(١) عبد الناصر والشيوعيون
قال الأستاذ محمد حسنين هيكل في مقدمة كتابه «سنوات الغليان» إن أيامه في الفترة التي جرت فيها وقائعُ هذا الكتاب هي أشق تجربة في حياته، وإن محاولة استعادة هذه الوقائع على صفحات هذا الكتاب هي أصعب مهمة واجَهَها خلال ممارَسة مهنة الصحافة.
وليس هذا الشعور غريبًا في رأيي؛ فهي سنوات حافلة حقًّا بالحلو والمر، على الرغم من أن الفترة التي يتعرَّض لها الكتاب لا تزيد على ثماني سنوات، وبالتحديد منذ بدء عام ١٩٥٧م، بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر حتى الإفراج عن الشيوعيين المصريين في أبريل سنة ١٩٦٤م وزيارة خرشوف لمصر بعد ذلك بشهر.
لكنها سنوات حافلة بأحداث تاريخية بالغة الأهمية، منها مقاوَمة مشروع أيزنهاور، والتهديد التركي بغزو سوريا، والوحدة المصرية السورية، والانفصال الذي جرى بعد الوحدة بأقل من أربع سنوات، وانتصار ثورة الجزائر والعراق ثم ثورة اليمن، والخطة الخمسية الأولى، وقوانين التأميمات، وإنجاز المرحلة الأولى من السد العالي … إلخ. لكنها أيضًا سنواتُ انفجارِ الصراع بين القوى القومية والأحزاب الشيوعية العربية، وما أدَّى إليه هذا الصراع من تدهور وانقسام في حركة التحرُّر العربي في مواجَهة الإمبريالية وإسرائيل وقوى الرجعية العربية، الأمر الذي أساء إلى طرفَي الصراع القومي والشيوعي، وسمح للمؤامرات الاستعمارية أن تنجح في سوريا والعراق. إنها سنوات حملة «مكافحة الشيوعية» التي قادها في ضراوة نظامُ عبد الناصر على مستوى العالم العربي كله، وهي في جزء منها سنوات التهدئة مع الإمبريالية الأمريكية، بل والتفاهم معها.
وصحيحٌ أن هذا التفاهم لم يَدُم طويلًا؛ إذ تطوَّرت الأحداث بما دعا عبد الناصر نفسه إلى إعادة النظر في حساباته للموقف العربي والدولي، حوالي منتصف ١٩٦٣م، بعد أن تزايَدَت نبرةُ التهديد في خطابات كينيدي له، وبدا واضحًا من تقارير المخابرات المصرية واليوغسلافية أن إسرائيل تستعد لضربة جديدة ترتبط بقضية تحويل مجرى نهر الأردن، وبعدما زادَت الوقاحة الأمريكية بطلبات صريحة بقَبول تفتيش أمريكي على مُفاعِل أنشاص ومصنع الصواريخ المصري، وبطرد العلماء الألمان الذين كانت مصر تستعين ببعضهم في بعض مَصانعها الحربية!
إنها السنوات التي جرت فيها زيارة مساعد وزير الخارجية الأمريكية روانتري لمصر في ٢٣ ديسمبر ١٩٥٨م وما تلاها مباشَرةً بعد أسبوع واحد من الزيارة من حملة الاعتقالات لقادة الحركة الشيوعية المصرية نجر أول يناير سنة ١٩٥٩م، وهي أيضًا سنوات أول شرخ في نظام عبد الناصر بانهيار الوَحْدة المصرية السورية في سبتمبر سنة ١٩٦١م.
هي إذن سنوات الإنجازات المجيدة والانكسارات العتيدة التي تُوِّجت بالانكسار الأكبر، الذي تمثَّل في هزيمة ١٩٦٧م، التي سوف يتناولها الجزء الثاني من هذا الكتاب.
فهل يكون من الصعب علينا أن نتفهَّم حقيقةَ مشاعر هيكل عندما يستعيد وقائع المرحلة، وأن نتعاطف معه عندما نقرأ هذا في المقدِّمة، وهو الذي عاصَر كلَّ هذه الأحداث بالقرب من القمَّة، وساهَم بالنصيحة والمَشُورة في صناعتها.
لقد سبَق لي أن أشرت عند تعرُّضي لكتاب «ملفات السويس» إلى أهمية كتُب هيكل، لا باعتبارها الوثائقَ التاريخية النهائية لهذه المراحل التي يتعرَّض لها، وإنما باعتبارها وجهة نظر الفَهم والتصوُّر الناصري لتلك المراحل والوقائع، ثم تكتسب هذه الكتُب أهميتها أيضًا من هذا الكم الوثائق المنشورة، التي لا شكَّ سوف تفيد المؤرِّخين الذين سوف يتعرَّضون لهذه المرحلة بأساليبَ أكثر موضوعيةً عندما تبتعد هذه المراحل في محور الزمن. ولقد اعتاد هيكل أن يقول إن كتُبه هذه ليست كتابةً للتاريخ، وإنما هي محاوَلة في قراءته. لكن المشكلة في قَبول مثل هذا الرأي هي أن كل محاوَلة مكتوبة لقراءة التاريخ هي لون من ألوان الكتابة له.
فَلْنقُل إذن — ومع كل احترامنا لهذا الجهد الخارق الذي بذله هيكل في إعداد الكتاب — إنه يمثِّل وجهة نظر ناصرية، أو وجهة نظر أحد الناصريين المهمين لأحداث تلك الفترة الصعبة.
وربما كان من الطبيعي أن يتوقَّع القارئ لمثل هذا الكتاب، بعد انقضاء نحو ربع قرن على آخِر أحداثه، نوعًا من استخلاص العِبَر والدروس من كل ما جرى، لكن ما يُحزِنني أنني لا أجد الكثير في هذا المجال. صحيحٌ أن هيكل تعرَّض لبعض الأخطاء التي جرت — مثل الثقة التي منحها عبد الناصر للمشير عامر، والتي يعتبرها هيكل من أعظم أخطاء عبد الناصر — لكن المشكلة في رأيي هي في الحقيقة أعمقُ من مجرد مشكلة المشير، إنما هي مشكلة الجيش المصري نفسه الذي تحوَّلت قيادته في ظل المرحلة الناصرية إلى جماعة عسكرية بيروقراطية تبدأ بالسعي إلى نفس ما تسعى إليه أيُّ فئة اجتماعية مندمجة بالنظام ومتمتِّعة بامتيازات، أعني ضمان الثبات والاستقرار، والعداء للتحوُّلات الثورية التي كان عبد الناصر الفرد يطمح إليها، والمشكلة في مثل هذه القيادة العسكرية على مستوياتها المختلفة هي هذه النظرة العسكرية المحافِظة السائدة في أوساط قيادات الجيش، والتي كانت مستعِدة لأن تعتبر الإصلاح الزراعي الثاني عام ١٩٦٣م إجراءً «شيوعيًّا»، فمثل هذه القيادات غير المسيَّسة، التي تعتمد على الولاء لأفرادٍ تكون في العادة ذاتَ طبيعة معادِية للتقدُّم، وتلعب امتيازات الضبَّاط المادية، وحتى الأوضاع التي وصل إليها مَن ترك الجيش منهم وانضمَّ إلى القطاع العام والشركات المؤمَّمة؛ دورًا غير قليل في هذا الخصوص. وهكذا ذهب ضبَّاط مصريون إلى سوريا وتصرَّفوا من منطق الاستعلاء في التعامل مع زملائهم السوريين. وفي الوقت الذي استُشهِد فيه المئات من الجنود وصغار الضباط في اليمن، كان بعض كبار الضباط المصريين مشغولين بشراء الثلاجات والسِّلَع المعمِّرة من عدن وإرسالها إلى مصر!
وإذا كان هيكل قد شعر بالأسى وهو يستعيد وقائع الكتاب، فإنني أعترف بأنني شعرت ببعض هذا الأسى وأنا أحاول التعليق عليه، فضلًا عن شعوري ببعض التردد.
ومصدر هذا التردد هو أن الكتاب يتعرَّض لفترة عصيبة انهارت فيها وَحْدة قوى حركة التحرر العربي، قوميين وبعثيين وشيوعيين، تلك الوَحْدة التي بدَت في أروع صورها في مواجَهة العدوان الثلاثي، وفي مواجَهة التهديد التركي بغزو سوريا في سبتمبر سنة ١٩٥٧م، ولقد كنت أعرف — بطبيعة عملي محرِّرًا للشئون العربية لصحيفة المساء آنذاك — عن هذا التعاون والتنسيق الذي جرى بين نظام عبد الناصر وبين الأحزاب الشيوعية العربية في الأردن وسوريا ولبنان والسودان، وما زال بعض أطراف هذا التعاون على قيد الحياة — أطال الله أعمارهم — ومنهم رئيس تحرير الأهالي الأستاذ لطفي واكد. ثم انهار كل شيء بعد الوَحْدة المصرية السورية، وتدهورت الأمور بعد ثورة العراق.
فهل هناك مصلحة في نَكْء هذا الجرح القديم، وما هو أثَر هذا على وَحْدة العمل القومي العربي اليوم، حيث يقف الناصريون والقوميون والشيوعيون في خندق واحد في العديد من البُلدان العربية؟
ذلك إذن كان مصدر تردُّدي في التعليق على الكتاب، ثم اقتنعت بأنه ما دام الكتاب قد صدَر بالفعل ونُشِر في صحفٍ سيَّارة عديدة في العالم العربي، فلا مَفرَّ إذن من التعليق، على الأقل لتقديم وجهة نظر أخرى بجانب وجهة نظر هيكل، ولا أدَّعي لوجهة نظري موضوعيةً كاملة؛ لأنني بطبيعة تاريخي ومواقفي مُنحاز لليسار الماركسي، إلا أن هذا الانحياز لا يعني الدفاع عن الأخطاء السياسية التي تورَّطَ فيها الحزبان الشيوعيان السوري والعراقي في فَهم طبيعة النظام الناصري، وما ترتَّب على هذه الأخطاء من توجُّهات سياسية ضارة. لكن المأساة أن الكثير من تلك التوجُّهات والتحليلات الخاطئة كانت في معظمها ردودَ أفعال لاستفزازات قامت بها القيادة الناصرية وأجهزتها، والتي بلغت ذُروتها في عملية القبض على فرج الله الحلو — القائد الشيوعي اللبناني البارز — في دمشق وقتْلِه بعد تعذيبه.
إن هيكل يقول عن هذه الواقعة كلامًا غريبًا لم أكُن أتصوَّر أن يَصدر عن صحفي مدقِّق مثله. فالكتاب يَذكر أن عبد الناصر عندما أرسَل إلى السراج يسأل عن الموضوع الذي كان مثارًا دوليًّا، جاءه الرد بأن فرج الله الحلو قد مات قبل الوحدة بسنتَين، وأن نعْيَه نُشِر في الصحف اللبنانية. فهل يُعقل أن هيكل لم يسمع عن قرار الاتهام الذي أصدره القضاء العسكري في دمشق في حق قَتَلة فرج الله الحلو من ضبَّاط المباحث السورية في يونيو سنة ١٩٦٢م، والذي يحتوي على قائمة بأسماء هؤلاء الضباط وملخَّص اعترافاتهم بقتل الحلو وتعذيبه، والتمثيل بجثته، وبعِلم السراج بهذه الجريمة؟
على أنني أود توضيح أن رأيي هذا بأن أخطاء الحزبَين كانت في معظمها ردود أفعال لاستفزازات جرت ضدهما ليس تبريرًا؛ فالخطأ السياسي يظل هو الخطأ السياسي، وبكداش بالذات يتحمَّل مسئولية كبيرة في هذا الخطأ، ومن سوء الحظ أنه لم تتوفَّر لدى الطرفَين المتصارِعَين الحكمة التي كانت تدفع بحلفاء الخندق الواحد في الماضي إلى تدارُك الموقف بسرعةٍ إدراكًا للخطر المحدِّق بهما من جانب الإمبريالية والرجعية، هذا الخطر الذي أدَّى إلى أول شرخ كبير في نظام عبد الناصر بالانفصال كما أدَّى إلى إنهاك الأحزاب الشيوعية ذاتها.
وإذا كنا في مجال الإشارة إلى الأخطاء التي يتحمَّل مسئوليتها الطرفان، فلا يبدو لي من معرفتي بوقائع تلك المرحلة، ولا بعد قراءتي لكتاب هيكل، أن الاتحاد السوفييتي بقيادة خروشوف قد قصَّر في محاوَلة رأب الصدع وتفادي الانهيار الكامل للعلاقات العربية السوفييتية؛ فرغم الكلمات الملتهِبة التي صدرت من العواصم الثلاثة موسكو والقاهرة ودمشق خلال الأزمة، فإنه من الثابت أن خروشوف قد تحدَّث بشكل صريح وواضح مع عبد الناصر، إبَّان زيارته لموسكو أبريل سنة ١٩٥٨م، عن محاذير الوَحْدة الاندماجية بين مصر وسوريا، والمشاكل التي قد تتعرَّض لها: «لقد صارحتكم عند زيارتكم بأنه حدَث بعض التعجُّل في الوَحْدة بين مصر وسوريا، فلم تُؤخَذ بالاعتبار بدرجةٍ كافية جميعُ السمات الخاصة لكلٍّ من البلدَين اللذين تجري بينهما الوَحْدة، ويبدو لنا أن هذه الحقيقة لم تَلقَ الاهتمام الكافي في ذلك الحين، لكنكم ترَون الآن أن ذلك التعجُّل ترتَّبَت عليه نتائجُ غير سارة كان في الوسع تجنُّبها.»
هكذا تحدَّث خروشوف إلى عبد الناصر في إحدى رسائله عام ١٩٥٩م، وكانت حملة مكافَحة الشيوعية على أشدِّها في مصر وسوريا آنذاك، ثم أضاف: «إننا لن نتدخَّل في الشئون الداخلية ﻟ «ج.ع.م» رغم أنكم يا سيادة الرئيس كنتم تعرفون طبعًا عندما سلكتم سبيل التقارب بين بلدَينا أننا شيوعيون، وأننا لا يمكِن أن نتعاطف مع سياسة الكفاح ضد الشيوعية، فهي سياسة خاطئة تاريخيًّا، ولا جدوى من ورائها.» وفي سبتمبر سنة ١٩٥٨م، وبعد زيارة محيي الدينوف لمصر، حاوَل خروشوف أن يحاصر النيران الملتهِبة في «ج.م.ع» بدعوة عبد الناصر إلى زيارة أخرى لموسكو للاستجمام والراحة، وإن كان قد قال في الدعوة بشكل صريح: «لدينا ما نريد أن نناقشه معك.» لكن عبد الناصر اعتذر عن الدعوة. وربما كانت نقطة التحوُّل في موقف موسكو قد حدثَت بعد زيارة روانتري للقاهرة في ٢٣ سنة ١٩٥٨م، وإدراك خروشوف أنه قد عُقِدت صفقة بين روانتري وعبد الناصر يقوم فيها عبد الناصر بدور فعَّال في الهجوم على النظام العراقي تحت راية مكافَحة الشيوعية. وفي هذا الجو المحموم صدرَت مقالات لهيكل وكأنها إشارة البدء.
ومع ذلك فحتى في سبتمبر سنة ١٩٦٠م، عندما التقى خروشوف وعبد الناصر في الأمم المتحدة، حاول خروشوف مرة أخرى مناقَشة عبد الناصر فيما جرى موضِّحًا أن الاستفزازات العلنية ضد السوفييت بدأت من جانب القيادة المصرية؛ مما ألزم القيادة السوفييتية بالرد في المؤتمر الواحد والعشرين في فبراير ١٩٥٩م.
لكن هذا الحوار بين خروشوف وعبد الناصر لم يُسفِر عن أي شيء سوى الاتفاق على أهمية عدم التصعيد.
وربما كان من المفيد أيضًا أن أشير هنا في ختام هذه الملاحظات الأوَّليَّة إلى التباين الواضح بين دقَّة رواية هيكل واعتماده على الوثائق في تعرُّضه لأحداث هامة في الكتاب، وبين روايته الكاريكاتورية في معظم الأحيان عندما تتعلَّق الأمور باتهاماته للشيوعيين العرب.
ولست أدري من أين استقى هيكل معلوماته هذه التي يضعها وكأنها حقائق، فربما كان بعضها تقاريرَ من الأجهزة اعتمد عليها، وأحيانًا يشير إلى صحف دونَ ذِكر اسم أو تاريخ، مع أنه لا شك يعلم أن بعض الصُّحف في العالم العربي مخترَقة من جانب أجهزة المخابرات الأجنبية. وإن عبد الناصر وسياساته كانا أول ضحية لهذا الاختراق وما صاحَبه من حملات «المعلومات المضادة»، وقد يكفي أن أشير إلى مثال أو مثالَين لأشير إلى حالة القنص العشوائي وعدم الدقَّة عندما يتعلَّق الأمر بحساسيته تجاه الأحزاب الشيوعية العربية. إن هيكل يقول إن تلك الأحزاب اجتمعَت في صوفيا بعد الوَحْدة، واتَّخذت عدة مقرَّرات سرية. حسنًا، ما هي هذه المقرَّرات السرية؟ لا يقول هيكل شيئًا، مع أنه من المفروض — كما يقول — أنه ينقل عن منشورٍ وُزِّع في بيروت آنذاك ونُشِر في الصحف الشيوعية فيها! لكنه — وبشكل حذِر — يقول إن هذه المقرَّرات «تقوم على ثلاثة فروض»، أوَّلها ضرورة الصُّلح مع إسرائيل لأنه الطريق إلى توحيد جهود المنطقة ضد المَصالح الاستعمارية!
هنا إذن بيت القصيد، فالمطلوب هو تلويث سمعة هذه الأحزاب والربط بين مقرَّراتها وبين الصُّلح مع إسرائيل. لاحِظ أن هيكل لم يقُل صراحةً إن مقرَّرات هذه الأحزاب قد دعَت إلى الصُّلح، وإنما هي مقرَّرات «تقوم على فروض»، منها الصلح مع إسرائيل. أمَّا الأغرب من ذلك، والمثير للسخرية، فهو الادِّعاء بأن الصُّلح مع إسرائيل هو طريق تصفية المَصالح الاستعمارية في المنطقة، وكأنَّ هذه الأحزاب لا تُدرِك أبجديات السياسة من أن إسرائيل هي القاعدة الأمامية للدفاع عن تلك المصالح.
والمثال الغريب الثاني الذي ورد في الكتاب ما قاله هيكل عن واقعة اعتقال الشيوعيين المصريين؛ فهو يقول إنه عندما أصدرت بعض التنظيمات الشيوعية في مصر بيانًا تؤيِّد فيه موقف الاتحاد السوفييتي من «المشادة العقائدية»، رد عبد الناصر بحملة اعتقالات ﻟ «عدد من الأفراد» في هذه التنظيمات. ولو قال هيكل هذا الكلام عن حملة مارس ۱۹٥۹م، التي اعتقل فيها المئات من الشيوعيين المصريين، فربما كان هذا الكلام مفهومًا؛ لأن الأمور كانت بالفعل قد توتَّرت بعد حملات معاداة الشيوعية التي قادها النظام في مصر حول «المشادة العقائدية» كما يقول هيكل، لكن الحملة الأولى ضد الشيوعيين جرت في أول يناير سنة ١٩٥٩م، ولم تكُن المشادة قد تفجَّرت. وقد شملت هذه الحملة الأولى كلَّ قادة التنظيمات الشيوعية في مصر، وليس «بضعة أفراد»، كما يقول هيكل. وحتى آخِر ١٩٥٨م كان موقف الحزب الشيوعي المصري ذا شقَّين؛ قيادة الأغلبية التي أيَّدت الوَحْدة وإن تحفَّظت على قضية الديمقراطية، وقيادة الأقلية بزعامة الشهيد شهدي عطية الشافعي، التي أيَّدت كل سياسات عبد الناصر دونَ أي تحفُّظ. ومع ذلك، فقد تم اعتقالها في أول يناير كذلك، وعُذِّبت تعذيبًا وحشيًّا عند مدخل سجن أبو زعبل، وربما كان من مآسي تلك المرحلة أن زعيم تلك المجموعة قُتِل على أبواب السجن على يدِ جلَّادي تلك المرحلة، فلا تجد مأساته هو وفريد حداد في سجن أبو زعبل، ومحمد عثمان الذي قتلوه في سجن طنطا وأخفَوا جثته، كلمةً عنها في الكتاب.
ولا شكَّ أن هيكل يعلم أن تجديد حملات موسكو والبرافدا ضد النظام الناصري في مايو سنة ١٩٦١م كان مرتبطًا بتلك الوقائع عن التعذيب والقتل في سجون «ج.ع.م»، كما كان مرتبطًا بقضية فرج الله الحلو.
إن الأقرب إلى المعقول في فهم دوافع حملة يناير هو أن نربط بينها وبين زيارة روانتري مساعد وزير الخارجية الأمريكية، في ٢٣ ديسمبر سنة ١٩٥٨م.
ومما يدل على خطورة الصفقة التي جرت في هذه الزيارة، ما ورد في كتاب هيكل نفسه نقلًا عن تقريرٍ وضَعه سكرتير أيزنهاور، من أنه عندما عاد روانتري إلى واشنطن تحدَّث عن نتائج مقابَلته مع عبد الناصر في اجتماعَين؛ أحدهما اجتماع مجلس الأمن القومي، والآخر اجتماع خاص مع أيزنهاور. والثابت أن روانتري قد احتفظ ببعض تفاصيل اجتماعه بعبد الناصر، فلم يَعرضها في اجتماع مجلس الأمن القومي؛ وذلك لحساسيتها، واكتفى بعرضها على أيزنهاور فقط.
ولكن ما قاله روانتري في الاجتماع العام كان كافيًا لتوضيح الموقف؛ فقد قال روانتري إن اجتماعه مع عبد الناصر كان مشجِّعًا، برز فيه قلقه من التغلغل الشيوعي في الشرق الأوسط، وإن عبد الناصر قرَّر العمل في العراق (لاحِظ مغزى إعلان ذلك لروانتري)، وإنه عبَّر عن سعادته لاستجابة أمريكا لطلباته من القمح.
وسأل أيزنهاور مساعِدَه روانتري: «هل معنى ذلك أن عبد الناصر يريد منَّا أن ندفع له ثمن مكافَحته للشيوعية في العراق؟» ثم أضاف: «إن في وسع عبد الناصر أن يتصدَّى للشيوعيين بأفضل مما تستطيع الولايات المتحدة.»
وهذه الجملة الأخيرة ظلَّت أحد جناحَي السياسة الأمريكية الثابتة تجاه نظام عبد الناصر، منذ أواخر ۱۹٥۸م إلى أن تم اغتيال كينيدي في نوفمبر سنة ١٩٦٣م. ففي اجتماع القمَّة بين أيزنهاور وماكميلان في أواخر مارس سنة ١٩٥٩م، قال أيزنهاور لماكميلان: «إن لحملة ناصر على الشيوعيين العرب قِيمةً جوهرية، ولا بد من تشجيعها؛ فهذه الحملة تؤدي بالقَطْع إلى إضعاف النفوذ السوفييتي في الشرق الأوسط.» وقال أيضًا لماكميلان: «إن المعركة الشاملة لناصر ضد الشيوعية أدَّت إلى تخفيف الضغط على الدول الصديقة للغرب في الشرق الأوسط، بما في ذلك أعضاء حلف بغداد.»
وعندما وصل جون كينيدي إلى البيت الأبيض، وأُعِيد بحث السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، انتشر بين مستشاريه التيارُ الذي كان يمثِّله تشالز بولز، والذي يدعو إلى التعاون مع عبد الناصر باعتباره عنصرَ مقاوَمة للشيوعية ولموسكو، ولم يتغيَّر الموقف إلا بعد وصول جونسون إلى البيت الأبيض.
وأخيرًا نصل إلى اتهامات هيكل للشيوعيين العرب بأنهم أعداء القومية العربية والوحدة. ولو قال هيكل إن هناك خلافًا في فهم موضوع القومية العربية بين الشيوعيين والقوميين، فربما كان هذا صحيحًا.
فالشيوعيون العرب لم يوافقوا قَط على الشعار البعثي الشوفيني: «أمَّة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، وإنما كانوا ينظرون إلى هذه القضية نظرة تاريخية، وهم يدركون لماذا كانت هذه الدعوة منذ أوائل القرن الابنَ الشرعي للمشرق العربي لا مصر، فهي في الأصل دعوة البُرجوازية المشرقية التي ظلت صاحبةَ سوق واحدة حتى نهاية الحرب الأولى، وهي في أحد أبعادها طموح للاستقلال عن النير التركي. ثم جاء الاستعماران البريطاني والفرنسي، وأخذا في تمزيق السوق المشرقية إلى أسواق ودُوَيلات صغيرة. لذلك كانت هذه الدعوة مفهومة هناك، بينما لم تجد لها صدًى عميق في مصر المشغولة بدعوة وحدة وادي النيل.
ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد كارثة فلسطين عام ١٩٤٨م، وفي ظل قيادة عبد الناصر وحرب السويس برز الطابع التحرُّري لدعوة القومية العربية وإمكانياتها الكامنة في التحرير والتنمية، وأدرك الشيوعيون المصريون أهميتها وإمكانياتها؛ ومن هنا كانت أهم وثيقة تأسَّسَ بمقتضاها الحزبُ الشيوعي المصري في ٨ يناير سنة ١٩٥٨م هي تلك الوثيقة عن القومية العربية، والتي اقتبس هيكل بعض فقراتها وإن نسبها إلى غير أصحابها.
هناك إذن خلاف بين فَهم الشيوعيين لقضية القومية وبين الفَهم التقليدي للقوميين العرب أو البعثيين لها، لكن هذا لا يبرِّر اتهام الشيوعيين بأنهم أعداء للقومية العربية. وغني عن البيان أن هذا الخلاف في فهم قضية القومية العربية بين القوميين والشيوعيين ترتَّب عليه أيضًا خلاف في فهم المعالَجة الصحيحة لقضية الوحدة، فبينما كان ميشيل عفلق — منظِّر حزب البعث — يقول إن الوَحدة الاندماجية تحلُّ مشاكلها بنفسها (وقد ثبت سخف هذا الكلام واقعيًّا)، كان الشيوعيون العرب من أنصار الوحدة الفيدرالية والتأني في معالَجة هذه المسألة لاستحالة القفز مرةً واحدة فوق الخصوصيات المحلية لكل قُطر من الأقطار العربية؛ وبالتالي استحالة القفز مرةً واحدة فوق الفوارق الموضوعية في الظروف الاقتصادية والاجتماعية لكلٍّ من مصر وسوريا.
واليومَ يتحدَّث القوميون والبعثيون عن رومانسية المحاوَلات الماضية، وعن أهمية التأني والتمهل والسير خطوة خطوة في اتجاه الوحدة. وحسنًا يفعلون؛ لأن معنى هذا أننا تعلَّمنا من خبراتنا المريرة، ولقد كان اعترافُ عبد الناصر — وفق رواية هيكل — بأنه اندفع إلى الوَحْدة بعواطفه وليس بعقله خيرَ دليلٍ على أن موقف الشيوعيين من هذه القضية كان في جوهره موقفًا صحيحًا.
ومنذ هذه الفترة البعيدة اقترب العديد من قادة القوميين العرب — مثل جورج حبش ونايف حواتمة وآخَرين — من فَهم الشيوعيين لعدد من القضايا من بينها هذه القضية، بتحوُّلهم إلى الفكر الماركسي بعد كارثة سنة ١٩٦٧م. وكذلك فعَل بعض البعثيين؛ إذ اقتربوا أيضًا من هذا الفَهم الجدلي التاريخي لهذه القضية، بينما تحوَّلَ بعض الماركسيين مثل د. سمير أمين إلى فكرة قِدَم الأمة العربية تاريخيًّا.
لقد احتفظ عبد الناصر بحسِّه الوطني والاجتماعي رغم ما تورَّط فيه من حملة مكافَحة الشيوعية في فترة محدودة، وكان دليل ذلك موقفه من ثورة الجزائر وإجراءات يوليو سنة ١٩٦١م من تأميمات وغيرها. ومع أن هذه الحملة قد خفَتَ صوتُها بعد الانفصال، فإنني أعتقد أنه منذ منتصَف عام ۱۹٦٣م بدأت مراجَعة لسياسات مصر الخارجية وإلى أين انتهت. وثَمَّة ظروف عديدة في رأيي دعَت إلى ذلك، منها حرب اليمن وحاجة الجيش المصري إلى عتاد وأسلحة سوفييتية، خصوصًا أن إسرائيل بدأت في التحرك جديًّا للهجوم في ارتباط بقضية تحويل مجرى نهر الأردن، ومنها أيضًا احتياجات خطة التصنيع. لكن ربما كان أهم ما دعا عبد الناصر إلى المراجَعة هو ما بدأ يتَّضح من نبرةِ تهديدٍ في خطابات كينيدي إليه، حتى وصل الأمر إلى أن تطلب أمريكا التفتيش على مؤسسات حربية مصرية. فليس دقيقًا إذن أن ذوبان الجليد بين القاهرة وموسكو بدأ في ربيع ١٩٦٤م بدعوة أدجوبي — زوج ابنة خروشوف — لزيارة القاهرة، وإلا فكيف نفسِّر زيارة هدى عبد الناصر للاتحاد السوفييتي قبل ذلك.
ثم جاء اغتيال كينيدي في نوفمبر سنة ١٩٦٣م، وتولِّي جونسون المعروف بعدائه الشديد لعبد الناصر والعرب، فكانت الضربة القاضية لسياسة التقارب بين القاهرة وواشنطن.
وبدأت الأحداث تجري بسرعة في اتجاه الإفراج عن الشيوعيين، وهو ما تم في ربيع سنة ١٩٦٤م. إنَّ من المفارَقات اللافتة أن الشيوعيين المصريين الذين لم يصادفوا في حياتهم السياسية حتى اليوم ما صادَفهم من تعذيب واعتقال عرفي لسنوات طويلة واتِّهامات علنية شنيعة إبَّان عهد عبد الناصر … هؤلاء الشيوعيون أنفسهم هم الذين دافَعوا بحرارة واقتدار عن عبد الناصر وإنجازات المرحلة الناصرية الوطنية والاجتماعية أمام هجمات قوى الانفتاح والرجعية العربية والإمبريالية.
وهم قد فعلوا هذا من منطلق الالتزام بمَصالح هذا الشعب، عمَّاله وفلَّاحيه وجنوده ومثقَّفيه، لأنهم كانوا يعلمون أن الحملة الشرسة التي نُظِّمت ضد عبد الناصر بعد وفاته لم يكُن هدفها تصحيح الأخطاء التي جرَت خلال المرحلة الناصرية، وإنما هدفها الحقيقي تصفية سياسية للعداء للإمبريالية الأمريكية، وإغراق البلاد في الديون، وسيادة الأنشطة الطفيلية في الاقتصاد الوطني، وسيطرة جماعات الضغط من أثرياء الفلَّاحين وكبار المستوردين وجماعات توظيف الأموال وبعض رجال الدين ذوي الولاء الخليجي والبيروقراطية العسكرية على مقدرات الأمور في بلادنا، وهو ما تحقَّق مع الأسف الشديد.