الفصل الثالث عشر

المصلح الفيلسوف

من دأب الإيمان الديني في الطبائع القوية أن يقارب بين الروح المثالي والفكر العملي على غير المألوف في أكثر المفكرين العمليين من غير المتدينين، أو غير المؤمنين إيمان اليقين.

فإن القيم الأخلاقية العليا والأريحية المثالية خيال يحلم المصلحون المثاليون بتحقيقه في المستقبل، إنْ صحَّ أنه قابِل للتحقيق في وقت من الأوقات، ولكنه واقع مقرَّر في كل وقت عند المُصلِح المؤمن؛ لأنه مقترن بوجود الإله الكامل السرمدي في كل لمحة من لمحات الزمن، حاضر بحضوره في كل مكان، غير ميئوس من إدراكه بإرادة الله وإرادة خلقه، مع صدق النية واستقامة الطريق على هداه.

وبهذا الإيمان يتلاقى في طبيعة المؤمن القوية هذان الخُلُقان اللذان يفترقان بين مثالي يخطئ العمل، وواقعي يرتاب في إمكان المُثُل العليا وسداد الأريحية الأخلاقية، فهما خُلُقان متفقان تمام الاتفاق في ضمير المصلح المؤمن بوجود الكمال المطلَق في كل وقت وكل جهة، وهو وجود الله.

ونحسب أن هذا الاتفاق بين الخُلُقين هو أصح تفسير لتلك السجية البيِّنة في طوِيَّة مُصلِحنا العظيم؛ أمل لا حَدَّ له في الخير، وفَهْم للواقع العملي لا يضل طريقه بين الشعاب المتفرقة في مسالك الإصلاح.

ولقد تصوَّف مصلحنا العظيم زمنًّا في صباه، ولا نخاله ابتعد من طريق المتصوفة إلى ختام حياته.

وقد درس حكمة الفلاسفة النظريين، كما درس فلسفة المعتزلة وعلماء الكلام ومذاهب الفقهاء من أسرى النصوص ومن أصحاب التأويل.

ولم يكن قَطُّ من «أهل الظاهر» الذين يأخذون بالحرف ويدينون بالتقليد.

ولكنه كذلك لم يكن قَطُّ من «أهل الباطن» الذين يفهمون «الباطنية» على أنها رفض للظاهر وانقطاع عن الواقع، ونبذ الحياة وانصراف عن شواغل المعيشة التي يشتغل بها الأحياء في دنياهم، أو يحسبون الباطنية ضربًا من «الدروشة» والمسكنة المختارة على مذهب المجاذيب من أبناء الطريق.

إنما كان رفضه للظاهر رفضًا للقشور وألوان الطلاء، وكان بحثه عن الباطن بحثًا عن حقيقة المعنى الصحيح من وراء اللفظ السقيم.

إنما كان رفضه للظاهر المُمَوَّه بحثًا عن الواقع الذي خلص من التمويه، فهو واقعي عملي في صميم الواقع الذي يصلح للعمل النافع، وهو يقترب من وسائل العمل كلما ابتعد من ظاهر الطلاء والتمويه فيما يتداوله الناس من الأباطيل، وغيره على غير هذه السجية يبتعدون من حياة العمل الواقعة كلما أمعنوا في البحث عن باطنهم المحجوب أو عن خيالهم البعيد.

فهو مصلح فيلسوف بكل ما شئنا من معاني الإصلاح والفلسفة.

هو مصلح يتصل إصلاحه بالتفكير كما يتصل بالعمل، وهو فيلسوف حين تكون الفلسفة حكمة يروِّض بها الحكيم نفسه على المسلك الذي ينبغي له كما يراه، والغاية التي يسعى إليها كما هداه الفكر إليها، وهو فيلسوف حين تكون الفلسفة بحثًا عن سر الوجود، ورأيًا في كليات الحقائق يحيط بأجزائها ويستعان به على تفسير تلك الأجزاء.

وقد كان يفهم الفلسفة على هذا المعنى في مستهل حياته العلمية حين كان المفكرون يفسرونها على وجوه مختلفة لا تطابق معناها، وكان يومًا بمجلس علي مبارك باشا وزير المعارف، وفي المجلس من فضلاء المفكرين الدكتور يعقوب صروف محرِّر المقتطف، وكان بعض الصحف قد سمَّى كاتبًا من كتَّاب العصر بالفيلسوف على غير حق في رأي الدكتور صروف، فقال الدكتور: إن الناس قد ابتذلوا هذه الكلمة حتى صاروا يطلقونها على غير أهلها، وتساءل الحاضرون مَن يكون الفيلسوف إذن على المعنى الصحيح؟ فقال الدكتور في رواية الأستاذ رشيد رضا: هو الذي يتقن جميع العلوم … قال الشيخ محمد عبده: إذن لا يوجد على الأرض فيلسوف. وعاد الدكتور يقول ما معناه: إنه لا بد من أن يتقن علمًا من العلوم ويلم بسائرها. فقال الشيخ محمد عبده: إن الذين يتعلمون على الطريقة الحديثة يخرجون من المدارس العالية، وقبلها الثانوية، على إلمام بالعلوم ويتقنون بعضها، فما أكثر الفلاسفة بين الأطباء والمهندسين والطلاب بهذا المعنى! ثم قال: إن الفيلسوف كما يفهمه هو الذي له رأي ومذهب في العقليات والاجتماعيات يمكنه الاستدلال عليه والمدافعة عنه.

وبهذا المعنى الصحيح من معاني الفلسفة يتضح للأستاذ الإمام مذهب فلسفي مستقل في موضوع الفلسفة العامة، وهو البحث عن الوجود أو البحث عما وراء الطبيعة على اصطلاح أكثر المحدثين، وتتضح له مع هذه الفلسفة العامة فلسفة خاصة في سائرها الاجتماعيات والعقليات، ومنها فلسفة الأدب والفن، وفلسفة اللغة والبيان على الإجمال.

أما فلسفته فيما وراء الطبيعة، فهي فلسفة متصوف اطَّلَع على آراء الفلاسفة التي دار عليها البحث بين المتكلمين والمعتزلة وفلاسفة المسلمين، ثم اطَّلَع على أقوال فلاسفة الغرب في العصور المتأخرة اطِّلَاعًا يمكنه من الجمع بينها وبين ما يشبهها من أقوال المتقدمين، وقلما استُحْدِث فيما بعدَ الطبيعةِ شيءٌ من جانب المعاصرين لم يسبقهم إليه الأوائل في أمهات المسائل، وإن أضاف إليه المعاصرون ما أضافوا من مصطلحات العلم الحديث.

واستقلال الشيخ محمد عبده بالفكر والنظر، ثم استقلاله بالعمل في الإصلاح، يفردانه بمذهب بين مدارس الفلسفة الإسلامية، فلا يتيسر ضمه إلى طائفة منها يسمى باسمها وينفصل بذلك عن سائرها.

فهو مع الفلاسفة والمعتزلة في تحكيم العقل والقياس على المنطق والعلوم الكونية، ولكنه يخالف رأي الفلاسفة في معنى الوجود ومعنى العلوم بالنسبة إلى الحقيقة الإلهية، ويخالف رأي المعتزلة في مجادلاتهم العقيمة حول مسألة الصفات وما تفرَّع عليها من الكلام عن خلق القرآن.

وهو مع المتصوفة في رياضتهم النفسية والفكرية، ولكنه يرى أن إلهام المتصوف «ذوق وجداني» لا يجوز له أن يدين به غيره، «ولا ينكر أن لهم أذواقًا خاصة وعِلْمًا وجدانيًّا … ولكنه خاص بمَن يحصل له لا يصلح أن ينقله لغيره بالعبارة … فإن هذا الذوق يحصل للإنسان في حالة غير طبيعية، وكونه خروجًا عن الحالة الطبيعية لا يجوز أن يخاطب به المتقيد بالنواميس الطبيعية.»

وشبيه بهذا رأي الطب — على قول ابن سينا — في علاج مَن كانوا يُعرَضون عليه من المصابين بمس الجن أو الأرواح الخفية، فإنه كان يعالج الأعراض الجسدية بما يناسبها من الأدوية الجسدية، ولا شأن له في علاج الآثار الطبيعية بما كان لها من المؤثرات غير الطبيعية، أيًّا كان منشؤها.

وقد يحيط بالفلسفة الإلهية في مذهب الأستاذ الإمام مَن يقرأ تعليقاته على العقائد العضدية، ومناقشته في حاشيته للإمام عضد الدين الإيجي والإمام جلال الدين الدواني، في شتى المسائل التي تقوم عليها اليوم فلسفة ما وراء الطبيعة عند الفلاسفة المعاصرين، مضافًا إليها مسألة الصفات التي لم يطرقها هؤلاء المعاصرون.

وأيسر من هذه الحاشية — لمَن يقرأ كتب الفلسفة السلفية — رسالته القيمة في التوحيد، وتفسيراته للآيات القرآنية من دروسه في الجامع الأزهر، وفيها بيان جلي لكل مسألة من تلك المسائل التي يقل فيها الجلاء ويكثر فيها الغموض في كتب الأقدمين.

فإذا أردنا أن نجعل لفلسفة الإمام حدًّا فاصلًا بينه وبين مخالفيه من جماعة المعتزلة والمتكلمين والفلاسفة الأقدمين … فالحد الفاصل هنا هو القدرة على حسم الجدل العقيم بالرجوع إلى حكم العقل السليم، أو هو القدر العلمية على حل المشكلات العقلية، ولا سيما المشكلات التي لا داعي للإشكال فيها غير الوقوف عند اللجاجة اللفظية والعجز عن تقرير معناها، أو غير التهالك على الزبد وترك ما ينفع الناس.

وأقرب الآراء إلى الأستاذ الإمام آراء حجة الإسلام أبي حامد الغزالي رضوان الله عليه، فهو قريب منه في كل ما ابتعد به الفهم بينه وبين الفلاسفة أو المعتزلة أو المتكلمين، وليس بينه وبين حجة الإسلام من خلاف يُذكَر إلا كان — على الأكثر — من قبيل الاختلاف في الدرجة دون الجوهر؛ فإن الأستاذ الإمام لا يشتد على الفلاسفة اشتداد حجة الإسلام، ولا يقول بالتكفير حيث يتأتى المخرج المقبول، ولو ببعض الصعوبة في التأويل.

إن «الإله» عند أرسطو هو المحرك الأول … ولا تأتي الحركة منه لأنه أَبَدِيٌّ لا أول له ولا آخِر، ولكنها تأتي من الهيولى التي هي المادة في دور القابلية، وإنما تخرج من القابلية إلى الكون بحركتها نحو الكائن الأول شوقًا إلى الكمال، وهي في كل حركة تتخذ لها صورة معينة تجعلها شيئًا وتجعلها أقرب إلى الكمال، بمقدار خلوها من الهيولى وازدياد نصيبها من الصورة المحض التي لا مادة فيها.

أما «الإله» في العقيدة الإسلامية كما يبسطها الأستاذ الإمام في كتبه المتقدمة فهو «الوجود الكامل المطلَق»، وكل ما عداه من المخلوقات فهو ناقص محدود.

وكمال الله لا ينفي إرادة الخلق على قول أرسطو في الإرادة، ولا يقتضي قدم المخلوقات الناقصة المحدودة متفرقة أو متجمعة فيما نسميه العالم أو الكون، ولا يمنع العقل أن يكون هذا العالم حادثًا وأن يكون الله أحدثه من العدم بقدرته؛ لأن القدرة هي إمكان القادر ما لا يمكن غيره، ومعنى قدرة الخالق المطلَق أنه يمكنه ما ليس بالممكن بغير قدرته المطلَقة، فلا وجه هنا للاستحالة مع الوجود المطلَق الذي ليست له حدود.

وصفات الله التي يقتضيها الكمال واجبة وجوب وجوده على أكمل صفة، فإذا جاء الشرع بصفات غير مستلزمة عقلًا، فلا يجوز للفيلسوف أن يرفض صفة من الصفات لا يمنع العقل نسبتها إلى الكمال المطلق، ولا معنى للجدل العقيم في استكناه هذه الصفات؛ لأن العقل الإنساني لا ينفذ إلى كُنْه شيء من الأشياء، فضلًا عن كُنْه الوجود الأوحد الذي ليس له مثيل يقاس عليه.

وللأستاذ الإمام في ذلك رأي كرأي الفيلسوف الألماني عمانويل كان في استحالة العلم بالشيء في ذاته Nomena ووقوف العلم الإنساني عند الظواهر Phenomenon مع التعبير عن هذا الفارق باصطلاح الأقدمين، وهو الفرق بين الكنه والعوارض؛ إذ يقول من رسالة التوحيد عن غاية كمال العقل الإنساني إنما هي: «الوصول إلى معرفة عوارض بعض الكائنات التي تقع تحت الإدراك الإنساني حسًّا كان أو وجدانًا أو تعقلًا، ثم التوصل بذلك إلى معرفة مناشئها وتحصيل كليات لأنواعها والإحاطة ببعض القواعد لعروض ما يعرض لها، وأما الوصول إلى كُنْه حقيقةٍ ما فمِمَّا لا تبلغه قوته؛ لأن اكتناه المركبات إنما هو باكتناه ما تركبت منه، وذلك ينتهي إلى البسيط الصرف، وهو لا سبيل إلى اكتناهه بالضرورة، وغاية ما يمكن عرفانه منه هو عوارضه وآثاره.»

وليس قصور الإنسان عن استكناه الأشياء في ذواتها بحائل بينه وبين الاستعانة بعقله على المعرفة الدينية، فإنه بهذا العقل يستعين على كل معرفة تعنيه وتنفعه في مصالحه الدنيوية، وعلم العقل الإنساني بقصوره يلهمه تفويض الإيمان بمسائل الغيب، ومسائل الشرع التي لا يتطلبها العقل على صورة من الصور غير صورتها في الدين، كشعائر الفروض وأعداد الركعات في صلوات العبادة ومقادير الزكاة وما إليها، فإن العقل يتقبلها لأنها ضرورية على صورة من الصور، وليس له أن يرفضها على صورة دون صورة.

وبهذه القوة العاقلة في الإنسان يدرك ما يجب في حق الله وما ليس بالممتنع في حقه، كما يدرك ما ينبغي للخلق كله في جملته، وقصارى القول فيه أن الواجب في حق الله هو الواجب في حق الوجود الكامل المطلق، وأن نهاية القول في العالم كله أنه وجود مخلوق أو وجود محدود.

وتنجلي طبيعة المصلح العامل في هذه الفلسفة الإلهية التي اطمأنَّ إليها من بين آراء الفلاسفة وعقائد المعتزلة وعلماء الكلام، فلم يكن يعنيه منها أنها فلسفة تحل جميع المشكلات وتفسِّر جميع الغوامض وتفصل في جميع القضايا المعلقة بين المفكرين الإلهيين، وإنما كان يعنيه منها أنها تُبْطِل الحيرة من الناحية العملية، فلا تشغل العقل بما لا داعية للحيرة فيه؛ لأنه على أي الآراء من ناحية الواقع سواء، وما لم يكن البت فيه جوهريًّا للعلم يحق العالم المخلوق، فالقيل والقال فيه لجاجة لا تجمل بالعقل وليس لها ضرورة في عقائد الضمير.

فالوجود المطلق لا يحده الزمان؛ لأنه يخلق الزمان، ولا موجب إذن للحيرة في قِدَم العالم أو حدوثه؛ لأن الله قادر على أن يخلقه مع الزمان، ولا داعية لحيرة العقل في أمر حدوثه وقِدَمه على هذا الاعتبار.

والذين يقولون إن البعث بالأرواح حتم، يوجبون استحالة العبث بالأجسام في غير استحالة معقول؛ لأن قدرة الله لا يمتنع عليها تبديل الجسد في إبان الحياة، ولا داعية للحيرة في مقادير المادة التي تتألف منها الأجساد الحيوانية جميعًا؛ لأن الإله الذي خلق المادة ابتداءً يخلقها كرة أخرى بما يشاء لها من المقادير.

ومسألة القدر — على أي معنى من معانيه — لا تلغي إرادة الإنسان كما ينبغي أن تكون إرادة المخلوق المحدود، ولا تبطل الجزاء كما ينبغي لتلك الإرادة، والعلم السابق بالتكليف والعقاب لا يقتضي بطلان الإرادة النفسية؛ لأن الإنسان قد يريد عامدًا ما يعلم أنه معاقَب عليه، وإذ كان علم الله بعمل الإنسان حقيقة، فحقيقة مثلها أنه جعل له إرادة على قدر وسعه، ولا يكلِّف الله نفسًا إلا وسعها على أية حال.

وإذا بقي من هذه الخلافيات شيء لا تبطل فيه الحيرة، فهو الشيء الذي يقضي العقل بالتفويض فيه إلى الله؛ لأن فهمه والتسليم فيه للغيب سواء.

ويُخَيَّل إلى قارئ الفلسفة حين يراجع أقواله في العقائد العضدية ورسالة التوحيد أنه فرغ من هذه الأقوال جميعًا وهو يقول لنفسه: إن المفيد هو أن نعمل ما لا بد من عمله، فدعونا من إضاعة الوقت والعقل في تحصيل الحاصل، دعونا من الخلاف فيما يتساوى فيه طرفا الخلاف، فإنَّ تَرْك الحيرة أولى من الحيرة التي لا تنتهي إلى طائل.

وإن مسلكه هذا مع الفلاسفة والمفكرين لقريب جدًّا من مسلكه مع الساسة والأمراء: الإصلاح بدونهم خير من انتظار الإصلاح معهم على غير جدوى.

•••

والواضح من تعليقات الأستاذ الإمام على العقائد العضدية أنه تتبع مذاهب الفِرَق في أمهات مراجعها، وأحاط باللباب الجوهري من أقوال الفلاسفة الإسلاميين، ولم يَفُتْه منها غير المصادر التي ظلت مطوية في مكتبات الغرب وتخصص فيها البحث بآراء الفيلسوف الأندلسي ابن رشد، التي كان فيها على خلاف مع سائر الفلاسفة المشرقيين، وقد كان هذا سبب النزاع على الفلسفة الرشدية بين الأستاذ الإمام والأستاذ فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة، فإن كلا الباحثين كانت تعوزه مراجع الآخَر. «ولعل هذه المساجلة — كما قلنا في رسالتنا عن ابن رشد — تهدينا إلى أسباب اتساع الخلف وانفراج مسافته بين المتناقشين في هذه المسائل وأشباهها، فإن اتساع الخلف بينهم إنما يأتي على الأغلب الأعم من اختلاف المراجع التي يعتمدون عليها، وهذا الذي حدث في مناقشة الأستاذ الإمام والأستاذ فرح أنطون، فلم يكن أحدهما يعتمد على مراجع الآخَر في مسألة من مسائل الفلسفة الرشدية أو الفلسفة الإسلامية على التعميم … قال الأستاذ الإمام: وأما العقل فليس كما تقول الجامعة، فإن العقل الأول جوهر مجرد عن المادة، وهو قول صادر عن الواجب، وقد صدر عنه الفلك التاسع المسمَّى عندهم بالفلك الأطلسي، ونفس ذلك الفلك تدبر حركاته الجزئية. وعقل آخَر هو العقل الثاني، وعن هذا العقل الثاني صدر الفلك الثامن المسمَّى عندهم بالعقل الفعَّال أو العقل الفيَّاض، وعن هذا العقل صدرت المادة العنصرية، وإليه يرجع ما يحدث في عالمها.»

وهذا كله صحيح بالنسبة إلى فلاسفة الإسلام في المشرق على الجملة، ولكن ابن رشد كان يعتمد على شرح أرسطو مباشرة ويفسره برأيه لا بآراء الفلاسفة المشرقيين، ويقول من كتاب «تهافت التهافت» في مسألة تعدد العقول: «ولسنا نجد لأرسطو ولا لمَن شهر من قدماء المشائين هذا القول الذي نُسِب إليهم، إلا لفرفريوس الصوري صاحب مدخل علم المنطق، والرجل لم يكن من حذَّاقهم.»

أما الأستاذ فرح أنطون، فكان جُلُّ اعتماده على تخريجات رينان، ولم يتوسع في الاطِّلَاع على كتاب التهافت وغيره توسُّعَ استقصاءٍ، وقد صرَّح بذلك حيث قال: «لا مناص للكاتب العربي اليوم من أخذ تلك الفلسفة عن الإفرنج أنفسهم، فأخذنا كتابًا للمستر مولر عنوانه: فلسفة ابن رشد ومبادئه، وكتابًا آخَر عنوانه: ابن رشد وفلسفته، وهو للفيلسوف رينان المشهور.»

فقد كانت المصادر إذن مختلفة، وكان أكثرها مرويًّا عن صاحبه مأخوذًا من خلاصة كلامه، ولو توحدت المصادر مع حسن النية لما تباعدت بين المتناظرين في هذه المسألة، ولا في غيرها، شقة الخلاف.

•••

فمصادر الأستاذ الإمام في مسائل الفلسفة الإسلامية كانت شاملة لمراجعها الوافية من كتب الفلاسفة والمعتزلة والمتصوفة والمتكلمين، ولكننا لا نعلم عن مصادره التي اعتمد عليها لدراسة الفلسفة الغربية شيئًا على التفصيل، وكل ما نعلمه أنه كان يطَّلِع عليها في بعض كتبها بعد تعلمه اللغة الفرنسية، وأن أقواله عن العقائد الإلهية تدل على علم بآراء الفلاسفة المتأخرين من الأوروبيين، وأغلب الظن عندنا أنه توافق في التفكير الذي تشابهت فيه الموضوعات الفلسفية قديمًا وحديثًا، وهي — فيما عرضت له — من مسائل الخلاف لم تطرق موضوعًا لم تسبق إليه في موضوعات الفلاسفة الإسلاميين.

ولعل من هذا التوافق قوله الذي ارتاح إليه سبنسر حين سأله عن العقيدة الإسلامية في الإله، فإنه ذكر له عقيدة أهل السنة وعقيدة المتصوفة القائلين بوحدة الوجود، ثم ذكر له أن بعض المتصوفة الإسلاميين يعتقدون أن الله وجود محض، وليس بشخص، فبدا على الفيلسوف الإنجليزي أنه ارتاح إلى هذه العقيدة، ويبدو اليوم أنها العقيدة التي يرتاح إليها كبار المفكرين الغربيين، ومنهم أينشتين صاحب الفلسفة النسبية.

وكذلك يجوز لنا أن نفهم أن الأستاذ الإمام نقل عقيدة المتصوفة القائلين بهذا وهو يفرق بين دلالة الشخص Person ودلالة الذات في عقيدة التوحيد الإسلامية؛ لأن الشخص باللغات الأوروبية يوحي بالشبه والحد والمثال، من أصل الكلمة اللاتينية التي أخذت من قناع الوجه المستعار في التمثيل، وليس في كلمة «الذات» ما يوحي بهذا على الحقيقة أو على المجاز، وإنما توحي بأن الذات تحتوي الصفات وتملك ما ينسب إليها من لوازم الكمال.

•••

ولا نجد في كتابات الشيخ محمد عبده أنه أراد أن ينشئ له مذهبًا خاصًّا في المسائل الإلهية كالمذاهب التي تُسمَّى بالنظم في اصطلاح الفلسفة الحديثة، ولكننا نجد آراءه كاملة في كل مسألة من هذه المسائل مبسوطة في تعليقاته على أقوال الفلاسفة أو المعتزلة أو المتكلمين أو المتصوفة، يوافق بها كل طائفة من هذه الطوائف أو يخالفها، مستقلًّا عنها جميعًا بمنهجه الذي امتاز بطابعه الخاص في الفهم والتحقيق، وهو طابع الفكرة العقلية العملية، أو طابع الفكرة الصالحة للتعليم والإفادة بالتربية والهداية.

فهو مع الفلاسفة الإلهيين في مسألة الوجود الإلهي أو الوجود المطلق، ولكنه لا يقف بإدراكه للقدرة الإلهية عند استحالة الخلق من العدم؛ لأن الوجود المطلق في عقيدته وتفكيره، لا يستحيل عليه أن يفيض نعمة الوجود على خلقه، فليس الخلق من العدم بالمستحيل، بل المستحيل هو العدم نفسه مع وجود الخالق المريد الفعال لما يريد، ولا تكفير عنده لمَن قال بقِدَم العالم وهو يؤمن بأن الله هو الفاعل لما أراده من خلقه؛ إذ كانت إرادة الله قديمة لا ندري كُنْه عملها السرمدي خارج الزمان، وكان الواجب في مسألة وجود العالم أن نؤمن بأن له موجدًا كما شاء، فلا يكفر مَن قال إن الله أوجد العالم في القِدَم وإن يكن مخطئنا في التفكير. قال في تعليقاته على العقائد العضدية: «واعلم أني وإنْ كنتُ قد برهنت على حدوث العالم، وحققت الحق فيه، على حسب ما أدى إليه فكري، ووقفني عليه نظري، فلا أقول بأن القائلين بالقِدَم قد كفروا بمذهبهم هذا وأنكروا به ضروبًا من الدين القويم، وإنما أقول إنهم قد أخطئوا في نظرهم ولم يسددوا مقدمات أفكارهم.»

ثم قال: «ومن المعلوم أنَّ مَن سَلَكَ طريق الاجتهاد لم يعول على التقليد في الاعتقاد، ولم تجب عصمته فهو معرض للخطأ، ولكن خطأه عند الله واقع موقع القبول، حيث كانت غايته من سيره، ومقصده من تمحيص نظره أن يصل إلى الحق ويدرك مستقر اليقين.»

وهو مع المعتزلة في تحكيم العقل والاستهداء به إلى هدي الدين، ولكنه لا يرى رأيهم في الاستغناء بالعقل وحده؛ لأنه يفرق بين مطابقة الدين للعقل وبين الاكتفاء بالعقل في المسائل النظرية والشرعية؛ إذ لا بد من تسليم العقل بنصيب الشرع من الهداية، ما دام العقل يعلم أنه لا ينفذ إلى كُنْه الأشياء، وأن العقول الإنسانية موكولة إلى حكمة الغيب حيث وقف بها مدى التفكير.

وهو مع المتكلمين في استخدام القضايا المنطقية، ولكنه يأخذ على غلاتهم أن استخدام المنطق يذهب بهم إلى السفسطة أحيانًا، ويدفع بهم إلى خلق المشكلات بينهم وبين الفلاسفة أو المعتزلة في غير داعٍ إلى الإشكال.

وهو مع المتصوفة، أو على الأصح مع الحكماء المتصوفين ولا سيما الأخلاقيين؛ لأن التصوف عنده رياضة عقلية، ولكنه يرى لهذه الرياضة جانبًا غير الجانب الحسي من الحياة الدنيوية يسميه «ذوقًا»، ويحمد من صاحبه أن يروض عليه ضميره ووجدانه ولا يدين به أحدًا من المقيَّدين بالحياة الطبيعية أو الحياة الحسية؛ لأن الأمر في هذه الحياة لِمَا يستقيم عليه صلاح الجماعة، ولا محل فيه للذوق الخاص الذي لا تراض عليه طبيعة العموم.

وجماع القول في مذهب الأستاذ الإمام أنه كان مذهب «المصلح الإسلامي المفكر» الذي أعطى التفكير النظري كل حقه، ولكنه أخذ منه حق العمل على الإصلاح الرشيد المستنير، واستخلص منه العقيدة الإسلامية خالصةً من عقبات الجمود والخرافة، التي تصدها عن التقدم وتقعد بها عن مسايرة الزمن والتأهب للحياة بأهبة العقل البصير والضمير الحر، والكفاية الخلقية والمادية لمناهضة القوة المستطيلة عليها بسلاح العلم والمال؛ تلك القوة التي أنزلت المسلمين في العصر الحديث منزلة المغلوبين المستعبدين، ومن حقهم لو عرفوا دينهم حق معرفته أن يترفعوا بأنفسهم عن مهانة الخنوع والاستعباد.

وقد كان له في مذهبه هذا تلاميذ مؤمنون بالفكر والعقيدة في أرجاء العالم الإسلامي من أقصاه في المشرق إلى أقصاه في المغرب، وكان أكثر هؤلاء التلاميذ من قادة الفكر المتدينين يقومون بواجبهم المضاعف في كل بلد إسلامي كما قام به الأستاذ الإمام في وطنه، فيكافحون الجمود من جهة ويكافحون التفرنج الذميم من الجهة الأخرى، ويتعرضون في وقت واحد لعداوة المتألبين عليهم من أنصار الاستعمار والاستبداد وأنصار الجهل المظلم والتعليم الفاسد، وفئات النفعيين الذين يَنْدَسُّون بين جميع الصفوف، حيث المنفعة على كل حساب، ولو كان حساب الوطن والدين.

على أن تلاميذ «الفيلسوف» محمد عبده كانوا فئة معدودة تُحسَب بالآحاد في كل أمة من أمم العالم الإسلامي، وكان عليهم أن يعيدوا دعوته بألسنتهم وأقلامهم مرة أخرى حتى تبلغ إلى الأسماع والعقول، وإنما انتشرت دعوته إلى الإصلاح أوسع انتشارها بين قرَّاء تفسيره للقرآن، وفتاواه لطلاب الفتيا الكثيرين، ومقالاته وفصوله التي كانت تُنشَر بتوقيعه أو بغير توقيعه ولا تخفى نسبتها إليه لنشرها في مجلة «المنار». وقد أنشأ مسلمو إندونيسية مجلة على مثالها سموها «المنير» تبلِّغ هذه الدعوة لمَن لا يقرءون العربية من أبناء الأمة الملاوية، وتتبع مسلمو الهند دروسه كما توجهوا إليه بالاستفتاء في كل مشكلة من مشكلاتهم الاجتماعية التي تصطدم عندهم بالعقيدة الدينية … ولما تسامع المسلمون في الهند بانقطاع الأستاذ الإمام عن إدارة الأزهر وشاع بينهم أنه سيهجر التدريس، وقع منهم النبأ موقع الهول الذي لا يُحتمَل، وكتب النواب محسن عميد كلية عليكرة ينعي رسالة الإصلاح في العالم الإسلامي، ويُنحِي على الخديو وشيعته من الجامدين أشد الإنحاء، ويقول إنهم «لو كانوا يتوقعون من المستر دنلوب بعد قنوطهم وإياسهم من الجامع الأزهر أن يؤسس لهم كليات وجوامع في أرض مصر يكون فيها نشر التعاليم العالية … لكان في ذلك بعض التعزية عما قد فاتهم من ذلك في الجامع الأزهر، ولكن الذي ظهر لنا أنهم لا يتوقعون ذلك من هذه الجهة أيضًا … وعسى أن ينكشف لديهم أن أعضاء الدولة الذين بأيديهم زمام دولة مصر وملاك أمرها وسلطانها لا يرضون بأن يتاح لهم من التعاليم ما تستنير به قلوبهم، وتستضيء به أدمغتهم، ويطَّلِعون به على حقوقهم المِلِّيَّة والسياسية».

وقالت صحيفة الرياض بعد نشر الخبر ومعه خطاب الخديو: «عجبنا وعجب كل مسلم في الهند من حكم سموِّه الذي قضى به في جمع حافل من العلماء، وشدَّد النكير على حزب المصلحين وجماعة المخلصين … فالآن يصدق على مَن يخرج من الأزهر: ليس له في الدنيا نصيب، وما له في العلوم الإسلامية من خلاق.»

وكان للنبأ في البلاد العربية صدى كصداه هذا في البلاد الإسلامية غير العربية، وصححت ثورة الخواطر تقدير المصلحين أنفسهم لمدى انتشار الدعوة بين جمهرة المسلمين، ومدى النكسة التي أصيبت بها حركة التجديد من جراء تلك الحملة المطبقة عليها من بين صفوف الجامدين وسماسرة الكذب والتشهير، فوضح لهم بعد الغاشية الأولى أن دعوة الحرية الفكرية أقوى من أن تصدها عن طريقها مكيدةٌ مفتعَلةٌ تقوم على التدبير المشترك بين الجمود والباطل؛ لأن الجمود إدبار إلى الماضي لا محل له في المستقبل، والباطل غشاء دخيل لا بد أن ينكشف عن معدنه الأصيل.

وفي مصر كانت مبادئ المصلح الحكيم تسري سريانها العميق إلى العقول الفتية وعقول الكبار من ذوي النيات السليمة، وكانت تستقر على أسسها في الوقت الذي خُيِّل فيه إلى المستمعين لضجيج السعاية أن الأمة قد أعرضت عنه بأسماعها وقلوبها، وأن حملات التشهير قد نالت من سمعته منالًا يصرف الناس عن الاكتراث له والمبالاة بعلمه وعمله، وأملى للمتوهمين في وهمهم هذا أن الدعوات الفكرية لا تبرزها الحشود الجامعة كما تبرزها دعوات الحوادث السياسية، فإذا سرت إلى العقول متفرقة لم تظهر في الأمة مجتمعة إلا بما يكون لها من النتائج العامة في الزمن الطويل، ولكن المصيبة بفقد المفتي بعد اعتزاله إدارة الأزهر هيَّأت في هذه الدعوة الفكرية حشودها الجامعة، التي لن تتهيأ قبل ذلك لدعوة من الدعوات السياسية في الأمور التي تشغل أذهان الجماهير، ولم يكن للمفتي الفقيد حزب ذو أداة منتظمة تسخِّر أعوانه لجمع الجموع وتسيير المواكب، بل كان صاحب السلطة الرسمية يعاديه ويغضب على مشيعيه، وكانت صفة الفقيد الدينية لا تَدَع مكانًا للسلطة الفعلية في تشييعه والاحتفال بجنازته، وكان الوقت صيفًا قائظًا والغائبون عن المدن من معتادي الاصطياف خارج القطر وفي قرى الريف أكثر من الحاضرين، فغلبت الصبغة القومية على كل صبغة رسمية أو تقليدية في تشييع رفات المفتي إلى مقره الأخير من الإسكندرية إلى القاهرة، بل غلبت هذه الصبغة على الصبغة التقليدية التي تعودناها بمصر في تشييع الجنازات؛ إذ كان المفتي في حياته ينكر هذه المظاهر التقليدية ويعلن النهي عنها، فكانت موجة الحزن التي غشيت ألوف المشيعين على طول الطريق دفعة من أعماق القلوب والضمائر عرفت بها الأمة مبلغ شعورها بعظمة الفقيد الراحل وعظم الخسارة بفقده، وجاوز الزحام كل ما قدرته الشرطة واتخذت له حيطتها في المدينتين منذ الصباح الباكر قبل خروج النعش من داره، فتعطلت حركة الأسواق وأغلقت الدكاكين أبوابها للمشاركة في موكب الجنازة، واكتظت الأرصفة بالواقفين والسائرين، ولم يَبْقَ أحد في العاصمتين من ذوي الفكر والمنزلة لم يشترك في ذلك الموكب الحافل الذي عمت التعزية فيه وجلت أن تخص عشيرة الفقيد أو ذويه، ولم يدهش أحد من هذه البادرة القومية بطبيعة الحال، كما دهش لها النزلاء الأوربيون الذين كانوا يتسمعون أخبار المعارك حول الإصلاح الديني من بعيد، ويحكمون عليها بمقدار ما ينتهي إليهم من لغط الصحافة وأقاويل المرجفين، فقالت صحيفة الفاردي ألكسندري: «إن توارد الجماهير لتشييع الجنازة يخمد أنفاس القائلين بأن المفتي لم يكن محبوبًا في الأمة المصرية.» وقالت صحيفة ليجيبت: «إنه مشهد مهيب من أَجِلِّ المشاهد وأشدها تأثيرًا في النفوس، كان يشتد زحامه بجماهير الناس المصطفين على جوانب الطريق التي مر بها، حتى لقد توقفت حركة التجارة فيها، وكان الناس في سكون وإجلال خلال مرور الجنازة، يُخَيَّل إلى الرائي أن جميع سكان القاهرة الوطنيين قد حضروا ليؤدوا آخِر فريضة من الإجلال والإعظام لذلك الشيخ الجليل، وبينهم عدد عظيم من الأوروبيين.»

وقد تمخضت هذه البادرة القومية عن معناها العملي الدائم، ولا يمكن أن يكون لها غير معنى واحد هو الذي شوهد في واقع الحياة القومية بعد ذلك، وبرزت حقيقته في كل مهمة تتطلب الرجال العاملين من المفكرين المؤمنين بفريضة الإصلاح ورسالة التقدم، فقد شوهد تلاميذ المصلح الكبير على رأس كل حركة جادة من حركات النهضة الوطنية أو الفكرية، وتلفتت الأمة بعد وفاته تبحث عن القادة العاملين، فلم تجد بين المتقدمين للقيادة مَن هو أقدر على قيادتها وتسديد خطاها وتقرير مطالبها من زمرة الفقيد وخيرة أشياعه وتلاميذه ومريديه، لا فرق في ذلك بين شئون الدنيا وشئون الدين، وحسب القارئ ما يمكن حصره في الشئون الدينية التي تتصل بالجامع الأزهر ومعاهد التعليم على منهجه، فلم يكن أظهر بين مشايخه وأقطابه من الشيخ محمد شاكر، والشيخ مصطفى المراغي، والشيخ مصطفى عبد الرازق، والشيخ إبراهيم حمروش، والشيخ محمود شلتوت، وكلهم من مريديه المؤمنين برسالته، وغيرهم كثيرون مثلهم وإن لم يحضروا كلهم على يديه. أما في شئون النهضة الوطنية على اختلافها، فلا حاجة إلى التخصيص باسمٍ واحدٍ من أسمائها أو فرع واحد من فروعها، فكلها بلا استثناء تقترن باسم — أو أكثر من اسم — بين شيعة الأستاذ الإمام، وقد كانت ثورة مصر الكبرى على الحملة البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى — بزعامة سعد زغلول — مثالًا للأمانة الخلقية والنفسية التي أودعها الأستاذ الإمام في نفوس شيعته وخاصة صحبه، وأهَّلَتْهم في نطاقها الواسع لتلك المهمة الجامعة، كما أهَّلَتْهم لما دونها من المهام المتفرقة في كل نطاق محدود.

•••

وأكبر ما استفاده العقل السليم المستنير من فكرة الأستاذ الإمام في الإصلاح والحرية الإنسانية أنه أعاد إليه الثقة بعقيدته في هذا العصر الحديث، ورفع من طريقه إلى العمل عقبات الجمود والخرافة والتقليد؛ لأنه زوَّده على قواعد دينه بفلسفة الحياة التي يقابل بها فلسفات الغرب المتسلطة عليه من جهة السطوة أو من جهة الإيمان بالعقائد والآراء، ولهذا كانت ردوده على فلاسفة الغرب ومفكريه أهم وأجدى على المسلم العصري من ردود المدافعين عن الإسلام على جماعات المبشرين المحترفين؛ إذ كانت شبهات المبشرين المحترفين لا تعدو أن تدور حول الشقائق اللفظية التي تمس الأديان الأخرى أشد من مساسها بالإسلام في العصر الحاضر أو العصور الماضية، ولكن شبهات المفكرين على غرار الفيلسوف أرنست رينان والوزير جبرايل هانوتو كانت بحاجة إلى الفكر العصري المؤمن بالدين لمواجهة الأفكار العصرية التي لعلها لا تُؤمن بالإسلام ولا بغير الإسلام، ولكنها تخامر فكرة المسلم كما تخامر ضميره بالأسئلة المعلَّقة في انتظار الجواب من ذي ثقة باعتقاده، وذي ثقة بتفكيره، وذي طوية لا ترتقي إليها الظنون، وكان الأستاذ الإمام مليئًا بكل ما يتطلبه العقل المسلم المستنير في عصره من آيات الثقة وحجج الإقناع.

كانت ردوده على رينان وهانوتو ردودَ مَنْ يعلم ما قد علموه عن تواريخ الحضارات وخصائص الشعوب وطبائع الأجناس والسلالات، ويزيد عليهم بالإيمان الثابت والأريحية الإنسانية والهمة التي ترفعه إلى مقام الرسالة الروحية؛ إذ لا رسالة لأمثال رينان وهانوتو في عالم العقيدة ولا في عالم الإصلاح. وقد كان — قدَّسَ الله روحه — أعلى طبقة من مناظريه في مضمار المناظرة بين المعسكرين المقاتلين، فكان رينان وهانوتو يقابلان بين الإسلام والمسيحية ليقابلا بين المسلمين والمسيحيين الأوروبيين خاصة، ويقابلا بعد ذلك بين دعوى الغالب ودعوى المغلوب، ولم ينزل الأستاذ الإمام إلى مضمارهم إلا ليدفع عن عقيدة الإسلام دون أن يقدح في عقيدة المسيحية، بل كان دفاعه عن الإسلام في وجه الأوروبيين المصطبغين بالصبغة المسيحية وهم أبعد ما يكونون عن المسيحية السمحة كما يعرفها الأستاذ الإمام … ولم يخرج من ردوده بتنزيه الإسلام وتشويه المسيحية … بل خرج منها جميعًا بتنزيه الديانتين وإثبات الحقيقة التي يدين بها مَن يدين بكتاب الإسلام، وهي أن المسيحية ديانة محبوبة لا عداوة بين مَن يدين بها على أصولها ومَن يدين بالإسلام على أصوله، ولا يحرم على المسلم يومًا أن يصاحب أهل الكتاب على سنة أهل الكتاب.

وقد ألهم فضلاء المسيحيين ذلك من وحي فكره ووحي اعتقاده ووحي كلامه في تفسير القرآن، وشرحه للدين في كل موطن أقام به أو رحل إليه، فكان أدباء المسيحيين يتسابقون إلى دروسه بمساجد بيروت أيام منفاه، وكان القس الإنجليزي إسحاق تايلور يرى أن شرح المسيحية كما يبسطه الأستاذ الإمام يوشك أن يعينه على إقناع الأوروبيين بالتوحيد بين الديانتين على الجادة الوسطى التي يلتقي لديها المؤمن بالأناجيل والمؤمن بالقرآن. وعبَّر العلَّامة يعقوب صروف تعبيره الصادق عن شعور فضلاء المسيحيين يوم قال ساعة دفن الأستاذ الإمام لمَن حوله من تلاميذه: «إني أسمعكم تقولون: فقيد الإسلام والمسلمين ولا تزيدون، إنه فقيد الفكر والعلم حيث كان … إنه فقيدنا أجمعين.»

الفلسفة الاجتماعية

ومن البديهي أن الفيلسوف المصلح لا يقصر تفكيره على العقليات والإلهيات، أو على فلسفة ما وراء الطبيعة كما تسمى عند المعاصرين؛ إذ لا بد من فلسفة اجتماعية يتبعها في إصلاح المجتمع على مبادئه التي يتوخاها ويتخذها هاديًا له إلى فضائل المجتمعات المثالية ومواطن عيوبها التي يجتهد اجتهاده في تبديلها أو إزالتها، وهذا هو الواقع في منهج محمد عبده المصلح الفيلسوف؛ فإن فلسفته الاجتماعية مفصلة واضحة من كل ما كتبه في مطولاته ومختصراته بلا استثناء كتابته عن العقليات والإلهيات، ولكننا نستطيع أن نسمي فلسفته الاجتماعية في لبابها فلسفة أخلاقية لا تفرِّق بحال بين مشاكل الاجتماع ومشاكل الأخلاق، وليس للاجتماع عنده مشكلة قائمة إذا توفَّرت العزائم على علاج آفات الخلق في الفرد والجماعة، وليست عنايته بالناحية الخلقية سهوًا عن أثر الشئون المادية أو شئون النظام في آداب المعاملات وآداب النفوس على الإجمال؛ لأنه كان يؤمن بأثر الفاقة والثروة معًا على ضمائر الناس من الرجال والنساء، وكان يقول دائمًا: إن العفة ثوب تمزقه الفاقة، وإن الثروة بغير عمل مفسدة. وعناصر الكيان الاجتماعي عنده — كما عدَّدها في رده على هانوتو — سبعة، هي: العلم، والأدب، والتجارة، والصناعة، والعدل، والدين، والسلاح، فليس قيام الكيان الاجتماعي على الأخلاق في رأيه سهوًا عن عمل التجارة والصناعة، ولا عن عمل النظام العادل في سياسة الناس، ولكنه كان يعتبر أن الجهل فقر أشد على الناس من فقر المال، وهو القائل في إحدى خطب الجمعية الخيرية: «إن بلادنا ليست بلاد الجوع القتال، ولا بلاد البرد القارس المميت، ولا بلاد الشقاء التي لا ينال الإنسان فيها قوت يومه إلا بالعذاب الأليم، بل نحن في بلادٍ رزَقَها الله سعة من العيش، ومنحها خصوبة وغنى يسهلان على كل عائش فيها قطع أيام الحياة بالراحة والسعة، ولكنها ويا للأسف منيت مع ذلك بأشد ضروب الفقر، فقر العقول والتربية.»

وقد قال قبل ذلك في خطاب المدرسة السلطانية ببيروت: «… إننا لو نظرنا إلى ثروة بلادنا لا نجدها قاصرة على حاجتنا، ولكن القاصر عن الحاجات هو إدراكنا لاحتياجنا، فقد نرى الغني يبذل أموالًا جمة في زخارف زينة لا مقام لها في نظر العاقل، ولا يرى في بذله هذا مغرمًا، ثم إذا دُعِي إلى مساعدة وطنه ومِلَّتِه ودولته يستكثر القليل ويعطي وهو كاره.»

فإذا تحرى النظام العادل توفير أسباب المعيشة الحسنة، فالرخاء — وهو غاية ما يبلغه هذا النظام — لا يكفي لإقامة كيان المجتمع، ولا لحفظ بقائه من عوامل فنائه، ولا من أخطار أعدائه، ولن يقام للمجتمع كيان بغير المعرفة العلمية والتربية الأخلاقية، ولن يقر له هذا الكيان إذا حرم منهما أحد جنسيه وإحدى طبقاته.

ومن أخطر أسباب الضعف التي أصابت المسلمين كما قال في رده على هانوتو: «إن النساء قد ضرب بينهن وبين العلم بما يجب عليهن في دينهن أو دنياهن بستار لا يُدرى متى يُرفع.» وقد قال في إحدى خطب الجمعية الخيرية الإسلامية: «نحن نتمنى تربية بناتنا، فإن الله تعالى يقول: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تشرك الرجل والمرأة في التكاليف الدينية والدنيوية … وترك البنات يفترسهن الجهل وتستهويهن الغباوة من الجرم العظيم.»

وكان أشد ما ينعاه على مَن يحسبون أنفسهم من العارفين، قولهم: لا شأن لنا بالعامة. «فلا يمكن الإنسان أن يعمل بمصلحة العامة ما لم يحس برابطة بينه وبينهم.»

والعلم في رأي الأستاذ الإمام سبب من أسباب الثروة والقوة، وسبب من أسباب المعرفة الذهنية التي تبصر العقل بأدوات النجاح في أعمال المعيشة، ولكن التربية الأخلاقية شيء آخر غير المعرفة الذهنية، ولا سيما المعرفة التي تتأدى آخِر الأمر إلى الإيمان بالمادة دون غيرها، وهو ما يسمونه بالفلسفة المادية، وقد لمس الأستاذ الإمام آثار هذه الفلسفة المادية في حضارة الغرب، فأشفق من عواقبها على بني الإنسان وزادته اعتقادًا بضرورة الدين لصلاح النفوس البشرية وهداية الأمم في حياتها الاجتماعية، وأكدت له هذه الضرورة مناقشته للفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر (سنة ١٩٠٣)؛ إذ قال له الفيلسوف الإنجليزي: إن الإنجليز يرجعون القهقرى، فهم الآن دون ما كانوا عليه منذ عشرين سنة. فسأله الأستاذ الإمام: وفِيمَ هذه القهقرى؟ قال سبنسر: إنهم «يرجعون القهقرى في الأخلاق والفضيلة، وسببه تقدُّم الأفكار المادية التي أفسدت أخلاق اللاتين من قبلنا، ثم سرت إلينا عدواها، فهي تفسد أخلاق قومنا وهكذا سائر شعوب أوروبا.» ثم قال: إنه لا أمل له في صد هذا التيار؛ «لأنه لا بد أن يأخذ مده إلى غاية حده في أوروبا. إن الحق عند أهل أوروبا الآن للقوة».

وفارق الأستاذ الإمام دار الفيلسوف وهو يدير في خاطره كلمة الحق للقوة، ويصف أثرها في نفسه، ويحس أنها ما كانت لتحدث لديه هذا الأثر لو جاءت من ثرثارة يهرف بما لا يعرف، ثم يُدوِّن هذه الخاطرة في مذكراته:

هؤلاء الفلاسفة والعلماء الذين اكتشفوا كثيرًا مما يفيد في راحة الإنسان … أعجزهم أن يكتشفوا طبيعة الإنسان ويعرضوها عليه، حتى يعرفها ويعود إليها هؤلاء الذين صقلوا المعادن حتى كانت من الحديد اللامع المضيء، أفلا يتيسر لهم أن يجلوا ذلك الصدأ الذي غشي الفطرة الإنسانية، ويصقلوا تلك النفوس حتى يعود لها لَمَعانها الروحاني؟ … حار الفيلسوف في أوروبا وأظهر عجزه مع قوة العلم، فأين الدواء؟ الرجوع إلى الدين، الدين هو الذي كشف الطبيعة الإنسانية وعرَّفها إلى أربابها في كل زمان، لكنهم يعودون فيجهلونها.

الفلسفة الأدبية

وربما كانت آراء محمد عبده — المفتي الأكبر — في الفنون الجميلة أقرب إلى تعريفنا بسعة الأفق التي امتاز بها هذا العقل الراجح من سائر آرائه في المسائل العقلية والاجتماعية، فإنه كان يكتب قبل ستين سنة ليحبب الفنون الجميلة إلى الناس في الوقت الذي كان الرأي الشائع فيه عن النحت والتصوير أنهما حرام مستنكَر … وكان المتعلمون العصريون أنفسهم يحتقرون هذه الفنون ولا ينظرون إليها نظرة جدية، أو يحسبونها حتى من الكمالات المحتملة، فضلًا عن اللوازم المطلوبة، وقد خلا الشرق العربي من مدرسة واحدة لهذه الفنون، وقَلَّتِ العناية بها في الصحف السيَّارة، ولم يظهر — بعدُ — لها أثر على اللوحة البيضاء يعود الناس أن يحتفلوا برؤيتها، فكان أكثر ما يُنتظَر من رجل الدين المتحرر أن يدفع عنها وزر التحريم، ويجعلها من المباحات السائغة لمَن يزاولها، ولكن محمد عبده — المفتي — كان يكتب يومئذٍ لينوِّه بها ويفسر معنى الإقبال عليها بين الغربيين — لمَنْ يجهله منا — بأنها عندهم كالشعر عندنا، وأنها لغة نفسية تفرِّق في تعبيراتها بين أدق المعاني الشعرية التي لا تظهر التفرقة بينها من أسمائها وأوصافها، وفي ذلك يقول من فصل كتبه في سنة ١٩٠٣:

إذا كنت تدري السبب في حفظ سلفك للشِّعْر وضبطه في دواوينه، والمبالغة في تحريره، خصوصًا شعر الجاهلية، وما عُني الأوائل رحمهم الله بجمعه وترتيبه، أمكنك أن تعرف السبب في محافظة القوم على هذه المصنوعات من الرسوم والتماثيل، فإن الرسم ضرب من الشعر الذي يُرى ولا يُسمَع، والشعر ضرب من الرسم الذي يُسمَع ولا يُرى … إن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشئون المختلفة، ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة، ما تستحق به أن تُسمَّى ديوان الهيئات والأحوال البشرية، يصورون الإنسان أو الحيوان، في حال الفرح والرضى، والطمأنينة والتسليم، وهذه المعاني المدرجة في هذه الألفاظ متقاربة لا يسهل عليك تمييز بعضها من بعض، ولكنك تنظر في رسوم مختلفة، فتجد الفرق ظاهرًا باهرًا، يصورونه مثلًا في حالة الجزع والفزع، والخوف والخشية، والجزع والفزع مختلفان في المعنى ولم أجمعهما هنا طمعًا في جمع عينين في سطر واحد؛ بل لأنهما مختلفان حقيقة، ولكنك ربما تعتصر ذهنك لتحديد الفرق بينهما وبين الخوف والخشية، ولا يسهل عليك أن تعرف متى يكون الفزع ومتى يكون الجزع، وما الهيئة التي يكون عليها الشخص في هذه الحال أو تلك … وأما إذا نظرت إلى الرسم وهو ذلك الشِّعْر الساكت، فإنك تجد الحقيقة بارزة لك تتمتع بها نفسك كما يتلذذ بالنظر فيها حسك، إذا دعتك نفسك إلى تحقيق الاستعارة المصرحة في قولك: رأيت أسدًا، تريد رجلًا شجاعًا، فانظر إلى صورة أبي الهول بجانب الهرم الكبير، تجد الأسد رجلًا أو الرجل أسدًا، فحفظ هذه الآثار حفظ للعلم في الحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة على الإبداع فيها …

ويعرض بعد ذلك حكم الشريعة في تلك الفنون فيقول: «ربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام وهي: ما حكم هذه الصور في الشريعة الإسلامية، إذا كان القصد منها ما ذُكِر من تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية أو أوضاعهم الجثمانية؛ هل هذا حرام أو جائز؟ أو مكروه أو مندوب أو واجب؟ فأقول لك: إن الراسم قد رسم والفائدة محقَّقة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة، قد مُحي من الأذهان، فإما أن تفهم الحكم من نفسك بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالًا إلى المفتي وهو يجيبك مشافهة، فإذا أوردت عليه حديث: «إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون.» أو ما في معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقول لك: «إن الحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في العهد لسببين: الأول اللهو، والثاني التبرك بمثال مَن تُرسَم صورته من الصالحين، والأول مما يبغضه الدين، والثاني مما جاء الإسلام لمحوه، والمصوِّر في الحالين شاغل عن الله أو ممهد للإشراك به، فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة، كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات، وقد صُنع ذلك في حواشي المصاحف وأوائل السور، ولم يمنعه أحد من العلماء، مع أن الفائدة في نقش المصاحف موضع نزاع، وأما فائدة الصور فمما لا نزاع فيه على الوجه الذي ذُكِر … ولا يمكنك أن تجيب المفتي بأن الصورة على كل حال مظنة العبادة، فإني أظن أنه يقول لك: إن لسانك أيضًا مظنة الكذب، فهل يجب ربطه مع أنه يجوز أن يصدق كما يجوز أن يكذب؟ … وبالجملة يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين، لا من وجهة العقيدة ولا من وجهة العمل، على أن المسلمين لا يتساءلون إلا فيما تظهر فائدته ليحرموا أنفسهم منها، وإلا فما بالهم لا يتساءون عن زيارة قبور الأولياء أو ما سماهم بعضهم من الأولياء وهم ممَّن لا تُعرَف لهم سيرة، ولم يطَّلِع لهم أحدٌ على سريرة؟ … وهم يخشونها كخشية الله أو أشد، ويطلبون منها ما يخشون ألا يجيبهم الله فيه، ويظنون أنهم أسرع إلى إجابتهم من عنايته سبحانه وتعالى … لا شك أنهم لا يمكنهم الجمع بين هذه العقائد وعقيدة التوحيد، ولكن يمكنهم الجمع بين التوحيد ورسم صور الإنسان والحيوان، لتحقيق المعاني العلمية وتمثيل الصور الذهنية …»

والمفتي هنا يشير إلى «المفتي» بصيغة الضمير للغائب، ولا يجزم بفتواه جزم التوكيد؛ لأنه كان يكتب تلك الرسائل من أوروبا ويوقعها بتوقيعه المستعار كما تعوَّد في كتابة رسائل الرحلات.

هذا رأيه في الفنون الجميلة التي لم يشتغل بها ولم يشتغل بها فنان خبير بها في عصره، فلا عجب أن يكون رأيه في فنه الجميل الذي كان هو إمام المشتغلين به — وهو فن البلاغة — رأي الرائد الذي يذوق أسراره في أشكاله ومعانيه تذوقًا سبق به النقاد من خلفائه، ولا يزال منه مَن يقتفي آثاره ولا يدرك مداه.

كان محمد عبده الناقد البليغ يوقن أن اللغة مادة البلاغة وجمال التعبير، وكان من شواغله الكثيرة شاغل واحد لم تشغله عنه مهمة من مهام أعماله المتعددة التي تنوء بالعمل منها كواهل المنقطعين له والمتوفرين عليه، وذلك الشاغل الواحد هو إحياء اللغة مادة وعلمًا ودراسة وكتابة، فكان يعين جماعة إحياء الكتب العربية بعلمه ووقته وماله ونفوذه، وكان ينشر نماذج البلاغة السلفية ويشرحها بقلمه، أو ينوه بها في دروسه وتفسيراته من قبيل نهج البلاغة، ومقامات البديع، ودلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة. ومن أهم المراجع اللغوية التي بذل الجهد في استحضارها وتشجيع الواقفين على طبعها كتاب المخصص لابن سيده، وهو نوع من المعجمات المبوَّبة على حسب المعاني والأغراض، أنفع من أكثر المعجمات التي لا عناية لها بغير جمع المفردات.

ومذهب محمد عبده الناقد في تحصيل مادة اللغة أنها تحصيل مَلَكة وليست بتحصيل قواعد ومصطلحات؛ لأن دقائق الفصاحة والبلاغة وبراعة التعبير تحيي الفهم، وترك الاشتغال بها «موت للحياة العقلية» … وكان يقول: إن الكلام البليغ سهل على الفطرة، ولكنه «صعب على كل عقل تعلم البناني على السعد»، ولا قدرة للأديب على القصد في التعبير بغير توفير مادته من اللغة، ولا خير في المبالغة؛ «فإنما يأتي بالمبالغة مَن كان مجازفًا في رأيه، والعقل السليم لا يتعدى الصدق» … ورأيه في الشعر البليغ مع جودة اللغة أنه لا يكون شعرًا إلا إذا كانت ألفاظه آخذة بجزء من روح الشاعر، وإلا فهو نظم لا بلاغة فيه. وقد كانت توجيهاته لتلاميذه من الشعراء فاتحة اشتغال شعراء عصره بالتعبير عن الحياة الإنسانية — عامة وخاصة — ولولاه لما ظهر كثير من القصائد في الموضوعات العامة، ومنها قصائد كثيرة لحافظ إبراهيم، وعبد المحسن الكاظمي، ومحمد إمام العبد، وربما أملى على الشاعر ما يقوله حضًّا لبعض المحسنين بأسمائهم على معونة المنكوبين، كما فعل من قصيدة «حريق ميت غمر» التي نظمها حافظ إبراهيم.

•••

ويصدق على الشيخ محمد عبده الأديب أنه استعاد أطوار الأدب في كتابته من نهاية عصر التقليد إلى الطور الأوسط من عصر التجديد الحديث؛ ففي كتاباته الأولى كان يلتزم السجع على عادة المتأخرين، مع اجتناب اللغو الذي كانوا يخلطونه بمقالاتهم ولا يتحرون فيه معنى مفهومًا يقصدون إليه، ثم تخلَّص من قيود السجع وترسل في أسلوبه، مع تحري الفصاحة في الكلمة وتصحيح الخطأ المشهور من أخطاء النحو والصرف التي كانت تتخلل الكتابة في عصره ولا تزال تتخللها في كتابة المتحرزين من هذه الأخطاء، لغلبتها الطويلة منذ أزمنة بعيدة على المفردات والتراكيب، وقد سلم أسلوب الأستاذ الإمام منها إلا القليل الذي لا يصعب رده إلى القاعدة ببعض التجوز والتأويل، ولو من قبيل تجويز الخطأ المشهور. وقد نظم الشعر في الحوادث التاريخية وفي بعض المناسبات الخاصة، وعده من النظم الذي يراد للتدوين أو التذكير، ولا يرتضيه شعرًا على مذهبه في فن الشعر بين ألوان الفن الجميل.

ولم يتسع له الوقت لتأليف الكتب في علومه التي كان يشارك فيها مشاركة وافية كعلوم الدين والفلسفة والبلاغة، ولكنه فسَّر القرآن الكريم إلى سورة النساء، وفسَّر السور التي كان يحفظها التلاميذ من الجزأين الأولين، وشرح الفلسفة الإسلامية في تعليقه على العقائد العضدية، والمنطق في شرحه للبصائر النسفية، وكتب رسالة التوحيد تبسيطًا لهذه الفلسفة، واجتمع من مقالاته في الرد على هانوتو كتيب صغير، واجتمع من مقالاته عن الإسلام والنصرانية كتاب أكبر منه وأوسع في بابه، وله في الأدب شرح نهج البلاغة ومقامات البديع، وله في التصوف رسالة الواردات التي كتبها في صباه، ورسالة أخرى في علم الاجتماع ألَّفها يوم عمل في التدريس بدار العلوم، ولكنها ضاعت ولم يَبْقَ من فصولها — أو على الأصح من معانيها — غير ما أودعه بعض البحوث في الوقائع المصرية والأهرام وصحيفة العروة الوثقى ومجلة المنار، وتقديمه لترجمة رسالة الرد على الدهريين.

ولا يُحسَب هذا المحصول قليلًا من مجهود التأليف في حياة رجل جم المشاغل والأعباء توفي وهو يناهز الثامنة والخمسين، ولكن عظمة هذا العقل الكبير وسعة الآفاق التي كان يجول فيها بتفكيره وجهوده تصغر هذا المحصول بالقياس إلى المحصول الذي كان مستطاعًا له مع اليسر وقلة الكلفة لو أنه انقطع للتأليف، فليست هذه المؤلفات، على وفاء الفلسفي منها في بابه، إلا كالشعاع القوي الذي ينبثق عن الشمس، فيدل على ما احتجب منها، ولكنه يعطي الناظرين كل ما تعطيه الشموس من ضور النهار، تتلقاه النوافذ وتحول دونه الجدران.

•••

ولا نحسب أننا نحيط بذلك الأفق الواسع من شتى نواحيه إذا ختمنا الكلام على المصلح الفيلسوف دون أن نذكر حظه من فنون الرياضة البدنية، إلى جانب حظه الكبير من رياضات العقل والروح، فقد كان هذا المجاهد الباسل في ميادين الإصلاح فارسًا سباقًا في ميادين الفروسية والرياضة البدنية، وكان فتيان إقليمه يرحلون إليه لمباراته واكتساب الشهرة بسبقه أو اقتران أسمائهم باسمه، وظل إلى آخِر أيامه يركب الجواد أحيانًا من بيته بعين شمس إلى القاهرة، أو من القاهرة إلى بيته … وكان يمتطيه كثيرًا في ذهابه إلى الجامع الأزهر، ويقول لمَن يراجعه من أنصار التقليد: إن الفروسية كانت من سَمْت النبوة، وإن العالم الذي يتوكأ على السند إلى اليمين والشمال إنما يدرج — كما قال في تقريعه اللاذع — على سمت «ستي هانم»، وليس هو بسمت علم ولا عمل. وقد شهدناه في أسوان يحضر على صهوة جواد إلى ميدان الرياضة، ليشهد مباراة كرة القدم بين مدرستها وإحدى المدارس القريبة منها، فأعجبنا منه رجل الدين المهيب، يزيده وقارًا ولا يخل بوقاره أن يقدس رياضة الأبدان بقداسة الدين؛ وفهمنا بهذه الزيارة الصامتة درسًا عن الإسلام في عصر الحركة التي لا تهدأ، والحياة التي لا تقبل الجمود والوناء، إنه دين النفس القوية في الجسد القوي، لا إمام له أحق بالاتباع من هذا الإمام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤