتلقِّي أوامره، وأخبره روكامبول بجميع ما كان بين شاروبيم والمركيزة، وأظهر له ريبه من الفوز لما لقيه من عدم اكتراث المركيزة. فهزأ به أندريا وقال: إنها إذا كانت غير مكترثة به كما توهمت، لما سمعت جميع حديثه ولأوقفته عند أول كلمة قالها، ولكنك لا تزال غِرًّا جاهلًا حديث العهد بهذه المهنة.

– كيف نرجو الفوز ولم يَعُدْ لنا من الوقت سوى ستة أيام؛ لأن الهندية شربت السم أمس وإذا ماتت قبل فوزنا بإغواء المركيزة فكيف تظفر بالملايين، وإذا كانت لم تظهر إشارة حب لشاروبيم إلى الآن، فكيف نرجو أن نغويها، وفوق ذلك أن شاروبيم أخبرها أنه راحل عن هذه الديار، فكيف يتيسر له لقاؤها بعد هذا القول؟

– أما إغواء المركيزة فلا نريد به سوى الظاهر، وسيان تهتكت بحبه أم اقتصرت على ما هي عليه الآن من الرضى عنه والرأفة به، وإن الغرض الذي نسعى إليه وهو أن يباغت المركيز شاروبيم والمركيزة في غرفة واحدة، وأما اجتماع شاروبيم بها فهو أمر ميسور لديَّ.

– أين يجتمعان؟

– في منزل الأرملة وقد أوقفت المركيز على ما ينبغي، بحيث يكفيه أن يرى امرأته مع شاروبيم لإثبات خيانتها. فاطمئن واستعِدَّ للسفر.

ثم أخبره بجميع ما كان من أمر ليون، وأمره أن يتزَيَّا بزي سائق مركبة كي يسوق المركبة التي تسافر بليون والفيروزة، وأخبره بجميع ما ينبغي عليه أن يفعله.

وبعد ساعتين كانت المركبة واقفة على باب منزل الفيروزة وروكامبول ينتظر فيها بزي سائق، ثم أقبل مع الخادم كما تقدَّم، ولما رأته الفيروزة أسرعت إليه وتأبَّطَتْ ذراعه وسارت به إلى المركبة واندفع معها يقدِّم رجلًا ويؤخِّر أخرى، وكأنها خشيت منه عاقبة هذا التردد فجعلت تغازله وتكشف له كوامن حبها ما أنساه امرأته وولده، فصعد معها إلى المركبة وسارت بهما تنهب الأرض حتى خرجت من باريس واجتازت مسافة مسير ساعة في طريق نورمانديا.

إلا أن ليون ما لبث أن عادت إليه هواجسه، وذكر امرأته وولده، وعلم أنه يأتي أمرًا جنونيًّا لا يُقدِم عليه العاقلون، ثم تمثَّلَ له ولده وهو يناديه ويتبسم له ابتسام الملائكة فاتحًا ذراعيه لضمه، فثارت في فؤاده عواطف الأب وأفلت يده من يد الفيروزة وصاح بغتة بالسائق يقول: قِفْ فلا طاقة لي بارتكاب هذه الخيانة.

فخطر للفيروزة خاطر سريع، وقالت له: ليكن ما تشاء، أتريد العودة إلى باريس؟

– أجل.

– إذن، نفترق إلى الأبد.

واختلج ليون وجعل الواجب الشريف والحب الفاسد يتجاذبان فؤاده الضعيف، ولكن الواجب قد انتصر، فصاح أيضًا بالسائق وقال: قِفْ، فإني لا أريد أن أفارق ولدي.

فنادت الفيروزة السائق وأمرته أن يقف ثم قالت لليون: يعز عليَّ أن أفارقك، إلا أني لا أستطيع أن أدعك في هذه البراري المقفرة، فإننا نبعد خمس مراحل عن باريس.

– لا بأس، إني أعود ماشيًا على الأقدام.

– كلا، بل ترجع بك المركبة.

ثم أمرت السائق أن يرجع بهما إلى باريس.

وكان روكامبول قد سمع جميع الحديث فقال لها: إن الخيل قد تعبت يا سيدتي، ولا طاقة لها بالرجوع وقد دنونا من محطة قريبة، فإذا شئتِ وصلنا إليها واستبدلنا الجياد ثم نعود.

– إذن، فأسرع إلى هذه المحطة.

فدفع روكامبول الجياد وليون مطرق بعينيه إلى الأرض لا يجسر أن ينظر بهما إلى الفيروزة، حتى وقفت المركبة أمام فندق منفرد، فنادى روكامبول أصحابه وللحال فُتِح الباب وخرج منه فانتير وهو الخادم الذي وضعه أندريا في منزل الأرملة مالاسيس، وقد تزَيَّا بزي أصحاب الفنادق، فقال له روكامبول: أسرع وأعِدَّ لي جوادين قويين أعود بهما إلى باريس.

ثم أومأ إليه بخفة، فعلم فانتير المراد، وقال: لا سبيل للحصول عليهما قبل ساعتين.

وكان ليون والفيروزة يسمعان الحديث، فتظاهرت الفيروزة بالسرور وطوَّقَتْ ليون بذراعيها وهي تقول: إني سأتزود منك ساعتين.

فأطرق ليون، وقد أخذت تلك العواطف الفاسدة تتغلب على فؤاده، فمسكت الفيروزة بيده وصعدت به إلى الدور الأول يتقدمهما صاحب الفندق وهو خادم الأرملة، وأعَدَّ لهما غرفة خاصة وأمرته الفيروزة أن يحضر لهما ما يأكلان ويشربان، فخرج مُسرِعًا وعاد يحمل طعامًا باردًا وزجاجة مختومة من الخمر، فوضع الطعام على مائدة وأخذ يفض ختم الزجاجة، وهو يشير بطرف خفي إلى الفيروزة، فعلمت أن في الزجاجة مخدِّرًا أخبرها عنه روكامبول.

وهذا المخدر الغريب في بابه، أحضره معه أندريا حين كان في البلاد الأميركية، وهو مسحوق نبات يُمزَج بالشراب فلا يغيِّر طعمه ولونه ورائحته، فإذا شربه المرء تخدَّرَتْ حواسه جميعها ما عدا حاسة السمع، بحيث يسمع جميع ما يقال أمامه دون أن يرى أو يستطيع حراكًا مدة يوم كامل.

فلما أتَمَّ الخادم فتح الزجاجة، وضعها على المائدة وخرج، فأخذتها الفيروزة وصبَّتْ منها في كأسين وجعلت تنادم ليون وتشاغله عن امرأته وولده بأطيب الحديث، وتذكر له ما ستلقاه من لواعج الوجد بعد فراقه، ثم سقته ما بالكأس فشربه جرعة واحدة، وأدنت كأسها من فمها ثم أرجعته نافرة منه ورمته مدعية أنها وجدت فيه ذبابة، واستدعت صاحب الفندق فأمرته أن يحضر لهما زجاجة غيرها، فلما أحضرها جعلت تشاركه بشربها لخلوها من المخدرات.

وما مضى على ذلك هنيهة حتى أحس ليون بفتور في جميع أعضائه، ثم تثاقلت عيناه فجعل يتثاءب تثاؤبًا شديدًا، وهي تتظاهر بالانذهال من نعاسه حتى أطبق جفنيه وسقط لا يعي، فأسرعت إلى نداء صاحب الفندق وأحد خدَّامه، وقالت لهما وهي تعلم تأثير المخدر وأنه يسمع جميع ما تقول: احملا الزوج العزيز إلى سرير، واحذرا من أن تزعجاه فإنه منذ يومين لم يَنَمْ.

فحملاه ووضعاه على السرير، فأخذت كرسيًّا وجلست بإزائه وجعلت تناغيه بألطف الأصوات وتودعه بأرق العبارات، كأنها تحاول أن تسافر وتتركه نائمًا كي تهرب، فكان يسمع كل ما تقول لكنه لا يستطيع أن يبدي حركةً لتأثير هذا المخدر القوي.

وفيما هما على ذلك إذ سمع من خارج الغرفة صوت رجل شديد يسأل صاحب الفندق بلهجة السيادة، فيقول: ألم تمر بك مركبات في هذه الليلة؟

– نعم، لقد مرت بنا مركبتان إحداهما لرجل إنكليزي، وقد استراح هنيهة وسافر، والثانية لرجل وسيدة وهما بائتان عندنا في هذه الليلة.

فصاح هذا الرجل صيحة فرح، ثم استتلاها بالشتائم والسباب وقال: إن جهنم قد بعثت بي إلى هذا المكان لأعاقب الخائنين.

أما الفيروزة فإنها أجفلت حين سماعها هذا الصوت وقالت: يا ويلتاه! إنه يطاردني فما عساه به وبي يصنع؟

وكان ليون رولاند سامعًا فخاف خوف الفتاة وأفظع؛ إذ لا يطيق الدفاع وهو كما علمت لا صاحيًا ولا يهجع.

أما صاحب الصوت فإنه استدل من صاحب الفندق على الغرفة التي يقيم الرجل والمرأة، فركض إليها مسرعًا ورفس بابها برجله فانكسر الباب، وخرج منه دوي شديد، ودخل الرجل حتى إذا رأى الفيروزة هجم عليها وقبض على شعرها وهو يقول: أين المفر الآن وأنتِ في يدي؟

فركعت الفيروزة وقالت: رحماك! أشفق عليَّ.

– لا رحمة ولا إشفاق، فلا بد من قتلك وقتل هذا الرجل الذي تخونيني من أجله.

– رحماك، وإذا لم تُرِد الإبقاءَ عليَّ، فأبقِ عليه.

– كلا، بل تموتين وإياه.

ثم هجم كأنه يريد قتل ليون، وهو يقول: سيسيل دمه على يديكِ، ثم تموتين بعده شر موت.

غير أن الفيروزة حالت بينه وبين ليون كأنها تريد الدفاع عنه أو الموت قبله، وجعلت تستعطفه وتتملقه، فلا يزيد إلا عتوًّا. كل ذلك وليون سامع جميع الحديث، ولا يستطيع أن يبدي حراكًا كالنائم يصاب بالكابوس، ولكنه كان ينتظر الموت في كل لحظة.

وكان هذا الرجل قد لان فؤاده لاستعطاف الفيروزة، لا سيما حين قالت له: إني أتبعك حيث تشاء، وأحبك حبًّا أكيدًا إذا أبقيت على هذا الرجل إذ لا ذنب له.

– أتقسمين على ذلك؟

– أقسم لك بإله السماء والأرض أني أكون لك أتبع من ظلك وأطوع من بنانك، بشرط أن لا تتعرض له بأذى.

– إذن هيا بنا نعود إلى منزلك في باريس، والويل لكِ إذا خطرت لك الخيانة في بال أو حنثت باليمين.

ثم أخذها بيدها، وخرجا من تلك الغرفة إلى قاعة الفندق في الدور الأول.

٤٠

ولم يكن هذا الرجل سوى روكامبول، وقد اتفق مع الفيروزة على تمثيل هذه الرواية التي وضعها أندريا، فلما باتا وحدهما في القاعة، قال لها روكامبول: الحق أنك لو كنتِ ممثلة على المسارح، لكنتِ الآن من أشهر الممثلات.

فسُرَّتِ الفيروزة من هذا الثناء وقالت: الآن أَلَا تخبرني بحقيقة هذا الدور الذي مثَّلْنَاه، فإني لا أفهم منه شيئًا، بل كنتُ فيه شبيهًا بالآلة الصماء.

– ولكني لا أستطيع أن أخبرك شيئًا، لأني أنا نفسي مثلك يديرنا رئيسنا الحاضر.

– وما لديك من الأوامر الآن؟

– ينبغي أن تذهبي في الحال إلى باريس وتقيمين في منزلك بانتظار الرئيس.

– أَلَا تعود معي؟

– لا، فإن مهمتي لم تنتهِ بعدُ.

وعند ذلك خرج فأعَدَّ المركبة وعاد فأخذها إليها، وسارت بها تنهب الأرض عائدةً إلى باريس، فلما بلغت إلى منزلها علمت أن فرناند قد زارها مبكرًا وأنه خرج من منزلها منذ ربع ساعة فقط، ثم أعطاها أحدُ الخدم رسالةً من أندريا يأمرها فيها أن لا تخرج من المنزل، وأن تنام إلى أن يأتي عند الغروب فيوقظها ويباحثها بشئون خطيرة، فنامت وقد أنهكها التعب إلى أن حان الأجل المضروب، ففتحت عينيها ورأت أمامها أندريا وهو يقول: كفاك نومًا وهيا بنا نتحادث.

فجلست في سريرها ودار بينهما الحديث الآتي، فقال أندريا: أيعجبك هذا القصر الذي أنتِ فيه؟

– كل العجب.

– وثلاثمائة ألف فرنك تضاف إليه.

– إن هذا لقليل، فإن فرناند يعطيني أكثر من هذا.

– إنكِ منخدعة، ولو كانت ذاكرتك جيدة لعلمت أن فرناند لم يكن له اتصال بك لولاي.

– هذا لا ريب فيه، ولكن …

– بل إن هذا يدل على أن فرناند لا يستطيع أن يفيدك بشيء إلا إذا أردتُ.

– كيف ذلك، أليس له الحق أن يصنع ما يريد؟

– كلا.

– إذن تريد أن تقول أنك الوصي عليه، ولكن هذا ليس أكيدًا، ولو شئتُ أن أنهب جميع أموال فرناند لقدرت.

فقال لها أندريا بصوت الهازئ المستخف: لقد كنتُ أحسب أن لكِ عقلًا راجحًا، وأنك تعلمين بأني أشتغل لنفسي لا لسواي.

فعضت على شفتها من الغيظ وقالت: لقد نسيتُ أنك تريد سمسرة.

– نعم، وإن سمسرتي تبلغ ميلونين.

فوثبت الفيروزة من مكانها قائلةً: لا شك أنك مجنون، فإن مَن يطمع بالكثير فاته القليل، وما دام فرناند يحبني فهو يصنع دون شك ما أريد.

فقال أندريا دون أن يبدو عليه شيء من علامات التأثُّر: إنك منخدعة، فإن كلمة واحدة تصدر مني إلى فرناند تكفي لهجرانه لكِ إلى الأبد، فإن لديَّ إحدى رسائلك إلى ليون رولاند.

فاصفرَّ وجه الفتاة من الغيظ، ثم قالت: ولكني أقِرُّ له بكل شيء، وهو يحبني ولا بد له من الصفح عني.

فأخرج أندريا خنجرًا وقال لها بأتم السكينة: بقي هذا الخنجر، فإنه يفعل دون شك أشد مما تفعله الرسالة.

فمدت الفيروزة يدها إلى الحائط تحاول أن تضغط على زرٍّ كان فيه قصد مناداة الخدم، ولكن أندريا عرف قصدها، فقهقه ضاحكًا وقال: فاتكِ أيتها الحسناء أن جميع مَن في القصر من أعواني، وأني إذا أردتُ قَتْلك فهم يساعدونني على إخفاء آثارك.

فسقطت يد الفيروزة عن الزر وتنهدت تنهدًا عميقًا، فقال لها أندريا: أصغي إليَّ وخففي من مطامعك وانظري إلى ماضيك منذ عهد قريب تجدي أنك كنتِ في أشد حالة من الفقر، ثم انظري إلى حاضرك تجدي أنني قد وهبتك قصرًا يبلغ ثمنه مع رياشه نحو المليونين، وفوق ذلك فإني سأهبك أيضًا ثلاثمائة ألف فرنك، أفلا يكفيك جميع هذا، أم أنت تؤثرين العودة إلى حالتك السابقة؟

فأطرقت الفيروزة إطراق الواجم المقنع، ثم قالت: أملِ عليَّ شروطك، فإني راضية بما تريد.

فجلس أندريا بإزائها وقال: إذن فقد رضيت.

فأنَّتْ قائلةً: ولكن هذين المليونين سيطول العهد بالحصول عليهما.

– كلا، بل إنَّا سنقبضهما غدًا إذا أحسنتِ الطاعة.

– أراكَ شديد القناعة، فإن فرناند وافر الثروة، فكيف تقنع منه بالمليونين؟

– إنك منخدعة بثروته كسائر الناس، فإنه عندما تزوَّجَ بهرمين كان فقيرًا لا يملك شَرْوَى نقير، وكان مهرها اثني عشر مليونًا، إلا أنها حين عقد الزواج لم تخصه إلا بثلاثة ملايين، وقد أنفق منها على القصر ورياشه نحو مليون، ولم يَبْقَ له إلا مليونين.

– بقي أن أعلم كيف نحصل على هذين المليونين.

– إن ذلك سهل ميسور، وهو أني سأعطيك خمس حوالات قيمتها ٥٠ ألف فرنك تسأليه أن يوقِّع عليها بالقبول، وهو سيقبلها دون ريب لأنها مبلغ زهيد.

– وأين المليونان إذن؟

فأخرج أندريا الحوالات مكتوبة من جيبه وقال: انظري إلى هذا الحبر، فإنه إذا مُسِح عن الورق زالت جميع آثاره، وإذا وقَّعَ فرناند على الحوالات بالحبر العادي مُسِحت عنها الكتابة السابقة ويبقى الإمضاء أكتب فوقه ما أريد.

فبهتت الفيروزة لكلامه ثم أخذت الحوالات، وجعلت تقلِّب نظرها فيها، فرأت أنها بعيدة الآجال فقالت: إن فرناند لا يلبث أن تُعرَض عليه الحوالة الأولى حتى يفطن للتزوير ويبعث بي وبك إلى أعماق السجون.

– لقد أصبتِ، ولكن ليس فرناند الذي سيدفع هذه الحوالات بل امرأته ستدفعها بعد موته حرصًا على اسمه.

فأجفلت الفيروزة وقالت: ألعلك عزمت على قتله؟

– نعم!

– كلا … إني أوافقك على كل شيء وأشاركك في كل جريمة، أما جريمة القتل فإن يدي لا تنغمس فيها.

وأخرج أندريا الخنجر من جيبه ثانيةً ووضعه على منضدة أمامه، وهو يقول: لا شك أنك بلهاء، فإنك تدافعين عن حياة الآخرين وأنت أولى بالدفاع عن حياتك.

وهالها بريق الخنجر وانقادت صاغرة إليه، ودار بينهما حديث طويل لا ندري خلاصته إلا أن نتائجه ستظهر قريبًا.

ولما فرغا من هذا الحديث أمرها أن تكتب رسالة إلى فرناند تدعوه بها إلى العشاء معها، ففعلت وخرج أندريا على أن يعود حين يجيء فرناند فيختبئ في إحدى الغرف.

أما الفيروزة فإنها أوقدت المصابيح بجميع المنزل، كأنما هي تعِدُّ ليلة راقصة، ثم جعلت تنتظر قدوم فرناند، وفي الساعة التاسعة أقبل هذا المفتون فاختلقت له حديثًا ملفَّقًا عن السبب الذي دعاها إلى الغياب، وجلست وإياه على المائدة تسقيه من خمرها ومن عينيها كئوسًا أضاعت رشاده، وجعلته آلة في يديها حتى سألها عن السبب في هذا الانقلاب الشديد، فأخبرته بأن لها عمًّا مدينًا وأنها تشفق عليه وعلى شرفه وسوى ذلك، إلى أن سألها عن مبلغ دينه.

– خمسون ألف فرنك.

وضحك فرناند ضحك الهازئ وقال: أتحزنين لهذا المبلغ الزهيد، وأنا صاحب الملايين؟

ثم هزته أريحية الحب ونشوة المدام، وقام إلى منضدة يريد أن يكتب حوالة على صرافه بالقيمة، فمنعته الفيروزة وقالت: ليس هذا الذي أريد، بل إني أسلك التوقيع على خمس حوالات يبلغ مجموعها هذه القيمة.

ولم يخطر الشر لفرناند في بال، وقال: هات الحوالات.

ودخلت الفيروزة إلى الغرفة المجاورة حيث كان مختفيًا أندريا، وقالت له: لقد وقع الطير في الشَّرَك فهات الأرواق. فأخرج أندريا من محفظته الحوالات التي تقدَّمَ ذكرها، وأعطاها إياها، فذهبت بها إلى فرناند حيث وقَّعَ عليها جميعها كما تريد وهو لا يعي من شدة سكره ما يفعله، فحملتها وذهبت بها إلى أندريا فأخذها والفرح ملء فؤاده وأعادها إلى المحفظة، وهو يقول: عودي إلى فرناند وتأهَّبِي، فإن رجل الخنجر سيأتي قريبًا.

وكانت الفيروزة قد ذكرت موقفها الهائل وتمثَّلَتْ لها تلك المعركة العظيمة التي ستجري بين العاشقَيْن فقالت: رباه! ماذا أفعل وما يكون من أمرى في هذه المعركة؟

فقال لها أندريا: إنكِ تختبئين بعد أن تُطفِئي المصباح.

– ولكنه يقتلني بعد ذلك.

– لا تخشي، فإننا سنجيء لإنقاذك.

– وما يكون من نتائج هذا القتل؟

– إن البوليس يقبض عليك، ويسألك عمَّا جرى في المنزل، فتقولين إن لي عاشقين دفعَتْ بأحدهما الغيرةُ إلى قتل مزاحمه، فيطلقون سراحك وتعودين آمنة إلى ما كنتِ عليه، فخرجت الفيروزة مطرقة الرأس، وهي خائفة أشد الخوف وعادت إلى فرناند. أما أندريا فإنه ما لبث بعد أن خرجت الفيروزة وساد السكون في تلك الغرفة المختبئ بها، حتى سمع تنفس إنسان من ورائه، فالتفت منذعرًا فرأى على نور النار الضعيفة في المستوقد خيال إنسان ورأى في إحدى يدي ذلك الخيال سلاحًا يلمع، فوجف فؤاده، وقال في نفسه: ألعله قدم أحد لنصرة فرناند؟

٤١

وَلْنَعُدِ الآن إلى روكامبول، فلقد تركناه في الفندق بعد رجوع الفيروزة ينتظر أن يصحو ليون من رقاده، أما المنكود فإنه كان على ما وصفناه صاحيًا في زي نائم من تأثير المخدر الذي شربه، وقد لقي أهوالًا شديدة في رقاده، فإنه كان يسمع ما دار بين الفيروزة وعشيقها وينتظر الموت في كل لحظة، فلما ذهب بها ما لبث أن اطمئن على نفسه لسلامته من الموت حتى عادت إلى فؤاده لواعج الغيرة تعضه بأنيابها المسنونة، وهو لا يستطيع أن يبدي حراكًا، ثم شعر من نفسه أن نومه قد طال، وفيما هو كذلك إذ فتح صاحب الفندق غرفته وقال: إنه لا يزال نائمًا، ألعله سينام نومًا إلى الأبد؟ فسمعه ليون وخشي إذا طال نومه أن يدفنوه حيًّا، ثم جعل يذكر جميع الحوادث التي كان يقرؤها في الجرائد عن دفن الأحياء لحسبانهم في عداد الأموات، فينخلع قلبه من الخوف.

وما زال على هذه المخاوف المقلقة إلى أن أذنت الشمس بالمغيب، ففتح عينيه وجعل ينظر نظرات الرعب إلى ما حوله، ثم جعل يحرك يديه ورجليه كأنه غير مصدِّق بصحوه وعوده إلى الرشاد، واستوى جالسًا في سريره فجعل يستعرض في سره ما مرَّ به من الحوادث، وهو يحسب أنه كان بالكابوس الذي يعرض لبعض النائمين المزعجين في النوم.

ثم إنه أراد أن يتحقق جميع ذلك، فنادى صاحب الفندق حتى إذا صعد إليه كان أول سؤال ألقاه عليه قوله: أين هي؟

– مَن هي؟

– السيدة التي كانت معي.

فأجابه بصوت المتهكم: إنها يا سيدي أتَتْ معك، ولكنها عادت مع سواكَ إلى باريس.

فصاح ليون صيحة منكرة؛ إذ ثبت لديه أنه لم يكن حالمًا، وأن جميع ما مرَّ به كان حقيقة ثابتة لا ريب فيها، فوثب من سريره إلى الأرض، وخرج من الغرفة خروج المجانين، حتى إذا بلغ إلى باب الفندق العمومي سمع صوت رجل يناديه، فالتفت فرأى روكامبول بزي سائق وهو جالس إلى مائدة عليها أكل وشراب، فقال: ماذا تريد؟

– إني عائد إلى باريس، فإذا شئتَ صحبتكَ معي إليها.

– إذن أسرع بإعداد المركبة.

– أَلَا تشرب كأسًا؟

– ويحك كيف يخطر لي الشراب وأنا على هذه الحال.

– رويدك يا سيدي، واجلس معي قليلًا إلى أن أفرغ من الطعام، وإذا شاركتني بهذه الزجاجة قصصت عليك أمر الفتاة التي أتيتَ بها ثم ذهبَتْ مع سواك، وأُطلِعك على سرها.

– أنت تعرف سرها؟

– نعم، ولكني لا أطلعك عليه إلا على شرط الشرب معي.

– رضيت، فقُلْ ما تعلم.

فصبَّ له روكامبول كأسًا، فشربه جرعة واحدة وهو يذوب تلهفًا للاطلاع على هذا السر، وصبَّ له روكامبول كأسًا فشربه جرعة ثانية، وقال: أبدأ فأقول لكَ إني كنتُ في خدمة هذه الفتاة التي تعشقها، وهي فتاة مخلصة النية لطيفة الشعور، إلا أن عشيقها الذي استردها منك اليوم لا رحمة في فؤاده ولا إشفاق عنده؛ فإنه يعاملها شر معاملة ويضربها الضرب المبرح حتى أنها باتت تؤثر الموت على صحبته.

فسخط وأخذ مدية كانت على المائدة، فقبض عليها وضرب بها المائدة كأنه يضرب ذلك الرجل وهو يقول: لا بد من قتله.

وصبَّ له روكامبول كأسًا ثالثة وجعل يفضح أعمال هذا العشيق، ويذكر له عيوبًا لا تحتملها النفوس، ثم يذكر في مقابل ذلك ما تقاسيه الفيروزة من العناء والمتاعب، وأنها لا يتسنى لها الراحة مما هي فيه إلا إذا مات هذا الجاني، وكان كلما ذكر له نادرة سقاه كأسًا فزاده تحمُّسًا، إلى أن اشتدَّ سُكْر ليون وعاهده روكامبول على أن يوصله إلى مزاحمه، وعاهد نفسه على أن يقتله شر قتلة.

ولما رأى روكامبول أن المدامة قد نهبت من عقل هذا الصانع المنكود بقدر ما يريد، قام عن المائدة وأعَدَّ المركبة ودعاه للسفر، فأسرع ليون إليها وهو يتهادى في مشيته من الشرب، وقد جحظت عيناه من الغضب، وسارت بهما إلى منزل الفيروزة حتى بلغت إليه والفيروزة عند ذلك مع فرناند، بعد أن أخذت منه الحوالات المزورة على ما تقدَّمَ.

أما ليون فإنه صعد مُشهِرًا بيده الخنجر وهو هائج هياج المجانين، وكان روكامبول يتقدمه كي يرشده إلى الغرفة التي يقيم فيها فرناند، ولما قرب أن يدنو منها أشار له عنها بيده وخرج مهرولًا وهو يقول في نفسه: لقد فعلتُ ما وجب عليَّ، وَلْتفعل الفيروزة ما يجب.

وأسرع ليون إلى الباب يريد اقتحامه إذ لم يكن مفتوحًا، فتصدى له أحد الخدم وحاول منعه عن التقدم، فضربه ليون بيده ضربة سقط في إثرها على الأرض، وأسرع إلى الباب فوجده مُقفَلًا ولكنه رأى النور من ثقبه، فطرقه فلم يُفتَح له، بل سمع أنه أُقفِل مرة ثانية، وجعل يطرق الباب مغضبًا وهو يقول: افتحي إني لا أريد بكِ شرًّا، بل أريد قتل الظالم. افتحي أو أقتحم الباب.

أما فرناند فإنه دهش لهذا الحادث الذي لم يكن يخطر له في بال، ثم رأى من إنذار هذا الطارق واصفرار الفيروزة واضطرابها ما زاد في هواجسه، فسألها مَن هذا وماذا يريد؟

– أَلَا تسمع أنه يريد قتلكَ؟ ثم تظاهرت بمظاهر الإقدام وقالت: إنه عشيق قديم لي نسيت أن أخبرك عن أمره، فاهرب بالله إنه شديد الغيرة.

وكان فرناند قد شرب حتى سكر، فهاجت غيرته أيضًا وأخذ سكينًا عن المائدة وهو يقول: ليدخل ولنرى مَن يقتل الآخَر.

فما أوشكت الفيروزة أن تستعطفه حتى كسر الباب ودخل منه ليون، وأسرعت الفيروزة إلى الشمعة التي كانت تنير الغرفة فألقتها على الأرض بحيث انطفئت، وساد الظلام قبل أن يرى أحدهما الآخَر، ثم هربت إلى غرفة ثانية ولكنها لم تكد تخرج وتسود الظلمة في تلك الغرفة حتى فُتِح باب آخَر وظهر منه نور عظيم شقَّ حجاب الظلام، وأظهر للعاشقين موقفهما الهائل الشديد.

٤٢

تقدَّمَ لنا القول إنه حين أعطت الفيروزة الحوالات لأندريا وخرجت من الغرفة التي كان فيها للاجتماع مع فرناند، رأى أندريا على نور النار المشبوبة في المستوقد شبح إنسان، ولما رأه جعل يحدق به ويتراجع على بسالته منذعرًا إلى الوراء، حتى لم يَعُدْ يطيق الرجوع لبلوغه إلى الحائط، وعند ذلك تقدَّمَ منه الخيال حتى بلغ إليه، وشعر أندريا بأنفاسه تهب على وجهه، فانذعر وقال: مَن أنت؟ وماذا تريد؟

أما الخيال فإنه لم يُجِبْه بحرف، بل إنه قبض على عنقه بإحدى يديه، ووضع على جبهته باليد الثانية معدنًا باردًا علم أندريا في الحال أنه حديد مسدس، ثم سمع صوتًا نسائيًّا يقول: يجب أن تعطيني الحوالات وإلا فأنت مائت لا محالة.

فاضطرب أندريا لأنه علم أن هذا الصوت صوت باكارا، وأنه إذا لم يرجع إليها الحوالات قتلته دون شك، فمد يده إلى جيبه وأخرج الحوالات دون تردُّد، إلا أن باكارا لم تمسها بيدها بل بقيت قابضة على عنقه وقالت له: ألقِ هذه الحوالات في النار، ولم يسعه إلا الامتثال وألقاها وهو يكاد يذوب إشفاقًا على زوال مطامعه.

وكانت باكارا متشحة برداء طويل لا يخفي منظرها عمَّنْ يعرفها، إلا أن أندريا كان متنكرًا تنكُّرًا عظيمًا، بحيث يستحيل على باكارا أن تعرفه، ولكن باكارا أرادت أن تتبيَّن وجهه فقالت ببرود: إذا أحببت الحياة فينبغي عليك أن تطيعني.

فقال بلهجة الإنكليز: إني أطيعك في جميع ما تريدين.

– خُذْ هذه الشمعة وأشعلها من نار المستوقد.

فامتثل أندريا، وقالت له: أشعل الثانية فإن أمثالنا يجب أن يعرف بعضهم بعضًا.

وامتثل أيضًا وأنار الشمعة الآخرى، وصوَّبَتْ إليه مسدسها وقالت: إن مَن كان لصًّا أثيمًا مثلك يسرق مليونين وثلاثمائة ألف فرنك بأقبح الحيل، لا بد له أن يحمل خنجرًا في جيبه، فأسرع يا حضرة الميلورد وألقي خنجرك إلى الأرض، وأنا قلت لك ميلورد لأنك قد تقمصت فصرْتَ إنكليزيًّا.

ولما رأت أنه يتردد صوَّبَتْ إليه المسدس أيضًا، وقالت: إذا تأخَّرْتَ دقيقة واحدة فإنك مائت. وقد صوبته إلى الرأس، فعلم أندريا أن لا حيلة معها، ففَكَّ أزرار ثوبه وأخذ الخنجر وقدمه لها وهو يؤمل أنها متى مدت يدها لاستلامه انقض عليها وجردها من سلاحها فكان له الفوز، غير أنه ساء فأله، فإن باكارا كانت أشد منه دهاءً، وكأنها قد أدركت قصده فقالت: كلا، بل أَلْقِه إلى الأرض.

فألقاه مُكرَهًا وهو يرجو أيضًا أن تنحني لأخذه، غير أنها وضعت رجلها عليه وجعلت تتفرس به وهي تقول بنفسها: أظن أن هذا الرجل هو أندريا بعينه، ولكنه قد غيَّر هيئته تغيُّرًا شديدًا بحيث لا أستطيع الحكم عليه إلا من عينيه، فإنهما هما هما لم تتغيَّرَا.

ولما فرغت من تمعنها تراجعت إلى الوراء وهي لا تزال مصوِّبة المسدس، وقرعت على باب الغرفة مرتين ففتح الباب ودخل منه رجلًا حسبه أندريا في بادئ الأمر أحد خدام الفيروزة، ولكنه لم يكن إلا الكونت أرتوف الروسي صديق باكارا، وقد دخل مُسلَّحًا بمسدس أيضًا، فأومأت بيدها إلى أندريا، وقال للكونت: إني أعهد إليك مراقبة هذا الرجل، وحذار من أن يفر.

– كوني مطمئنة، فإن قبضتي شديدة ومسدسي لا يخطئ.

ثم أخذت شمعدانًا فيه كثير من الشموع وأشعلتها جميعًا، ودخلت بها إلى الغرفة التي كان فيها فرناند وليون يوشكان أن يقتتلا، على ما عرفه القراء، فلما دخلت وهي تحمل هذه الأنوار ورأتها الفيروزة فعلمت أنها باكارا، صاحت صيحة رعب ووقفت في مكانها لا تعلم من الذعر كيف تفر.

وكان المنظر هائلًا يستوقف الأبصار، فإن ليون كان يحمل بيده الخنجر وهو كالهائم على وجهه لا يعرف أين يغمده ويبحث بين الظلمات عن صدر فرناند، وهو لا يعرفه، وفرناند أصفر الوجه لا يزال يتمايل من السكر واقفًا في مكانه ينتظر أن يقتله هذا العدو اللدود، وهو لا يعرف مَن هو، ولمَّا تبدَّدَ الظلام بنور باكارا ورأى كلٌّ منهما الآخَر صَاحَا صيحة إنكار، ورمى ليون الخنجر من يده إلى الأرض، ثم ما لبث أن رأى باكارا حتى أطرق بنظره إطراق الخَجِل النادم، وكذلك فرناند فإن باكارا حلَّتْ فيهما حلول القضاء، ولم تكن إلا رسول السلام.

وبعد أن صبرت عليهما هنيهة وهي تبتسم لهما ابتسام المؤنِّب الظافر، وضعت مصابيحها على المائدة ثم التقطت خنجر ليون ودنت من الفيروزة وهي توشك أن تسقط على الأرض من الرعب، وقبضت عليها بيد من حديد وقالت لها وهي مصوبة الخنجر إلى صدرها: اختاري الآن بين أن تموتي أو أن تبوحي بكل شيء.

وجعل ليون وفرناند ينظر كل منهما إلى الآخَر نظر الوجل والانذهال، وهما لا يدركان شيئًا من هذه الأسرار، وضغطت باكارا على الفيروزة وسألتها: أيتها الأفعى اعترفي لليون بأنك تريدين وضع ابنه بين اللقطاء، وأن كل ما جرى أمس لم يكن إلا رواية تمثيلية، وأنك كنتِ السلاح القاتل بل أنتِ التي كنت تدفعينه إلى قتل فرناند، اعترفي أو تموتي.

ثم أدنت الخنجر من عنقها ووخزتها به وخزًا خفيفًا، ولما شعرت بالألم ورأت أنها لا نجاة لها إلا بالصدق قالت: رحماك، إني أعترف بكل شيء، وإن كل ما قلتيه حق لا ريب فيه.

فصاح ليون صيحة منكرة وكاد يمزقها بيديه، أما باكارا فإنها أدنت الخنجر أيضًا من عنق الفيروزة، وقالت لها: اعترفي الآن أيضًا أمام فرناند أنك دعوتيه إلى التوقيع على حوالات تبلغ قيمتها مليوني فرنك لا خمسين ألفًا كما أوهمتيه، ثم إنك لم تقتصري على ذلك بل إنك أردتِ قتله، وبعتِ حياته بثلاثمائة ألف فرنك … اعترفي في الحال أو استعدي للموت.

ولم تَعُدِ الفيروزة تملك نفسها من الرعب، وقالت: نعم، كل ما تقولينه حق.

– والآن قولي للاثنين أنك سحقت قلبيهما وعبثت بشرفهما، وأنك لولاي لكنتِ قتلت الاثنين، قولي لهما إذا كنتِ تؤثرين الحياة عن ذلك الشيطان المريد الذي كان يدفعك إلى هذه الآثام، فإنك لم تكوني إلا آلةً بين يديه.

ثم ضغطت عليها ضغطة أضاعت صوابها، ووخزتها بالخنجر تريد حملها على الإقرار، فتراءى للفيروزة أن ما بنته من صروح الآمال قد تهدَّم بلحظة واحدة، وأنها سقطت إلى الحضيض وستعود إلى حالتها الأولى من الفقر المدقع، ثم هالها هذا الموقف الشديد من ذلك الخنجر البراق الذي كان يخز عنقها من حين إلى آخَر، فقضي على عقلها وأجابت باكارا بضحك عصبي شديد تبيَّنَ منه أنها قد جُنَّتْ لهول ما لقيت، فرفستها باكارا برجلها وقالت: لم يَعُدْ لنا بك مآرب بعد أن ضاع صوابك.

ثم التفتت إلى فرناند وليون وقالت لهما: اتبعاني إلى هذه الغرفة المجاورة كي أريكما ذلك الرجل الجهنمي الذي يطاردكما منذ أمد بعيد، ويحاول سلب شرفكما وحياتكما وأقوالكما. اتبعاني فإنه في هذه الغرفة.

ثم مشت أمامهما حتى بلغت إلى باب الغرفة التي يقيم فيها أندريا والكونت الروسي، وفتحت بابها بعنف، ولكنها لم تكد تفتح الباب حتى خرج دوي مسدس شديد اضطربت له جوانب المنزل، وتبعه صوت سقوط جسم على الأرض، فارتجفت باكارا منذعرة وقالت: هو ذا العدل قد نفذ، فإن الكونت قد قتل أندريا رسول إبليس على الأرض.

٤٣

إلا أن باكارا أخطأت بحسن ظنها بالعدالة، فإن هذا الرجل الأثيم لم يقتل بل إنه فر من القضاء قبل أن يضربه الضربة القاضية. وإليك تفصيل الحديث: إن أندريا والكونت أرتوف لم يفتهما شيء مما جرى داخل الغرفة التي كانت فيها باكارا، وقد سمعا كل شيء فكان أندريا ينظر تارة إلى باب الغرفة التى يحميها الكونت أرتوف، وينظر طورًا إلى نافذة مفتوحة تشرف على الحديقة، فخطر له أن يلقي بنفسه من هذه النافذة، ولكنه لم يكن يستطع إلى ذلك سبيلًا لفرط عناية الكونت بمراقبته، وما زال على هذه الحال إلى أن فتحت باكارا الباب بذلك العنف الذي قدمناه، فالتفت الكونت منشغلًا بما سمع عن أندريا، فهَبَّ أندريا إلى النافذة بأسرع من لمح البصر وألقي بنفسه منها إلى أرض الحديقة، فجُنَّ الكونت أرتوف من يأسه وأطلق عليه نار مسدسه دون أن يعلم إذا كان أصابه أو أخطأه.

وسمع سقوط جسمه على الأرض، ثم تلاه سكوت حسب بعده أن الرصاصة قد أصابته وأنه قد سقط قتيلًا.

أما باكارا فإنها ذعرت ذعرًا شديدًا، وصاحت صيحة القانط: ألعله نجا؟

فقال لها الكونت: إذا كان قد نجا من الرصاص، فهو قد قُتِلَ إثر سقوطه؛ لأني لا أسمع له حسًّا.

وعند ذلك أقبل الجميع على النافذة عَلَّهم يرون شيئًا من آثاره، فسمعوا صوت مشي أقدامه وعلموا أنه فر، فتراجعوا جميعهم إلى القاعة، فأخرجت باكارا من صدرها رسائل الفيروزة إلى ليون وأطلعت عليها فرناند وهي تقول: أتعرف هذا الخط؟

فتبيَّنَه فرناند وقرأ جميع تلك الرسائل، وعلم أنه كان آلةً بيد تلك الفتاة، وأنه مدين بشرفه وحياته وأمواله لباكارا، وكذلك ليون فإنهما لم يَعُدْ يعوزهما برهان على الجريمة. فجعلت عند ذلك باكارا تؤنبهما تأنيبًا لطيفًا، وتذكِّرُ كلًّا منهما بواجباته الزوجية إلى غير ذلك من ضروب النصح، وهما يكادان يذوبان من الخجل والامتنان، فصرفتهما إلى منزلهما وهي تقول لهما عودا إلى ما كنتما فيه من الرغد والهناء، وكونا مطمئنين مع نسائكما وبنيكما، فإن الذي سيسهر على هنائكما ليس له بنون، وليس في قلبه حب، ولا يخطو خطوة إلا في سبيل خيركما.

فذهب الزوجان إلى منزليهما وقد نسيا ذلك الحب الشائن القديم، وحُمِلت الفيروزة إلى مستشفى المجانين، وعادت باكارا مع الكونت أرتوف إلى منزلها وهي مشتتة البال، قانطة الفؤاد، لإفلات أندريا من قبضتها.

أما أندريا فإنه عندما ألقى بنفسه من النافذة سقط على أرض كثيرة العشب، فلم يُصَبْ بأذى، ونهض فهرول مسرعًا إلى باب الحديقة فألقاه مقفلًا، فالتفت إلى نوافذ المنزل ليرى من حركة أنواره إذا كانوا يطاردونه، فرأى أن الأنوار لا تزال في قاعة الاستقبال، وعلم أنهم تيَّقَنُوا من فراره، وقنطوا من لحاقه، فتسلَّقَ جدار الحديقة وسقط منه إلى الشارع، ثم مشى قليلًا حتى لقي مركبة فركب فيها وذهب إلى روكامبول.

وكانت علائم القنوط بادية في وجهه، فلما رآه روكامبول ذعر وقال له: ماذا دهاك؟

– لقد فشلتُ وأنا قادم فارًّا من الموت، ولم يكن بيني وبينه إلا لحظة.

ثم أخبره بجميع ما كان من خسارته للمليونين بعد أن وصلا إلى يده، وكيف أن فرناند قد نجا من الموت، وليون سلم من تبعة القتل، إلى غير ذلك مما عرفه القراء، فأجفل روكامبول وقال له: ألعل باكارا قد عرفت مَن أنت؟

– لا أعلم، فإن هذه المرأة أصبحت لديَّ سرًّا من الأسرار، والذي أراه أن جميع مساعينا ستخفق بسببها إذا لم تسرع إلى إهلاكها، فإنها تتصدى لنا في كل سبيل، وما راعني غير إنقاذها لفرناند.

فهزَّ روكامبول رأسه وقال: أراكَ تأسف لنجاة فرناند فوق أسفك لفقد ملايينه.

– هو الحق ما تقول، إني أكرهه كرهًا شديدًا لا أحفل بعده بالملايين.

– إنك رئيس جمعيتنا، فلا حقَّ لي أن أعترضك في أمر، ولكني لا أجد بدًّا من القول إنك قد تماديت في الرغبة بالانتقام، حتى إنك بتَّ تؤثره على مصلحتنا، ولا أنكر أن الانتقام مسرة الآلهة، غير أن الآلهة من أهل الخلود ولديهم فسحة من الأجل يستطيعون معها بلوغ الانتقام وغيره من أغراض النفوس، خلافًا للإنسان، فإن مجال العمر لديه أقصر من أن يصرفه لغرض واحد، ولقد خُلِقت كونتًا وربيت في أكناف النعمة، فلم تَعُدْ تكثرت للمال، أما أنا فلا أكتمك أن اسمي ولقبي عارية، وأني لا أخدمك وأعرِّض نفسي للأخطار إلا كي أظفر بمغنم أعيش بعده آمنًا شر الفقر ونكد الأيام. ولكننا لا نكاد نظفر بغنيمة حتى يعرض لنا انتقامك فنخيب فيها، مثال ذلك ما جرى مع فرناند، فإنك لو لم تُدخِل ليون في روايته وتشركه في حب الفيروزة لما تنبَّهَتْ لنا باكارا.

وكان أندريا يصغي إليه حتى أتم حديثه فقال له ببرود: لقد طالما قلتُ لك إنك لا تزال صبيًّا لا تدرك شيئًا من خفايا الصناعة، ولا تصلح إلا أن تكون آلة صماء.

فكبر هذا القول على روكامبول وقال: كيف ذلك؟

– إنك لو تدَّبَرْتَ الأمر لعلمت أن جميع ما دبَّرْتُه من المكائد لم يكن الغرض منه إلا المال أولًا، ثم الانتقام ثانيًا. أضرب لك مثالًا على ذلك نفس حادثة فرناند، فإننا لا نستطيع سلبه المليونين إلا بتزوير الحوالات المزورة التي لا يمكن قبضها وهو في قيد الحياة لئلَّا يفتضح أمرها، وإذا كنتُ أنا وأنت لا نجرؤ على قتله، فلم أجد بدًّا من إغواء مزاحم له في غرامه على هذا القتل، أفأكون مخطئًا إذا وضعتُ الخنجر بيد ليون وجمعت بين المال والانتقام؟ ثم إنك لو تمعَّنْتَ قليلًا لوجدتَ أننا نمثِّل الآن ثلاثة أدوار يبدو لك من بعضها ظواهر الانتقام المحض، أما الغرض منها في الحقيقة فهو المال؛ أما الأول فهو دور فرناند، وقد مضى البرهان عليه، وأما الثاني فهو دور الفتاة الهندية وهو ماليٌّ بحت، وأما الثالث فهو دور أخي أرمان، فإني لا أريد قتله والزواج بأرملته لمجرد الانتقام والشغف بامرأته، بل لأستأثر بملايينه من بعده. والآن فإني أرجو أن تكتفي بما ذكرته لكَ من الأدلة، وَلْنَعُدْ إلى حديث الأشغال.

فأطرق روكامبول واجمًا وقال: ليكن ما تريد.

– لنبدأ بباكارا، فإني أصبحتُ أخافها، وأرى أنه لم يَعُدْ بدٌّ من قتلها.

– لنقتلها، ولكن كيف تريد أن يكون هذا القتل بالخنجر أم بالخنق؟

– لا هذا ولا ذاك، إذ لا سبيل لنا إليها، فإن جميع خدمها مخلصون لها، وفوق ذلك فإن قتلها وقتل المركيزة ينبِّه أنظار الشرع إلينا، بل إننا نقتلها بالسم الذي أحضرناه من البلاد الأميركية، وهو سم غريب لا نعلم من خواصه سوى أنه يميت كسواه من السموم، ولكنه يقتل بالشم وباللمس وبالذوق، ومن غرائب أمره أنه إذا شربه المرء أو شمه أو لمسه تحدث له على الفور نشأة كنشأة السكر، وينطلق لسانه بمكنونات فؤاده، فلا يكتم سرًّا من أسراره، ثم يفاجئه الموت العاجل دون أن تبدو عليه آثار التسمم.

– إنه فكر حسن، ولكن كيف السبيل إلى تسميم باكارا به، وليس لنا اتصال بها؟

– بواسطة شاروبيم، ألم تقل لي أنه يذهب إليها في كل ليلة؟

– هو ذاك، إن شاروبيم لا يروق له قتلها؛ لأنه يخسر الرهان بموتها وما يطمع به من كسب الرهان.

– لكننا نضع في يده هذا السم دون أن يعلم ما يحمل، وذلك أنك تلبس في يديك قفازين من الجلد الثخين، وتضع على وجهك حجابًا من زجاج كي لا تلمس السم ولا تشمه، ثم تأخذ قطرة من هذا السم وتضعها في زجاجة من العطر الفاخر، وبعد أن تختمها تدفعها إلى شاروبيم وتقول له: خُذْ هذه الزجاجة وأهدها إلى باكارا، فإنها إذا تنشقت رائحتها المنعشة هاجت فيها عواطف الحنان وبلغتَ من حبها لك ما تريد، فإن لهذا العطر خاصة في إثارة العواطف النفسانية يدفعها إلى الحنو.

فأظهر روكامبول سروره وقال: إنها خير طريقة للانتقام من باكارا والاطلاع على أسرارها.

– سأرسل لك السم بعد ساعة، والآن فأصغِ إليَّ كي أخبرك بما يجب صنعه بشأن الهندية.

وخلا به فاختط له خطة هائلة سنقف على تفاصيلها فيما سيجيء.

٤٤

وفي اليوم التالي بينما كان شاروبيم مقيمًا في منزله، وردت عليه رسالة مكتوبة بخط نسائي فما شكك أنها من باكارا، وفتحها فإذا هي تدعوه إلى الحضور إلى منزلها عند منتصف الليل، غير أنها لم توقِّع على الرسالة، فلم يكترث لذلك وجعل يبني صروح الآمال ويعلِّل نفسه بكسب الرهان وقبض النصف مليون، وفيما هو على ذلك إذ دخل عليه روكامبول وقال: أبشر فسنظفر بالخمسة ملايين وتأخذ النصيب الأوفر.

– كيف ذلك؟

– اجلس على مائدة الكتابة، واكتب ما أمليه عليك إلى المركيزة.

فلم يسع شاروبيم إلا الامتثال، فأخذ القلم بيده، وأملى عليه روكامبول ما يأتي:

سيدتي

أعلم أني لا أخطر لكِ في بال، ولكني أجسر على الكتابة إليك لأن ما ألتمسه منك يتعلق عليه نعيمي وحياتي، فلا إخالك ترفضين طلبي وقد جُبِلت على اللطف ومكارم الأخلاق، وأشبهت الملائكة في كل شيء، على أني أكتب إليك هذه السطور بيد ترتجف، لأني تجرأت على الكتابة إليك، كما تجرأت على أن أرفع عيني إلى وجهك المشرق بنور الفضيلة والشرف.

ولقد قلت إن هذا الكتاب تتعلق عليه حياتي ونعيمي، على أني لا أريد بها نعيمي وحياتي خاصة، فقد سئمت الحياة ويئست من كل نعيم بعد أن عوَّلْتُ على أن أهيم على وجهي، ولكني أريد بهما حياة ونعيم مَن لا نصير لهما في هذا العالم إلَّاي.

وأنا مسافر غدًا إلى الهند سفرة لا أوبة بعدها، ورجائي أن تمني عليَّ بمقابلة أخبرك فيها بشأن هذه الأم المنكودة، وعسى ألا أخيب.

ولما فرغ شاروبيم من الكتابة قال: أتظن أن هذا الكتاب يقنعها ويحملها على مقابلتي؟

– ذلك لا ريب فيه.

– وماذا تريد أن أحدِّثها عن أمي، وأنا لا أم لي؟

– لا يجب أن تحدثها عنها بشيء، فإن هذه المقابلة ستكون في منزل الأرملة مالاسيس، وهي تكون غائبة عن المنزل، فمتى قدمت المركيزة تجثو أمامها وتكلمها بلهجة محب سعيد في غرامها منذ عهد بعيد، وقد بلغ في حبها أقصى ما يرجو، إلى غير ذلك من الأقوال الدالة على تمكُّن الحب بينكما.

فاعترض عليه شاروبيم وقال: كيف أستطيع أن أذكر أمامها مثل هذه الأقوال، فإنها توقفني بنظرة عند حدي؟

– إنها لا تجد وقتًا فسيحًا، فإنك عند أول جملة تقولها تخرج رصاصة من مسدس المركيز فتخرق صدرها.

فأجفل شاروبيم وقال: ألعلك تطمئني بذلك؟

– لا تَخْشَ فإن رصاصة المركيز لا تخطئ، وهو من مشاهير الرماة.

– ولكنه إذا قتلها، فلا بد له من قتلي بعدها.

– كلا، فلقد أقسم أن لا يقتل سوى امرأته، وأن لا يعترض بسوء لسواها؛ إذ إنه يرى أن الذنب في تلك الجرائم لا يجب أن تلقى تبعته إلا على المرأة، فإنها لو أرادت صيانة نفسها لما تجرَّأَ الرجل عليها.

فطاب خاطر شاروبيم واطمأن، ثم جعلا يتنقلان بالحديث إلى أن دفعه روكامبول إلى الحديث عن باكارا، فأخبره عن الرسالة التي وردت إليه وأطلعه عليها، فقال له روكامبول: لا شك أنها منها، وإن تكن خالية من توقيعها وهو ما يدل على أنها تحبك حبًّا أكيدًا.

– لم يعد لديَّ ريب بحبها بعد أن أكرهتني على الرجوع عن الرهان، فإنها أرادت بذلك أن تستبقيني لحبها لي، وأن تستبقي الكونت الروسي لطمعها بأمواله، وهي لا تعلم أني جدَّدْتُ الرهان بالسر، إلا أن الذي يسوءني منها أنها لا تزال واقفة معي في مواقف المتردد.

– أأنت واثق من أنها تهواك؟

– لا ريب عندي، ولكني أخشى أن يطول ترددها فينقضي الأجل المفروض بيني وبين الكونت وأخسر الرهان، وليس بعد خسارته كما تعلم سوى الموت.

فأخرج روكامبول زجاجة العطر المسموم من جيبه وقال: إني سأخدمك أجَلَّ خدمة، فانظر إلى هذه الزجاجة العطرية، فإن مَن يفض ختمها ويشم رائحة عطرها تهيج منه مكامن الغرام، ويندفع في القول إلى أن يبوح بجميع ما في فؤاده من الأسرار. فخذها إليها فإنها من العطور الشهيرة وستقبلها منك راضية شاكرة، وقبل أن تدفعها إليها أخبر الكونت أنك واثق من كسب الرهان، فاتفق معه على أن يسمع حديثكما في غرفة مجاورة، حتى إذا خلوت بها وهو مختبئ بجواركما أعطيتها الزجاجة، فتفضها وتشمها وعند ذلك تبوح لك بغرامها وسائر مكنونات صدرها، فتبلغ منها ومن الكونت ما تريد. إنما يجب عليك أن تحذر من أن تشم ذلك العطر لئلا تحدث لك نشأته، فتبوح بأسرارنا.

فسُرَّ شاروبيم سرورًا عظيمًا لهذه الهدية النفيسة، وأخذ الزجاجة من روكامبول شاكرًا ثم خرج الاثنان يتنزهان في غابات بولونيا.

٤٥

ولما كان المساء، ذهب شاروبيم إلى النادي الذي يقيم فيه الكونت الروسي، فخلا به وقال له: أتذكر يا سيدي الكونت الرهان المعقود بيننا؟

– أذكره ولا أنساه.

– إنما أردت تذكيرك به لاعتقادي أني كسبته.

فقال له الكونت بسكينة: إني أهنئك بفوزك، ولكني لا أقنع إلا بالبرهان.

– إذا كنتَ تعرف خط باكارا فاقرأ هذا الكتاب.

ثم أعطاه الرسالة التي وردت إليه في الصباح، فأخذها الكونت وتلاها ثم ردَّها إليه وهو يقول: إنك مخطئ فليس الخط خطها.

– ربما كنتُ مخطئًا، ولكن الرسالة إذا لم تكن من خطها فهي من إملائها، وفي كل حال فقد كسبت الرهان.

فقال الكونت: إن هذا البرهان غير كافٍ، ولا يسعني الاقتناع إلا حين أسمعها تقول لك: أحبك.

فذكر شاروبيم ما أوصاه به روكامبول، وقال له: إن هذا سهل ميسور، وذلك أنك تزورها في هذه الليلة ثم توهمها أنك انصرفت، وتعود فتختبئ في الغرفة المجاورة للقاعة أو المجاورة للغرفة التي تكون فيها، وليس ذلك عليك بعزيز، فإنك قادر على شراء الخدم بالمال، فإذا قبلت بهذا الشرط فاحضر الليلة.

– رضيت وموعدنا هذه الليلة.

– لا تنسَ أن تصحب معك المال.

فأجابه باسمًا: وسأصحب المسدس أيضًا.

فانحنى شاروبيم مسلِّمًا وقال: لقد أصبت، فلا نعلم لمَن يكون النصر.

ثم افترقا، فدخل شاروبيم إلى قاعة اللعب، وذهب الكونت إلى باكارا، ثم اجتمع شاروبيم بروكامبول، وأخبره بما جرى بينه وبين الكونت الروسي، وعند منتصف الليل، وقد دنا موعد اجتماعه بباكارا برح النادي وذهب إليها.

وكانت باكارا قبل ذلك بساعة مختلية مع الكونت أرتوف، فكانت تقول له: إني لم أكن أثق بالتنويم المغناطيسي فبات لي الآن به ثقة شديدة، وذلك لأني قد وقفت به على أسرار غريبة بفضل تلك الفتاة اليهودية التي ألقتها الصدفة بين يدي، فإني علمت منها منذ خمسة أيام أن شاروبيم قد ذهب إليك وفاوضك بأمر تجديد الرهان، ولولاها ما تمكَّنْتُ من إنقاذ ليون وفرناند الذي طالما أحببته، ولا بد أن تكون قد علمتَ الآن لماذا حكمتُ على شاروبيم منذ أول يوم لقيته فيه بأنه رجل خائن لا يستأهل الإشفاق. والآن فإني غير مستائة من هذا الرجل لأنه قد راهن عليَّ، فإن ماضي حياتي يستوجب مثل هذه الإهانة، إلا أنني علمت من هذا التنويم أنه يطارد امرأة شريفة، وأنه لا بد له من إعدامها إذا لم أتداركه، إلا أني لا أعلم شيئًا من قصده، وهو ما أذوب تلهُّفًا لمعرفته، ولا بد من معرفته مهما كلَّفَني الأمر.

– اطمئني فسنقف على حقيقة هذا السر.

– إن ذلك لا يتيسر لنا إلا إذا حملناه على شراء حياته.

– هو الحق ما تقولين، وسنرى في شأنه، لكني ألتمس منك إجابتي إلى سؤال، وهو أن تخبريني عن الرجل الذي نجا من قبضتنا أمس.

فتنهدت باكارا وقالت: إنه رسول جهنم على الأرض، وعندي أنه هو الذي يدير جميع هذه الفتن والدسائس، ولكني لم أجد سبيلًا إلى إظهاره، فإنه يبالغ في الخفاء والتنكر إلى حد يستحيل معه على الأبالسة نفسها أن تعرفه. وإنما كتمتُ أمره لأني لو بحت بسره لما صدَّقني أخوه ولا أحد من الناس، فقد اشتهر بتوبته الكاذبة، وبالغ بالمظاهرة في التزهد والتقشف، حتى بات يحسبه الجميع أنه مثال التقوى والصلاح، وما هو بالحقيقة غير شيطان بزي إنسان.

ثم جعلت تقص عليه جميع ما مرَّ بنا من أحاديث أندريا في روايتنا الأولى، إلى أن أتت على ذكر جميع مكائده، فذعر الكونت وقال: أأنت واثقة من أن أسيرنا بالأمس كان هو بعينه؟

– كل الثقة، فإنه يتنكر على جميع الناس دوني؛ لأني أعرفه من عينيه، ولو بقي في قبضتنا أمس لذهبت به مكبَّلًا إلى أخيه، وجعلته يعترف أمامه بتوبته الكاذبة.

– لا تيأسي من الظفر به، فإن الأيام بيننا ولا بد لنا من القبض عليه متلبسًا بجناية من الجنايات، فنحمله على الاعتراف بجرائمه كرهًا، ونريح أخاه من مكره.

وفيما هما على ذلك إذ دقت الساعة مؤذنة بانتصاف الليل، وكان الكونت قد أخبرها بما دار بينه وبين شاروبيم، فدفعته إلى الغرفة المجاورة وقد سمعت وقع أقدام شاروبيم على السلم وقالت: هو ذا قد أتى، فاختبئ إلى أن نرى ما يكون؟

وبعد لحظة طرق الباب ودخل شاروبيم، فتظاهرت باكارا بالانذهال لرؤياه وقالت باسمة: كيف تزورني دون إذني؟

فاختلج فؤاد شاروبيم وخطر في باله ذلك الكتاب، وقد خشي أن يكون الكونت قد زوَّرَه ليبعث به ويظفر بالرهان دونه، ولكنه تجلَّدَ ودنا باسمًا من باكارا، فقبَّلَ يدها وهو يقول: ألعلي عصيت أوامرك؟

– نعم، ألم أقل لك أول أمس أني لا أريد أن تزورني قبل ثلاثة أيام، فكيف زرتني قبل انقضاء هذا الأجل؟

فجلس شاروبيم أمامها وقال: ما أجملك بهذا التصنُّع والتكلُّف؟

– أأنا أتكلف؟

– نعم، أليس هذا الكتاب منك؟

فأخذت باكارا الرسالة وقالت له بمنتهى السذاجة: ومَن كتب إليك هذا الكتاب؟

– أنتِ.

– كلا، فإني لم أخطَّ حرفًا منه.

– ولكنكِ أمليتِه.

فلم تردَّ وابتسمت، فكان ابتسامها نصف إقرار، فتنهَّدَ شاروبيم تنهُّدَ الفرح ووثق في الحال من كسب الرهان، وعند ذلك خطرت في باله زجاجة العطر التي أعطاه إياها روكامبول، فأخرجها من جيبه وقال أسألك أن تأذني لي بتقديم هذه الهدية العطرية، فإنها من خير العطور النادرة.

فأخذتها باكارا وجعلت تقلِّبها بين يديها على نور المصباح ثم قالت له: ما عسى أن يكون هذا العطر؟

– هو عطر هندي ذو رائحة عجيبة يندر وجود مثلها في هذه البلاد.

فداخل الريب باكارا في أمر هذا العطر، وخشيت أن يكون منوِّمًا، بل إنها تمادت في ظنونها وحسبته سمًّا زعافًا؛ لأن خيال أندريا قد تمثَّلَ لها في تلك الساعة، ولكنها كتمت ما أوجسته، ثم نهضت كأنها تحاول فتحها وجعلت تبحث عن آلة تفتحها بها، فلم تجد فقالت: ائذن لي هنيهة ريثما أفتحها وأعود إليك.

ثم خرجت بها إلى حيث يختبئ الكونت، فأومأت إليه بيدها أن يتبعها وذهبت به إلى الغرفة التي كانت فيها الفتاة اليهودية، فأجلستها أمامها ونوَّمَتْها التنويم المغناطيسي ثم قالت لها: إني آمرك أن تري مَن يوجد عندي في القاعة.

فقالت الفتاة لفورها: يوجد فيها رجل ينتظرك.

– مَن هو هذا الرجل؟

– هو الذي يقيم في المنزل المجاور لمنزل الأرملة.

فعلمت باكارا أنها تريد به شاروبيم، وعرضت عليها زجاجة العطر وقالت لها: مَن أعطاني هذه الزجاجة؟

– هو.

– ما يوجد فيها؟

فضغطت الفتاة على الزجاجة بيدها، ثم أدنتها من جبهتها ولبثت هنيهة تتأمل، ثم ردتها منذعرة وهي تقول: إن فيها سمًّا قاتلًا.

– أيقتل في الحال؟

– كلا، بل إن مَن يشربه أو يشمه يصيبه ما يصيب السكارى، فيبتدئ بإباحة جميع أسراره ثم يجعل يهذو هذيانًا شديدًا، ثم يموت شر ميتة بعد عذاب شديد.

فاكتفت باكارا بما سمعته، ثم أيقظتها وقالت لها: اذهبي فنامي نومك الطبيعي.

وخرجت مع الكونت إلى الغرفة التي كان مختبئًا فيها وقالت له: ابقَ فيها على حذر، وأنا داخلة إلى هذا القاتل.

ودخلت إلى شاروبيم ولكنها خبَّأت الزجاجة في صدرها وجلست أمامه على كرسي وقالت له: إذن فقد خُدِعت وسقطت في الفخ.

وكانت تقول له هذا القول بلهجة المتهكم، وقد هرب الابتسام من شفتيها، فاختلج فؤاد شاروبيم وسألها: أي فخ تعنين؟

– أريد به الرسالة التي قادتك إلى هنا، إلا إذا كانت من مخترعاتك.

– ألستِ أنتِ إذن التي كتبتها؟

فقهقهت ضاحكة وقالت: لقد بلغت البلاهة منكم معشر الرجال أنكم تحسبون أن نظرة واحدة منكم تكفي لافتتان النساء بكم.

– ولكنكِ ألم تأذني لي بزيارتك؟

– أتريد أن أكلمك بحرية وجلاء؟

– لا أحَبَّ لديَّ من هذا.

– إذن فاسمع … أتعلم لماذا قبلتك في منزلي بدلًا من أن أطردك كما تستحق لتجرُّؤِكَ ومراهنتك عليَّ كما يتراهنون على الجياد؟ ذلك لأني كنتُ أعرف عنادك وثقتك من نفسك، فعلمت أنك مائت لا محالة، فإذا أصررتَ على الرهان وأردتُ إنقاذك من الموت … انظر إليَّ أترى بين ملامحي ما يدل على الشر والتلذذ بقتل الناس؟ إن باكارا لا تطيق أن يقتتل رجلان من أجلها؛ ولهذا فقد أذنت لك أن تزورني وبالغت في ملاطفتك كي أحملك على الرجوع عن هذا الرهان الشائن الخطر، فإن الكونت أرتوف يقتلك دون إشفاق لو تم عقد هذا الرهان وكان الفائز فيه، بل كان ينوب في قتلك عن العدالة، فإنك تجرأت على إهانة امرأة ليس لها أخ ولا أب ولا زوج يحميها.

فطاش رأس شاروبيم مما سمع وقال: إذن فأنتِ لا تحبينني؟

فضحكَتْ ضحك الهازئ وقالت: لا شك أنك مجنون.

ثم دفعت يده التي كان يقدِّمها لها بأشد احتقار، وعند ذلك فُتِح باب الغرفة المجاورة وطلع منه الكونت أرتوف طلوع القضاة، فكان كالصاعقة انقضت على رأس شاروبيم، فصاح صيحة القانط وجعل يتراجع منذعرًا لمرآه حتى استند إلى الجدار.

وكان بيد الكونت مسدس، فمشى به إلى شاروبيم وقال له: إني يا سيدي قد أحضرت معي المال كما طلبتَ، وأحضرتُ معه هذا المسدس فاستعدَّ للموت حسب الاتفاق، فإنك لم تَفُزْ بقلب باكارا.

٤٦

قبل هذه الحادثة بساعة كان روكامبول في منزل دايي ناتها الهندية، فلما رأته أقبل فرحت وقالت: لقد طال غيابكم حتى حسبت أنكم تخلَّيْتُم عني وغادرتموني أموت بالسم الذي تجرعته، فإنك تعلم أنه لا يشفيني منه غير خاتم المركيز.

– اطمئني فسيكون هذا الخاتم لكِ غدًا، فإننا إذا لم نشفق على صباك أشفقنا على الملايين التي سنقبضها منك.

فاطمأن قلبها وقالت: كيف يكون قتل المركيزة؟

– ستعلمين ذلك متى تمَّ القتل وأصبحتِ زوجة لابن عمك، والآن تفضلي بالجلوس إلى هذه المنضدة كي أملي عليكِ رسالةً إلى ابن عمك المركيز. وامتثلت له وأملى عليها ما يأتي:

احضر إليَّ أيها الصديق في الساعة السابعة من المساء لأخبرك بالأسف الشديد كيف أني وفيت بوعدي، ولأطلعك على الحقيقة التي تعلم منها صدق أقوالي السابقة بالبرهان، وتعلم أين تجد الخائنين.

ثم وقَّعَتْ على الرسالة ودفعتها إلى روكامبول، فقبَّلَ يدها وطمنها وانصرف وذهب توًّا إلى منزل الأرملة ملاسيس، واستقبله الخادم فانتير وهو من أعضاء العصابة وأدخله إلى الأرملة.

ولم تكن الأرملة تعرفه من قبلُ، ولكنها رأته مرةً عند المركيزة في حفلة راقصة، فأشارت إليه بالجلوس وهي تُظهِر استغرابها من هذه الزيارة، فأدرك روكامبول ذلك منها وقال لها: لا تعجبي لزيارتي في هذه الساعة المتأخر، بل اعلمي أن خادمك فانتير من رجالي، وفي هذه الإشارة كفاية.

– نعم، لقد خطر لي هذا الخاطر حين رأيتُكَ.

– إذن فاعلمي أني أتيت الآن أسألك قضاء مهمة سيكون جزاؤك عن قضائها زواجَكِ بالدوق.

فاختلجت الأرملة وعلمت أن المهمة خطيرة تعادل الجزاء، ثم قالت: إني مصغية إليك يا سيدي، فقُلْ ما تريد.

– أريد أن أملي عليكِ رسالة للمركيزة فان هوب.

واستعدت الأرملة للكتابة، وأملى عليها روكامبول ما يأتي:

صديقتي العزيزة

إن شاروبيم يلح بأن يراك في المساء، فاحضري إلى منزلي في الساعة الثامنة لتعزية هذا العاشق الغيور الذي لا يتكلم منذ حين إلا بأحاديث السيوف والمسدسات، ولا يزال مصرًّا على قتل زوجك.

فوقفت الأرملة عن الكتابة وقالت: ما هذا الذي تمليه علي؟

– اكتبي وستعلمين كل شيء.

فامتثلت وعادت إلى الكتابة، فأملى عليها روكامبول ما يأتي:

في الساعة السابعة أبرح المنزل، وأطلق سراح فانتير كي يخلو لكما الجو، فاحضري في الساعة الثامنة حسب العادة حيث تستقبلك خادمتي فاني، وهي تخبر بقدومك الأميركي الجميل.

فلما انتهت الأرملة من كتابة هذه الرسالة قال لها روكامبول: وقِّعِي عليها.

فكتبت اسمها في ذيلها وهي لا تفهم شيئًا من هذه الألغاز، فأخذها روكامبول ووضعها في جيبه ثم قال لها: لقد كان يسعك أن ترفضي مطالبنا الآن؛ لأن رفضك لها لم يكن يكلفني غير إبطال زواجك بالدوق، أما الآن وقد أصبحتِ لنا فلا بد لك من طاعتنا في جميع ما نريد، فإن عصياننا لا يتوقف عليه إبطال زواجك فقط بل حياتك.

وأجفلت منذعرة قائلة: حياتي؟

– نعم، فإن المرء لا يعلم متى تأتي ساعته، فقد تكونين خارجة في مركبتك فتنكسر وتدوسك دواليبها، وقد تكونين مارة على الطريق فيدهسك أحد الفرسان، وسوى ذلك من أسباب الموت التي لا تخطر للمرء في بال، ولكنها قد يتفق حدوثها لكل إنسان.

وجعل العرق البارد يتصبَّب من جبهة الأرملة دون أن تجيب بحرف، إلى أن قال لها روكامبول: لقد انقضى كل شيء وأظن أنك تخلصين في طاعتنا.

– نعم، سأطيعكم فيما تريدون.

وعند ذلك دار بينهما الحديث الآتي، وقال روكامبول: أتحبين المركيزة حبًّا شديدًا؟

– نعم، لقد كانت من خير صديقاتي قبل اليوم، وقد جعلتموها من أعدائي.

– حسنًا فعلنا، وذلك لخيرك.

فانذهلت وقالت: كيف ذلك؟

– ذلك لأنك إذا فقدتيها يكون حزنك عليها ضعيفًا.

– كيف أفقدها؟ ألعلها مسافرة؟

– نعم، ولكن سفرها في طريق الموت.

وأجفلت الأرملة وقالت: رباه ماذا أسمع؟

– لا بأس عليكِ، واجلسي الآن لنتحدث فقد يزول عنك الرعب …

ولا نعلم ما دار بينهما إلا أنها عندما فارقها روكامبول شيعته بمظاهر الرضى وهي تقول: إلى اللقاء غدًا في الساعة السادسة، ثم دخلت إلى غرفتها ولبست ثيابها وركبت مركبة وذهبت مسرعة إلى منزل المركيزة.

وكانت المركيزة وحدها في المنزل، وذهلت لزيارة الأرملة ولا سيما حين رأت آثار الاضطراب بادية في وجهها، إلا أن الأرملة أدركت منها ذلك الاستغراب وقالت: إني ما أتيت في هذه الساعة المتأخرة إلا لفرط تأثري مما شاهدت، فإني لا أطيق النظر إلى الدموع.

– ومَن الذي بكى أمامك؟ ألعله الدوق؟

– إنه عاشق لا ريب فيه، ولكنه لا يبكي فإن الشيوخ تنضب الدموع من عيونهم ولا يبكي إلا الشبان.

– إذن فمَن هذا الشاب؟

– أصغي إليَّ أيتها الصديقة، فإني أتيتُ لألتمس منك إجراء عمل خيري.

– قولي ما تشائين لقد شغلت بالي.

– إن هذا الشاب الذي تكلَّمْتُ عنه سيبرح فرنسا غدًا ويفارقها فراقًا أبديًّا، بل فراق رجل قنط من الحياة وأراد أن ينسى أحزانه وأشجانه في البلاد النائية، فأتى وانطرح على أقدامي.

واختلج فؤاد المركيزة وعلمت أنها تريد شاروبيم، ولكنها لبثت صامتة فقالت الأرملة: إنك قد علمت لا شك مَن هو الشاب الجسور والجبان في وقت واحد، وهو رجل يحبك حبًّا شديدًا منذ عهد بعيد، ولكنه ما زال يكتم هذا الحب في صدره حتى كاد يفتك به، وقد تجرَّأ أخيرًا فباح لكِ بشيء من هذا الحب، فانذهلت المركيزة وقالت لها: أتعرفين هذا؟

– نعم فلقد باح لي بكل شيء.

فأطرقت المركيزة برأسها إلى الأرض وعادت الأرملة فقالت: إن هذا الرجل التعس بل هذا الرجل القانط قد بعثني إليك وغادرته يبكي بكاء الأطفال.

نظرت إليها المركيزة نظرة المستغرب وقالت: لا شك أن دموعه قد أثَّرَتْ عليك تأثيرًا شديدًا، حتى إنك أتيتِ إليَّ بمثل هذه المهمة، فلقد نسيت كما يظهر أن لي زوجًا وأن كل نظرة أو كلمة من رجل آخَر تكون إهانة لهذا الزوج.

فاستدركت الأرملة وقالت: لقد أسأتِ بي ظنكِ أيتها الصديقة، فإني ما أتيتُ إليكِ من أجله بل من أجل أمه. ثم أخرجت من جيبها الكتاب الذي أملاه روكامبول على شاروبيم كما يذكر القراء وقالت لها اقرأي.

قرأته المركيزة وكانت تظهر ملامح التأثُّر بين وجهها حين تلاوته، فلما أتمت قراءته قالت: ليكن ما تريدين وسأذهب غدًا إلى لقائه في منزلكِ. فقبَّلَتْها الأرملة شاكرة وأقامت عندها هنيهة ثم انصرفت، فلقيها روكامبول وأخبرته أن المركيزة ستحضر في الأجل المضروب.

وفي اليوم الثاني وردت رسالة الهندية إلى المركيز، وهي الرسالة التي أملاها عليها روكامبول ومآلها أنها تدعو المركيز إليها لإطلاعه على البرهان، فعادت إليه الهواجس وحاول مرارًا أن يدخل إلى امرأته فيحملها بالكره على الإقرار، غير أنه ذكر اليمين التي أقسمها لابنة عمه، وهي أن لا يبوح لامرأته بشيء، فرجع عن غيِّه وكانت الغيرة تنهشه وتعض فؤاداه بأنبابها، حتى لم يَعُدْ يطيق صبرًا على احتمال حالته الشديدة.

وقد خطر له أنه إذا ثبتت الجريمة على امرأته وقتلها يقتل نفسه أيضًا، ثم تذكَّرَ أنه أقسم لابنة عمه أنه يتزوجها بعد قتل امرأته، ولكنه قال في نفسه: إن الموت يحل من كل عهد. فعزم على الانتحار الأكيد ودخل إلى غرفته فكتب وصيته، موصيًا بجميع أمواله للفقراء، ثم ختمها ووضعها في درج ونادى أقدم الخدم عنده وقال له: يوجد في هذا الدرج أوراق مالية قيمتها ٥٠ ألف فرنك وكتاب مختوم، فإذا غبت عن باريس أو إذا متُّ فإنك تأخذ المال لكَ، وتأخذ الكتاب إلى المسجل، ولكني أسألك أن تكتم السر فإننا لا نعلم ما يكون.

ثم أعطاه مفتاح الدرج وانصرف ذاهبًا إلى ابنة عمه الهندية كي يسمع منها ذلك البرهان.

وكان روكامبول وفانتير خادم الأرملة عند الهندية حين قدوم المركيز، فلما علمت الهندية بقدومه قالت لروكامبول: هو ذا المركيز قد قدم، فهل نحن متأهبون لكل شيء؟

– نعم، استقبلي المركيز وأنا ذاهب فلا أعود إليك إلا في الساعة العاشرة، وسيبقى خادم الأرملة عندك كي يدل المركيز على المنزل. ثم تركها وانصرف، فأمرت الهندية خادم الأرملة أن يدخل المركيز إلى قاعة الاستقبال فامتثل.

ولما دخل المركيز ذهل لمرآى ابنة عمه ولشحوب وجهها، وكأنها علمت سبب انذهاله فقالت باسمةً: إن ما تراه من الشحوب في وجهي هو من آثار السم. فمدَّ المركيز يده وأراها الخاتم في أصبعه وقال: إذا كنتِ قد قلتِ الحقيقة فإن شفاءك بهذا الخاتم.

– إني أؤيد قولي بالبرهان.

فاقترب المركيز وقال: هاتي برهانك إنْ كنتِ صادقةً!

– أتعرف ذلك الشاب الجميل الذي يُلقَّب بشاروبيم لفرط جماله؟

فأجفل المركيز وتذكَّرَ أنه رآه مرةً يلاطف امرأته في قصره وقال: نعم أعرفه.

– إنه هو الذي أعنيه، وإن امرأتك لم تَخُنْكَ إلا من أجل هواه.

واشتد غضب المركيز وقال: البرهان، البرهان.

– إنه يقيم في منزل مجاور لمنزل الأرملة ملاسيس صديقة امرأتك الحميمة، وقد جُرِح مرةً في مبارزة وكانت امرأتك تزوره في كل يوم.

وأعاد المركيز قوله بصوت يتهدج من الغضب: البرهان، البرهان.

– اصبر ستعلم كل شيء، فإن هذه الأرملة واقفة على سر العاشقين، وإن المركيزة تحسب أنها في مأمن من انتشار هذا السر، واصبر أيضًا فسأعطيك برهانًا آخَر. ثم قرعت بجرس كان على الطاولة، فدخل فانتير في الحال.

وقالت الهندية للمركيز حين دخوله: هو ذا خادم الأرملة.

ونظر المركيز إليه نظرة احتقار وقال لابنة عمه: ما حاجتي بهذا الرجل؟

– إنه الرجل الذي يخبرك بأنه رأى امرأتك عند الأرملة، وأنها كانت تجتمع في منزلها بشاروبيم …

فزاد احتقار المركيز وقال: ليس هذا بالبرهان، ولا أتدانى لسماع شهادة خادم يتهم امرأتي.

وابتسمت عند ذلك الهندية ابتساما هائلًا، وأخرجت من صدرها رسالة، وهي الرسالة التي أملاها روكامبول على الأرملة وخلاصتها أن الأرملة تدعو المركيزة إلى الإسراع للقاء شاروبيم الذي تهواه، قبل أن تحمله الغيرة على الفتك بزوجها.

ولما قرأها المركيز قالت له الهندية: أتشك بعد ذلك فيما أقول؟

– نعم، لا أقتنع إلا إذا رأيتُ الاثنين مجتمعين.

– إذن اتبع هذا الرجل إلى منزل الأرملة الآن تجد شاروبيم جاثيًا أمام امرأتك، وقد خلا المنزل ولم يَبْقَ فيه سواهما.

– إذن لقد دنا زمن العقاب والانتقام.

وصاحت الهندية عند ذلك متألمة من تأثير السم وقالت: أسرع أيها الحبيب إني سأموت.

فقام المركيز وأخرج الخاتم من أصبعه ودفعه إليها وهو يقول: إنك إذا كنتِ صادقةً فهذا الخاتم ينقذك من الموت، وإذا كنتِ كاذبةً فإني أعود إليك حيث تموتين بالخنجر لا بالسم. ثم أمر الخادم أن يسير أمامه وقال: استغفر ربك على الطريق، فإنك إذا كنتَ كاذبًا قتلتكَ على الأثر.

وخرج الاثنان وركبا مركبة وسارت بهما حتى بلغت منزل الأرملة، وقاده الخادم إلى غرفة الأرملة وخبَّأه فيها، ولما خرج فانتير من الغرفة لقيته الخادمة فاني على بابها، وقالت له على مسمع من المركيز وهي تتجاهل أنه موجود في الغرفة: ابقَ هنا إلى أن أعود، فإني ذاهبة لإخبار شاروبيم بأن المركيزة آتية.

فاضطرب وزالت كل ريبة لديه من كذب ابنة عمه، وعزم على قتل امرأته وعشيقها.

أما فانتير فإنه خرج مسرعًا وهو يقول في نفسه: لقد قمت بواجباتي فَلْيقتلها كما يشاء، وبينما هو خارج لقي مركبة قد وقفت على الباب كأنها تنتظر أن تعود بصاحبتها ميتة خارجة من عالم الأحياء.

٤٧

وَلْنَعُدِ الآن إلى شاروبيم، لقد تركناه في موقف تهلع له قلوب الجبابرة من الخوف، وقد صوَّب الكونت مسدسه على رأسه وقال له: لقد خسرتَ الرهان ولا بد لكَ من الموت، فجعل شاروبيم يرتجف من الخوف وينظر إليه نظرة المتوسل، فقال الكونت: إني أُمهِلك ثلاث دقائق كي تستغفر الله وتستعد للموت.

وكان شاروبيم قد عاد إليه صوابه في هذه المهلة فقال: لا أنكر أني خسرت الرهان، ولكن لا بد لي من ملاحظة أُبدِيها، وهي أنه بدلًا من أن تقتلني وتعرِّض نفسك لمعاقبة القوانين الفرنسية، اقتلني تحت ظاهرة المبارزة وأمام شاهدين كما اتفقنا من قبلُ، فتبلغ غرضك من قتلي دون أن يعاقبك الشرع، وذلك أننا نتبارز بغدارتين أحدهما محشوة وتكون لكَ، والآخرى فارغة وتكون لي.

– أية فائدة لكَ من ذلك إذا كنتَ مقتولًا في الحالتين؟ أما أنا فإني أرضى أن أكون مسئولًا لدى الشرع.

– إن فائدتي أني أريد أن أموت موت الأشراف في ساحة مبارزة، لا مقتولًا قتل المجرمين.

ولم يُجِبْه، لكن باكارا ضحكت ضحكًا عاليًا ثم قالت: أتتكلم عن الأشراف وأنت لا صلة بينك وبين الشرف.

فنظر إليها نظرة منكرة وقد علم أنها هي التي قضت عليه بالموت وليس الكونت، أما باكارا فلم تحفل به وقالت: إن الشريف لا يبارز سوى الشريف، وقد راهنك الكونت حين كان منخدعًا بك منذ أيام، أما الآن يعلم أنك عضو عامل في عصابة لصوص. ثم التفتت إلى الكونت قائلة: أيها الصديق، اقتل هذا الأثيم، فإن قتله قد يسرُّ المركيزة فان هوب.

ولما سمع شاروبيم اسم المركيزة علم أن باكارا واقفة على كل الدسيسة، وصاح قائلًا: رحماك إنني ألتمس العفو.

أما الكونت فإنه أخرج مسدسه من جيبه وقال: لقد انتهى زمن المهلة، اركع واستعد للموت.

فركع شاروبيم أمام قدمي الكونت وقال وقد اصطكت أسنانه من الخوف: رحماك يا سيدي الكونت، واعفُ عني، فما أنا إلا خائن أثيم، وإنني أستحق أن تحتقرني وتدوسني بقدميك، فاحتقرني كما تشاء واصفح عن دمي، فإنني أفارق هذه البلاد فراق الأبد. ثم جعل يبكي وينظر نظر المستعطف المتوسل إلى الكونت وإلى باكارا، فدنت باكارا عند ذلك منه وقالت: قُلْ، أتريد أن تعيش؟

– إنني أصنع لكِ جميع ما تريدين إذا أبقيتِ على حياتي.

– إذن فإنكَ تستطيع أن تشتري حياتك بشرطين؛ أحدهما أن تقول لنا أية علاقة لك بالمركيزة فان هوب.

فقال شاروبيم بفرح: نعم، نعم إني أقول كل شيء على شرط أن تحميني منهم، فإنهم يقتلونني دون ريب.

– مَن هم الذين يقتلونك؟

– أعضاء الجمعية السرية.

فقالت باكارا: اعلم قبل كل شيء أني واقفة على جميع أسراركم، فلا تكتم شيئًا، وإذا أردتَ أن تعيش أحميكَ من هذه العصابة.

– نعم يا سيدتي إني أقول كل شيء. ثم اندفع في القول فباح بجميع ما عرفناه من علائق هذه الجمعية، ومحل اجتماع أعضائها، وأسماء أولئك الأعضاء، وشدة خضوعهم لرئيس مجهول لا يعلم اسمه سوى روكامبول، ثم باح لها بجميع ما عهد إليه أن يصنعه مع المركيزة فان هوب، والفخ الذي نصب لها، وحديث ملايين الهندية، إلى غير ذلك مع جميع ما كان يعرفه.

ولما فرغ من كلامه قالت له باكارا: إني أعرف جميع ما ذكرت، ولم يَبْقَ عليَّ سوى معرفة اسم الرئيس، ولا يمكن العفو عنك إلا إذا بُحْتَ بهذا الاسم.

فاستخرط شاروبيم بالبكاء وقال: إني أقسم بالله العظيم إني لا أعرف اسم الرئيس، وإن الفيكونت دي روكامبول هو الذي يعرف كل شيء.

– حسنًا، سنرى إذا كنتَ كاذبًا.

ونهض شاروبيم وهو يحسب أنه قد نجا، فقالت له باكارا: إنك لم تنجُ بعدُ، فإنكَ لم تنفذ إلا الشرط الأول، وقد بقي الشرط الثاني.

– إني مستعد لتنفيذ جميع ما تريدين.

فأخرجت باكارا زجاجة العطر من صدرها وقالت له: ماذا يوجد في هذه الزجاجة؟

وكان شاروبيم يعلم من أمرها غير ما لقَّنَه إياه روكامبول، فقال لها: إنها تتضمن عطرًا هنديًّا يهيج الأعصاب.

– أليس فيها سمٌّ؟

– كلا.

– إذن أجربها بك.

فقبل شاروبيم وهو لا يخطر له في بال أن أندريا قد ملأها من السم النقيع بغية قتل باكارا.

وأعطته باكارا الزجاجة وقالت: فُضَّ ختمها وتنشَّقْ منها إذا كنتَ صادقًا، فإن هياج الأعصاب لا يضر.

وامتثل شاروبيم وفتح الزجاجة ثم جعل يتنشق رائحتها وهو لا يعلم أنه يتنشق الموت، ولما فرغ من ذلك قالت له باكارا: اجلس الآن هنا تحت حراسة الكونت إلى أن أصدر لكَ أمرًا جديدًا، فإني لا أستطيع إطلاق سراحك لأني أخشى بعد أن بُحْتَ بأسرار العصابة بأن تخبرها بما أُكرِهتَ على فعله.

ثم خرجت وهي تقول للكونت: احرص عليه أشد الحرص. وبرحت منزلها وركبت مركبة وقالت للسائق: اذهب بي إلى قصر المركيزة فان هوب.

وكان الليل قد انتصف، فلما بلغت إلى القصر طلبت مقابلة المركيزة.

فقال لها أحد الخدم: إنها نائمة يا سيدتي.

– لا بأس أيقظوها، فإني قدمت إليها لأمر خطير.

ولم يجد بدًّا من الامتثال، وبعد هنيهة أمرت المركيزة بإدخالها إليها.

ودار بينهما حديث طويل أطلعتها باكارا على جميع الدسيسة، وعلى جميع ما صنعت لإنقاذها إلى آخِر ما تعلمه من أسرار هذه المكيدة الهائلة.

واضطربت المركيزة وقالت: لا بد أن يكون المركيز بأشد حالات القنوط.

– لا بأس لأنه سيفرح غدًا، فإني قد ملكت جميع أعضاء هذه العصابة، ولم يَبْقَ سوى واحد.

ثم مررت يدها على جبهتها كأنها ذكرت أمرًا وقالت لها: يجب عليكِ طاعتي في كل شيء إذا أردتِ السلامة لكِ ولزوجكِ ومعاقبة أولئك الأشرار، وأول ما أبدأ به هو أني أسألك أن تعطيني ذلك الخاتم الذي يلبسه زوجك كل يوم، وهو الخاتم ذو الفص الأزرق.

– لماذا؟

– إنه سر لا أستطيع أن أبوح به الآن.

– إنه يخلعه عادة كل ليلة قبل النوم، ولكني إذا أخذته فلا بد له من طلبه في الصباح.

– أليس له بين الخواتم الكثيرة خاتم يشبه هذا الخاتم.

– نعم، اصبري إلى أن أبحث.

ثم تركتها وذهبت تبحث في صندوق المجواهرات إلى أن عثرت بخاتم يشبهه أتم الشبه، فدخلت إلى غرفة ملابس المركيز دون أن يشعر بها، وأخذت ذلك الخاتم ووضعت مكانه الخاتم الذي يشبهه، ثم عادت به إلى باكارا فأعطتها إياه.

فقالت لها باكارا: بقي أمر واحد يا سيدتي، وهو أنه لا بد لك الآن من مغادرة هذا المنزل والذهاب معي إلى منزلي إلى أن أكشف تلك الأسرار في الغد.

ودهشت المركيزة وقالت: كيف أبرح منزلي في منتصف الليل؟ وماذا عسى أن يقول المركيز؟

– ليقل ما شاء، فإن حياتك في خطر، وذلك أن الهندية لا بد أن تقول للمركيز بأنك ستقابلين شاروبيم في الساعة الثامنة من مساء الغد.

– ولكني لا أذهب إلى هذا اللقاء المشئوم.

– لقد أصبتِ، ولكنكِ لم تعرفي بعدُ أخلاق الرجال، فقد تهيج الغيرة في صدر زوجك فيقتلك قبل أن يقف على البرهان، ثم يقتل نفسه كي يستريح.

وارتعدت المركيزة وقالت: إذن إني أذهب معكِ حيث تشائين.

ثم خرجتا وذهبتا إلى منزل باكارا دون أن يشعر بهما أحد غير وصيفة المركيزة، غير أن المركيزة كانت تثق بهذه الوصيفة، فأمرتها أن لا تذكر أمام المركيز شيئًا من زيارة باكارا، وأمرت الخادم مثل هذا الأمر قبل انصرافها.

وبينما كانت باكارا عند المركيزة، كان السم قد أثَّر بشاروبيم فجعل يبوح للكونت أرتوف بجميع أسرار حياته وهو يضحك ويتعب شأن السكارى، ودام على ذلك مدة ساعة إلى أن باح بجميع مكنونات فؤاده، ثم استحال هذا الزهو والسرور إلى انقباض شديد عقبه نزاع أليم وصراخ شديد، فما طال به الأمر حتى سقط صريعًا على الأرض، فعلم الكونت أن الفتاة اليهودية قد صدقت بجميع ما قالت، وأن الزجاجة لم يكن عطرها غير سم هائل.

فلما عادت باكارا والمركيزة وعلمتا من الكونت أن شاروبيم قد مات من السم، قالت باكارا للمركيزة: إننا قد صفحنا عن حياته، ولكن الله أراد أن يرميه بالفخ الذي كان يريد لي الموت فيه، فَلْنستغفر الله.

ثم ركعتا بالقرب منه وجعلتا تصليان عن نفس هذا الأثيم المنكود.

٤٨

تركنا المركيز فان هوب في الغرفة التي خبَّأه فيها فانتير خادم الأرملة، فأقام فيها متربصًا وبيده المسدس لقتل امرأته التي كان هائمًا بحبها منذ اثني عشر عامًا، فكان يحس بالعرق البارد ينصب من جبينه حين يسمع أقل حركة بالقرب منه.

وقد خطر له لفرط ما أصابه من العذاب أن يقتل نفسه، ولكنه تراجع عن هذا القصد لاعتقاده أنه يخدم امرأته وعشيقها أجَلَّ خدمة بانتحاره، إذ تتزوج به بعد موته. فهاجت بصدره الغيرة حتى عول قتل الاثنين.

ودقت الساعة الثامنة، وهو الأجل المضروب، ولم تحضر حتى فرغ صبره، وعزم على الخروج من مخبأه، فسمع أن الباب قد فُتِح، ونظر من ثقب باب الغرفة التي هو فيها، فرأى امرأة علم من ملابسها أنها خادمة المنزل.

وكانت هذه الخادمة فاني، وقد أدخلها أندريا في خدمة الأرملة لأنها كانت منخرطة في سلك العاصبة، فجلست تلك الخادمة على كرسي بالقرب من باب الغرفة المختبئ فيها المركيز وجعلت تناجي نفسها بصوت يسمعه المركيز، وبلهجة المتأففة المغضبة، فتقول: أف لهذه الخدمة ما أتعبها وما أكثر مشاقها! فإنه إذا كانت هذه الأرملة تمتهن شر المهن فإني أمتهن أيضًا أشدها تعبًا، وذلك لأني أضطر أن أنتظر على الباب ساعة كل ليلة، وماذا عليَّ الآن إذا ذهبتُ، فإن هذه المركيزة قد تعرف أن تدخل وحدها، فقد كاد يقتلني البرد.

فأجفل المركيز وعضَّ شفتيه من الغيظ، لأنه علم أن سر امرأته بات مضغة في فم خادم وخادمة، فذهب من فؤاده كل حنو لامرأته وعزم على قتلها بفظاعة منكرة، وفيما هو على ذلك فتح الباب ودخلت امرأة فقالت: هي ذي المركيزة.

ولكنها ما لبثت أن رأتها حتى تراجعت منذعرة إلى الوراء، وكادت تسقط من الخوف.

ونظر المركيز من ثقب الباب وهو يحسب أن الداخلة كانت المركيزة، فرأى أنها امرأة حسناء ولكنها غير امرأته، أما تلك المرأة فإنها كانت باكارا، فلما دخلت إلى الغرفة خلعت ردائها الذي كانت متشحة به، وتقدمت من فاني وهي خادمتها القديمة التي خدعتها في المستشفى كما يذكر القرَّاء في الرواية السابقة، فقبضت على خناقها وضغطت حتى كادت تخنقها، فصاحت صيحة شديدة من الألم، فأفلتتها باكارا وقالت لها: إذا أردتِ النجاة من الموت فاجلسي أمامي نتحدث.

فجلست فاني وهي تضطرب من الخوف وقالت لها: ماذا تريدين؟

– أريد أن أحادثكِ، فقولي ماذا تعملين هنا؟

– إني أنتظر سيدتي.

– كذبتِ فإن سيدتك قد خرجت من المنزل، وهي لا تعود إليه إلا في مننتصف الليل.

فعلمت فاني أنها واقفة على شيء من السر، فقالت: بل إني أنتظر صديقة لسيدتي.

وقد دار بينهما الحديث الآتي، فقالت باكارا: ومَن هي هذه الصديقة؟

فترددت فاني عن الجواب، فأخذت باكارا خنجرًا من صدرها وجردته من غمده، ثم أدنته من الشمعة الموقدة حتى ظهر بريقه وقالت لها: أتعرفين هذا الخنجر؟

وحاولت فاني أن تهرب ولكن باكارا قبضت عليها بيد من حديد وأجلستها في مكانها مكرهة، ثم قالت: قولي مَن هي هذه الصديقة؟

– المركيزة فان هوب.

– انتبهي جيدًا إلى ما ستجيبينني إليه، فإني سأسألك كما يسأل القاضي المجرمين، وحذار أن تكذبي بحرف.

فعلمت فاني أنها تقتلها دون شك، فقالت: سليني ما تشائين فإني أجيب.

– لقد قلتِ أن المركيزة فان هوب هي صديقة لسيدتك.

– نعم.

– وهي ستجيء في هذا المساء؟

– نعم، وقد كان حقها أن تحضر الآن.

– ماذا تأتي لتعمل في هذا المنزل إذا كانت سيدته غائبة عنه؟

– إنها تأتي إليه لتجتمع فيه بشاب.

– مَن هو هذا الشاب؟

– هو شاروبيم.

– لماذا تريد الاجتماع به؟

– لأن المركيزة قد وصل إليها كتاب منه، وقد أوصلت الأرملة مالاسيس هذا الكتاب إليها أمس.

– ماذا يتضمن هذا الكتاب؟

– لا أعلم حقيقة فحواه، غير أن الذي علمته أن شاروبيم يريد أن يهاجر فرنسا بحيث لا يعود إليها، وهو يلتمس من المركيزة أن تقابله بحضور الأرملة.

فهزَّتْ باكارا الخنجر بيدها وقالت: أتحب المركيزة شاروبيم؟

فأيقنت فاني من دلائل إنذارها أنها واقفة على كل شيء، وأنها إذا كذبت أقل كذبة تقتلها دون شك، فأجابتها: كلا، إنها لا تحبه.

– إذن فما الغرض من قدومها إلى هذا المنزل؟ ثم قالت لها: احذري من الكذب، فليس في هذا المنزل مَن يشاهدني، بحيث إنكِ إذا كذبت أقتلك دون إشفاق.

– إذن فاعلمي الحقيقة، وهي أن سيدتي الأرملة تخدع المركيزة لخدمة شاروبيم، ولشاروبيم فائدة من إغواء المركيزة، غير أنه لما كانت المركيزة امرأةً شريفةً فقد حسبوا …

– مَن هم الذين حسبوا؟

– مدام ملاسيس وخادمها فانتير وآخَرون.

– قلتُ لكِ لا تكتمي أمرًا، فلا وقت لنا للتردد.

ثم هزَّتْها بيدها وأشهرت عليها الخنجر، فارتاعت فاني وباحت لباكارا بجميع أسرار الدسيسة، إلى أن انتهت من كلامها، فأشارت بيدها إلى الغرفة المختبئ فيها المركيز، وقالت لها: إن زوجها مختبئ الآن في هذه الغرفة.

وعند ذلك فُتِح باب الغرفة وبرز منه المركيز وهو أصفر الوجه والدموع تجول في عينيه، فتقدمت منه باكارا وقالت له: إن الله يا سيدي أبى أن يعين أهل الشر والفساد، ولقد سمعتَ كلَّ شيء كما ظهر لي، فما أنت في حاجة بعدُ إلى برهان على طهارة امرأتكَ وعفافها، على أنك إذا أردتَ أيضًا برهانًا آخَر اتبعني إلى حيث أنا ذاهبة.

٤٩

بينما كانت هذه الرواية تُمثَّل في منزل الأرملة، كانت رواية أخرى أبلغ منها في التأثر تُمثَّل في منزل الهندية، وذلك أنه عندما برح المركيز وفانتير منزلها شعرت الهندية بألم السم، فأخذت الخاتم الذي أعطاها إياه المركيز ووضعته في كأس من الماء، حتى إذا انحلَّ الفصُّ الذي فيه، شربَتْ مزيجَ الماء وشُفِيتْ من أعراض السم.

وقد وضعت الخاتم في الكأس وتشاغلت عنه عشر دقائق إلى أن يتم انحلاله، ثم عادت ونظرت إلى الكأس فرأت أن ماءها لم يتغير، وأن فصَّ الخاتم لا يزال على حاله، فخافت وخشيت أن يكون الحجر قد فقد تأثيره لانتقاله من بلاده إلى بلاد غريبة، أو لتقادم عهده، ولكنها لبثت تنتظره وهي محدقة بماء الكأس حتى مرت بها ساعة وهي في هذا الموقف الشديد دون أن يتغير الماء، فأدركت أنها مائتة لا محالة، ونسيت المركيز وغرامها القديم لتعلُّقِها بأهداب الحياة، ومُثِّلَ الموت لديها بأقبح الصور، فصاحت صيحة شديدة وسقطت على مقعد بالقرب منها وقد وهت رجلاها لفرط ما أصابها من اليأس.

وعند ذلك فُتِح باب الغرفة التي كانت فيها ودخل منه رجل تصحبه امرأة مقنَّعة بقناع كثيف.

وكان هذا الرجل الكونت أرتوف والتى تصحبه المركيزة، فدهشت الهندية لمرآها، أما الكونت فإنه مشى إلى المنضدة التي كان عليها الكأس ونظر إلى الخاتم فيها، ثم التفت إلى الهندية وقال لها: أليس هذا الخاتم الذي وضعْتِه في الكأس هو الذي تركه لكِ المركيز؟

– نعم.

– أليس محلول حجره يشفي من السم الذي شربته؟

– نعم.

– لقد أخطئتِ يا سيدتي، فإن حجر هذا الخاتم لا تذيبه المياه ولا يشفى السموم، فإنه جوهرة من الجواهر العادية، أعطاك إياها المركيز وهو يحسبه أنه ذلك الخاتم الذي أحضره من الهند، غير أنه أُبدِلَ بشبيهه، وإذا أردتِ زيادةً في البيان والتفصيل، فسَلِي هذه السيدة تخبرك بكل شيء.

فرفعت المركيزة عند ذلك البرقعَ عن وجهها، وكانت الهندية قد رأتها مرةً حين قدومها إلى باريس، فطبعت صورتها في مخيلتها.

ولا يسع الكاتب وصف ما لقيته هذه الهندية من التأثير حين رأت عدوتها اللدودة، فإنها نسيت موقفها الهائل، وأنه لم يَعُدْ لها نجاة من الموت لاستبدال الخاتم بسواه، ولم تذكر غير أمر واحد وهو أن هذه المركيزة التي كانت تحسبها في عداد الأموات لا تزال حية، وأنها أتت إليها كي ترى نزعها الأخير، وأن الدسيسة لم تفلح، وأنها وقعت هي في الشَّرَك الذي نصبته لسواها، فاتقدت عيناها، وخرج منها شرر الانتقام، فقالت لعدوتها: إذن لا تزالي حية؟

فأجابتها المركيزة بلطف: إن الله قد أنقذني، وقد أتيتُ إليكِ كي أغفر لكِ يا سيدتي وأصفح عما أسأتِ به إليَّ.

فاضطربت الهندية وقالت: أنتِ تغفرين لي؟ إني أؤثر كل الموت على هذا الغفران، ولا شك أن زوجكِ قد غفر لكِ جريمتكِ، أما أنا فإني أموت ولا أصفح عنكِ.

ثم نظرت إلى ما حولها تلتمس خنجرًا أو آلة قاتلة، فلم تجد فأطبقت يدها منذعرة وهجمت عليها تريد تمزيقها بأسنانها، ولكنها لم تستطع أن تبلغ إليها وهوت من تأثير السم، وخرج الزبد من شدقيها.

فدنت منها المركيزة وقالت لها بلهجة حنو: إنكِ في حالة نزاع، أتموتين هكذا دون أن تستغفري الله؟

فاشتدَّ هياج الهندية وقالت: إني لا أعتقد إلا بسيفا إله جهنم، ولا ألتمس منه إلا أن يرسل ناره على رأسك ويحيط بك بأبالسته.

فلم تغضب المركيزة لكلامها وقالت لها: إنكِ يا سيدتي في حالة شديدة، ولا تُؤاخَذين فيما تقولين، ولكنك إذا كنتِ تحبين الحياة فقولي كلمة واحدة، قولي إنكِ رجعتِ عن بغضي والحقد عليَّ فتحيي.

فأجابتها بالشتائم والسباب وقال: قبحت حياة تكون من عندكِ.

إلا أن المركيزة لبثت على سكونها ووداعتها، فأخرجت من جيبها خاتم المركيز الأصلي المحتوي على ترياق السم، وقالت: هو ذا شفاؤك في يدي، وقد أتيتُ لأنقذكِ من الموت.

وكأن هذه الكلمات قد جذبت إليها آمال الحياة، فحدقت بالمركيزة تحديقًا طويلًا ثم ضحكت ضحكًا عاليًا مؤثرًا، وقالت: إذن فإن الترياق معكِ وحياتي بين يديكِ.

– نعم، وأنا ما أتيتُ إلا لإنقاذكِ.

– لقد ذهبَتْ مساعيكِ عبثًا فانصرفي في شأنكِ، أني أؤثر الموت على حياة تدبُّ إليَّ منكِ؛ لأني أكرهك وأنفر منك نفور الظلمة من النور.

ثم أنَّتْ أنين الموجع، فخرج أنينها من صدرها كزئير السباع.

وعند ذلك فُتِح الباب ودخلت منه باكارا والمركيز، فلما رأت الهندية ابن عمها قالت له: ألعلكَ خفتَ واضطربَتْ يدكَ، فرجعتَ عن قتل هذه الأثيمة؟

فصاح بها المركيز: اسكتي أيتها الخائنة، فإنها من الملائكة الأطهار، وما أنتِ إلا رسول جهنم على الأرض.

ثم رجع إلى امرأته، فركع أمامها وقال: إن هذه المرأة قد نمت بكِ، ووشت عليك أقبح وشاية، فاغفري لي إساءة ظني واغفري لها فإنها ستموت.

فأكبت المركيزة عليه تعانقه باكية وهي تقول: لقد ظهرت براءتي وعلمتَ الآن أني جديرة بحمل اسمكَ الشريف، وقد صفحتُ عن هذه المسيئة إليَّ وإليكَ، فاصفح عنها أنتَ أيضًا وأنقذها من الموت.

فنهض المركيز وقال: ليكن ما تريدين.

ثم أخذ منها الخاتم وألقاه في كأس ماء وقال لابنة عمه: هو ذا الترياق في الماء، فإذا أردتِ الحياة فالتمسي العفو من تلك المرأة الشريفة التي أردتِ تدنيسها بوشاياتكِ.

– كلا، لا أطلب عفوًا ولا أريد مرحمة، فالموت خير من الحياة.

ثم جعلت تتقلب على مقعدها وتَئِنُّ من آلامها أنينًا موجعًا، والجميع ينظرون إليها مشفقين معجبين من هذا الحقد الدفين، إلى أن زادت آلامها عن حد احتمالها وجعلت تصيح صياحًا منكرًا وتتلوي تلوِّي الأفعوان، فعاد إليها رشدها وتمثلت لها لذة الحياة، وضاق صبرها عن احتمال آلامها فقالت: هات الكأس … اسقني الترياق.

فأسرع المركيز إليها بالكأس وقال: هو ذا الكأس، بقي أن تسأليها العفو.

فامتثلت صاغرة والتمست منها العفو، ثم مدت يدها تريد أخذ الكأس، فأسرعت باكارا واختطفته من يده وقالت: إذا كانت هذه الفتاة تريد الحياة، فَلْتَقُلْ لنا أسماء شركائها بالجريمة الذين أرادت أن تدفع لهم الملايين الخمسة.

فقالت الهندية بصوت خافت من النزع: إنهما اثنان.

فقالت باكارا: اذكري اسميهما.

– إن أحدهما يُدعَى الكونت روكامبول.

فاضطرب المركيز وذكر روكامبول، وقال: إن هذا سيموت من يدي.

فقالت باكارا: اذكري اسم الآخَر، اسم الزعيم.

فقالت الهندية، وقد أطبقت عينيها وخفت صوتها: عرفته … في نيويورك.

– اذكري اسمه.

وكانت ترجو أن تذكر أمام جميع الحاضرين اسم السير فيليام، فيفتضح أمره أمام الشهود وتبلغ منه في إقناع أخيه ما تريد.

ففتحت الهندية فمها لتنطق باسمه، غير أن صوتها اختنق، فمدت يدها إلى الكأس دون أن تستطيع الكلام، فعادت باكارا إلى الإلحاح بذكر اسمه ومنعت عنها الكأس، فحاولت الهندية أن تذكر الاسم غير أن قواها خانتها، فصرخت صرخة منكرة وانقلبت مائتة دون أن تتمكن من الإباحة باسم أندريا، كأنَّ إله الشر لا يزال باسطًا حمايته عليه.

٥٠

وبينما كانت الهندية يقطِّع السم أحشاءها، وقد عقدت آمالًا خائبة على خاتم المركيز، كان أندريا ملتفًا بردائه وواقفًا في زاوية بالقرب من منزل الأرملة متربصًا، فخرج الخادم فانتير ومَرَّ بالقرب منه دون أن يراه، فعلم أندريا أن المركيز مختبئ بالغرفة، وجعل ينظر متوقعًا من حين إلى حين أن يسمع دوي مسدس هذا الزوج الغيور.

فمرت الساعة الثامنة والنصف دون أن يسمع هذا الصوت الذي يكسبه خمسة ملايين، فخطر السوء في باله، وأول ما تبادر إلى ذهنه باكارا، فصبر عدة دقائق أيضًا ثم عول على الدخول إلى المنزل، وذلك بعد أن خرجت منه باكارا والمركيز بزمن وجيز، فدخل ولم يجد أحدًا، فجعل يجتاز من غرفة إلى غرفة حتى بلغ الغرفة التي فيها فاني، فوجد تلك الخادمة القديمة في خدمته جالسة على كرسي وهي قد وضعت رأسها بين يديها وأطرقت إطراق مَن أُصِيب بخطب جليل، ثم رأى خنجرًا على مائدة بقربها، فوجف فؤاده وأيقن أنه من آثار باكارا، فأخذه ودنا من الخادمة، فلما رأته فاني حسبت أنه آتٍ لقتلها فانطرحت على قدميه تستجير منه به، أما أندريا فإنه قبض على شعرها ووضع الخنجر على عنقها وقال: قولي أين شاروبيم؟

– إنه لم يحضر.

– وباكارا؟

– إنها ذهبت مع المركيز.

– إلى أين؟

– إلى منزل الهندية.

فعلم أندريا أنه فقد كل رجاء، وأن هذه الخادمة قد خانته فطعنها بخنجره طعنة إلى قلبها، ثم غادرها مخضبة بدمها وانطلق وهو يقول: إذا نجوا جميعهم من قبضتي، فإن أرمان لا ينجو.

ومشى مشي المفكِّر المهموم، ولكنه بدلًا من أن يفر من أعدائه ذهب للقائهم، فتزَيَّا بزي توبته، وانطلق إلى منزل الهندية.

ويذكر القراء أن روكامبول برح منزل الهندية على أن يرجع إليها بعد ساعة، فذهب إلى النادي وأقام فيه ساعة وهو يحلم بالملايين إلى أن حان الموعد المعين، فخرج مسرعًا عائدًا إلى منزل الهندية وهو يغني في طريقه غير مكترث بشيء، حتى بلغ إلى المنزل فدخل دخول الآمِن المطمئن، ومشى إلى الغرفة المقيمة فيها الهندية، فدخل وهو لا يخطر له في بال أنه يجد فيها هذا الخليط من أعدائه، فلما تجاوز عتبة الباب ورأى الهندية ميتة والمركيز وامرأته والكونت وباكارا يحيطون بها، علم أن نجمه قد هوى، فصاح صيحة المندهش وقالت باكارا: هو ذا واحد منهما قد سقط في الشَّرَك.

أما المركيز فإنه دنا منه وقال: إني لا يصدني شيء عن قتلك الآن، ولكني لا أريد قتلك إلا بمبارزة، فانزل معي إلى الحديقة.

غير أنه قبل أن يثوب روكامبول إلى رشاده من هول ما رآه، وقبل أن يتمكن من إجابة المركيز، فُتِح مصراعا الباب بشدة وانقَضَّ رجل منهما انقضاض الصاعقة على روكامبول، فطعنه بخنجره في صدره طعنة قوية ألقته على الأرض يتخبط بدمائه وقال: أيها اللص إني أطاردك منذ شهر، وكلما عثرت بك تنجو مني، أما الآن فقد قُضِي عليكَ وقُضِي على هذه الجمعية السرية الهائلة من بعدك إذ لم يَعُدْ لها رئيس.

وكان هذا الرجل القاتل المتلبس بالتوبة والصلاح أندريا، ذلك الرجل الزاهد الناسك رئيس بوليس أخيه أرمان، فلم يَبْقَ ريب لدى الحاضرين بصلاحه، وصُعِقت باكارا لخذلانها ولما رأته من جرأة هذا الرجل الذي يعرف أن يبلغ النصر من طرق الفشل والخذلان، وقالت في نفسها: لقد انتصر الشر على الخير أيضًا. غير أن باكارا كانت تثق بالله وكان الله معها.

٥١

ندخل الآن في القسم الأخير من هذه الرواية الهائلة، ولا بد لنا أن ندع بعض أشخاصها للاهتمام بأرمان دي كركاز، فنقول: بعد ثلاثة أشهر مضت على الحوادث المتقدمة، كان رجل طريح الفراش في منزل صغير وأمامه امرأة عجوز تنظر إليه بحنو، فنظر إليها العليل وقال لها: بأي يوم نحن يا أماه؟

– في الرابع عشر منه.

– أتعلمين أني طريح هذا الفراش منذ ثلاثة أشهر؟

– نعم، فإن نجاتك من الموت كانت من العجائب الخارقة.

– إن الأبالسة قد أخذت بيدي، فإن ساعتي لم تَحِنْ بعدُ ولكني لا أجد بدًّا من الخروج للتنزه، فقد سئمتُ العيش في هذا الفراش.

– إن النزهة تفيدك يا بني، ولكنك لا تستطيع الخروج قبل أن يحضر الرئيس.

– تبًّا له من رئيس، فلقد كاد يبعث بي إلى الدنيا الآخرة، ولكنه رجل نابغة، وأنا أجد لذة في الامتثال له.

وكان هذا الشاب روكامبول بعينه، وتلك العجوز التي يناديها بأمه لم تكن إلا مدام فيبار. وحكايته أنه بعد أن طعنه أندريا تلك الطعنة الهائلة سقط على الأرض مغشيًّا عليه أمام الهندية المائتة، ثم انصرف جميع مَن كان في غرفتها، وهم الكونت الروسي وباكارا والمركيز والمركيزة وأندريا، كلٌّ في شأنه وخلا المكان للخدم، فسرقوا كل ما عثروا عليه من أمتعة الهندية وحليها، حتى إنهم جردوا روكامبول من ملابسه فسلبوها أيضًا وفروا بها.

وفي اليوم التالي اتصل الخبر برجال الحكومة، فأقبلوا إلى المنزل ورأوا الهندية مائتة والمنزل مسروقًا، وروكامبول طريحًا بالقرب من الهندية وفيه بقية رمق، ففتشوا جيوبه علَّهم يجدون بها ما يدل على اسمه، فلم يجدوا شيئًا، فحملوه إلى المستشفى وهم يؤملون أن يعلموا حقيقة الأمر بعد أن يعود إلى رشده.

غير أن الحقيقة بقيت مكتومة عنهم؛ فإن روكامبول حين عاد إلى رشده اتصل به هذيان الحمى، فكان كلما أتاه رجال التحقيق يجدونه في هذيانه فلا يعلمون منه أمرًا، ولم يكن هذيان روكامبول طبيعيًّا بل إنه كان يتكلفه تكلُّفًا كي يتنصل من رجال البوليس؛ وذلك لأنه عندما صحا من غشيانه جعل يتذكر ما مضى، فذكر أنه رأى الهندية مائتة وأن أعداءه كانوا محيطين بهما، وأن رجلًا هجم عليه وطعنه بخنجر، ولكنه لا يعرف مَن هو هذا الرجل، ولم يعلم شيئًا سوى ذلك من سر هذه الحكاية، وما كان من تقول الناس عنه بها، إلى أن سمع ممرضتين في المستشفى يتباحثان بشأنه وهما تحسبان أنه نائم، فكانت إحداهما تقول للأخرى: لا إخال رجال التحقيق يقفون على شيء من أمر هذا الجريح، فإنه أصبح دائم الهذيان.

فأدرك روكامبول أن البوليس يترقب أن يصحو كي يستنطقه ويقف على الحقيقة منه، فجعل عند ذلك يتكلَّف الهذيان تكلُّفًا؛ حذرًا من البوليس وهو يتوقع أن يأتيه الفرج من باب يجهله.

وطال به العهد حتى يئس الأطباء من شفائه وقنط رجال البوليس من استنطاقه، إلى أن أتت يومًا امرأة عجوز إلى المستشفى، وادَّعَتْ أن الجريح ولدها فأدخلوها إليه، وكانت هذه العجوز مدام فيبار، فلما دخلت إليه وضغطت على يده وقالت له وهي تعانقه باللغة المتعارفة بينهما: احذر من أن تخالفني فيما أقول.

ففطن روكامبول للأمر وجعل يكلمها بلهجة الولد وتكلمه بلهجة الأم.

وأتصل الأمر بالبوليس، فأقبل يسأل تلك الأم عن هذا الولد، فلفَّقَتْ لهم حديثًا طويلًا مآله أن ولدها كان خادمًا في أحد القصور في الهند، ثم اتصل بفتاة هندية فشغفت به شغفًا شديدًا، وكانت تغار عليه غيرة عجيبة وتتهمه تهمات باطلة، وتخاصمه في كل يوم ثم يصطلحان، فما كان يسعه إلا الامتثال لها لفرط ثروتها، إلى أن قالت: وكان آخِر عهدي به أنه كان مع هذه الهندية في باريس، وقد قرأت في إحدى الجرائد أن فتاة هندية وُجِدتْ ميتة في منزلها، ووُجِد شاب جريح أمامها، فما زلت أبحث عنه حتى علمت أنه في هذا المستشفى فأتيتُ إليه.

فصدَّقها رجال البوليس لما رأوه من انطباق قصتها على قضية الفتاة، ثم حملته من المستشفى إلى منزلها وأقامته فيه.

وقد عرف القراء من حديث روكامبول مع مدام فيبار أنها كانت تنتظر قدوم أندريا، فلم تزل بانتظاره حتى قدم أندريا إلى منزلها، وكانت المرة الأولى التى رآه بها روكامبول، فدار بينهما عتاب طويل تنصَّلَ منه أندريا، وكانت حجته في طعنته النجلاء أنه رآه محاطًا بأعدائه، وأنهم لا بد لهم من قتله، فسبقهم إليه وهو يرجو بذلك أمرين؛ أحدهما أن لا تكون الطعنة قاضية عليه، وثانيهما أنه إذا لم يكن له بد من الموت، فخير لأندريا أن تموت من يده كي تنفي عنه تهمة الاشتراك بالجريمة، وكي يفيد الشركة في مماته كما كان يفيدها في حياته، أما إذا قتله أعداؤه فإنه لا يفيد ولا يستفيد.

فاقتنع روكامبول أو تظاهر بالاقتناع، فأطلق أندريا سراح مدام فيبار وأقام مع تلميذه يضع له خطة جديدة شرًّا من الأولى للفتك بأخيه الكونت أرمان دي كركاز، فبدأ روكامبول يشكو من حرارة البيت المقيم فيه، فقال له أندريا: يجب عليك الشكر، فإن هذا البيت الحقير أخفاكَ عن عيون باكارا.

وكان اسم هذه المرأة قد أثار العواصف في فؤاده، فلمعت عينه بشعاع من الحقد وقال: إنها قد انتصرت عليَّ، ولكننا لا نزال في بدء المعترك، وحقيقة الغلبة لا تكون إلا لمَن يفوز الفوز الأخير.

– لا شك عندي بفوزك، إنما لا بد لكِ من الاعتراف بأننا فقدنا سبعة ملايين، أي ملايين الهندية وفرناند.

– نعم ولكننا سنغنم ضعفها.

– إن هذا محال، وليس كسب الملايين بالأمر السهل الميسور.

فلم يتدانَ أندريا لجوابه، بل قال: إنك كنتَ كونتًا أسوجيًّا ففقدته، أتحب الآن أن تعود إلى مثل هذه الألقاب؟

فابتسم روكامبول وقال: الحق أني تعوَّدْتُ على ألقاب الشرف، فلم يَعُدْ لي لذة إلا بها.

– إذن فإني أمنحك لقب مركيز برازيلي، وهو أفضل من لقبك القديم؛ إذ لا بد لكَ من الترقي لإخلاصك، فأنت تُدعَى منذ اليوم دون إينيجو والمركيز دي لوس مونتس، وإنك من أسرة عريقة في النسب مقيمة في البرازيل منذ مائة عام، ثم إنك إسباني الأصل وقد خسر أجدادك ثروتهم في إسبانيا، ونال أبوك ثروة نادرة في البرازيل بتجارة المواشي، وأنت آتٍ الآن إلى باريس لتنفق فيها شيئًا مما جمعه أبوك من الملايين.

– لقد رضيت، ولكنك إذا منحتني اللقب فكيف لكَ أن تمنحني المال، ونحن قد أنفقنا النصف مليون الذي قبضناه من الهندية.

– كن آمنًا، إذا نفذت ثروتنا فإن ثروة أخي الكونت لم تنضب بعدُ.

– كيف ذلك؟ أتطلب إليه أن يمدك بالمال؟

– كلا، ولكنه أعطاني أمس مائة ألف فرنك كي أنفق منها في سبيل مقاومة الشرور ومساعدة البائسين.

فضحك روكامبول وقال: مَن هم أولئك البائسون؟

– نحن، وهذا المال يكفينا ثلاثة أشهر إذ إننا ننفقه باقتصاد فلا نشتري المنازل والأثاث حسب عادتنا، بل نستأجرها وبدلًا من أن نقيم في قصر خاص فإنك تقيم في فندق عظيم شأن كبار النزلاء، وسأجد لكَ خادمًا أسود يكون من أتباعك، أي إني سأصبغ فانتير، فقد أخرجته من خدمة الأرملة ملاسيس، ثم إني سأحصل على كتاب توصية بك لأخي العزيز الكونت أرمان كي تستطيع الدخول إلى منزله متى شئتَ بما ينبغي لمقامك من الإكرام؛ لأن جميع أعمالنا ستكون في منزله وسنخص عنايتنا به دون سواه.

وسُرَّ روكامبول بهذا المشروع الجديد، وقال: لقد أحسنتَ غاية الإحسان بهذا التخصص.

– أتعلمتَ ضربة السيف التي أمرتك أن تتمرن عليها؟

– أتم التمرين.

– اذهب وتأهَّب للسفر في الساعة العاشرة إلى الهافر، وأَقِمْ فيها إلى أن تصل إليك أوامري.

ثم أعطاه ما يلزمه من المال لهذا السفر، فقبضه روكامبول وقال له: بقي أن تقول لي مقدار حصتي من الغنيمة متى قتلتُ أخاك الكونت ووصلتُ إليك أمواله؟

– إني أمنحك إيرادًا سنويًّا قدره ٤٠ ألف فرنك، وجواز سفر للبلاد الأميركية.

– كيف ذلك؟ أتفارقني متى استغنيتَ عني؟

– نعم، لقد عولت متى ورثت أخي أن أرث منه كل ما لديه من المال وامرأة وولد، حتى عزمت على أنْ أرث أيضًا طباعه فأصبح من رجال الخير، ومتى أصبحت صالحًا فأية حاجة لي بلص مثلك؟

فضحك الاثنان ثم افترقا، فذهب أندريا إلى منزل أخيه وتزَيَّا روكامبول بزي فقراء العمال وسار إلى الهافر كما أمره أندريا.

٥٢

بعد ثمانية أيام مرت على سفر روكامبول، عاد إلى باريس راكبًا مركبة بديعة وقد غيَّرَ ملامحه فأصبح لون وجهه كلون النحاس، وكان جالسًا وراء مركبته عبد أسود لم يكن إلا فانتير، فوقفت المركبة على باب أحسن فندق في باريس، وأسرع فانتير ونادى الخدم باللغة الإسبانية، وأمرهم أن يحملوا أمتعة سيده إلى خير مكان من الفندق.

أما روكامبول فكان أول ما اهتم له أنه نادى وكيل الفندق وطلب إليه أن يرسل رسالة أعطاه إياها إلى الكونت أرمان دي كركاز، وهذا نص الرسالة:

سيدي الكونت

أسألك المعذرة للخطة التي سأسلكها بإزائك، لأني لا أعلم إذا كانت تنطبق على المصطلحات الفرنسية، لقد أتيت من البرازيل إلى باريس كي أقيم فيها بضعة أشهر، وأعطاني صرافي في ريو دي جانيرو حوالات على عميله في الهافر، وهو المسيو أربان مورتونت، فأخبرت هذا العميل أني لم أعرف أحدًا في فرنسا، فأعطاني كتاب توصية إليك.

وقد وصلت يا سيدي الكونت إلى باريس منذ ساعة، فتجرأت على الكتابة إليك ملتمسًا أن تؤذن لي بزيارتك كي أسلِّمك هذا الكتاب.

المركيز دون إينيجو دي لوس مونتس

فذهب الرجل بكتاب روكامبول إلى أرمان، وبعد ساعة أقبل أندريا موفدًا من قِبَل أخيه للسلام على هذا المركيز والإتيان به إليه، ثم أخذه وسار به إلى قصر أرمان.

ولما كانا على الطريق جعل أندريا يتأمَّل تلميذه ويعجب بحسن إتقانه التقليد، فقال له: كأنك قد خُلِقتَ أميرًا، فإنك لا تفرق في ملامحك عن الأمراء.

فأجابه روكامبول: ذلك لأني تخرجت في مدرستك.

– ومما يسرني منك أنك أتقنت تقليد أهل البرازيل، بحيث تجوز الحيلة على أرمان؛ إذ لا يوجد أقل شبه بينك الآن وبينك حين كنتَ تُدعَى الكونت كامبول.

– نعم، إلا أني أخشى أن تعرفني باكارا إذا رأتني.

– لا خوف علينا منها بعد الآن، وقد باتت تُعَدُّ في مصافِّ القديسين.

– أواثق أنتَ من ذلك، ثم إذا كنتَ واثقًا فهل غفرْتَ لها؟

فضحك أندريا ضحك الساخر، وقال: كيف أغفر لمَن خسرتُ بسببها سبعة ملايين، واثني عشر مليونًا أخرى.

– إذن، فما أعددتَ لها من العقاب؟

– أعددتُ لها عقابًا لا يخطر في بال إنسان، وسأخبرك عن جميع ذلك متى حان وقت الانتقام، أما الآن فلا أستطيع التفكير إلا بأرمان، فهل أنت واثق من نفسك أنك أتقنت ضربة اليسف التي أمرتُكَ بتعلُّمها؟

– كل الثقة، ولكني معجب لأمر، وهو أنك تعرِّفني بأخيك وتصادقني معه ثم تأمرني بقتله، فلماذا هذه الصداقة إذا كان لا بد بعدها من القتل؟

ولم يتدانَ أندريا إلى مجاوبته على ما سأل بل قال: اعلم يا حضرة المركيز أنك شاب جميل، ويجول في عروقك الدم الإسباني، أي إنك كثير الشهوات، ثم إن امرأة أرمان دي كركاز شقراء جميلة، ولا بد إذن للمركيز دي إنجو من أن يحب الكونتس دي كركاز، ثم يجب على هذا المركيز أن يكون نذلًا خسيسًا جسورًا مقدامًا، لا يحفل بفضائل النساء ولا يكترث لشرف الأرواح، ويتحتم عليه أن يُظهِر غرامه لتلك الحسناء.

فأجفل روكامبول وقال: ماذا أسمع؟ وكيف تغريني على حب الكونتس امرأة أخيك وأنت مشغوف بها كما تقول؟

فتنهَّدَ أندريا وقال: إنك لا تزال غِرًّا أبله، أفلا تعلم أن القصد من ذلك أن أتداخل في الأمور، وأبارزك فأكون قد دافعت عن شرف امرأة أخي بدمي، فيجمل صنعي لدى أخي ولدي امرأته وأبلغ منهما بعض ما أريد؟

فقال روكامبول: وكيف إذن تريد أن أقتل أخاك؟

– إنه لا يعلم بأني بارزتك من أجل امرأته إلا بعد حين، وعندما يعلم ذلك فهو لا يقابلك إلا بالحسام.

وأطرق روكامبول رأسه إلى الأرض وقال: لقد أصبتَ، فإني قصير النظر في الأمور، والحق أنك من النوابغ.

وعند ذلك وصلا إلى قصر أرمان، فنزلا من المركبة ودخلا إليه.

٥٣

وَلْنَعُدِ الآن إلى باكارا والكونت أرتوف، فنقول إنه بعد حادثة الهندية خلت باكارا بالكونت في منزلها وقالت له: إنك تعلم الآن حقيقة ما كنتُ أسعى إليه، فلقد أخبرتك كل شيء، ولذلك بقيت وحدك غير واثق من توبة أندريا دون الجميع.

– ذلك لأنهم لم يروا ما رأيت، ولم يعلموا ما علمتُ من أمره.

– نعم، فإن جرأة هذا الرجل لا تقف عند حد، وبعد أن قبضت على رفيقه وأوشكت أن أظفر به وأحمله على الإقرار باسم رئيسه الأثيم، خرج إليه فقتله كي يأمن إقراره ويظهر للحاضرين بمظاهر الصلاح. أَمَا سمعته حين أقبل يعاتبني بعد تلك الطعنة لأني أردتُ مطاردة الجمعية السرية وحدي دون أن أعتمد عليه؟

فقال الكونت: إننا أخطأنا منذ البدء، فقد كان يجب عليَّ أن أقتله حين ظفرنا به المرة الأولى.

– نعم، كنا منعناه عن ارتكاب آثام جديدة.

– أتحسبين أنه يعود إلى الشر بعد ما لقيه من أخطاره؟

– إنه فُطِر عليه، وإنْ مَرَّ يوم لا يرتكب فيه إثمًا لا يعده من أيامه، ثم إن هذا الرجل لا يكترث للمال، ولكنه ظمآن للانتقام من أخيه.

– أتحسبين أنه يقتله؟

– يطمع بأكثر من حياته، فإنه يريد ثروته وامرأته وولده كما فعل أبوه من قبلُ بأبيه، وفوق هذا فإنه لا يطيب له خاطر إلا بقتلي؛ فقد كشفت دسائسه وحبطت مساعيه مرات كثيرة، فهو لا يغفر لي.

– إذن، يجب أن يموت.

فابتسمت باكارا وقالت: إنك رجل شريف، غير أنه لا سبيل لنا إلى قتله الآن، وأخص ما يجب أن أسعى إليه أن أدعه يثق بي ويحسبني واثقة من إخلاصه في توبته، وهو ما سأظفر به بعد ساعة.

– كيف ذلك؟

– ذلك أنه سيزوني الآن كما أخبرني في رسالة بعثها إليَّ، ولا أعلم القصد من هذه الزيارة سوى أني أظن أنه يريد سبر غوري للوقوف على حقيقة ظني به، وسيلقى كفؤًا له في السياسة، فإني سأدعه يخرج مقتنعًا بوثوقي من توبته، وهو سيحضر قريبًا فاختبئ في هذه الغرفة المجاورة حيث تسمع كل ما يدور بيننا من الحديث.

ولم تكد تتم كلامها حتى دخلت الخادمة تخبرها بقدوم أندريا، فأمرتها بإدخاله وأسرع الكونت إلى الاختباء.

ودخل أندريا وكان بملابس التوبة، فجلس بالقرب من باكارا ودار بينهما الحديث الآتي، فقال أندريا: إني أتيت يا سيدتي لأباحثك في أمور خطيرة.

– قُلْ ما تشاء يا سيدي، فإني مصغية إليك.

– لا بد لي قبلُ أن أذكر شيئًا من سابق أحوالي وأحوالك، فلقد كنتِ من بنات الهوى ثم ارتجعت عن هذا العيش الذميم وعشت عيشة صلاح، ولقد كنتُ أشر منك فإني كنتُ لصًّا قاتلًا سفَّاكًا، إلا أني عدت أيضًا بإلهام من الله مثلك إلى التوبة، ولكني رأيت بين الناس مَن لم يثق بتوبتي ومنهم أنتِ، وذلك أنه بينما عهد إليَّ أخي أرمان مطاردة تلك الجمعية السرية الهائلة رأيتُ من ملامح وجهك ما استدللت منه أنك غير واثقة بصدق توبتي.

فأطرقت باكارا بعينها إلى الأرض إطراق النادم وقالت: إنني أعترف بصحة ما تقول.

– ولقد أثَّرَتْ بي شكوككِ، إلا أنني حسبتها عقابًا لي من الله، وعلمت أنه جل جلاله لم يغفر لي بعدُ، ومَن يعلم فلقد يكون جال في ظنك أنني واحد من رجال تلك العصابة الشريرة.

– هو ما تقول يا سيدي الفيكونت، فلقد ظننتُ هذا الظن.

– ولهذا فلقد طاردت رجال العصابة كما كنتُ أطاردهم دون أن تشركيني بشيء، والغريب أننا وصلنا إلى غاية واحدة دون أن أعرف الطريق التي سلكتِ فيها.

– أتريد يا سيدي أن أعترف لك بكل شيء؟

– تكلَّمِي.

– إنكَ قتلت أمس بخنجرك ذلك الرجل في منزل الهندية، فكان خير برهان للحاضرين على صدق توبتك، إلا أنني لا أزال على ريب منك وألتمس منك أن تزيل مني هذا الريب ببرهان دامغ، فإنه يثقل عليَّ.

– إن ظنونكِ هي يد الله التي تعاقبني على آثامي السابقة، فأنا لا أحاول إقناعك، بل أنحني صاغرًا أمام هذه اليد المنتقمة، ولا أهرب من عقاب الله.

فتظاهرت باكارا بالتأثُّر الشديد وقالت: رباه! ماذا أسمع؟ فإنكَ إذا كنتَ صادقًا فيما تقول فإن الندم على سوء ظني بكَ سيقتلني لا محالة.

ففرح أندريا فرحًا شديدًا دون أن يظهر عليه شيء من آثاره، وقال لها: إذا حلَّفْتُكِ يمينًا أتبرين باليمين؟

– إني أبر بيميني ولو حلفتها للص أثيم.

– إذن، فأقسمي لي إنكِ لا تبوحين بالسر الذي سآتمنكِ عليه.

– أقسم لكَ أني لا أبوح بسركَ.

– إذن فابحثي في أعماق قلبكِ الذي نفذَتْ إليه مدةً أشعةُ الغرام الصحيح، تعلمين حقيقة السبب في توبتي.

– ماذا أسمع؟ ألعلك أصبحتَ من العاشقين؟

– نعم، فإني بعد أن فقدت جميع آمالي السابقة شعرت أن قلبي الحجري يحب، وأني أحب تلك المرأة التي أردتُ تدنيسها حبَّ احترام لا حدَّ له.

ثم أطرق برأسه وقال: هذه المرأة هي امرأة أخي أرمان.

فصاحت باكارا صيحة الندم، وقالت: أسألك العفو، فلقد زالت الآن ظنوني.

ثم ركعت أمامه تستغفر عما أساءت إليه من قبلُ، ونظر إليها أندريا فرأى دمعة تسيل على خدها، فلم يشكك بحسن اعتقادها، فتكلَّفَ هيئة المنقبض الحزين وقال: لقد علمتِ الآن متاعب هذا الوحش الضاري الذي كاد يفترس الفتاة الوحيدة التي أحَبَّها، ومقدار ندامته بعد التوبة؟

فتنهدت باكارا ومدت يدها إليه، وهي تقول: نعم، لقد عرفتُ كل شيء، وبقي أن أُظهِر لكَ برهاني أيضًا عن ثقتي بتوبتكَ.

ثم أخرجَتْ مسدسًا من جيبها، وقالت: إنك عندما أرسلت لي كتابك في هذا الصباح تخبرني فيه أنك تريد زيارتي، كنت لا أزال مشككة بكَ، وحسبت أنك تريد قتلي، فتسلحت بهذا السلاح للدفاع عن نفسي، والآن فإني أدفعه إليك دلالة على ثقتي بتوبتك وحسن ظني بك.

فركع أندريا بدوره أمامها وشكرها شكرًا بالغًا، ثم بكى أمامها وأسالَ من عينيه نفس الدمع الكاذب الذي أسالته باكارا من قبلُ.

ولم يكن حائرًا بين الداهيتين غير الكونت أرتوف، فإنه لم يكن يعلم أيهما أشد في هذه الحرب الشديدة التي كان سلاحها السياسة، ولم يعلم أيهما أقنَعَ الآخَرَ، أما باكارا فإنها أنهضت أندريا، وقالت له: لنبحث الآن بالأمور الجدية فقد وثق كلانا بالآخَر، وَلْنَعُدْ إلى ذكر الحادثة، فإنك طعنتَ الرجل الذي كان يُدعَى الكونت كامبول بخنجرك، ولكنه لم يَمُتْ بل نُقِلَ إلى المستشفى.

– إني أعرف ذلك، ولكن حياته وعقله في خطر.

– هو ذاك، ولكنه في عنفوان الشباب فقد يتغلب صباه ويشفى مما هو فيه، وعندي أن لهذا الأثيم شريكًا بل شركاء في آثامه، وأنه يجب أن نحمله على الإقرار بأسماء شركائه.

– إني أرى رأيك ولا بد من مطاردته أين ذهب، فإن بوليسي رابض على أبواب المستشفى، وجواسيسي في داخله يقيدون عليه كل كلمة يقولها، فلا تخفى خافية من أمره.

– وأنا سأفعل فعلك.

ثم اتفق الاثنان على ذلك وافترقا، فخرج أندريا وهو يعتقد أنه خدع باكارا أو أنه بات في مأمن منها لوثوقها من توبته.

ولما اجتمع الكونت ببكارا قال: لقد عجبتُ بجميع ما فعلتِهِ، إنما أُشكِلَ عليَّ أمر لم أعلم قصدكِ منه.

– ما هو؟

– كيف خابرته بشأن الجريح، وكيف عهدت إليه مراقبته ونحن نسعى للقبض عليه وإبعاده عنه لأنه شريكه؟

– إني خابرته بشأنه كي تزيد ثقته بي، وعهدت إليه مراقبته كي يعودا إلى الاجتماع وكيد المكائد، فيتيسر القبض عليهما متلبسين بالخيانة، لا سيما وهو قد بات لا يخشاني الآن، ويحسب أن الجو قد خلا له، ثم أشركته في البحث عنه كي يتردَّد عليَّ دائمًا، وهو لا بد فاعل لأنه قد تولَّه بحب الفتاة اليهودية التي هي عندي، وهي التي تجره إلى افتضاح أمره، ولا أستطيع أن أزيدك الآن شيئًا على ما قلتُ، على أني أقول لكَ أن هذا الأثيم لا يفلت هذه المرة من قبضتي.

فأطرق الكونت مسلِّمًا بما تقوله دون أن يجيب.

٥٤

وكان الكونت أرمان مقيمًا في منزله الصيفي خارج باريس، وهو منزل جميل تكتنفه الأشجار واقع في قرية صغيرة بمعزل عن المنازل، فكان يزوره روكامبول في مصيفه ثلاث مرات في الأسبوع، ولقد أعجب الكونت بذكائه وما كان يتكلفه من البساطة في أقواله غاية الإعجاب، خلافًا لامرأته فإنها كانت تنفر من هذا المركيز الجديد، وتوجس منه شرًّا، ولكنها كانت تكتم مخاوفها عن زوجها.

وكان لأندريا غرفة خاصة في هذا المنزل، ولكنه كان يبيت أكثر لياليه في باريس، واتفق أن أرمان اضطر ليلة إلى المبيت بباريس لدعوة وردت إليه من أحد المحتاجين إليه، ولم تكن هذه الدعوة إلا من ابتكار أندريا، فكلَّفَ الكونت أخاه التائب أن يبيت في المصيف كي لا تبقى امرأته وحدها، فامتثل وكان عندها في المساء.

وتعشَّيَا سويةً ثم سهرا إلى الساعة العاشرة، ودخل كل إلى غرفته، فأخذت زوجة أرمان كتابًا وجعلت تقرأ فيه، وانسَلَّ أندريا من غرفته فخرج من المنزل وجعل يمشي على تلك الرمال حتى أبصر عن بُعْد شبحًا نائمًا، فقال في نفسه: لا شك أنه روكامبول، وإنه مقيم في المكان الذي عيَّنْتُه له، فلما وصل إليه رآه إنه هو بعينه، فسُرَّ به وقال له: يعجبني أنك حريص على الأوقات.

– نعم، فهل أنت مستعد؟

– أتم الاستعداد، فهل حفظتَ ما علمتك إياه؟

– طِبْ نفسًا فسأقول لها جميع ما علمتني أن أقوله.

– إذن، اتبعني.

ورجع الاثنان إلى منزل الكونت أرمان، فسُرَّ أندريا حين رأى النور لا يزال في غرفة امرأة أخيه، وأن باب مشرف الغرفة المطل على الحديقة لا يزال مفتوحًا لاشتداد الحر في تلك الليلة.

وكان في تلك الحديقة شجرة باسقة تتصل أغصانها بذلك المشرف، فدلَّه أندريا عليها وقال له: إن طريقك من هذه الشجرة، والآن فاصبر هنيهة إلى أن أعود إلى غرفتي، وبعد ذلك اصنع كما علمتك.

وتركه أندريا ودخل إلى المنزل، فصعد إلى غرفته دون أن يشعر به أحد، أما روكامبول فإنه صبر خمس دقائق، ثم تسلَّق هذه الشجرة حتى دنا من مشرف الغرفة ودخل منه إلى الغرفة التي تقيم فيها حنة.

وكانت حنة جالسة على كرسي طويل وبيدها كتاب تطالع فيه، وهي تنقطع عن القراءة من حين إلى حين مفتكرة بزوجها أرمان، ولما رأت هذا الرجل قد هبط عليها من الشجرة جمد الدم في عروقها من الرعب، ثم تبيَّنَتْ أنه هو المركيز إينجو، فحاولت أن تستغيث ولكن الخوف عقد لسانها فلم تنبس بحرف، ولبثت جامدة في مكانها دون حراك.

أما هذا اللص فلم يتأثر لهذا الموقف، بل إنه انحنى أمامها مسلمًا وقال لها: إني ألتمس عفوك يا سيدتي وأعتذر عن دخولي إليك كما دخلت، ثم أسألك أن تأذني لي بإظهار السبب في هذه الخطة الغريبة التي سلكتها.

فحسبت أنه صادق في اعتذاره، وأنه لا بد من سبب خطير دفعه إلى فعل ما فعل، إلا أنها لم تطمئن لكلامه ولبثت في مكانها لا تستطيع أن تفر ولا أن تستغيث، ووضع روكامبول يده إلى صدره وقال: سيدتي، إني رجل نبيل أعلم بما يجب على مثلي من الاحترام لمثلك، فلا تحكمي عليَّ قبل أن تسمعي ما أقول، واعلمي أني لم أدخل إلى منزلك في منتصف الليل دخول اللصوص إلا لسبب خطير ودافع عظيم لا يغلب، وأنا أجثو أمامك وأستحلفك بأقدس الأسماء وأحبها إليك أن تتمهلي في أمري، فلا تطرديني من حضرتك ولا تنادي أحدًا من أتباعك قبل أن تسمعي كلامي.

وكان يتكلم بلهجة المستعطف المتوسل، وبلهجة احترام شديد آنست منه حنة شيئًا من الاطمئنان، فحلَّتْ عقدة لسانها وقالت له: تكلَّمْ.

فقال روكامبول: إن الذي سأقوله لك يا سيدتي هو سر دقيق لا يمكن لأحد أن يطَّلِع عليه الآن، وقد تعذَّر عليَّ الحضور مع زوجك الكونت، وخشيت إذا لم أطرق باب منزلك في هذه الساعة المتأخرة أن يسوء ظن مَن في المنزل، لا سيما أن زوجك غائب عنه. ثم وضع يده على قلبه وقال: إن هذا السر في هذا القلب، وقد أوشك أن ينفجر منه؛ إذ لم يَعُدْ له طاقة على احتماله.

وكأن حنة قد علمت ما يريد أن يقول، فارتجفت أعضاؤها وقالت له بعظمة وكبرياء: ماذا تريد بهذا القول؟

ولم يكترث لها روكامبول بل ركع أمامها وقال: سيدتي، أصغي إليَّ.

أما هي فلم تجد قوة للاستغاثة لما داخلها من الرعب، ووقفت جامدة دون حراك كالواقف في ساحة قضاء ينتظر تلاوة الحُكْم عليه بالإعدام.

فقال روكامبول دون أن يغيِّر شيئًا في لهجة احترامه: إني خُلِقت يا سيدتي في بلاد حارة المناخ، ونشأت بين قوم كنتُ كالملك عليهم وكانوا كالعبيد لي، فنشأ بي حب الأثرة وعدم المبالاة بالصعاب، لأني لم أَلْقَ في حياتي مَن يعترضني فيما أريد، وقد أتيت حديثًا إلى باريس كي أبحث عن شريكة لي تشركني في هذا الملك الذي لا حدَّ لسلطانه، وهذه الشهرة التي لا حدَّ لاتساعها.

وحسبت حنة أن هذا الشاب يحاول الزواج حقيقة، وأنه يتلمس مساعدتها في طلب تلك الزوجة التي اختارها، فقال روكامبول: ولقد وجدتُ الآن هذه المرأة، وأنا أعبدها كما يعبد المؤمن ربه، غير أن مصطلحات الناس قد وضعت بيني وبينها هوة عميقة بحيث يتعذَّر اجتيازها، ولكني يا سيدتي في مقتبل الشباب وقد تعودت أن لا أحتفل بالمصائب، فلا عبرة عندي بالمستحيل، ثم إن هذه المرأة التي تحول بيني وبينها الشرائع والعادات قد أقسمت على أن تكون لي، وعلى أن أذهب بها فأعيش تحت سماء بلادي الصافية الزرقاء، وأن أضع لها صولجان الملك على عبيدي وأعيش مدى العمر عبدًا لها.

ولم يَبْقَ ريب لدى حنة في قحته وجرأته عليها، فأوقفته عن تتمة حديثه بإشارة وقالت: أَلِمِثْلِ هذه الأقوال الفاسدة قد أتيتَ إليَّ؟

– قد تكون فاسدة يا سيدتي، ولكنها صادقة صادرة عن قلب تنبض فيه عروق الإخلاص والحب الصحيح.

– ولكنك قد نسيت مَن أنا، وغفلت عن أن زوجي الكونت أرمان دي كركاز قد فتح لك أبواب منزله.

– كلا، وا أسفاه! فإني لم أنسَ شيئًا من ذلك.

ثم ركع أمامها وقال: والآن يا سيدتي، فلا بد أن تكوني عرفتِ تلك السيدة التي أبذل الحياة في سبيل رضاها وأعبدها عبادة الالهة. إن تلك السيدة التي أقسمتُ على أن أفوز بحبها وأحكمها في قلبي هي أنتِ.

ونهض بعد هذا القول ومشى خطوة إليها يريد تقبيل يدها، فارتجفت حنة منذعرة وصاحت بصوت خنقه الخوف: إليَّ إليَّ …

ولم تكد تتم استغاثتها حتى فُتِح الباب بعنف، وأسرع رجل منه إلى روكامبول فصفعه صفعة شديدة على خده وهو يقول: تبًّا لكَ من نذل أثيم!

٥٥

وكان هذا الرجل الذي أرسلته العناية لإغاثة حنة، بل الذي أرسل نفسه لنصرتها هو أندريا، وقد احمرت حدقتاه من الغضب، ونفض غبار الزهد والمسكنة عن وجهه، فظهر بمظاهر الأبطال الأشداء، حتى حسبت حنة أنها ترى زوجها أرمان، فاطمأن فؤادها وقالت: ألف شكر لأنك أنقذتني.

أما أندريا فلم يكترث لهذا الشكر وقال لها: قبل كل شيء يجب أن يبقى سر هذه الإهانة مكتومًا بيننا.

ثم التفت إلى المركيز، أي إلى روكامبول وقال: إنك نذل أثيم.

فلم يُجِبْ روكامبول بشيء ولكنه تظاهر بالخوف الشديد، فأخرج أندريا مسدسه من جيبه وقال له ببرود: اختَرِ الآن بين أن تموت موت اللصوص، أو بين أن تصغي إليَّ.

فخضع روكامبول للقوة وقال: بل إني أصغي، فقُلْ ما تشاء.

– إن هذه السيدة التي تجاسرْتَ على إهانتها هي امرأة أخي، أريد بذلك أنه لم يَعُدْ بدٌّ لأحدنا من الموت.

فانحنى روكامبول إشارة إلى الامتثال، ثم تابع أندريا: بقي أن مبارزتنا لا يجب أن يعلم سببها أحد، وإن حياتك الآن بين يدي، فأنا لا أبقي عليك إلا إذا أقسمتَ لي بشرفك أن لا تبوح بسر سبب المبارزة لأحد من الناس.

– أقسم لكَ بشرفي على الكتمان.

– ثم إن المبارزة لا يجب أن تكون إلا بعد غدٍ، كي لا يسيء أخي ظنه بكَ، فإنه يعلم أني أبيت الليلة هنا، وأخشى إذا تبارزنا غدًا أن يعلم شيئًا من السر.

– ليكن ما تريد.

– والآن، فاخرج كما دخلت، وانزل من هذه الشجرة دون أن يشعر بك أحد.

فامتثل روكامبول وخرج دون أن ينظر إلى حنة. ولما خلت حنة بأندريا شكرته شكرًا جزيلًا، فقال لها: لا سبيل إلى الشكر، فقد دافعت عن شرفي بدفاعي عن شرفك، والآن فنامي مطمئنة إذ لا خوف عليكِ وأنا في جواركِ.

– إني داخلة، ولكني ألتمس منك كما تلتمس الأخت من أخيها، أن لا تبارز هذا الرجل.

– حبذا ذلك إرضاءً لك، ولكن المبارزة لا بدَّ منها.

– كلا، فإني لا أطيق أن تخاطر بحياتك، فإذا أصررتَ على هذه المبارزة فإني أخبر أرمان بحقيقة أسبابها؛ لأني لم أتقيَّد بيمين على الكتمان.

– إذن فإنك تعرِّضين زوجك لأخطارها، لأنه إذا علم بجسارة المركيز فلا يقعد ساعة عن مبارزته، واعلمي الآن أني لا أحب إهراق الدماء، ولا أميل إلى المبارزات التي تحرِّمها الأديان، غير أنه قد يعترض المرء من الحوادث ما يُكرِهه على الخضوع لتلك الشريعة السامية التي يسمونها الشرف. ولو أخلاق الرجال كما عرفتها لما سألتني الرجوع عن المبارزة، فإن هذا المركيز إذا لم يُعاقَب على جرأته، فإنه يجعل اسمك مضغة في الأفواه، ويتحدث بما جرى في جميع النوادي.

فذعرت حنة وقالت: يا للخيانة!

فضغط أندريا على يدها وقال لها: أتريدين أن يبارزه أرمان، ذلك الرجل الشريف الذي إن أُصِيب بمكروه — ولا سمح الله — يقع هذا المكروه بكثير من العائلات التي تعيش من بره، أما أنا فأية فائدة من حياتي بعد أن تدنست بالآثام وأصبحت فردًا لا عائلة لي؟

فقالت له حنة: ما هذا القول؟ أليس لكَ في هذا المنزل أخ وأخت يحبانك؟

فوضع أندريا يده على جبينه ثم قال: إنك نبيلة وإنه نبيل، ولكني كيف أستطيع أن أنسى ذنوبي الماضية، وإذا بارزت هذا الرجل، فإما أن أقتله فأعاقبه على جرأته، أو يقتلني فأموت من أجلكِ، ويكون قتلي خير كفَّارَة عن ذنوبي.

وقبل أن تجيب قال لها: أصغي أَلَا تسمعين صوت مركبة؟

– نعم.

– إنها مركبة أرمان دون شك، فأسرعي إلى غرفتك إذ لا يجب أن يرانا سوية، ولكني أسألك قبل الافتراق إن تتعهدي بكتمان ما جرى في هذه الليلة.

– سأكتم كل شيء.

– وأن تأذني بالمبارزة.

– إن الأمر شديد.

– ولكنه واجب.

– آذَنُ، فاذهب وسأدعو لكَ الله وعسى ألَّا أخيب.

وافترق الاثنان فذهب كلٌّ إلى غرفته، إلا أن المركبة لم تكن مركبة أرمان كما وهم أندريا، لأن أرمان لم يَعُدْ إلا في الساعة الخامسة من الصباح.

ونام أندريا نوم المطمئن الواثق من فوزه في الدسيسة، لا سيما بعد ما رآه من إشفاق حنة عليه. وفي اليوم التالي برح القرية إلى باريس، فكان أول ما أجراه أنه غيَّرَ هيئته وذهب إلى الفندق الذي يقيم فيه روكامبول، فلَقِيه في انتظاره ولكنه كان مقطب الجبين عابس الوجه، فضحك أندريا وقال: ألعلك غاضبٌ لصفعة أمس؟

– وإذا دققت في حسابي، فإني أضيف إليها ضربة الخنجر.

وقد قال بلهجة جد خشي أندريا عواقبها، فقال له: ألعلك تمزح؟

– كلا، فلقد دنا الزمن الذي ينبغي أن أقر فيه معك على حال.

– ماذا تريد بذلك؟ ألعلك تنوِّه عن حصتك من الغنيمة؟

– هو ذاك، فإني أريد أن يكون بيدي ما أستند عليه بعد الفوز في الحصول على الإيراد الذي وعدتني به، وهو الخمسون ألف فرنك.

– إن طلبك حق وعدل، غير أنه كيف يمكن أن أدفع لكَ قبل أن أقبض؟

– لقد فكَّرْتُ بذلك، فرأيت حل المشكلة سهلًا ميسورًا، وذلك أن تكتب لي صكًّا عليك بقيمة مليون فرنك، وتوقِّع عليه باسمك الحقيقي وهو أندريا، وصي ابن المرحوم الكونت أرمان دي كركاز، ثم تجعل التاريخ عن السنة القادمة.

– لقد أصبتَ فإن الأمر سهل.

– إذن أتكتب لي هذا الصك؟

– نعم، ومتى أردتَ.

– إني أريده الآن.

فأجابه أندريا: كلا، بل أكتبه لك بعد غدٍ؛ لأن مَن ينتظر قبض مليون فلا بد أن يكون حكيمًا، وأنا في حاجة الآن إلى حكمتك.

فامتثل روكامبول وقال: ليكن ما تريد، فسأنتظر إلى بعد غد.

٥٦

ورجع أندريا إلى الكونت فأخبره باضطراره إلى مبارزة المركيز لسبب خطير، وأن المركيز قد أهانه إهانة لا سبيل بعدُ إلى المسالمة، ولا تُغتسَل إلا بالدماء، ثم طلب إليه أن يكون شاهده، وأن يجد له الشاهد الآخَر. فبذل الكونت جهده كي يقف منه على السبب، غير أن أندريا كان مصرًّا على الكتمان، فعلم الكونت أن هذا الزاهد الورع لم يُقدِم على المبارزة وقتل الأرواح ومخالفة الشرائع الدينية إلا لأمر خطير، وأن هذا المركيز قد أهانه إهانة لا تغتفر، فرضي أن يكون شاهده وذهب إلى صديقه فرناند روشي يلتمس منه أن يكون الشاهد الثاني، فوجده في منزله ووجد عنده باكارا.

وكانت هرمين زوجة فرناند قد أحَبَّتْ باكارا حبًّا شديدًا، بعدما علمت أنها أنقذت زوجها من القتل والخراب، فأصبحت تثق بها ثقة غريبة، وتعهد إليها بتوزيع حسناتها على السائسين. وقد دعتها إليها في ذلك اليوم لمثل هذه الأغراض، فلما دخل أرمان طلب إلى فرناند أن يختلي به لشأن هام، ودخل وإياه إلى غرفة مجاورة للقاعة التي كانوا فيها، فأوجست باكارا خيفة من هذه الخلوة وأظهرت مخاوفها لهرمين، ثم استأذنت منها أن تقف على باب الغرفة فتسمع ما يقوله أرمان، ووقفت مصغية على الباب فعلمت أن أندريا يريد مبارزة المركيز، وأن أرمان وفرناند سيكونا شاهديه، فدهشت لما سمعت وأخبرت هرمين بما سمعته بعد أن طلبت إليها أن تكتم ذلك. ثم ودَّعَتْها وذهبت إلى الكونت الروسي فأخذته وذهبت به إلى منزلها، فدعت الفتاة اليهودية ونوَّمَتْها وسألتها عن المبارزة وعن أندريا والمركيز، فكانت تجيب بكلام متقطع محصله أن هذا المركيز أشقر اللون، وليس هو أسمر كما يبدو من وجهه، ولكنه متنكر لأنه لا يريد قتل أندريا بل قتل أرمان.

فأجفلت باكارا وقالت للكونت: لا شك أن هذا المركيز هو روكامبول، فإننا فقدنا أثره منذ خمسة عشر يومًا، ولكنه إذا كان كما أظن فما الذي يحمله على المبارزة مع أندريا إلا إذا صدقت الفتاة وكان يريد قتل أرمان.

فقال لها الروسي: إن هذا محال، فإن الشهود يقفون في معزل عن المتبارزين، فإذا أصاب أحدهم رصاص المبارز فلا يحمل على محامل الخطأ بل على سوء القصد، وفوق ذلك فإنه إذا كان أندريا يريد قتل أخيه فلا يقتله على هذا الشكل العامي المبتذل بعد صبره الطويل، ولا بد أن يكيد له مكيدة لا دخل له فيها بالظاهر.

– ربما كنتَ مصيبًا؛ فإن كلام الفتاة كان مبهمًا غير جلي، وفي كل حال فإني أحب أن أحضر وإياك هذه المبارزة.

– ذلك مستحيل؛ إذ لا يحضرها غير الشهود.

– نعم، ويحضرها خدَّامهم.

– ماذا تريدين بذلك؟

– عرفنا شاهدي أندريا، فهل تعرف شاهدي المركيز.

– علمتُ اليوم أن أحدهما صديقي البارون دي مينرف، وهو الذي عرَّفني بكِ إذا كنتِ تذكرين.

فصفَّقَتْ باكارا بيديها من السرور وقالت: لقد بلغنا المراد؛ إذ إن هذا الصديق لا يخالفك في مراد، فاتفق معه على أن تكون أنتَ سائق المركبة وأنا خادمها، ومتى تنكَّرْنا فلا يعرفنا أحد.

– سأفعل ما تريدين وسأذهب إليه الآن.

وفي اليوم التالي اجتمع الخصمان والشهود في إحدى غابات باريس، فصعد الكونت الروسي مع باكارا إلى شجرة عالية كي لا يفوتهما شيء من المبارزة، فلما نظرت باكارا إلى روكامبول عرفته من عينيه.

وأخذ الشهود غدارتين فحشوهما، وفيما هم يشتغلون بحشوها انفرد أندريا بأخيه وقال له: إني قد أكون في عداد الأموات بعد عشر دقائق، فهل لكَ أن تجيبني إلى طلبي الأخير؟

وكان أرمان يحبه حبًّا شديدًا، فأوشك أن يضمه إلى صدره من الحنو والجزع عليه، ولكنه تجلَّدَ وقال: ألعلك تشك بإجابتي؟

– أتقسم لي على تنفيذ إرادتي؟

– أقسم بأقدس أيمان.

– إن إرادتي الأخيرة أيها الأخ العزيز هي أن تذهب بامرأتك وولدك بعد قتلي إلى قصرك في كارلوفان فتقيم فيه شهرين لا تعود في خلالهما إلى باريس، ولا أستطيع الآن أن أُظهِر لكَ مرادي بهذا الطلب، ولكني كتبته وهو في طي هذا الغلاف، فإذا قُتِلت فلا يحق لكَ فتحه إلا في كارلوفان، وإذا لم أُقتَل أرجعته لي دون أن تعلم ما فيه.

ثم أخرج غلافًا ضخمًا من جيبه وأعطاه إياه وعاد إلى ساحة المبارزة.

وعند ذلك أعطى الشهودُ كلًّا من الخصمين غدارةً وأوقفوهما في موقفهما بعد أن خطَّطا المسافة بينهما، ثم صفَّق فرناند بيديه ثلاثًا إشارة إلى بدء المبارزة، فاندفع الاثنان وجعل كل منهما يزحف إلى الآخَر زحفًا بطيئًا، إلى أن بدأ روكامبول فأطلق الرصاصة الأولى على خصمه فأخطأه، ثم أطلق الثانية فالثالثة فوقعتا على الأرض دون أن تصيب واحدة منهما أندريا.

ولم يكن لكل واحد منهما حق بأن يطلق أكثر من ثلاث طلقات، فأيقن الحاضرون أن أجَلَ المركيز قد دنا، وباتوا يتوقعون له الموت في كل لحظة. أما أندريا فإنه مشى إلى خصمه أي شريكه مشيًا بطيئًا، حتى بلغ إليه فوضع غدارته في صدره وقال: إن حياتك الآن بين يدي وأنا أهبك إياها على شرط.

فقال له روكامبول مغضبًا: إنه يحق لكَ قتلي، فاقتلني لأني لا أعتذر ولا ألتمس الغفران.

– إني لا أسألك الاعتذار، ولكني أشترط عليك شرطًا تستطيع قبوله.

– ما هو؟

– هو أن تقسم بشرفك على أن لا تذكر السبب في مبارزتنا مدى الحياة، وأن لا تعود إلى مثل هذا السبب.

– قد رضيت، وأنا أقسم لكَ بشرفي على ذلك.

فأطلق أندريا غدارته في الفضاء ثم قال: لقد انقضى كل خلاف بيننا، وأنا أعتبر الآن حضرة المركيز من الأشراف.

فسُرَّ الجميع لما أظهره أندريا من مكارم الأخلاق.

وخلا أرمان بأخيه قائلًا: كيف عفوتَ عنه بعد المقدرة؟

– ليغفر عني الله.

أما باكارا فإنها عادت مع الكونت إلى منزلها وهي تعلم أن المبارزة خدعة، وأن هذين اللصين متفقان على أمر خطير، ولكنها لم تستطع أن تدرك شيئًا من هذه الألغاز، فقرَّرَتْ أن تنصب فخًّا تقتنص به روكامبول كي تحمله على الإقرار.

وكان في باريس امرأة شهيرة بالجمال وهي من بنات الهوى، وكانت من خير صديقات باكارا أيام غوايتها، فدعتها إليها واتفقت معها أمام الكونت الروسي على أن تعطيها مائة ألف فرنك على أن تساعدها في ما تريده من هذا المركيز، وقبلت الفتاة واتفقت معها باكارا على أن تحيي ليلة راقصة، يكون فيها المركيز دي روكامبول من جملة المدعوين إليها بواسطة أحد أصدقائه، ثم أخبرتها أن هذا الرجل متنكر، ولكن يمكن معرفته من أثر جرح كبير في صدره، فإذا تمكَّنَتْ من الكشف عن صدره وتحقيق هذا الأثر، نقدتها مائة ألف فرنك، فرضيت الفتاة شاكرة وخرجت تسعى في إعداد الحفلة، وخرج الكونت في إثرها إلى صديقه البارون مينرف وقد كان شاهد روكامبول في المبارزة والتمس منه أن يدعو المركيز إلى تلك الحفلة الراقصة.

•••

وَلْنَعُدِ الآن إلى أندريا، فإنه ركب مركبة أخيه وعادا إلى المصيف فبرحا باريس، وفيما هما على الطريق طلب إليه أندريا أن يُرجِع إليه الغلاف.

فقال له أرمان: إذن، فلا سبيل للاطِّلَاع على ما فيه؟

– كلا يا أخي، وستقف على جميع ذلك في مستقبل قريب، والآن فإني أسألك أن تفي بوعدك لي وتسافر مع امرأتك وولدك، وأنا معكم إلى كارلوفان.

– سأفي بوعدي ونسافر صباح الغد.

ولما وصلا إلى المنزل سُرَّتْ حنة بسلامة أندريا سرورًا عظيمًا كاد يفضح سرها، وأخبرها أرمان بما اقترحه عليه من السفر في الغد، فعلمت أنه يريد إبعادها عن المركيز، ووافقت راضية على هذا السفر.

وبعد الغد رجع أندريا إلى باريس وهو واثق من نجاح مقاصده، فتنكَّرَ بزي الإنكليز وذهب إلى الفندق الذي يقيم فيه روكامبول، فوجده ينتظره فيه ودار بينهما الحديث الآتي، فقال أندريا: ألعلك خفتَ في الصباح؟

– الحق أني خفتُ بعض الخوف. أصغِ إليَّ، لقد خطر لي أني لما كنتُ واقفًا وحدي على جميع أسراركَ، فقد أردتَ أن تتخلص مني لأنك قد خطر لك خاطر الاستقلال.

– وأنا أقول الحق أيضًا إنه خطر لي هذا الخاطر، وما أرجعني عنه سوى حبي لك.

– بل حاجتك إليَّ، فإنك لا تستطيع الاستغناء عني ولا سيما في هذه الأيام، وإذا أردتَ فأنا أعترف لكَ أيضًا بأنه قد خطر لي أن أقتلك.

– كيف خطر لك هذا الخاطر؟

– لأني لا أزال أشعر بألم خنجرك في صدري، وأنت تعلم أني أحسن الرماية، فلو أردتُ قتلك لما أخطأت المرمى.

– ولكن كيف تعيش دوني أيها التعيس؟

– هو السبب الوحيد الذي أرجعني عن قتلك.

– إذن فنحن أكفاء، كلانا لا يستغني عن الآخَر، فَلْنبحث الآن بأمورنا الخطيرة، فإني مسافر غدًا إلى كارلوفان لأتفقد ذاك القصر؛ لأني أريد أن أقيم فيه بعد زواجي بالكونتس حنة دي كركاز.

– وأنا ما ينبغي أن أفعل؟

– تقيم في باريس ثلاثة أيام، ثم تسافر منها إلى سانت مالو حيث تنتظر فيها تعليماتي.

– وماذا أفعل في هذه الأيام الثلاثة؟

– تتمرن على ضربة السيف التي أمرتك أن تتعلمها، ثم تهتم بأمر باكارا.

– ألعلك دبَّرْتَ المكيدة؟

– مكيدة هائلة فاسمع، إنك تبدأ قبل كل شيء باختطاف الفتاة اليهودية التي عندها.

– وأين أضعها متى اختطفتها؟

– أصغِ إليَّ، إني لقيت في الهافر حديثًا رجلًا من لندرا كان منخرطًا في سلك عصابتي حين كنت فيها، وقد نجح بأعماله بعدما فارقته حتى أصبح الآن صاحب سفينة تجارية وهو ربانها، وقد خطر لي أن أرسل باكارا على سفينته هذه إلى جزائر المركيز، وهناك يلقيها الربان بين تلك القبائل المتوحشة التي تتباهي بأكل لحوم البشر، فيجعلها زعيم تلك القبيلة وليمة في أحد الأعياد.

– إنه انتقام جميل، ولكن كيف السبيل إلى تنفيذه؟

– ينفذه جون إيرد ربان السفينة، فإنه سيشحن بضاعة من الهافر إلى أستراليا، وهو خاضع لي مع بحارته، وإنه الآن في باريس فقد قدم إليها أول أمس، وقد لقيته أمس واتفقت معه على أن يحمل باكارا إلى تلك الجزائر فقبل، وهو إما أن يلقيها في إحدى صحارى تلك البلاد أو يبيعها بيع السلع إلى زعيم تلك القبيلة.

– كل ذلك حسن معقول، ولكن كيف السبيل إلى تسليم باكارا إلى ربان السفينة؟

– إن ذلك سيكون عملك في مدة هذه الثلاثة أيام، فتبدأ أولًا باختطاف اليهودية وتودعها عند مدام فيبار بعد أن توصيها بالاحتفاظ عليها والعناية بها، وعندما تصبح في قبضتها ترسل رسالة دون توقيع إلى باكارا تخبرها فيها أن أحد العبيد قد اختطف الفتاة، وأنه ذهب بها إلى الهافر، ثم تكتب في الرسالة أن هذا العبد سافر على سفينة إنكليزية اسمها فولر وهي ذاهبة إلى أوسيانيكا، فلما تقف باكارا على هذه الرسالة تسرع بالسفر إلى الهافر، فتعلم هناك أن هذه السفينة قد برحت ميناء الهافر إلى سانت مالو، فتذهب إليها وتجد السفينة فيها، وعندئذٍ فلا بد من النزول إلى السفينة لترى فتاتها فيفعل الربان الباقي.

– كُنْ واثقًا من الفوز، وسافر فسأصنع جميع ما تريد، ولكن بقي سؤال أحب أن أسألك إياه، وهو لماذا أردتَ أن ترسل باكارا إلى سانت مالو وأنت قادر على إنزالها إلى السفينة من الهافر؟

– ذلك لأن سانت مالو لا تبعد غير غلوة عن قصر أخي الذي سأكون فيه بعد غدٍ، ومتى وصلت السفينة إليها أكون فيها، إذ لا بد لباكارا أن تعرف مَن هو المنتقم.

– لله درك، ما أشدك في الانتقام!

– نعم فإن الانتقام مسرة الآلهة، والآن فاسمع، إنك ستختطف الفتاة من منزل باكارا وتودعها عند مدام فيبار، وبعد ثلاثة أيام تحضر إلى سانت مالو مع ربان السفينة وفانتير، وهناك أهيئ لك أسباب مقابلة ثانية مع امرأة أخي حيث يباغتكما أرمان.

– كفى، فقد عرفت كل شيء.

– بقي دور واحد، وهو أنه يجب أن تعرف جون إيرد ربان السفينة، وبعد ذلك اذهب إليه غدًا عند الصباح واذكر له اسم فيليام علامة للتعارف، ثم دلَّه على الفندق النازل فيه.

وفيما هو يتأهَّب للذهاب إذ وردت على روكامبول دعوة البارون دي مينرف إلى الليلة الراقصة التي أعَدَّتْها باكارا لاقتناص روكامبول، عرضها على أندريا مستأذنًا إياه بالذهاب إليها.

– لا بأس من ذهابك، بل يجب أن يعرفك كبار القوم كي لا يبقى لأحد مظنة فيك، وانصرف في شأنك.

بينما كان أندريا وروكامبول في اختلائهما، كانت مدام ألفونس وهي تلك الفتاة الحسناء التي استحضرتها باكارا لإعداد الليلة الراقصة في منزلها، قد قدمت إلى باكارا، وقالت لها: إن الحفلة أُعِدَّتْ ووُزِّعَتْ أوراق الدعوة، وقد أتيتُ الآن كي تخبريني بما ينبغي أن أفعل.

فلفَّقَتْ لها باكارا حديثًا طويلًا خلاصته أن هذا المركيز متنكِّر، وأنه حين كان في شكله القديم كان من ألدِّ أعداء الكونت الروسي، وأنه لص سفاك، وأنه لم يتنكر إلا بغية قتل الكونت وقتلي.

– وماذا تريدين أن أصنع به؟

– إننا لا نزال في ريبة من أمره ولا نستطيع معرفته إلا إذا تمكَّنَّا من الكشف على صدره، فإذا كان صدره سليمًا لا أثر فيه للجراح كنَّا مخطئين بسوء ظننا به، وإذا كان في صدره أثر جرح حديث كان هو ذاك اللص السفاك، فبتنا منه على حذر وقبضتِ المائة ألف فرنك التي وعدك بها الكونت في كل حال.

– سأفعل ما ترين، وغدًا يَرِد إليك مني كتاب. ثم ودَّعَتْها وذهبت فلبثت باكارا في منزلها وهي واثقة من الظفرِ وحَمْلِ هذا الشقي على الإقرار.

٥٧

وفي اليوم التالي أرسلت مدام ألفونس إلى باكارا تقول فيها أن المركيز، أي روكامبول، تمادى في السكر تلك الليلة وهو لا يزال نائمًا عندها، وأنها كشفت عن صدره فرأت أثر جرح كبير في الجهة اليمنى من صدره، وأن هذا الجرح حديث، ثم اغتنمت فرصة سكره فوضعت على منديلها مادة روحية دلكت به يده، فظهر أن لون بشرته ناصع البياض، وأن لونه الأسمر لم يكن غير دهان، ثم ختمت كتابها بسؤالها عما يجب أن تصنعه.

ولما وقفت باكارا على هذه الرسالة فرحت فرحًا لا يُوصَف لصدق ظنونها، وخرجت مسرعة إلى الكونت أرتوف، فأطلعته على الرسالة وقالت له: يجب الإسراع قبل فوات الأوان.

– ماذا تريدين أن أفعل؟

– نبدأ وندعو إلينا مدام ألفونس.

فوافقها الكونت ودعوها، فلما أتت قصَّتْ عليهما جميع ما كتبته بالتفصيل.

فقالت لها باكارا: والآن أَلَا يزال في منزلك؟

– قد ذهبت منه منذ ساعة، ولكنه عاهدني على الرجوع في هذه الليلة.

– هل بعت منزلك خارج باريس؟

– كلا، فهو لا يزال لي.

– إذن، اكتبي لهذا المركيز كي يوافيك إليه في هذه الليلة، وأخبريه أنك ما فعلتِ ذلك إلا لخوفك من عشيقك لشدة غيرته عليك.

وامتثلت مدام ألفونس وكتبت الرسالة بشكل لا يوجس منه روكامبول أقل ريب، ثم ختمتها وأرسلتها إليه، فقالت لها باكارا: اذهبي الآن إلى منزلك خارج باريس وسأوافيك إليه بعد ساعة مع الكونت، فأتنكر أنا بصفة الخادمات ويتنكر الكونت بزي سائقي المركبات، ومتى اجتمعنا أخبرك بما يجب أن نصنع.

•••

وَلْنَعُدِ الآن إلى روكامبول، فإنه بعدما افترق عنه أندريا ذهب لمقابلة الربان، فقيل له إنه لم يَعُدْ فأقام ينتظره مدة طويلة حتى عاد، فتعارفا وجعل الربان يعتذر عن تأخره عن الموعد المعين، وافتتح اعتذاره بقوله إنه يوجد اثنان أخلص لهما أشد الإخلاص، وهما السير فيليام والرجل الذي أعاقني عن موافاتك اليوم، أما هذا الرجل فإن قصتي معه غريبة تشبه الحكايات الموضوعة، فأصغِ إليَّ أقصها عليك.

وأصغى إليه روكامبول وهو يرجو أن يستفيد من حكايته، فقال الربان: كنتُ في السنة الماضية في أمستردام، وقد شحنت سفينتي بضائع إلى الهند، وكان معي في السفينة فتاة بورتغالية أحببتها وأحبتني حبًّا ليس بعده حب، ولما كنا في أمستردام أنزلتها إلى المدينة وأقمتها في أجمل فندق إلى أن يتم شحن السفينة.

وفيما أنا في ليلة جالس على ظهر السفينة، إذ استوقف نظري شبوب نار هائلة في الشارع الذي كانت فيه الفتاة، ونظرت بالنظارة المكبرة فرأيت النار تشب في نفس الفندق الذي نزلَتْ فيه حبيبتي، وعند ذلك أسرعتُ مهرولًا كالمجانين إلى البر، ولما بلغت الفندق رأيت النار قد شبت في جميع أطرافه، ونظرت تلك الفتاة تصيح وهي واقفة على الشرفة، صياح اليأس ولا سبيل إلى إنقاذها، فهلع قلبي لصراخها، ونظرت حولي عساي أجد منفذًا إليها، ورأيت سلمًا خشبية نصبت على الجدار المحترق، ورجلًا في مقتبل الشباب تسلَّقَ تلك السلم غير مكترث للموت حتى بلغ إلى الشرفة، فاحتمل الصبية وعاد بها وخشب السلم يلتهب تحت قدميه، حتى وصل بها الأرض، وقد أغمي عليها من الرعب، فأكبر الناس بسالته وجعلوا يهتفون له معجبين بهذه المروءة، أما أنا فإني اقتحمت الجمع حتى وصلت إليه، فجعلت أقبِّل يده شاكرًا ودموع الفرح تنهل من عيني، وكانت المرة الأولى التي خرجت فيها الدموع من عيني، كما كانت أول مرة دخل فيها الحب إلى قلبي، وحتمت على نفسي أن أسفك دمي في خدمة هذا الرجل، وأن أكون له عبدًا ما حييت، ولهذا لو سألني السير فيليام أن أتخلى له عن سفينتي وجميع أموالي لفعلت، ولكن لو سألني هذا الكونت أن أقتل السير فيليام لما تأخرت.

فأجفل روكامبول وقال له: مَن هذا الكونت؟

– هو شاب غني روسي يُدعَى الكونت أرتوف.

فوقع هذا الاسم على روكامبول وقع الصاعقة، وقال في نفسه: قُدِّر لأندريا أن يفشل حين الانتصار، وأن تأتيه الخيبة والعثرات من حيث لا يدري. ولكنه كظم ما به وسأله: كيف لقيت الكونت؟

– لقيته اليوم اتفاقًا قبل أن أجيء إليك.

فقال في نفسه: قبح من اتفاق، فما فسد أعمالنا غير الصدفة، فإنه إذا رأى هذا الربان بشأن اختطاف الفتاة اليهودية إلى أن استقرا على أمر واتفقا على أن يتقابلا في المساء.

وعاد روكامبول إلى الفندق، فدعى إليه فانتير وأخبره بما عزموا عليه من اختطاف اليهودية، ثم أمره أن يذهب إلى مدام فيبار ويخبرها، ثم يبحث وإياها عن أنجع الطرق لاختطافها، وأن يأخذ التعليمات اللازمة عن منزل باكارا وعن طريقة البلوغ إلى الفتاة.

وذهب فانتير وعاد إليه في المساء وأخبره أن مدام فيبار ذهبت إلى المنزل بصفة متسولة، وعلمت جميع غرفه ومنافذه، حتى إنها طبعت أقفال أبوابه بالشمع كي تصنع مفاتيح لها وتدخل المنزل دون أن يشعر بها أحد، وفوق ذلك فقد علمت أن باكارا لا تعود إلى المنزل قبل انتصاف الليل، وأنه لا يوجد فيه سوى اليهودية والخادمة والخادم الكهل، فسُرَّ روكامبول وأمر فانتير أن يذهب إلى صانع الأقفال ليصنع المفاتيح، ثم يذهب إلى مدام فيبار ويأمرها أن تراقب في الغد باكارا كي تعلم متى تخرج منه.

وبعد ذلك ذهب روكامبول لمقابلة ربان السفينة، وقد خطر له حين ذهابه هذا الخاطر، وهو أنه إذا شاركنا الربان في اختطاف الفتاة عرف البيت وقد يتفق أن يرى فيه الكونت وباكارا، وفوق ذلك فإن من العار على مَن بلغ هذا المبلغ في مهنتنا أن يحتاج إلى ثلاثة أشخاص لاختطاف صغيرة، ثم إننا إذا استغنينا عن مساعدة الربان في اختطاف الفتاة فإننا لا نستغني عنه في إيصال باكارا إلى القبائل المتوحشة، ولما كانت باكارا لا تفارق هذا الكونت الروسي فقد وجب قتل الكونت في الحال.

ولما فرغ من الخطة وصل إلى المكان الذي ينتظره فيه الربان، وأخبره أن اختطاف الصبية أصبح ميسورًا لأنها تخرج وحدها من المنزل، ووافقه على مقابلته في الغد، ثم رجع إلى الفندق ولقي فانتير وساومه على الكونت بعشرة آلاف فرنك، يدفع نصفها مقدمًا والنصف الآخَر بعد القتل، ووضعا الخطة اللازمة لليهودية.

٥٨

في الساعة التاسعة من تلك الليلة قدم إلى منزل باكارا روكامبول وفانتير، وهو في صباغه الأسود ومدام فيبار، وكان فانتير قد أحضر مفاتيح المنزل، فأخذها روكامبول وجعل يفتح الأبواب، ودخل الثلاثة دخول اللصوص، تتقدمهم مدام فيبار، لأنها كانت عارفة بخفايا المنزل، ولما بلغوا إلى صحن الدار وقفوا يتشاورون، فقال روكامبول: أين غرفة الخادم؟

فقالت مدام فيبار: إنها في الطابق العلوي.

– لا خوف علينا منه. وأين غرفة الخادمة؟

– هي أمامك.

– إذن لندخل إليها أولًا إذ لا خوف علينا إلا منها.

ثم دخل الثلاثة إلى غرفة هذه المسكينة، فاستيقظت مذعورة وحاولت أن تصيح، وأطبق عليها روكامبول إطباق القضاء وتعاونوا جميعهم على ربط فمها بمنديل وقيدوا رجليها ويديها، ثم ربطوها إلى سريرها كي لا تستطيع أن تزحف إلى الخارج، ودخل الثلاثة إلى غرفة اليهودية فانتبهت أيضًا من رقادها وهَبَّتْ من سريرها واجفة الفؤاد من الذعر، فبادرتها العجوز قبل أن تصيح وأسرعت إلى ربط فمها، ثم تراجع الثلاثة بأمر روكامبول الذى قال: كيف السبيل إلى الذهاب بها، فإننا إذا وضعناها في مركبة فلا نأمن السائق أن ينم بنا، وإذا حملناها فلا نمشي بها خطوات حتى تنتبه إلينا الشرطة.

فقالت العجوز: لا دواء إلا الإرهاب. ثم أخذت خنجر فانتير ودنت من الصبية، ففكَّتْ رباط فمها ووضعت الخنجر على عنقها وهي تقول: إننا لا نريد بك شرًّا، ويجب أن تتبعيني إلى منزلي، وإذا فُهْتِ بكلمة واحدة على الطريق فإن هذا العبد يقتلك بهذا الخنجر.

ثم أعطت الخنجر لفانتير، فأخذه ووقف أمام الفتاة، فقالت لها العجوز: البسي ثيابك في الحال.

وجعلت تلبس ثيابها ورجلاها تضطربان من الخوف حتى أتمت لباسها، فتأبَّط روكامبول ذراعها وخرج بها إلى الطريق، فمشى فانتير وراءهما ومشت العجوز أمامهما وقادتهما في طريق لا ينتابه الناس، سيما في الليالي الممطرة، وما زالوا يسيرون حتى بلغوا منزل العجوز، فسلَّمَها روكامبول الفتاة وعاد مطمئنًا آمنًا لمقابلة الربان، فألفاه ينتظره في المكان المعين، فأخبره باختطاف الفتاة وودَّعَه على أن يقابله في سفينته يوم تصير فيها باكارا.

ثم ذهب إلى الفندق فلقي فانتير ينتظره فيه، فقال له: كيف حال الفتاة؟

– إنها على أسوأ حال من النكد والخوف، ولكن مدام فيبار باذلة جهدها في ملاطفتها.

فقال روكامبول: إنها ستأنس بها، فقد تعوَّدَتْ هذه مؤانسة الفتاة، وأنت مذ فرغت مهمتك من اختطافها لم يَبْقَ عليك غير قتل الكونت.

– وأنت بقي عليك دفع الثمن.

– هاك نصفه، وسأدفع لك النصف الآخَر بعد القتل حسب الاتفاق. فقبَضَ المال وانطلق يكمن للكونت.

أما روكامبول فإنه لما فرغ من جميع هذه المشاغل ذكر الرسالة التي أرسلتها إليه مدام ألفونس تدعوه فيها إلى موافاتها في منزلها خارج باريس، فجعل يتردد في الذهاب إليها، فتتمثل له بجمالها النادر، وذكر أنها تخدع حبيبها من أجله وأنها أظهرت له من اللطف والإيناس في الليلة الراقصة ما يزال مؤثرًا فيه، ثم رأى أنه لم يَعُدْ لديه عمل يعمله، فحَنَّ إلى لقائها وبرح الفندق، فركب مركبة وأمر سائقها أن ينطلق به إليها.

وبعد ساعة كانت تسير به المركبة سيرًا حثيثًا حتى وصلت إلى المنزل المطلوب، فأطلق روكامبول سراحها وهو غير حاسب لشيء، وطرق الباب الداخلي ففتحت له صبية بملابس الخادمات وأوصلته إلى القاعة التي كانت تقيم فيها مدام ألفونس، ثم تركته ومضت في شأنها دون أن يتمكن روكامبول من النظر إلى وجهها.

فلما دخل إلى القاعة رأى مدام ألفونس متَّكِئَة على مقعد طويل، فابتسمت له وشكرته لقدومه إليها في هذه الليلة الممطرة، وجعلت تنادمه وينادمها حينًا إلى أن قطعت عليه الحديث وهي تتفرس في وجهه وقالت له: ما هذا الشبه الغريب؟

فاضطرب روكامبول وقال: أي شبه تعنين؟

فلم تُجِبْه ولكنها جعلت تحدِّق به هنيهة وقالت: لولا لحيتك وشعرك الأسود … ثم توقَّفَتْ عن الكلام وعادت إلى التحديق به.

فسئم روكامبول وقال: أي شبه تعنين يا سيدتي؟

– إنك على سمرة وجهك وسواد شعرك تشبه شبهًا عجيبًا رجلًا أبيض البشرة أشقر الشعر.

فزاد اضطراب روكامبول وقال: مَن هو هذا الرجل؟

– رجل أسوجي يُدعَى الكونت دي كامبول.

فقال دون اكتراث: إني لا أعرفه.

– إنه برح باريس منذ ثلاثة أسابيع، وقد ظهر أنه كان من الأشقياء، وأن له حديثًا غريبًا تعرفه خادمتي، ولكنه كان متصلًا شروره وآثامه بكثير من الأسرات النبيلة، فقد كان يزور قصر المركيز فان هوب.

وكانت هذه المرأة تقص عليه هذه الأقوال كأنها تقولها اتفاقًا، غير أن روكامبول شغل باله لحديثها وقال في نفسه: ما عساها تريد من هذا الحديث؟ فعادت المرأة إلى حديثها وقالت: وقد أصيب هذا الكونت بضربة خنجر كادت تودي بحياته قبل احتجابه، وقد كانت الطعنة هنا في هذا المكان من الصدر، وأشارت بيدها إلى أثر الجرح في صدره.

فأجفل روكامبول وقال: لماذا تقصين عليَّ سيرة هذا الرجل؟

– لأنه يشبهك.

– كيف يشبهني إذا كان أبيض اللون وأنا أسمره، وإذا كان شعره أشقر كما تقولين وشعري حالك السواد؟

– لكن خادمتي تقول غير ذلك وسترى!

ثم قرعت بجرس أمامها ففُتِح الباب ودخلت منه باكارا المتنكرة بزي الخادمات، فدنت منه وقالت له بلهجة الساخر: على الكونت دي كامبول السلام.

فوجف فؤاد روكامبول لأنه علم أنها باكارا وقال في نفسه: لقد وقعت في الشَّرَك. ولكنه اطمأن حين افتكر أنه مسلح، وأنه لا يرى أمامه إلا امرأتين، غير أن هذا الاطمئنان لم يَطُلْ فإنه بينما كان ينظر منذعرًا إلى باكارا رأى أن بابًا آخَر قد فُتِح، ودخل منه الكونت أرتوف الروسي وهو حامل بيديه غدارتين، فعلم روكامبول أنه لم يَعُدْ له نجاة من قبضة باكارا، ولكنه قال في نفسه: إذا قُتِلت فسينتقم لي فانتير بقتل الكونت، وينتقم لي أندريا بإرسال باكارا إلى القبائل المتوحشة. فكان ذلك أكبر عزاء له في الساعة الهائلة.

وكان روكامبول ثابت العزيمة شديد الجرأة، إذ أصَرَّ على إنكار أمره، فلم يحفل بالوعيد ولو رأى الموت نصب عينيه، غير أنه كان وافر الحكمة شديد الدهاء، فقال في نفسه بسرعة التصور: إنه لم يَعُدْ لي سبيل إلى إنكار نفسي بعد أن عرفوني، ولا أرى سبيلًا للنجاة إلا بالإقرار، فأنا أعترف لهما بكل شيء دون حديث قتل الكونت وإرسال باكارا على سفينة جون إيرد؛ إذ لا يعلمان شيئًا من ذلك، إذا قُتِل الكونت وسافرت باكارا، فلا يُخشَى شيء من إقراري. وعند ذلك دار بينهم الحديث الآتي، فقالت باكارا: كفاكَ يا حضرة الكونت تنكُّرًا فقد عرفناك، وأَجِبْنا على ما نسألك عنه إذ لا فائدة من ضياع الوقت.

– ليكن ما تريدين، فسَلِي ما تريدين.

– أتذكر أن آخِر مرة تشرفنا فيها بلقائك كانت في منزل دابي ناتها الهندية؟

– أذكر ذلك ولا أنساه، فإني كنتُ عشيق تلك الهندية وقد لقيتها ميتة، وأُصِبْتُ بطعنة خنجر.

– كذبتَ، فإنك لم تكن عشيق تلك الفتاة ولم تكن عشيقتك.

– كيف تعرفين ذلك؟

– أعرفه كما أعرف أنك لست بابن تلك العجوز التي أخرجتكَ من المستشفى.

– ذلك أكيد.

– ولستَ أيضًا الكونت دي كامبل، فإن الأشراف لا يغيِّرون أسماءهم ويشتركون مع اللصوص، ولا ينخرطون في سلك تلك العصابة السرية التي كان يرأسها السير فيليام.

– إذا كنتِ تعرفين ذلك فماذا تريدين أن تعرفي مني؟

– ستعرف ما أريده منك، ولكن عليكَ أن تعلم قبل كل شيء أنك في قبضة يدنا، وأن هذا المنزل معتزل عن الناس، وأن الليل قد انتصف، فإذا استغثت فلا يجيبك إلا الصدى.

– إذن فأنتم تريدون قتلي.

– ربما قتلناك إذا امتنعت عن الإقرار.

– بماذا ينبغي أن أقر؟

– بحقيقة ما تعلمه عن السير فيليام، فإذا سلمتنا هذا الرجل فقد نعفو عنك؛ إذ إن حبل حياتك معقود بإقرارك.

– ماذا تريدين أن أقول عن الفيكونت أندريا الذي تدعونه السير فيليام، فإن طعنه إياي بالخنجر أعظم برهان على أني ليس لي أقل اتصال به.

فالتفت باكارا عند ذلك إلى الكونت أرتوف قائلة: إن هذا الرجل لا يريد أن يقر، فاقتله دون تأخير.

– ليكن ما تريدين.

ثم فتح زناد الغدارة وصوَّبَها إلى رأس روكامبول، فهلع قلبه وقال: قِفْ سأقول كل شيء.

– إذن أسرع بالقول.

– سَلِيني أجيبك.

– أكان السير فيليام شريكك؟

– نعم.

– أتقر هذا الإقرار أمام أخيه الكونت دي كركاز.

– غير أن الكونت قد سافر إلى كارلوفان مع أخيه.

– إذن فاكتب إقرارك كما أمليه عليك.

فلم يسع روكامبول إلا الامتثال، وجلس قرب المائدة فأَمْلَتْ عليه ما يأتي:

هذه آخِر ساعة من ساعات حياتي، ومَن كان في هذا الموقف فلا يستطيع الكذب والبهتان، ثم إن الكونت أرتوف واقف فوق رأسي وغدارته مصوَّبَة إلى قلبي، وهو يطلب أن أعترف بذنوبي وأبوح باسم الرجل الذي يقودني منذ عهد بعيد في طريق الآثام، فأنا أعترف الآن أن هذا الرجل الذي يتلبس بلباس التائبين وحشو قلبه المكر والدهاء، إن هذا الرجل الذي كان رئيسي وكنتُ يده العاملة حين حاول أن يحمل ليون رولاند على قتل فرناند روشي بواسطة الفيروزة، وحمل المركيزة فان هوب على قتل امرأته، إن هذا الرجل الأثيم الذي دفعني في سُبُل الجرائم والذنوب هو الفيكونت أندريا شقيق الكونت أرمان دي كركاز.

ثم أمرته أن يوقِّع على الرسالة، فوقَّعَ عليها وأخذتها باكارا وقالت للكونت: إنه إذا اطَّلَع عليها أرمان لا بد أن يفتح عينيه ويعلم حقيقة أمر أخيه.

– ربما، ومع ذلك فسأقول أنا كل شيء.

فقالت باكارا: لقد خُدِعْتَ فإنك لا تستطيع أن تقول شيئًا.

واستنكر روكامبول قائلًا: لماذا؟

– لأنك ستموت.

فاصفرَّ وجهه وعلم أنه كتب لنفسه الموت، إنما كتبه بهذا الإقرار.

فقالت له باكارا: لقد أسأت إلى نفسك فيما كتبته، إذ لولا كتابتك لما كنَّا نجد بدًّا منك لإقرارك أمام الكونت أرمان، أما الآن فإن خطك يكفي، ولا بد لك من الموت.

فقال لها روكامبول بصوت المتهكم: إنك تتعجلين يا سيدتي بقتلي.

– ألعل لديك ما تقوله؟

– لديَّ سر يساوي أكثر من حياتي.

– قُلْ وسترى.

– إني أعتبر هذا السر عظيمًا، ولهذا فقد قلت إنه يساوي أكثر من حياتي، وأنا الآن أريد بيعه لكما.

– إننا نشتريه بحياتك إذا كان خطيرًا كما تقول.

– ذلك لا يكفيني، فإن أردتم قتلي فاقتلوني ولكنكم لا تعلمون شيئًا.

– إذن سنقتلك.

– غير أنكم ستندمون الندم الشديد لرفضكم ما طلبته، حين ترون أن الصاعقة قد انقضت على رجل تحبونه وكنتم قادرين على إنقاذه.

وارتعشت باكارا وخشيت أن يكون ذلك الرجل فرناند، وعادت إلى مسالمته وقالت: ما زلت سائرًا في سبيل الموت، فقل عن الثمن الذي تريده لإفشاء هذا السر.

– مائة ألف فرنك، ومتى علمتم السر فإنكم أرأف من أن تقتلوني.

– أهذه كلمتك الأخيرة؟

– نعم!

– إذن فأنت تريد أن تموت؟

– إني أفضِّل ألف موت على أن أبيع سرًّا دون ثمن.

– وإذا لم يكن سرُّكَ مساويًا لهذا الثمن؟

– إنه يساوي أكثر من المبلغ الذي عيَّنْتُه.

– قبلت، فقُلِ الآن إذا كان لكَ ورثاء لأدفع لهم المال.

واضطرب روكامبول ولم يَعُدْ يشكك بموته وقال: إنكم لم تفوا بعهودكم، فإني لم أطلعكم على السر كي أورث الناس من بعدي.

وصوَّبَ الكونت الغدارة إلى صدره قائلًا: لم يَبْقَ لك في هذه الحياة سوى دقيقتين، فاذكر اسم الذي تريد أن يقبض المال.

وبينما كان روكامبول ينظر إليه وقد جمدت عيناه من الرعب، إذ فُتِح باب ودخل منه رجلان عظيمَا الجثة هائِلَا المنظر ووقَفَا موقف الخدم أمام الكونت ينتظران أمره، ولم يَعُدْ يشكك بدنو الأجل.

٥٩

كان هذان الرجلان اللذان دخلا من خدم الكونت قد أحضرهما معه من روما للمحافظة عليه، وهما من أشد خدَّامه خضوعًا له، وقد رآهما روكامبول يحملان كيسًا عظيمًا حين دخولهما، فخطر له أن الكونت يريد أن يقتله حسب النمط الشرقي، فيضعه في الكيس ويلقيه من نافذة المنزل إلى النهر الذي كانت تتكسر أمواجه على جدرانه.

وقال له الكونت وهو ينظر إلى الكيس: قلتُ لكَ إنه لم يَعُدْ لك سوى دقيقتين في الحياة، فاذكر لي اسم وريثك كي أدفع له المال.

فنظر إليه روكامبول نظرة الخائف القانط دون أن يجيب، وعند ذلك تقدَّمَتْ باكارا من الكونت وسارت به إلى آخِر الغرفة وسألته: لا تقتل هذا الرجل، فقد يحمله الخوف على الإقرار بأسرار أخرى.

– إنكِ أعطيتني في هذا الصباح سلطانًا مطلقًا، ودعيني أفعل ما أشاء واخرجي الآن مع هذه المرأة التي سيغمى عليها ودعيني أفعل ما يجب.

– لا تقتله لأني لا أريد.

– اذهبي لأنه ينظر إليك.

فخرجت باكارا مؤملة بشفقة الكونت؛ لأنها لم تطق أن تكون السبب في قتل هذا الشاب.

أما الكونت فإنه رجع إلى الخادمين وأشار لهما إشارة خاصة، فحَلَّ أحدهما قيود الكيس ودنا الثاني من روكامبول وقبض عليه بيد من حديد، وعاد الكونت وقال لروكامبول: قُلْ لمَن تريد أن أدفع المال.

وقد خطر لروكامبول خاطر غريب يخطر لهؤلاء اللصوص عند الشدة، ونظر إلى الكونت أرتوف وقال له: ألعلك تريد قتلي غرقًا؟

– إن نهر المارن بعيد الغور، ولا بد أن تكون قتلت في حياتك الأثيمة بعض الأبرياء مثل هذه القتلة، فاذكر اسم وريثك.

فقال روكامبول: إني لا أتدانى إلى طلب العفو منك، ولا أريد أن يكون وريثي غير الصدفة.

– ماذا تريد بالصدفة؟

– إنك ستلقي بي إلى المياه، أليس كذلك؟

– نعم، وستُلقَى إليها حيًّا ضمن هذا الكيس، بعد أن تُسَدَّ عليك منافذه.

– ميتة شرقية، ولكن نهر المارن ليس له عمق البوسفور، أريد بذلك أن جثتي قد يعثر بها أحد الصيادين؟

– وبعد ذلك؟

– ومتى عثر الصياد بجثتي فهو لا بد أن يبحث في جيوبي فيرى فيها الحوالة التي أعطيتني إياها على بنك روتشيلد، فيقبضها ويكون وريثي.

– إنه فكر حسن وليكن ما تريد، ثم جعل يحادث الخادمين باللغة الروسية، ونسي روكامبول المال وجعل يفتكر بذلك الخاطر الذي خطر له، وأمل فيه النجاة ولم يخشَ إلا أمرًا واحدًا، وهو أن يقيدوه قبل وضعه في الكيس.

ولما فرغ الكونت من حديثه مع الخادمين نظر إلى روكامبول قائلًا: يعجبني منك ما تُظهِره من عدم الاكتراث للموت، مما يدل على بسالتك، ومَن له مثل هذا الصبر على الخطوب فلا بد من مراعاته بعض المراعاة في مثل هذه المواقف.

فقال له بلهجة الساخر: أشكرك لكرم أخلاقك.

فقال الكونت: جرت العادة بإغراق المجرمين أن يقيِّدوا أيديهم وأرجلهم، ومنهم مَن يدعونهم مطلقي الأيدي، إذا طلبوا ذلك وأُرِيدَ مراعاتهم، فمَن أي فريق أنت؟

– من الفريق الثاني.

– إذن تدخل الكيس من تلقاء نفسك دون أن يمسكه أحد.

وتمكَّنَ روكامبول من إخفاء فرحه وقال: نعم.

وعند ذلك كلَّم الكونت الخادمين باللغة الروسية، فتركا الكيس في الأرض وابتعدا عنه.

وحاول روكامبول أن يزج نفسه فيه، فسأله الكونت: أَلَا تؤمن بالله؟ أَلَا تصلي قبل الموت؟

– نعم، لقد أصبت. ثم ركع وجعل يتمتم هنيهة ونهض، فسلَّمَ سلام الأبطال القدماء ودخل في الكيس، وأشار الكونت إلى الخادمين وربطوا الكيس من فوق رأسه رباطًا وثيقًا، وذهب أحدهما إلى النافذة المطلة على النهر وفتح مصراعيها، وحمل الثاني روكامبول ضمن الكيس وألقاه من النافذة، فشَقَّ عباب الماء وكان له دوي شديد.

أما الكونت فإنه أمر الخادم أن يقفل النافذة فأقفلها، ثم أمره أن يفتح الباب ففتحه ودخلت منه باكارا، ولما علمت أنه ألقاه في النهر قالت له بصوت المؤنِّب: أعصيتني وقتلته؟

– نعم، فإذا كان قد مات فلقد عاش بموته كثيرون.

٦٠

بعد ذلك بساعة خرجت باكارا من منزل مدام ألفونس يصحبها الكونت أرتوف، وكانت نفسها منقبضة لقتل روكامبول، فقد كانت تحب أن يُبقِي عليه الكونت بعد إقراره، لاعتقادها أنه لم يكن غير آلة بيد أندريا، وما زالت تسير بهما المركبة حتى بلغت إلى منزلها، فاستوقفتها وودَّعَتِ الكونت أرتوف وحاولت الدخول إليه، فوجدت الباب مفتوحًا خلافًا للعادة، فأوجست شرًّا ودخلت إلى الفسحة الخارجية، ورأت أن باب المنزل الداخلي مفتوح أيضًا، ونادت الخادمة فلم تُجِبْ، فأعادت النداء دون أن تسمع من مجيب، وعند ذلك وقفت تصغي وقد ساد السكون بعد انتصاف الليل، فسمعت أنينًا صادرًا من غرفة تلك الخادمة، فعلمت أنه قد فاجأها مصاب، ولم تجزع لفتح الأبواب وما سمعته من الأنين، بل إنها دخلت إلى المنزل ببسالة تندر في الرجال حتى بلغت إلى غرفة الخادمة، فسمعت ذلك الأنين ونادتها فلم تُجِبْ، وحاولت أن تفتح الباب فوجدته مقفلًا، فرفسته برجلها ففُتِح، وأنارت الغرفة فوجدت تلك المسكينة مقيَّدَة اليدين والرجلين، مكمومة الفم على ما تركها روكامبول، فأسرعت إلى حل رباطها وسألتها منذعرة: ماذا حدث؟

– لقد اختطفوا الفتاة يا سيدتي بعد أن تركوني كما رأيتِ.

– مَن هم الذين اختطفوها؟

– ثلاثة، وهم امرأة عجوز وشاب وعبد أسود.

فصاحت باكارا صيحة منكرة: إن هذا العبد خادم المركيز وشريك روكامبول، وقد أصبتُ فإن هذا الشقي مات دون أن يعترف بكل شيء.

إلا أن باكارا كانت منخدعة، فإن روكامبول لم يَمُتْ، بل إنه أفلت من كفنه وإليك البيان: إنه بينما كان الكونت أرتوف يلح عليه بذكر اسم وارثه ليدفع له المائة ألف فرنك، وبينما باكارا تلتمس من الكونت أن يبقي عليه، كان روكامبول يقول في نفسه إن لديَّ خنجرًا خبأته تحت صُدْرتي، وإن الكيس الذي سيضعوني فيه متسع بحيث لا يعيق يدى عن الحركة، ثم إنهم سيلقونني في نهر المارن من موضع مرتفع، ولكن هذا النهر بعيد الغور، فسأصل إلى غوره حيًّا، وعند ذلك أشق الكيس بخنجري وأصعد منه إلى سطح الماء فأنجو.

فلما دخل إلى الكيس وجعل الخادمان يربطان فم ذلك الكيس، أدخل روكامبول يده من تحت صدرته وقبض على قبضة الخنجر، ثم لبث واقفًا دون حراك، حتى إذا ألقوه في الماء أخرج الخنجر قبل أن يبلغ إليها، فوصل إلى منتهى عمق النهر بعشر ثوانٍ ومزَّق الكيس وهو من المشمع بخنجره، فأخرج منه يديه ورجليه دفعة واحدة، وحين أصبح حرًّا ضرب الأرض برجليه وذهب صعدًا حتى بلغ إلى سطح الماء، فتنفس الهواء وغاص مسرعًا حذرًا من أن يروه من النافذة، ولكن الظلام كان مشتد الحلك، وقد أُقفِلت النوافذ حين إلقائه منها.

وكان روكامبول من الماهرين في السباحة لأنه رُبِّيَ بين الأنهار، فما زال يسبح غائصًا تحت الماء، وكلما انقطع نفسه صعد متنفسًا حتى بلغ الشاطئ فصعد إليه وهو لا يصدق بالنجاة، وجعل يبتعد عن هذا المنزل وهو يلتفت في كل حين حذرًا من أن يتبعه أحد، إلى أن وصل إلى صخر مرتفع، فاختبأ وراءه وجلس يراقب المنزل الذي كان فيه، وأقام ساعة مبتل الثياب وأعضاؤه ترتجف من البرد، حتى رأى أن الأنوار قد انطفأت، ثم لم يمضِ على ذلك هنيهة حتى سمع مركبة خرجت من ردهة المنزل، فعلم أن مَن فيه قد رجعوا إلى باريس، وجعل يركض مقاومة لتأثير البرد إلى جهة خمارة كان رآها حين قدومه إلى المنزل، حتى وصل إليها وهو لا يزال بملابسه المركيزية الدالة على السعة والثروة، فاحتفل به صاحب الحانة؛ إذ لم يتعوَّد أن يتشرف بزيارة مثل هؤلاء النبلاء. فأخرج روكامبول دينارًا من جيبه ودفعه إليه، فأمر أن يعد له نارًا للتدفئة وأن يُحضِر له شيئًا من الشراب، ثم طلب إليه أن يعطيه ما لديه من الثياب، فأعطاه ثوبًا من ثيابه، فخلع المبتل بعد أن أخذ منه الحوالة ولبس ثوب الحانة، وقد أخبره أنه سقط في النهر اتفاقًا.

ثم تركه وجعل يمشي إلى أن لقي مركبة فركبها وذهب إلى مدام فيبار، فأيقظها ورأى اليهودية قائمة عندها، فأخبرها بجميع ما حدث له، وكان الصباح طلع فأمرها أن تذهب وتتردد حول منزل الكونت أرتوف كي تعلم إذا كان قتله فانتير، وأن تكتم حديثه أمام أعوانه لأنه عزم على ألا يعود إلى فندقه، بل يسافر رأسًا إلى لقاء أندريا، فذهبت العجوز بعد أن أقفلت الباب وراءها حذرًا من فرار الصبية، ونام روكامبول في سريرها.

وفي الساعة التاسعة أقبلت العجوز فأيقظته وقالت له: أظن أن الكونت قد قُتِل.

– كيف ذلك؟

– ذلك لأني رأيت فانتير والإنكليزي الربان خارجين من الفندق الذي كنتَ فيه في الساعة الثامنة وعليهما ملامح السرور.

فطرب روكامبول وأجاب فلأذهب للقاء السير فيليام؛ إذ لم يَبْقَ لي ما أعمله في باريس.

ونهض فخرج من منزل العجوز، وذهب توًّا إلى بنك روتشيلد، فقبض المائة ألف فرنك حوالة على بنك لندرا، وذهب إلى حيث ينتظره أندريا.

أما أندريا فكان مقيمًا مع أخيه في كارلوفان يدهشه بظواهر قداسته، ويُظهِر له كل يوم آية جديد من آيات توبته، وكان أرمان يذوب تشوقًا إلى معرفة سر مبارزة أخيه مع المركيز، وفي كل يوم كان يسأله عن هذا السر، فيماطله إلى أن أخبره أخيرًا أن المركيز قد تجرَّأ على امرأته ودخل ليلًا إلى منزلها إلى آخِر ما يعرفه القراء من هذا الحديث، فغضب أرمان غضبًا شديدًا وأقسم أنه لا بد له من قتل هذا الرجل السافل الذي يتجرأ على أطهر امرأة، فطيَّبَ أندريا خاطره وغادره وهو فرح القلب كي يقابل روكامبول ويعلمه كيف يقابل امرأة أخيه مرة ثانية.

وكان اتفاقه مع روكامبول أن يقابله في سانت مالو، فلما بلغ إليها وجده ينتظره في المكان المعين، فسُرَّ به أندريا وأثنى عليه، فقال له روكامبول: أتعلم من أين أنا آتٍ؟

– ألستَ قادمًا من باريس؟

– كلا، بل أتيت من دار الأبدية.

فضحك أندريا وقال: لا أظنك أتيت، إذ لا أجد في وجهك أثرًا من آثار الأبالسة.

– ربما كان ذلك لأني لقيتك، فأزالت بركات قدسك من وجهي تلك الآثار، ولكني ما أتيت إلا من قعر نهر المارن.

– ألعلك غرقتَ فيه؟

– لا بل أغرقوني.

ثم قصَّ عليه جميع ما جرى له بالتفصيل، فاصفرَّ وجه أندريا إلى أن أخبره بما علمه من العجوز عن قتل الكونت أرتوف، فطاب خاطره ولم يَعُدْ يخشى لقاءه مع جون إيرد، فقال له: يجب السرعة الآن، فإذا كان الكونت قد قُتِل فإن جون إيرد سيقضي على باكارا، فلا يبقى علينا غير قتل أرمان.

ثم جعل يعلِّمه كيف يصل إلى امرأته حنة، فدلَّه على المنزل وأرشده إلى مدخل الغرفة التي تقيم عادة فيها، وهي غرفة مجاورة لغرفة يشتغل فيها زوجها، بحيث لو نادته بأخفض صوت لسمع نداءها، وقال: إذا احتجت إلى أن تكلِّمها فكلِّمْها كما كلَّمْتَها المرة السابقة، ولكنك لا تحتاج إلى الكلام، فإنها ستصيح حين تراك فيسرع إليك زوجها، وهو رجل شريف ويثق بأنك شريف أيضًا، فيبارزك وتطعنه بالسيف تلك الطعنة الإيطالية التي تعلمتها. فاذهب الآن على بركات الأبالسة.

– إني لا آمَنُ أن يقبض عليَّ خدام الكونت حين يرون أني قتلت سيدهم ويسلمونني للشرطة.

– وماذا عليك منهم، فإنك قتلت خصمك بالمبارزة وهي غير ممنوعة.

– وماذا أصنع بعد قتله؟

– إنك تذهب إلى سانت مالو حيث توافيني فيها.

– أين؟

– في سفينة الربان الإنكليزي، إذ لا بد لي من وداع باكارا.

ثم أطلعه على رسالةٍ وردت إليه من الهافر من جون إيرد يخبره فيها بالفوز، وأنه سيسافر بباكارا إلى جزائر المركيز.

وافترق الاثنان، فذهب أندريا إلى سانت مالو، وذهب روكامبول إلى قصر كارلوفان.

وكان الظلام قد خيَّمَ والخدم في القصر يتأهبون لإعداد العشاء، وحنة جالسة في غرفتها تتلهى بالتطريز وتنتظر قدوم زوجها إليها كي يذهب بها إلى المائدة، وبينما هي على هذه الحال إذ طرق باب غرفتها، فحسبت أن الطارق أرمان وقالت له: ادخل.

ولما فُتِح الباب ورأت أن الداخل لم يكن زوجها بل كان المركيز، صاحت صيحة ذعر وصرخت تقول: إليَّ يا أرمان!

فركع روكامبول أمامها وقال لها: لماذا تخافي أيتها الحبيبة وأنا موقف حياتي في سبيل رضاك؟

ولكن لم يكد يتم حديثه حتى انقضَّ عليه رجل انقضاض الصاعقة، وهو يزبد من الغضب إزباد الجمال، وكان هذا الرجل أرمان.

أما روكامبول فقد كان يتوقَّع هذه المباغتة، فمدَّ يده إلى جيبه وقبض فيها على غدارته للدفاع، ولم يكن في يد أرمان سلاح ولكنه كان قوي العصب والعضل، وقد زاده الغضب قوة وبأسًا، فقبض على كتف روكامبول بيد من حديد وأنهضه بعد أن كان راكعًا، وكان الغضب قد أضاع صوابه فقبض على عنقه يريد خنقه، فجعل روكامبول يصيح بملء صوته إليَّ … إلى القاتل … إلى السفاك …

فلما سمع الكونت كلمة السفاك عاد إليه رشده، ورفع يده عن عنقه وتراجع عنه خطوة إلى الوراء وهو ينظر إليه بعينين تتقدان من شرر الغيظ، وقال له: لقد أصبتَ، فإنك وإن كنتَ قد دخلت إلى منزلي دخول اللصوص، فإني لا أقتلك دون أن يكون لك سلاح تدافع به عن نفسك.

ثم هجم عليه وصفعه بإحدى يديه على وجهه، وأخذ باليد الأخرى سيفين كانا معلَّقَين على الجدار.

وعند ذلك تراكض الخدم مسرعين إلى الغرفة، فأمر الكونت بعضهم أن يعتني بامرأته التي أغمي عليها، وأمر الآخَرين أن يذهبوا بالأنوار إلى الحديقة، وخرج يتبعه روكامبول إلى الحديقة التى جعلاها ساحةً لهذا المعترك، وهناك قال للخدم: إنه إذا قتلني هذا الرجل، فلا يقبض أحد عليه.

ثم أخذ الاثنان يتقارعان بسيفهما لا يحضر مبارزتهما غير الخدم.

٦١

وبينما كان الكونت وروكامبول يتبارزان، كان أندريا يسير آمنًا مطمئنًا إلى سانت مالو وهو يلتفت من حين إلى حين إلى قصر كارلوفان، فيخفي البعد أنواره حتى احتجبت تلك الأنوار عن عينيه، فقال في نفسه: هو ذا قد انطفأ آخِر نور من عائلة كركاز. وابتسم ابتسام الأبالسة وهو يقول: لقد ظفرتُ بعد صبري الطويل.

ثم نظر إلى جهة البحر فرأى أن سهمًا ناريًّا عقبه أسهم جعلت تشق كبد السماء، فانتعش جسمه من الفرح وقال: هو ذا الربان قد ظفر بباكارا وحبسها بالسفينة، وهذه الأسهم هي الإشارة المصطلح عليها بيننا.

وانطلق مسرعًا إلى الميناء وعزم على أن يذهب إلى السفينة في أول قارب يصادفه، ولما مشى قليلًا سمع صوت رجل يناديه، ونظر إليه منذهلًا فإذا هو جون إيرد ربان السفينة، فحيَّاه الربان باحترام وقال له: قد أتيتُ لأذهب بك إلى السفينة فإنهم ينتظرون فيها.

ففرح أندريا وقال: أَوَقَعَ الطير في الشَّرَك؟

– نعم، بحسن تدبيرك.

– كيف رأيت جمال باكارا؟

– إنها تستحق أن تكون ملكة لتلك القبائل المتوحشة الذاهبة إليها.

– بل إني أؤثر أن يمزِّقوها حية ويولموا عليها الولائم.

– ربما كان هذا نصيبها، أفلا تزورها وتودِّعها بكلمة؟

– إني ما أتيت إلا لهذا. امض بنا.

ثم ركب الاثنان قارب السفينة وجرى بهما حتى بلغ إلى السفينة، فصعد إليها فقاده الربان إلى قاعة فيها وقال له: فسأرسل إليك باكارا.

ولم يمضِ هنيهة حتى دخلت باكارا وقالت له: أهذا أنت يا سيدي الفيكونت؟

فضحك أندريا ضحكًا عاليًا وقال لها: لستُ بسيدك الفيكونت، بل أنا السير فيليام الذي عرفتِه من قبلُ.

فنظرت إليه باكارا باحتقار وقالت له: إني أعرف أن تلك التوبة لم تكن غير كاذبة، وأن نار انتقامك كانت كامنة تحت رماد الغش والتدليس، ثم إني أعلم أن هذا الرجل بل هذا الوحش الضاري الذي أحبطت جميع مساعيه الشريرة وأمانيه الأثيمة يكرهني إلى أن يتمنى لي الموت.

– لقد أصبتِ أيها العزيزة، فإن جميع الذي لفظتِ به حق لا ريب فيه.

– وإني أعلم أيضًا أنه اختطف تلك الفتاة التي كنتُ أربِّيها في منزلي، وكان يحبها حب الفجَّار الفاسقين.

– إنها جميلة هذه الفتاة، وإن مدام فيبار ستربيها في باريس بدلًا منك.

فقال له ربان السفينة الذي كان يسمع الحديث: لقد أخطأتَ يا حضرة السير فيليام؛ لأن الفتاة ليست في باريس بل هي في سفينتي.

ونظرت باكارا إلى أندريا فرأته يصفر ويضطرب، فقالت له بلهجة الهازئ: لقد صدق المثل القائل إن لكل صارم نبوة، فلقد كنتَ رجلًا لا يحتفل بالنظام الإنساني ولا يكترث للشرائع المقدسة، ولا قيمة لديه لحياة الناس، بل كنتَ تمشي إلى غايتك لا تلوي عنها مشي الظل الزاحف، فما كنتَ تجد في سبيلك حجر عثرة تصدك عن قصدك، غير أن الله نظر إلى شَرِّك وأراد أن يوقفك عند حدٍّ في آثامك، فوضع نصب عينيك هذه الفتاة التي كان يضطرب لها فؤادك على خلوه من عواطف الإنسان.

فضحك أندريا أيضًا وقال للربان: إذا كانت الفتاة هنا، فلماذا لا تحضرها لي لنسمع حديثها بدلًا من حديث هذه المرأة؟

فأجاب: ها أنا ذاهب لإحضارها.

ولما خلا أندريا بباكارا قال لها: لقد خسرتُ بمسألة فرناند خمسة ملايين، ولو لم أتمكن من الفرار لكنتُ قتلتكِ.

– كان ينبغي أن تُقتَل.

– ربما، ولكني لم أجد بدًّا من مكافأتك، فلقد أعددتُ لك جزاءً غريبًا، أتعلمين ما هو؟

وردَّتْ باكارا دون اكتراث: كلا، فما هو؟

– إنك الآن في سفينة تُدعَى فولر، ربانها من رجالي وستسير هذه السفينة اليوم إلى اوسيانيكا، أما جزاؤك فهو أني أمرت هذا الربان أن يلقي بك في إحدى جزر القبائل المتوحشة، حيث يصنعون كل يوم وليمة على قطعة من جسدك الترف الناعم.

ثم قهقه ضاحكًا وهو يحسب أن باكارا ستصيح الرعب وتسقط متوسلة على قدميه، غير أنها كانت تسمع حديثه متبسمة، ولما فرغ منه قالت له: لقد أخطأتَ يا حضرة المنتقم، فلستُ أنا التي سأذهب إلى هذه القبائل المتوحشة بل أنتَ.

وحين انتهت إلى هذه الكلمة أزيح الستار عن باب الغرفة، وولج منه رجل وقال له: لقد كنتَ تحسبني ميتًا فيما أظن.

ورجع أندريا منذعرًا إلى الوراء، لأن هذا الرجل كان الكونت أرتوف.

٦٢

وَلْنُظْهِر الآن السبب في قدوم الكونت أرتوف، فنقول إنه حين ألقى روكامبول في البحر عاد مع باكارا ومدام ألفونس إلى باريس، فأوصل باكارا إلى منزلها وذهب بمدام ألفونس إلى منزله كي يدفع لها المائة ألف فرنك حسب الاتفاق.

وقد تقدَّم لنا القول إن فانتير كان قبض من روكامبول نصف أجرته عن قتل الكونت أرتوف، وتعهَّدَ أن يقتله في تلك الليلة، فتربَّص له على باب النادي الذي كان يسهر فيه إلى الساعة الحادية عشرة، فلم يخرج، ثم رأى سائق مركبته يعود بها في طريق منزله دون أن يكون فيها الكونت، فحسب أنه يريد أن يسهر في منزل باكارا، وللحال ركض حتى أدرك المركبة، فتعلَّقَ بها ثم دخل تحتها مستندًا على قاعدة الدواليب، ولما بلغت المنزل فتح البوَّاب الباب الخارجي ودخلت إلى الردهة ودخل فانتير فيها، فأقام مختبئًا بين دواليبها ساعة حذرًا أن يعود السائق لغرض من الأغراض، وبعد ذلك طلع من مخبئه، وكان يعرف منزل الكونت لصداقته مع الخدم، فانسلَّ دون أن يشعر به أحد من الخدم لأنهم كانوا نيامًا، وفتح الباب بمفتاح خاص ثم ولج إلى غرفة مجاورة للغرفة التي ينام فيها الكونت وتربَّصَ مختبئًا فيها.

ولبث في مكانه حتى عاد الكونت مع مدام ألفونس ودخل إلى غرفته، وسمع فانتير صوتها ونظر من ثقب الباب فرأى مدام ألفونس، وعلم أنها المرأة التي ذهب إليها روكامبول، فعجب لهذا الاتفاق وأنصت لحديثهما كي لا تفوته كلمة منه، فرأى أن هذه المرأة جلست على مقعد جلوس المضطرب وقالت: أمر فظيع وهائل.

فقال لها الكونت: لا أنكر ما تقولين، ولكنه كان واجبًا لا بد منه، فقد رأيتِ بعينيك وسمعت بأذنيكِ، فعلمتِ ما أعلمه من آثام هذا الرجل.

– وأنا لا أنكر أيضًا أنه أثيم، ولكن أكان يجب قتله لهذه الآثام؟

فاضطرب فانتير في مكمنه وقال: عن أي رجل يتكلمان؟ ألعله روكامبول؟

ثم سمع الكونت يقول معترضًا: كيف لا يجب قتله، ولو أبقينا هذا المركيز الكاذب أما كان قتل الكونت أرمان؟

فجعل العرق البارد ينصبُّ من جبينه وقد أيقن أن روكامبول مات، وأنه لم يَعُدْ له رجاء بقبض المال منه.

أما مدام ألفونس فإنها أعيت عن الجواب، ولكنها لبثت مستنكرة للقتل فقال لها الكونت: إنك ستكتمين هذا السر في كل حال.

– لا بد لي من كتمانه لأني شريكة لكما بقتل هذا المسكين.

– بقي أن أدفع لك المائة ألف فرنك التي وعدتك بها.

ثم ذهب إلى خزانته ففتحها وأخرج منها أوراقًا بهذه القيمة وهو يقول: ليس لديَّ اليوم غير هذه القيمة فخذيها.

– كلا، فإن هذا المال ثمن دم ذلك المسكين وهو ورثني الشقاء.

وألحَّ عليها فأبت فقال لها: إذن خذيها وضعيها في صندوق الصدقات المعلَّق على باب كنيسة نوتردام، وهذه مركبتي إنها توصلك إلى الكنيسة، ثم تذهب بك إلى منزلك.

– أحسنت، فإن التبرع بهذا المال على الفقراء سيكون كفَّارة عن ذنوبي.

وأخذت المال وودَّعَتْه وانصرفت.

وبينما كان الكونت ينزع ثيابه لينام كان فانتير يقول في نفسه: إن روكامبول مات بعد أن أباح بأسرار السير فيليام، ولا بد أن يكون الكونت وباكارا قد اتخذا الوسائل اللازمة لإنقاذ أرمان دي كركاز من مخالب أخيه، فإذا قتلت هذا الكونت فلا أستفيد من قتله شيئًا، لا سيما وأنه لم يَبْقَ في خزانته شيء من المال، وخير لي أن اتفق مع هذا الكونت، فقد يعرض عليَّ ما خسرته بموت روكامبول.

وعند ذلك فتح باب الغرفة المختبيء فيها، ودخل وبيده الغدارة على الكونت، وكانت الكونت قد خلع ثيابه وصعد إلى سريره وأخذ يقرأ في كتاب، فلما رأى هذا الأسود داخلًا إليه وبيده غدارة يصوبها إليه ذعر لمنظره، غير أنه تجلَّدَ ولم يُظهِر شيئًا من دلائل الخوف، بل قال له بسكينة: مَن أنت وماذا تريد؟

فوضع فانتير الغدارة على المستوقد، ودنا من سرير الكونت، ووقف بإزائه وقال: إنك يا سيدي الكونت رجل شريف لا تخلُّ بوعد، ولو صدر هذا الوعد منك إلى لص.

– ذلك لا ريب فيه، ولكن مَن أنت وماذا تريد؟

– أنا لص وقد أوشكت أن أكون قاتلًا، أما ما أريده فلا أنطق به إلا إذا تعهدتَ لي أن تسمعني دون أن تنادي خدمك فيطردوني.

– قل، وأنا أتعهد لك بسماع جميع حديثك.

– إني دخلت منزلك يا سيدي الكونت دخول اللصوص، ولكني لم أكن أبغي سرقة مالك بل ما هو أعز من المال.

– ألعلك كنت تريد قتلي؟

– نعم، وقد كنتُ مدفوعًا إلى قتلك بأجرة معينة قدرها عشرة آلاف فرنك قبضت نصفها مقدمًا.

وابتسم الكونت وقال: أحِبُّ أن أعرف اسم هذا الرجل الذي يقدِّر حياتي بهذه القيمة.

– إنها قيمة زهيدة يا سيدي الكونت، ولكنك من الأغنياء.

وابتسم الكونت أيضًا وقال: لقد علمت الآن السبب في عفوك عني، فلقد قلتَ في نفسك أن الكونت غني وقد يمنحني ضعف هذه القيمة، فإذا كان ذلك فإني أمنحك عشرين ألف فرنك فاذهب بسلام.

– أشكرك يا سيدي جزيل الشكر، إلا أني لم أتشرف بالمثول أمامك لهذا السبب وحده.

– لأي سبب؟

– إنك يا سيدي تراني أسود اللون، غير أني إذا إغتسلت بالماء السخن ودهنت جسمي ببعض المواد صار أكثر بياضًا من جسمك.

– ماذا أسمع؟ ألستَ إذن عبدًا أسود؟

– كلا يا سيدي، ولكن دخولي في خدمة المركيز دون إينجو اضطرني إلى أن أصبغ جسمي بلون أسود.

– أنت كنتَ في خدمة هذا الرجل؟

– نعم.

– وهو الذي دفع لكَ خمسة آلاف لتقتلني؟

– نعم.

– لقد أحسنت إذن برجوعك عن قتلي، لأنك لو قتلتني لخسرت الخمسة آلاف الأخري.

– لقد عرفتُ يا سيدي، لأني سمعت ما كنت تحدِّث به تلك السيدة.

– إذن أخبرني الآن بماذا تريد؟

– إنك وعدتني أولًا بأن تمنحني عشرين ألف فرنك، ثم تسمع جميع حديثي.

– سأفي بالشرطين.

– إذن، اعلم أن لهذا المركيز الذي قتلتَه اسمًا ثانيًا.

– عرفت ذلك.

– إنما بقي أمر ثانٍ لم تعلمه، وهو أنه لديَّ سر هائل يختص بشخص تحبه، فإذا وقفت عليك فإنك تساومني بمشتراه.

فاضطرب الكونت وقال: مَن هو هذا الذي أحبه؟

– أعيد عليك يا سيدي ما وعدتني به من إطلاق سراحي بعد الوقوف على أسراري، ثم أذكرك أني رضيت بعشرين ألف فرنك مقابل رجوعي عن قتلك، إلا أن السر الذي سأُطلِعك عليه يساوي أكثر من هذا الثمن، وسأذكر لك اسم الشخص كي تعلم خطورة هذا السر، إنه باكارا.

وانذعر الكونت وقال: باكارا … ألعلها مهدَّدة بخطر؟

– وبخطر عظيم.

– وهل تستطيع الإباحة به؟

– دون شك.

– إذن اذكر المبلغ الذي تريده وقل لي.

– لا تظن يا سيدي إني أطمع بك، ولكن الخطر الذي يتهدد باكارا أشد من الموت، ومثل هذا السر لا يباح بأقل من مائة ألف فرنك، فهبني هذا المبلغ وأنا أعاهدك على أن أسلمك أيضًا هذا الرجل الذي تطارده دون أن تتمكن من القبض عليه، والذي لم يكن روكامبول أو المركيز سوى آلة في يده.

– ألعلك تعني السير فيليام؟

– نعم.

فأشار الكونت إلى منضدة وقال له: أَدْنِها مني كي أكتب لك حوالة على بنك إذ ليس لديَّ شيء من المال.

فامتثل فانتير وبينما هو يدني من المنضدة، إذ فُتِح الباب بغتة ودخلت منه باكارا وهي منذعرة شاحبة اللون، فقالت قبل أن ترى فانتير: إنهم دخلوا إلى منزلي في الليل واختطفوا الفتاة.

ثم رأت فانتير فصاحت صيحة منكرة لأن الخادمة روت لها أن بين الذين اقتحموا المنزل كان يوجد رجل أسود.

أما الكونت فإنه وثب من سريره ولبس عباءة وأسرع إلى باكارا، ووضع يدها بين يديه وقال لها: لا تخافي إن هذا الرجل …

وقاطعه فانتير قائلًا: إن هذا الرجل هو أحد الذين اختطفوا الفتاة. ثم قال لباكارا: لا تخشي يا سيدتي، إن الفتاة تُرَدُّ إليكِ سالمة في الغد.

وعند ذلك قدَّمَ المنضدة حتى وضعها قرب الكونت، فقال له: اعلم يا سيدي السفَّاك أنك لو عاهدت رجلًا من عوام الناس لحنث بعهده معك، إن هذه السيدة الآن بقربي ولا خوف عليها، ولكني من النبلاء ولا يحنث النبيل بما يعد.

فابتسم فانتير وقال: إن وجود السيدة باكارا بقربك لا يبعد عنها الخطر الهائل الذي ينذرها، إذا لم أتكلم وأذكر اسم ذلك المنتقم.

فقالت باكارا: مَن هو هذا الرجل وما شأنه؟

فروى لها الكونت بجميع ما كان بينه وبين فانتير، فقال: إني أعيد عليكَ ما قلتُ، وهو أني إذا ذكرتُ لكَ اسم رجلٍ لا يعلم بوجوده في باريس سواي، تتلاشى عن السيدة كل المخاطر، وتقبض على السير فيليام كما تشاء.

فأجابه الكونت بأن وضع ورقة وكتب عليها حوالة على بنك روتشيلد بمائة ألف فرنك ودفعها إليه، فوضعها فانتير في جيبه والتفت إلى باكارا قائلًا: لا أعلم يا سيدتي ماذا فعلتِ مع السير فيليام فاستحققت منه هذا الكره الوحشي، واعلمي الآن أنه لو لم يحسن إليَّ الكونت أرتوف ويعطيني من النقود ما يكفيني لأن أعيش عيشة صالحة إلى نهاية أيامي، لتمكَّنَ السير فيليام من أن ينفذ بك انتقامه الهائل، فإن لديه الآن رجلًا يحكم على عصابة لصوص تعهَّدَ للسير فيليام أن يحملك على سفينة إلى جزائر المركيز، ويلقيك فيها بين مخالب قبائلها المتوحشة.

وإن هذا اللص السفَّاك مدين لرجلين يُخلِص لهما إخلاصًا شديدًا، وأحد هذين الرجلين السير فيليام، وهو يقتل نفسه من أجل السير فيليام، ولكنه يقتل السير فيليام من أجل ذلك الرجل الثاني.

فسأله الكونت منذهلًا: مَن هو هذا الرجل؟

– هو أنت يا سيدي.

فزاد عجبه وسأله: مَن هو هذا اللص؟ وما اسمه؟

– إنه رجل أنقذتَ حبيبته من النار.

فتذكَّرَ تلك الحادثة وسأله: أهو ربان إنكليزي؟

– نعم، وهو يُدعَى جون إيرد، فإذا أمرتني يا سيدي أحضرتُه إليك من فندقه حالًا.

فنادى الكونت أحد الخدم قائلًا: خذ بإحدى مركباتي هذا الرجل إلى حيث يريد وارجع به إليَّ.

فذهب فانتير إلى الفندق الذي يقيم فيه الربان وأيقظه من رقاده قائلًا: هل أنت مستعد لاختطاف السيدة؟

– نعم، إني لا أعصي أمرًا للسير فيليام.

– ولكنك إذا عرفتَ مَن هي هذه السيدة، فإنك ترجع عن طاعته.

– مَن هي؟

– هي حبيبة الكونت أرتوف.

فذعر الربان مما سمع وأجاب: إذن لا بد لي من قتل السير فيليام لأنه اقترح عليَّ مثل هذه الخيانة.

– إن الكونت يتوقَّع منك أحسن من ذلك، فهو يريد أن تذهب بالسير فيليام إلى هذه القبائل المتوحشة بدلًا من باكارا.

فأجاب الربان ببرودة الإنكليز: ليكن ما يريد الكونت.

– إذن لنذهب إليه.

وذهب الاثنان إلى الفندق الذي يقيم فيه روكامبول، وذلك لأنه خطر لفانتير أن يسرق جميع ما يجده لدى روكامبول بعد أن علم بقتله، ولما خرجا من هذا الفندق شاهدتهما مدام فيبار وعلى وجهيهما علائم السرور، فأيقنت أن فانتير قتل الكونت أرتوف، وأخبرت روكامبول بما تقدَّمَ، وبعد هنيهة وصلا إلى الكونت أرتوف فأمرهما أن يختطفا الفتاة اليهودية من منزل العجوز، ففعلا وعادا بها إلى باكارا، وفي اليوم التالي ذهبوا جميعهم إلى باخرة الربان ما عدا فانتير، فإنه أخذ الأموال التي منحه إياها الكونت وسافر بها إلى لندرا.

٦٣

لقد تركنا أرمان وروكامبول يتلاحمان على ضوء المشاعل التي كان ينيرها الخدم، وكان روكامبول معتمدًا في مبارزته على الضربة الإيطالية التي تعلَّمَها وهو واثق من التغلُّب على الكونت، فكان يقاتله بسكينة وبرود خلافًا للكونت، فإنه كان هائجًا أشد الهياج، فلما ضاق ذرع روكامبول ورأى أن خصمه خبير بفنون القتال، وأنه يوشك أن يتغلَّبَ عليه، عمد إلى الضربة الإيطالية إلا أنه ما لبث أن بدأ بمقدماتها حتى علم الكونت قصده وصاح به: خسئتَ أيها الغادر، فإني تعلَّمْتُ هذه الطعنة قبلك. ثم انقضَّ عليه انقضاض الصاعقة وضربه ضربة شديدة وقعت في أعلى صدره، فصاح روكامبول صيحة ألم وسقط على الأرض.

وعند ذلك رمى أرمان سيفه إلى الأرض وسكن ثائر غضبه، فأسرع إلى خصمه فضمد له جرحه وأمر الخدم أن يحملوه إلى غرفة في فناء القصر، ثم أمر أحدهم أن يسرع بإحضار الطبيب وكأنه قد نسي جميع ما كان من خصمه، فجلس بإزاء سريره يعتني به ويعامله معاملة الصديق الرءوف.

ولما حضر الطبيب كان روكامبول مغميًّا عليه لفرط ما نزف من دمائه، فاستفاق من إغمائه وسمع الكونت يسأل الطبيب: ألعل الجرح خطير؟

– إنه شديد الخطورة يا سيدي، قد يفضي إلى الموت.

ورأى الكونت أن روكامبول قد فتح عينيه، فأشار للطبيب بالصمت.

ودنا الطبيب وجسَّ نبض روكامبول ثم أشار لأرمان أن يتبعه، فتبعه إلى نهاية الغرفة وجعل يحادثة بشأن الجريح.

أما روكامبول فإنه اضطرب اضطرابًا شديدًا من الموت، وذكر أن أندريا كان السبب في جميع ما أصابه من الشدائد، وما يلقاه الآن من خطر الموت، فحقد عليه وقال في نفسه: لا بد لي من الانتقام من هذا الرجل الذي لم يقتلني غير مبالغتي بالاعتماد عليه، فكان يتنازعه عاملان وهما الخوف من الموت وكره أندريا الذي جرعه هذا الكأس.

وفيما هو على هذه الحالة من الاضطراب، دنا الكونت من سريره وقد فرغ من محادثة الطبيب وقال له: كيف أنت الآن؟

فأجابه روكامبول: أوَدُّ يا سيدي الكونت أن أخلو بك ساعة فأبوح لك بسر خطير لا أحب أن ينزل معي إلى القبر.

فأشار أرمان إلى الطبيب فانصرف وقال لروكامبول: قل فإني مصغٍ إليك.

– إني سمعت الطبيب يا سيدي يقول أن ساعاتي باتت معدودة، فأردت أن تعرف مَن أنا وكيف اتصلت بك قبل أن أموت، فاعلم يا سيدي أني لست المركيز دون إينجو، وما أنا من أهل البرازيل.

فسأله أرمان منذهلًا: إذن مَن أنت؟

– إني الآلة المنفِّذة لأغراض رجل يدعونه الآن السير أرثير.

فاضطرب أرمان لأنه ذكر أنه سمع هذا الاسم، وتابع روكامبول: وأنا يا سيدي الذي تبارزت مع فرناند روشي، وكان اسمي في ذلك الحين الكونت دي كامبول، وحملت فرناند مع السير أرثير إلى منزل الفيروزة، ثم قصَّ عليه جميع ما جرى في منزل الفيروزة إلى أن أخبره كيف أن باكارا أحبطت جميع مساعي السير أرثير واضطرته إلى الفرار.

فاضطرب أرمان وقال له: مَن هو أرثير هذا؟ وكيف لم يعلم بآثامه أخي؟

فابتسم روكامبول وقال له: أصغِ لي يا سيدي، فإن السير أرثير هذا كان له كثير من المشروعات الأثيمة، وقد أشركني في جميع آثامه، فكان الرأس المرشد وكنتُ اليد العاملة، وقد خطر له يومًا أن يدع المركيز فان هوب يقتل امرأته كي يزوِّجه بابنة عمه الهندية.

– كيف ذلك؟ أهي تلك المرأة التي وُجِدت ميتة في قصرها أمام عشيقها الذي قتلته؟

– لقد خُدِعتم يا سيدي، فإن هذا العشيق الكاذب لم يكن إلا أنا، ولم يكن الذي طعنني بالخنجر غير السير أرثير. ثم ذكر له تفاصيل جميع هذه الحكاية، وهو يذكر له أندريا باسم السير أرثير، إلى أن تولَّد الشك في نفس أرمان فقال له وقد فرغ صبره: مَن هو أرثير هذا؟ ومن أين أتى؟

– سأشرح لك عنه ما تريد، فأمهلني إلى أن أتمَّ حديثي، واعلم أن هذا السير عندما حبطت جميع أمانيه بقي له رجاء واحد، وهو أن يتزوَّج السيدة حنة دي كركاز متى أصبحت أرملة، ولهذا قد علَّمَني هذه الطعنة الإيطالية وأمرني أن أقتلك.

وصاح أرمان صيحة رعب مما سمع، وعاد روكامبول إلى حديثه فقال: واعلم يا سيدي أني ما تجاسرت على حب السيدة دي كركاز ولا رفعت إليها نظري مرةً لحسابي الخاص.

فقال أرمان بصوت يضطرب: إذن ما هذه المبارزة مع أخي أندريا؟

– أمعِنْ بي النظر يا سيدي لعلك تعرفني، وسأعينك على معرفتي، أَلَا تذكر تلك الليلة في بوجيفال حين وضعتَ خنجرك على عنقي وطلبت إليَّ أن أرشدك إلى حيث تقيم حنة وسريز؟

فذكر أرمان للحال تلك الليلة الهائلة وقال: لقد عرفتك فأنت روكامبول.

– نعم يا سيدي، وأنا أيضًا ذلك الرجل الذي كان بين خدمك، والذي كان يركب وراءك في المركبة حين لقيت أخاك أندريا منطرحًا على الطريق كأنه على وشك الموت، أما السير أرثير فقد كان يُدعَى من قبلُ السير فيليام، وأنت تعلم أن السير فيليام هو الفيكونت أندريا.

وصاح أرمان صيحة منكرة وكاد يسقط من فرط تأثُّره.

فقال روكامبول: وهو يا سيدي الذي يعلِّمني الطعنة الإيطالية منذ ثلاثة أشهر، وهو الذي دلَّنِي منذ ساعتين على الطريق التي أصل بها إلى غرفة امرأة أخيه.

فذكر أرمان جميع ما قالته له باكارا عن أندريا وقال: تبًّا له من خائن.

– إن ما قلتُه لكَ يا سيدي صحيح لا ريب فيه، على أنك إذا كنتَ مرتابًا في صحة ما قلتُه فإن لديَّ برهانًا دامغًا، ولكني لا أقوله لك مجانًا بل أبيعك إياه بيعًا، ولا تحسب يا سيدي أن الندامة دعتني إلى الإباحة بأسرار أندريا، بل هو الانتقام؛ لأني ما أحببت أن أموت وحدي.

فقال أرمان: إذن قُلْ برهانك.

– إن باكارا مهدَّدة الآن بخطر هو شر من الموت، فإذا بُحْتُ بهذا السر سلمَتْ من الخطر، وإلا فإنها تقع في شَرَك السير فيليام.

– أسرِعْ وقُلْ ما تريد ثمن هذا السر.

– أن تعدني أولًا أنه إذا أخطأ الطبيب ولم أمت فلا تسلمني إلى الشرطة.

– أقسم لك بشرفي على أن تخرج من منزلي حرًّا.

– ثانيًا أن تعطيني يوم أخرج من منزلك مائة ألف فرنك وجواز سفر إلى إنكلترا.

– سأعطيك ما طلبتَ فقُلْ.

فأخبره عند ذلك بجميع ما كاده أندريا لباكارا، وأنهما لا بد أن يكونا الآن في سفينة الربان الإنكليزي.

فهلع فؤاد أرمان من الخوف على باكارا، ونادى أحد الخدم وطلب إليه أن يسرج له جوادًا في الحال، وبعد عشر دقائق ركب جواده وسار ينهب به الأرض إلى الميناء. فقال روكامبول في نفسه: مُتْ أيها الشقي وعزائي أني لا أموت وحدي.

٦٤

لِنَعُدِ الآن إلى السفينة، فلقد غادرنا أندريا منقلب السحنة منذعر الفؤاد حين طلع عليه الكونت أرتوف، وهو يحسب أن فانتير قد قتله كما أخبره روكامبول، فلما رآه ضاع صوابه وجعل يقلِّب طرفه بين الكونت وباكارا وينظر إليهما نظرات اليأس؛ لما كان يعلمه أن اجتماع هذا الكونت بالربان يقضي عليه، فعلم للحال أنه وقع في الشَّرَك الذي نصبه، وساد سكوت هائل بين الثلاثة، فلم يتكلموا إلا بالنظر.

ولقد كان يجول في ذهن أندريا إلقاء نفسه إلى البحر والفرار، أو الهجوم بخنجر على باكارا أو الانتقام منها بالقتل، إلا أنه لم يستطع تنفيذ شيء من ذلك؛ لأن قوته قد تلاشت وفقد رشده شأن كبار المجرمين حين يُباغَتون بخطر لا يتوقعونه، فبدأت باكارا الحديث فقالت بصوت هادئ ثابت خرج من فمها كالقضاء المبرم: لقد دنت ساعة العقاب يا حضرة الفيكونت أندريا، ويا جناب السير فيليام.

فرفع أندريا رأسه وحاول أن يجيب، فانقضَّ عليه الكونت أرتوف انقضاض الصاعقة، فقبض على عنقه بيد من حديد ووضع خنجره على صدره ينذره بالموت، فجعل أندريا يصيح بصوت مختنق: إليَّ … يا جون … إليَّ أيها البحارة، ثم حاول أن يجرِّد خنجره، فلم يخرج نصف نصاله حتى ألقاه الكونت على الأرض ووضع ركبته فوق صدره، ولم يَعُدْ يستطيع حراكًا.

وعند ذلك أتمت باكارا حديثها فقالت: لقد قلتُ لكَ ياحضرة الفيكونت إن حبك الفاسد لهذه الفتاة اليهودية كان السبب في سقوطك، فلقد أشركْتَ في اختطافها جون إيرد وروكامبول، وعهد هذا الأخير شريكك بالآثام إلى فانتير أن يقتل الكونت، ولكن فانتير خانكم جميعًا وكان ذلك بقضاء من الله كي تنقطع شرورك من الأرض.

فأَنَّ أندريا أنين الموجع السقيم، وجعل الزبد يخرج من شدقيه، فقالت باكارا: كان جون إيرد شقيًّا لصًّا مثلك، ولكنه كان له بين جنبيه قلب يعرف الامتنان، وقد أحسن إليه الكونت فأخلص له وانقلب من خدمة اللصوص إلى خدمة الأشراف، أعلمتَ الآن كيف وقعتَ في الشَّرَك؟

وقال له الكونت: إنك تستغيث فلا يغيثك أحد، وتطلب الإشفاق عليك فلا تجد مشفقًا؛ لأنك لم تشفق على أحد، فاستسلم للموت فسينفذ فيك قضاء الله. وعلم أندريا أنه مقضي عليه، فجعل يستعطف ويقول: رحماكم.

فقالت له باكارا وهي تبتسم ابتسام المتهكم: ألعلك كنتَ رحمتني لو وقعتُ في قبضتك؟

فهاج الحقد بصدر أندريا حتى أنساه موقفه الحاضر وقال: كلا.

– أما أنا فلو كنتَ أسأتَ إليَّ وحدي لكنتُ صفحتُ عنك، غير أن الذين أسأتَ إليهم كثيرون.

فلمعت عيناه ببارق من الأمل وعاد إلى التوسل والاستعطاف.

غير أن أمله لم يَطُلْ فإن باكارا قالت: لستُ أنا التي أحكم عليك الآن، بل الكونت أرتوف، بل جميع أولئك الذين أسأتَ إليهم، فانظر.

وحين قالت هذا القول أُزِيح الستار عن باب الغرفة، فارتعش أندريا حيث إنه رأى على مقعد طويل المركيز فان هوب، وعلى يمينه الكونت مايلي، وعلى يساره فرناند روشي، ووراءهما ليون ورولاند والفيروزة التي جُنَّتْ وهي تضحك وتبكي في حين واحد، وبالقرب منها الفتاة اليهودية.

فلما رأى أندريا هذا المنظر الهائل صاح يقول: رحماكم!

نظرت باكارا إليه وقالت: هم أولاء الذين أسأتَ إليهم قد أصبحوا قضاتك الآن. ثم نظرت إليهم جميعهم وقالت لهم: مَن أراد منكم أن يعفو عن هذا الأثيم فَلْيرفع يده؟ فلم يرفع يده بينهم غير الفتاة اليهودية. فقالت باكارا: انظر إلى هذه الفتاة التى أردتَ أن تدنسها، فإنها وحدها التي صفحَتْ عنك، ولذلك فإنك لا تموت، ولكنك إذا سلمتَ من الموت فلا تسلم من العذاب.

وعند ذلك تولَّى الكلام عنها الكونت أرتوف فقال: نحن الآن في البحر، وصاحب هذه السفينة حاكم فيها تطيعه النوتية كما تطيع الجنود قوادها، وأنت أيها الخائن قد اخترعت لنفسك العقاب، فستفذف بك هذه السفينة إلى أحد شواطئ جزيرة المركيز، فتلقى من توحُّش قبائلها جزاء ما جَنَتْه يداك، غير أنه لما كنتَ قادرًا على الشر بحيث يُخشَى لفرط دهائك أن تفلت من السفينة وتعود إلى أوروبا، ثم لما كان الأفعى ينزعون أسنانها حين يخشون نفث سمها القاتل، فقد رأيت أن أنزع منك تلك القوة كي لا يكون لك بعد ذلك سبيل إلى الشر. ثم تكلَّمَ كلامًا باللغة الروسية، فدخل الروسيان اللذان عرفهما القراء في حادثة روكامبول حين ألقياه في النهر، وكان أحدهما يحمل غدارة محشوة والآخَر يحمل موسى، فأمرهما الكونت فقبضا على أندريا، ثم تراجع فجلس على المقعد الذي كان يجلس عليه فرناند ورفاقه، فقال الكونت: إنكَ كنتَ تغري النساء بجمالك، وتغري رجالك بفصاحة لسانك، فسيُشوَّه هذا الوجه ويُقطَع هذا اللسان كي تصبح عبرةً لبني البشر.

وفيما هو يقول ذلك إذ دخل جون إيرد وقال: أَسرِعوا فلقد أقبلوا!

فقال الكونت: مَن هم؟

– لا أعلم، إني رأيت أربعة رجال يسرعون إلى سفينتي بقارب.

قالت باكارا: لعله أرمان.

فهاج الحقد بصدر أندريا وقال: إن أرمان قد قُتِل.

فذعر الجميع لهذا النبأ، ما خلا الكونت وباكارا، فإنهما كان يحسبان أن روكامبول قد مات.

قال لهم أندريا: إنكما تحسبان روكامبول ميتًا، وقد نجا من الكيس الذي ألقيتماه في نهر المارن، وقتل الكونت منذ ساعةٍ وفَرَّ.

فذعرت باكارا وقالت: إذا كان ما تقوله صحيحًا فاستعد لأفظع موت. ثم خرجت مسرعة إلى ظهر السفينة، فأخذت منظار الربان ونظرت به إلى القارب، فرأت أرمان فيه على نور المشاعل: فرجعت مسرورة الفؤاد وقالت: كذبتَ أيها الخائن، فهو ذا أرمان قد أتى ولكنه أتى بعد فوات الأوان، فلا تؤمل أن يشفع بك.

وعند ذلك أصدر الكونت إشارةً إلى خادمَيْه الروسيين، فسقط الستار بين الحاضرين وبين أندريا؛ إذ لا يجب على القضاة أن يحضروا تنفيذ العقاب.

٦٥

ولم يكد يصعد الحاضرون إلى ظهر السفينة حتى رأوا أرمان مسرعًا إليها مع ثلاثة من خدَّامه، وكلهم مسلَّحون، ولكنه ما لبث أن رأى باكارا حتى تراجع منذهلًا إلى الوراء قائلًا: ماذا أرى؟

– إن الله معنا يا سيدي الكونت، فَلْنشكر الله.

– وأندريا الخائن أين هو؟

– إنه يلقى العقاب الذي يستحقه.

ثم أخذته بيده إلى حيث كان الجالسون على المقعد، فسمع أندريا يئن أنينًا يخرج من صدره كزئير الوحوش، فتقطَّعَ قلبه من الإشفاق، وذكر أن أمًّا واحدة حملتهما فاسترسل إلى عواطف حنوه ونظر إلى باكارا قائلًا: إنه أخي …

ولم يكد يتم هذا القول حتى انقطع الأنين، وخرج صوت غدارة يدوي في جوانب السفينة.

فساءلهم أرمان: ماذا أسمع ألعلهم قتلوه؟

– كلا، تعال وانظر.

ثم أزاحت الستار، فتراجع أرمان منذعرًا لما رآه.

ذلك أن أحد الخادمين قطع لسانه بموسى، فجعل الدم يسيل من فمه فيخضب الأرض، وأطلق الآخَر غدارة محشوة بارود، فسقط على وجهه فشوَّهَتْه تشويهًا هائلًا وفقأت إحدى عينيه.

وعند الفجر سارت السفينة بأسيرها المشوَّه إلى القبائل المتوحشة.

•••

أما أرمان فإنه عاد إلى منزله والحزن ملء فؤاده، فأخبر روكامبول بما كان، وقال له: إنه مهما يكن من سابق شرورك، فإني سأفي بوعدي لك ومنحك المائة ألف فرنك التي وعدتُكَ بها، فمتى خرجت من قصري معافى تقبضها من الوكيل.

ثم برح كارلوفانَ مع امرأته وولده وعاد إلى باريس.

وتمكَّنَ روكامبول في خلال معالجته من الولوج إلى غرفة أندريا، فسرق جميع أوراقه.

وبعد شهر تزوَّج الكونت أرتوف بباكارا وسافر بها إلى روسيا.

وفي اليوم نفسه سافر روكامبول إلى لندرا بأموال أرمان دي كركاز وأوراق أستاذه أندريا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤