الفصل الثالث

أفرغت كوب البيرة ووقفت، وتناول رمزي كتابه. وسأل توفيق: إلى أين؟ قال رمزي إننا وعَدناكامل بزيارة معرضه. وتركنا توفيق على رصيف المقهى، ومشينا إلى ميدان التحرير. قال رمزي إنه كفَّ عن الكتابة منذ مدة؛ فلا أحد يريد أن ينشر له شيئًا. عبرنا ميدان التحرير وانطلقنا فوق الكوبري إلى الجزيرة. لم يكُن بصالة العرض أحد غير كامل نفسه جالسًا أمام دفتر كبير أُعد لتُدوَّن به ملاحظات الزائرين، وكانت لوحاته تغطِّي عدة جدران وكلها عن السد العالي، وبعضها كان اسكتشات صغيرةً للنيل والآلات وهي تنتزع الصخر من الجبل، ولمبنى محطة الكهرباء الضخم. توقَّفت أمام لوحة كبيرة لم تكُن بها غير خيوط ملوَّنة كخصلة شعر هائلة تقترب من بعضها في أحد الأمكنة وتكاد تتلامس، ثم تتباعد فجأةً وهي في حالة تموُّج وحركة طول الوقت. غادرنا المعرض أخيرًا بعد أن كتبنا عدة كلمات في دفتر صاحبه. اتجهنا إلى الكوبري وكان رمزي يتحدَّث طول الوقت. وتوقَّفنا أمام أحد الأسدَين اللذَين يقومان على حراسة طرفَي الكوبري. انحنى رمزي ليتأكَّد من أنه لا يوجد بين ساقَي الأسد شيء. وواصلنا السير فوق الكوبري. كانت الشمس قد غابت. وعندما بلغنا الميدان قلت إني متعب وسأعود إلى منزل أخي. قال إن لديه موعدًا في وسط البلد. افترقنا وسرت إلى محطة الأوتوبيس وركبت سيارةً لم تمتلئ بعد، فاخترت مقعدًا بجوار النافذة، ونزلت في محطتي. أخذت علبة سجائر من البقال، ثم اشتريت قطعة شوكولاتة لابنة أخي. عبرت الشارع إلى المنزل، وفتحت لي نهاد فأعطيتها الشوكولاتة. قالت إن بابا لم يعُد بعدُ وإن ماما في المطبخ. مضيت إلى غرفتي فأضأت نورها وأقنعت نهاد بأن تتركني، ثم أغلقت الباب وجلست أمام المكتب. أخرجت المفتاح من جيبي وفتحت الدرج وأخذت كراستي. أمسكت بالقلم وجلست أتأمَّل الصفحة البيضاء دون أن أكتب شيئًا. فتحت زوجة أخي الباب وقالت إن إنصاف سألت عني، وإن أخي تكلَّم الآن وقال إنه سيتأخَّر، وقالت إنه كلَّمها ثلاث مرات في الصباح عندما كانت في الشركة. غادرتني لحظة، ثم عادت وقالت إنها تريد أن تخرج، وسألتني إن كنت أُحب أن آتي معها. أغلقت كُراستي وأعدتها إلى الدرج وأغلقته بالمفتاح. وضعت المفتاح في جيبي، وأطفأت النور. وكانت نهاد قد نامت فغادرنا المسكن، ومشينا في الشارع. سألتها أين تحب أن تذهب. قالت: أي مكان ما دمت معك. سرت في اتجاه كازينو ميريلاند وقلت: ربما وجدناه مفتوحًا ففيه صالة شتوية. مرَّ بنا بائع ياسمين فابتعت حلقةً منه قدَّمتها إليها، فجعلت منها سوارًا لمعصمها. وكان المارة يتطلَّعون إلينا وإلى سوار الياسمين في يدها. قالت: أصبحنا نُشبه العشاق. وسألتني: ماذا فعلتَ مع الفتاة؟ قلت: ذهبتُ بها إلى منزل أحد أصدقائي ولم يحدث شيء ذو بال، ولم أكُن سعيدًا. قالت: لماذا؟ قلت: لا أعرف. وجدنا الكازينو مفتوحًا وجلسنا في صالة زجاجية بجوار بركة صغيرة. وضعت زوجة أخي يدها أعلى يدي وأشارت إلى البركة. قالت وقد ارتفع حاجباها: انظر إلى البط. سألتها عن سبب الشجار الذي نشب بينها وبين أخي منذ أسبوع. قالت: لا شيء. قلت لها إني أحبُّها منذ رأيتها لأول مرة، بل قبل أن أراها. قالت: كيف؟ قلت: من خطابات أخي إليَّ؛ فلم يكُن يمل الحديث عنك. ضغطَت على يدي. قلت: هيا نقوم. نهضَت قائلة: تريد أن تقبِّلني؟ دفعت الحساب وغادرنا الكازينو. مشينا في الشارع الهادئ. أمسكت يدها في يدي وقرَّبتها مني. سحبَت يدها بعد تردُّد وهي تتطلَّع حولها. قالت: ربما رآنا أحد. كان هناك شارع مهجور إلى اليسار فاتجهنا إليه. وضعت يدي على كتفها وقرَّبت وجهها مني لكني لم أقبِّلها؛ فقد ظهرت سيارة كبيرة من سيارات الشرطة. ابتعدت عني، وتابعنا السيارة وهي تمر بنا، وحدَّق رُكَّابها من الجنود فينا. اختفت السيارة ودرنا عائدَين. وقالت: احذر أن تذكر شيئًا عنا لأحد. وتطلَّعَت إلى ساقي، ثم قالت إنها سعيدة. قلت: أنا أيضًا. تشمَّمت الهواء بشدة وكنت أعرف كيف أُميِّز انتهاء الشتاء ومقبل الربيع من رائحة الهواء. قالت: أُريدك أن تفعل بي كل ما تريد. تطلَّعت في عينَيها. كان فيهما شيء يهرب مني، ولم ترقني ابتسامتها، وعندما اقتربنا من المنزل طلبت منها أن تسبقني كي لا يرانا أخي ندخل سويًّا. وطفت أنا بالشوارع المحيطة بالمنزل عدة مرات، ثم تبعتها. وجدت أخي أمام التليفزيون في الصالة، وكان غاضبًا. حيَّيته وذهبت إلى غرفتي، ولمحت غرفة زوجة أخي مضاءةً وبابها مغلقًا. أغلقت باب حجرتي وخلعت ملابسي، وأطفأت النور. تمدَّدت على الفراش أدخِّن في الظلام، وكان ضوء الصالة يبدو من زجاج باب الغرفة، وبعد قليل انطفأ، وأنصَتُّ لوقع أقدام أخي وهو يدخل غرفته، وساد الظلام الشقة. قمت ففتحت الباب وذهبت إلى المطبخ، وفي الطريق ألقيت نظرةً على باب غرفة زوجة أخي فوجدته مغلقًا والغرفة مظلمة. شربت كوبًا من الماء، ثم عدت إلى حجرتي وتركت الباب مواربًا. ظَلِلت مستيقظًا طوال الليل، ثم نمت قليلًا قبل الفجر. واستيقظت على صوت التليفون. خرجت إلى الصالة ولم يكُن هناك أحد بالشقة.
رفعت السمَّاعة فجاءني صوت زوجة أخي، قالت إنها ستغادر الشركة مبكِّرةً وتذهب إلى الكوافير، ثم تأخذ نهاد من المدرسة إلى خالتها، وسألتني إذا كنت سأخرج. قلت: لماذا السؤال؟ قالت لنتغدَّى سويًّا لأن أخي كلَّمها الآن وقال إنه سيأكل في الخارج ولن يعود إلا بالليل. قلت إني سأنتظرها وسأدعوها إلى أكلة سمك. قالت: لم تقُل لي شيئًا اليوم. قلت: أحبك. استحممت وأفطرت وألقيت نظرةً على عناوين الصحف، ثم خرجت فاشتريت سمكًا مشويًّا وسجائر وعدت إلى المنزل فأعددت كوبًا كبيرًا من القهوة، ثم أشعلت سيجارةً وتمدَّدت في فراشي. قمت بعد قليل فأعددت المائدة، وصنعت طبقًا من سلاطة الطحينة التي أُجيدها. ودقَّ جرس الباب أخيرًا دقات سريعةً متتابعة، فجريت أفتح. قالت بزهو: سمعتك تجري! حاولت أن أقبِّلها فتخلَّصت مني، وقالت إنها تشعر بجوع شديد. جلسنا نأكل، ولم نأكل كثيرًا، وقمت أغسل يدي. تبعتني، ثم دخلت غرفتي أبحث عن علبة السجائر. جاءت خلفي قائلة: أعطني سيجارة. وجلست على المقعد المجاور لفراشي. أشعلت لها سيجارةً وجلست على حافة الفراش أدخِّن، وكانت ترقب ارتعاش أصابعي. قالت: حدِّثني عن الفتاة. ثم نظرت إلى ساعتي وقالت: الوقت يمر بسرعة. انتقلت إلى جواري. احتضنتها بساعدي وقبَّلتها في فمها، وكانت رائحته حلوة، ثم رقدنا فوق الفراش. قالت: هل يمكن أن ينام اثنان متجاورَين دون أن يحدث بينهما شيء؟ اعتدلت جالسًا، وقامت هي فخلعت بلوزتها وشدَّت الجونلة إلى أسفل، وظلَّت بقطعتَين داخليتَين من الدانتيلا البيضاء. طلبَت مني أن أُغلق باب الغرفة بالمفتاح ففعلت. وخلعت ملابسي دون أن أعطيها ظهري حتى أصبحت عاريًا تمامًا. كانت قد استلقت على الفراش وجذبت ملاءةً فوقها. جلستُ على حافة الفراش أتحسَّس وجهها بأصابعي، وقبَّلت شفتيَها وكانتا ناعمتَين ساخنتَين، وقبَّلت ذراعَيها، وشممت إبطها، وقبَّلت شعره وكانت رائحته نظيفة. وأردت أن أراها وأقبِّلها عارية، فتصلَّبَت وقالت إنها لا تحب ذلك. وحانت اللحظة وتولَّت هي قيادتي. طلبت مني أن آخذ حذري لأنها غير واثقة من مواعيدها. وعندما أحسست أني أفقد السيطرة على نفسي ابتعدت عنها. قمت وأشعلت سيجارةً وتحوَّلت هي على جانبها الأيمن، ودلَّت ذراعها خارج الفراش. جلست بجوارها وداعبت رقبتها بيدي فنحَّتها في عنف. أشعلت لها سيجارة، ثم تمدَّدت بجوارها. وعدنا من جديد. وعندما أردت أن أبقى على جانبي جذبتني حتى أصبحت فوقها، وبعد لحظة قمت ففتحت باب الغرفة وذهبت إلى الحمَّام، ودق جرس التليفون فجأة. سمعتها تقفز من الفراش وتنطلق إلى الصالة. مضيت وراءها ووقفت بجوارها. كان أخي هو الذي يتكلَّم. قالت له إنها أكلت وإني موجود. احتضنتها من الخلف وقبَّلت ظهرها العاري. سمعت أخي يقول إنه افتقدها طول اليوم. قالت له إنها ستتفق معي ونذهب جميعًا إلى السينما. ثم وضعت السمَّاعة وجرت إلى الفراش فتغطَّت بالملاءة، وقالت إنها تشعر بالبرد. تمدَّدت بجوارها لأدفِّئها. وتردَّدت على الحمام عدة مرات، وفي إحدى المرات سألتها إن كانت تحبُّني، فقالت إنها لا تعرف. وفي آخر مرة أحسست أني متعب للغاية، ولم أستطِع الحركة. وقالت إن الوقت تأخَّر ولا بد أن نُسرع لنلحق بأخي على باب السينما. وقامت ترتدي ملابسها بينما ظَلِلت ممدَّدًا على الفراش، وتأمَّلتها تُثبت المشد فوق ثديَيها. طلبَت مني ألَّا أنظر إليها. وكان المشد جديدًا ناصع البياض. تشمَّمت ساعدَيها وقالت إن رائحتي تغطِّيها، وربما شعر بها أخي. قلت إن رائحة الأسرة كلها واحدة. وقالت: لماذا أنت مكتئب؟ قلت: لا شيء. انحنت أمام المرآة تتأمَّل عينَيها وقالت: لو رآني أحد الآن لعرف أني كنت أحب. وقالت في زهو وهي تَعُد على أصابعها: ست مرات. قلت في صوت ضعيف: أربع فقط. قالت لا، ست. قلت إني أشعر بجوع شديد. قمت فارتديت ملابسي وذهبت إلى المطبخ فأكلت سندويتشًا. تبعتني هي بعد لحظة وكانت قد سوَّت شعرها وصبغت شفتَيها، ورفضت أن تأكل. ثم خرجنا وأخذنا تاكسيًا إلى السينما. وكان أخي قد دخل وترك لنا تذكرتَين عند الباب. ووجدناه غاضبًا لأننا تأخَّرنا. وجلسَت زوجة أخي بيننا، وكان العرض لفيلم «الزيارة» المأخوذ عن مسرحية دورينمات. استرخيت في مقعدي، وبعد قليل مدَّت زوجة أخي يدها ووضعتها في يدي. ضغطت على يدها وأنا أحاول أن أتبيَّن وجه أخي في الظلام، ولمحته يمد يده ويتناول يدها الأخرى، ثم استغرق في متابعة الفيلم. وكان أنتوني كوين رائعًا في دور ميلز. والكلمة الوحيدة التي قالها دفاعًا عن نفسه: إنما أنا إنسان. أمَّا العقاب الذي أنزلته به كارلا فهو أن يعيش بين الناس الذين باعوه. وعندما سألني أخي ونحن نغادر السينما عن رأيي في الفيلم قلت إننا جميعًا نعيش بين أقارب وأصدقاء وأحباء دون أن نعرف أنهم يمكن أن يبيعونا بسهولة. وقال أخي إنه لا يصدِّق أن هذا يمكن أن يحدث!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤