الفصل الرابع عشر

شخصية ولا شخصية

لوحظ في كتابة التراجم والسير أن البحث عن أحوال الشخصيات المشهورة يغري القارئ — والكاتب معًا — بالبحث عن أحوالها «الشخصية»، ويشوق المستطلع إلى جوانبها الخاصة التي تقابل جوانبها العالية، أو جوانبها التي اشتهرت فيها أعمالها العامة.

ونلاحظ قديمًا وحديثًا — قبل كتابة هذه الصفحات التي نختمها بهذا الفصل — أن سيرة محمد عبده كانت إحدى السير التي يقع فيها الاستثناء القليل من هذه القاعدة، فإننا نزداد اكتفاء بأخباره العامة — عن أخباره الخاصة — كلما توسعنا في معرفتنا به ومعرفتنا ببواعث أعماله، كأننا نحس بعد التوسع في المعرفة بشخصيته أنها «شخصية» ولا شخصية، أو أن أعماله الخاصة هي أعماله العامة بغير حاجز من السر أو العلانية يفصل بينهما، فكل ما فيها من بواعث «الأنانية» والأثرة فهو فيها جنبًا لجنب إلى بواعث الإنسانية والإيثار.

يشوقنا كلما فهمنا عملًا من أعماله أن نراه ونتأمل صورته المشهودة، كأنما نسائل أنفسنا: أي طلعة تكون لهذا الإنسان الذي غاب يجمع نفسه وعقله في الشعور الإنساني، حتى كاد أن يخفى بشخصه عن عالم الملامح والقسمات، لولا أنه شخص عظيم لا يجوز عليه الخفاء.

نتطلع إلى رؤيته لنرى كيف تتمثل فيه هذه «الإنسانية» الصافية مطبوعة أمام النظر بطابع إنسان واحد، ولكننا لا نبحث كثيرًا بعد ذلك عما يعنيه؛ لأننا علمنا أن شئونه الخاصة لا تنعزل عن شئونه العامة، وأن قرابته في داره وجواره هي إحدى قراباته العامة، قرابته الإنسانية، وليست قرابة أخرى لها حال غير هذه الحال، ووجود غير هذا الوجود، وحجاب يتغير جانبه من هنا عن جانبه من هناك.

رأيت الشيخ محمد عبده مرات معدودة، ورأيته مرات لا تُحصَى في صوره الشمسية التي لا تلتبس إحداها ملامح صورة أخرى، فكانت النظرة الأولى كالنظرة الأخيرة إلى تلك الملامح فيما تنمُّ عليه وتشير إليه.

قوة وطيبة متفقتان لا يبين لك أنهما تنازعتا يومًا أو تتنازعان، فهو قوي لا ينازع طيبته نية من نياتها، وهو طيب لا ينازع قوته دافعًا من دوافعها، وهو أقرب الناس سمة بما يرتسم في أخلادنا من سمات النبوة، وهي في طلعتها الإنسانية بشر مثلنا، وإن لم نكن نحن بشرًا مثلها فيما تتلقاه من وحي الله.

قال عنه تلميذه وصديقه وأقرب الناس إليه في عامة أمره وخاصته، صاحب المنار السيد محمد رشيد رضا تغمدهما الله برضوانه: «إنه سليم الفطرة، قدسي الروح، كبير النفس، وصادف تربية صوفية نقية زهدته في الشهوات والجاه الدنيوي وأعَدَّتْه لوراثة هداية النبوة، فكان زيته في زجاجة نفسه صافيًا يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار.»

وافتتح ترجمته بعد وفاته بنحو عشرين سنة بقوله عنه: «إن هذا الرجل أكمل مَنْ عرفت من البشر دينًا وأدبًا ونفسًا وعقلًا وخلقًا وعملًا وصدقًا وإخلاصًا، وإن من مناقبه ما ليس له فيه ند ولا ضريب، وإنه لهو السري الأحوذي العبقري.»

وقال قبل ذلك: «إنني وايم الحق لم أطلع له على عمل إلا الحقيق بلقب المثل الأعلى من ورثة الأنبياء.»

وقال قبل ذلك: «إنني وايم الحق لم أطلع له على عمل ينافي العفة والنزاهة، ولا الورع والشرف، ولا هفوة تدل على كامن حقد أو حسد، فهو أكمل مَن عرفت من البشر، ومَن اطَّلَع على دخائل كثير من المشهوروين بالعلم والتقوى، أو الحكمة والفلسفة أو تاريخهم الصحيح، رأى كثيرًا من العجر والبجر، فما قولكم في زعماء السياسة وعشاق الرئاسة.»

وهذا السمت الذي وصفه صاحب المنار بعد الخبرة الطويلة هو السمت الذي كان يبده الناظر إليه من الغرباء عند النظرة الأولى، كما وصفه هارولد سبنسر كاتب حزب الأحرار الإنجليزي في صحيفتهم الديلي كرونكل بعد وفاته بأسابيع؛ إذ يقول عن لقائه له بدار صديقه عدو الاستعمار ويلفرد سكاوين بلنت:

هنا أمسك مستر بلنت عن الكلام والتفت فجأةً لسماعه وَقْع حوافر فرس، فقال: ها هو الرجل … فالتفت مثله، فإذا أنا بصورة إنسان يقول الناظر إليها إنها برزت من كتب الأنبياء الأقدمين، شيخ حسن البزة جهير يمتطي فرسًا عربيًّا كميتًا جميلًا، يُقْبِل نحونا على مَهَلٍ.

كانت له طلعة وسيمة مهيبة، تتوقد فيها عينان نفاذتان، على قامة معتدلة لا إلى البدانة ولا إلى النحول، أبيض اللون إلى سمرة، شائع الشيب في رأسه ولحيته قبل أوان المشيب، وبنيته على ما وصف به شبابه بنية رجل سليم الجسد مكين البنيان، تعرض في عنفوانه لتسمُّم سرى إلى الدم من دمل لم يُعقَّم، فنجا منه بمعجزة الجسد المكين والدم القوي والعزيمة الصادقة، وظلت عقابيله تعاوده فيما كان يعتريه من آلام المفاصل حينًا بعد حين، ولم تكن وفاته دون الستين بمرض من أمراض الهرم العاجل، ولكنه توفي من أثر سرطان في الكبد لم يتحقق منه الأطباء قبل استفحال الداء.

هذه هي شخصية محمد عبده لمَن تشوقه الشهرة المسموعة إلى الرؤية المشهودة، فإذا تطلع إلى الخبر الخاص من سيرته، فالذي يعلمه بعد البحث الطويل قليل، ولكن القليل فيه والكثير يستويان في التعريف بما يعنينا من تلك العظمة وما يعنيها: شخصية ولا شخصية، وإنسان له «أنانية» تخصه من بين جميع الناس، ولكنها كأنانية النوع الإنساني كله تحيزت بمكانها في فرد إنسان.

تُوفي عن زوجته اللبنانية السيدة رضا حمادة من آل بيت حمادة، ولم يعقب من الأبناء الذكور غير ولد واحد تُوفي في طفولته، وأعقب أربع بنات كانت إحداهن دون سن الزواج عند وفاته، وتزوج أخواتها بثلاثة إخوة، هم الأستاذ محمد يوسف المحامي، وشقيقاه الأستاذان عبد اللطيف وعثمان.

وكان له عند وفاته ثلاثة إخوة من أبيه، أصغرهم «حمودة بك» الذي رباه من طفولته وتولى عنه شئونه الخاصة التي لم يفرغ لها طول حياته، وهو الذي اشترى باسمه أرض الدائرة السنية التي كانت تُباع بالتقسيط، واشترى باسمه خمسة وثلاثين فدانًا من صحراء عين شمس كان الفدان منها يُباع بعشرة جنيهات، ثم بيع بعد ذلك بخمسة وأربعين بعد البدء بتعمير الصحراء. أما مسكن الشيخ محمد عبده بصحراء عين شمس فهو فدان من الأرض الخلاء تركه له المستشرق ويلفرد سكاوين بلنت يوم أُمِر بالسفر من الديار المصرية، وبنى عليه مسكنًا متواضعًا هو الذي اشترته وزارة الشئون الاجتماعية لتخليد ذكراه، ومن ثمنه سدَّد الورثة ما بقي من أقساط الثمن على الأرض التي اشتراها أخوه في حياته، وقد كانت الأسرة تملك نحو أربعين فدانًا من أرض البحيرة المثمرة، فلم يجتمع في يديه من ميراثه ومن مرتباته وأثمان مؤلفاته غير ذلك المقدار اليسير من المال، الذي يكفي لشراء الفدادين من أرض في الصحراء أو أرض تُباع بالتقسيط.

•••

وهذا المصلح المحسن الذي لم يفارقه شعور الحاجة قطُّ ليغني ذوي الحاجات، لم يخامره الشعور بالحاجة يومًا ليطلب الغنى بما تملكه الأيدي ويُحفَظ في صكوك المواريث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤