الفصل الخامس

انتهينا من طعام العشاء. قالت زوجة أخي إنها أعدَّت لنا الليلة مفاجأة، وقامت إلى الصالة وفتحت الثلاجة وأحضرت طبقًا كبيرًا من الحلوى يتألَّف من عدة أشياء تبيَّنتُ منها المشمش المطهي والكريمة. قالت إنها تقضي الوقت كله في الشركة، الآن تفكِّر في مثل هذه الأطباق. وكانت فيما قبلُ توشك على البكاء أحيانًا لأنه لا يوجد ما تعمله. وقالت إنها توَد لو تنقطع عن العمل وتبقى في البيت فليست هناك جدوى من ورائه. كان المشمش لذيذًا وأوشكنا أن نأتي عليه، فأخذَت زوجة أخي جانبًا منه واحتفظت به لنهاد كي تأكله في الغد. ووضع أخي طبقه الفارغ على المائدة وتنهَّد راضيًا. قال إن مديره الجديد باع اليوم صفقةً ضخمةً لأحد تُجَّار القطاع الخاص بأكلة سمك. كان الجو حارًّا على غير العادة، وكانت زوجة أخي ترتدي بلوزةً بغير أكمام تكشف عن ذراعَيها. قدَّمت سيجارةً لأخي وأخرى لها وأشعلت واحدة. وغادر أخي المطبخ إلى الصالة، وحملت صحني الفارغ ووضعته في الحوض. وهممت بتنظيفه فقالت زوجة أخي إنها ستترك كل شيء للصباح لأن الخادمة ستأتي في الغد. اقتربت منها وانحنيت على ذراعها فصعدت عليه بشفتَي حتى كتفها. أغمضَت عينَيها ومالت عليَّ، ثم ابتعدت فجأةً عندما سمعنا وقع أقدام أخي. وقف بباب المطبخ وقد ارتدى روبًا فوق بيجامته. تمطَّى ووضع يده على بطنه وقال إنه أكل الليلة جيدًا ويشعر بالسعادة. اقترب من زوجته وأحاطها بساعده وقال إنها الليلة جميلة للغاية، وكانت بلوزتها الوردية في لون خدَّيها. غادرتُ المطبخ إلى الحمام فغسلت يدَي وفمي وعدت إلى الصالة، وكان أخي ما زال بالمطبخ. أشعلت سيجارةً جديدة، وجلست على مقعد أمام التليفزيون. كان هناك فيلم لوالت ديزني عن حيوان اللمنج والانتحار الجماعي الذي يمارسه؛ ففي كل سنة يزحف إلى حافة الجبل ويلقي بنفسه إلى المحيط تاركًا بقيةً منه تتناسل وتحفظ النوع لتتكرَّر المأساة في العام التالي. جاء أخي من المطبخ، وقال إنه يشعر بالنعاس وسيدخل لينام. أطفأت الجهاز وذهبت إلى حجرتي فأضأت النور وأغلقت الباب خلفي، ثم تناولت مجلةً وتمدَّدت على الفراش، وبعد لحظة وضعت المجلة جانبًا، وقمت فأطفأت النور وأشعلت سيجارةً ووقفت في النافذة، ثم عدت إلى الفراش فجلست على حافته. كانت الشقة غارقةً في الظلام فيما عدا المطبخ، وسمعت صوت زوجة أخي وهي تُخرج صفيحة الفضلات من باب الخدم ثم تُغلقه، ثم انطفأ نور المطبخ وأُضيء نور الصالة، وسمعتها تتأكَّد من إغلاق الباب الخارجي، ثم أطفأَت نور الصالة ودخلَت الحمام. وتابعت صوت قدمَيها بعد أن أطفأَت نور الحمَّام وألفيتها تتجه إلى حجرتها. تمدَّدتُ على الفراش وألقيت برماد السيجارة بجوار الحائط، وسمعت وقع أقدام خفيفة. وضعت سيجارتي في المنفضة، ثم قمت إلى الباب وأدرت مقبضه في حذر شديد، جذبته قليلًا، وسمعت همسًا أمام باب زوجة أخي؛ كان يتوسَّل إليها أن تفتح، وسمعتها تقول إنها متعبة وإن نهاد مصابة ببرد. ارتفع صوت أخي ساخطًا، ثم سكت، وسمعت صوت باب يُفتح ثم يغلق، وساد الصمت تمامًا. بقيت واقفًا أحدِّق في الظلام، ثم أغلقت باب حجرتي في هدوء وعدت إلى الفراش. تناولت السيجارة التي كانت قد أوشكَت على الانطفاء واختفت جذوتها، فأخذت منها نفسَين سريعَين أعادا إلى الجذوة توهُّجها. دخَّنت حتى انتهت السيجارة فضغطتها في المطفأة، وبعد قليل سمعت بابًا يُفتح، وأُضيء نور الحمام، وسمعت صوت انسياب المياه في الحوض، ثم صوت قدمَي أخي في الطريق إلى حجرته. انطفأ نور الحمام بعد قليل، وسمعت صوت بابه يُغلق في رفق، وتبعه باب حجرة زوجة أخي بعد لحظة. قمت إلى النافذة فأغلقتها وعدت إلى الفراش، فبسطت الملاءة ودخلت تحتها ونمت، واستيقظت في الصباح على صوت الخادمة وهي تغسل الأطباق في المطبخ. اغتسلت وارتدَيت ملابسي وخرجت إلى الجريدة. اشتريت قطعة بسكوت أكلتها وأنا أصعد السلَّم إلى مكتبي. وشربت فنجانًا من القهوة. حرَّكت التليفون بحيث أصبح أمامي مباشرة. أشعلت سيجارةً وتناولت الصحف.
دقَّ جرس التليفون فرفعت السماعة. قالت زوجة أخي: لماذا لم تتصل بي حتى الآن؟ قلت: كنت مشغولًا. سكتت لحظة، ثم قالت: ماذا بك؟ قلت: لا شيء. قالت: لماذا تكلِّمني هكذا؟ قلت إني مشغول الآن وسأتركها. قالت: أنت وقح! ووضعت السمَّاعة في شدة. أعدت سماعتي أنا الآخر. دقَّ الجرس من جديد ورفعت السمَّاعة، وعندما تبيَّنت صوتها أعدتها إلى مكانها في عنف. أتممت قراءة الصحف وأشعلت سيجارةً جديدة، ثم غادرت مكتبي إلى الطريق. مشيت إلى شارع محمد فريد حيث تعمل دور السينما طول اليوم. اخترت واحدةً بها فيلمَين؛ أحدهما اسمه «الكابتن فراكاس»، والثاني اسمه «ماشيست والشيطان». وخرجت من السينما بصداع، فاشتريت أسبرين وعدت إلى الجريدة فأخذت قرصَين وشربت فنجانًا من القهوة، وبدأت أعمل. وجاء مصطفى وقال إن زوجة أخي سألت عني مرَّتَين، فقلت إني سأتصل بها واستأنفت العمل. دقَّ جرس التليفون وكانت هي. قالت بهدوء شديد: أريد أن أراك الآن. قلت: عندي عمل. قالت: تعالَ خمس دقائق وسأُعطيك أجرة التاكسي. تردَّدت لحظة، ثم وافقت. غادرت الجريدة وأخذت تاكسيًا إلى مصر الجديدة وصعدت إلى الشقة. طرقت الباب ففتحَت لي بنفسها، وشعرت أن هناك شيئًا غير عادي، ثم أدركت أن النوافذ جميعها مغلقة، وأن لا أحد آخر بالمنزل. خطوت إلى الداخل، وتنحَّت زوجة أخي عن الباب. ثنَّت ساعدها الأيسر ووضعت يدها في خصرها، ثم رفعت يدها اليمنى وهوَت بها على وجهي وهي تغلق الباب خلفي في نفس الوقت. قالت إن أحدًا لم يغلق تليفونًا في وجهها من قبل، وإنني أحتاج إلى تربية. جلست على مقعد وأخرجت علبة سجائري فأشعلت سيجارةً وقلت: ناحية واحدة لا تكفي. قالت: تمام. وصفعتني على خدي الآخر، ثم ارتمت فوقي تحتضنني وتُقبِّلني، وقالت إنها لو لم تكُن تحبُّني لانتهى كل شيء. حاولت الوقوف فتشبَّثت بي، لكني تمكَّنت من الوقوف وقلت إني ذاهب. قالت: سآتي معك. غادرت الشقة وتبعتني وسارت بجواري. أشعلت سيجارةً أخرى، وقلت إني عائد إلى الجريدة. قالت: سآتي معك. قلت: لا. ناديت تاكسيًا وفتحت الباب ودخلت وأغلقته خلفي وتركتها في الطريق. عدت إلى الجريدة فشربت فنجان قهوة، وكانت علبة سجائري قد فرغت، فأرسلت أشتري واحدة، ثم غادرت الجريدة إلى الشارع ومشيت قليلًا. كان الزحام شديدًا، وعبرت الطريق في مكان خطأ، فأمسكني ضابط مرور من ذراعي وطلب مني بطاقتي، أعطيتها له وأخذني إلى كشك قريب فدفعت ٢٥ قرشًا غرامة. واصلت السير، ثم بحثت عن تليفون. وجدت رمزي في منزله، وقلت له إني أريد أن أقضي الليلة معه. لم يعترض فاتجهت إلى محطة المترو، وركبت إلى منزله ومشيت من أمام المنزل الغريب وواجهته الزجاجية، وكانت مغطاةً بباب معدِني. صعدت إلى مسكن رمزي وفتح لي الباب. سألني عن الأخبار، قلت: لا شيء. قال: هل ستقع حرب؟ قلت: لا أعرف. قال إنه يود لو يحدث شيء يكسر هذا الروتين، وقال إنه ضاق بكل شيء ويود لو يسافر. قلت إني متعب وأريد أن أنام. أعطاني بيجامةً واستلقيت على أريكة في الصالة، وفي الصباح ذهبت إلى الجريدة بعد أن أعطاني مفتاحًا لمسكنه. اتصل بي أخي وسألني أين كنت؟ فقلت إني قضيت الليلة عند رمزي، وربما أبيت عنده هذه الليلة أيضًا، وأعطيته رقم تليفون رمزي ليتصل بي حينما يشاء. دقَّ التليفون بعد قليل فرفعت السماعة وقلت: أيوه. لم يأتِني صوت. سمعت صوت تنفُّس في الطرف الآخر قبل أن توضع السماعة برفق. ظَلِلت معلِّقًا السماعة بأذني، ثم أعدتها إلى مكانها. وعند الظهر غادرت الجريدة وذهبت إلى منزل إنصاف. وجدت عندها صادق وزوجته، وكانوا يتحدَّثون عن احتمالات الحرب. قال صادق إنها ٨٠ بالمائة. قالت إنصاف: الظاهر لا مفر منها. سألني صادق عن رأيي فقلت: لا أعرف. تناولنا طعام الغداء وكان وجه زوجة صادق يحمرُّ كلما نظرت إليها. قال إنه سيبقى ليسمع الخطاب السياسي الذي سيُذاع بعد الظهر. دخلت غرفةً جانبيةً وتمدَّدت بملابسي على أريكة ورحت في النوم. واستيقظت بعد ساعتَين. كانت الخادمة قد انصرفت فأعددت لنفسي فنجانًا من القهوة. وجدت صادق وزوجته وإنصاف في الصالة أمام التليفزيون ومعهم قريبة بعيدة لإنصاف. وعندما بدأ الخطاب تابعه صادق بحماس وهو لا يكف عن الحركة، وقام ليطفئ سيجارته، ونظرت إلى ساقه وفوجئت به مشدودًا. انتهى الخطاب وانصرف صادق مع زوجته. أردت أن أذهب فطلبَت مني إنصاف أن أبقى قليلًا، وقالت إنها لا تطيق النساء وأحاديثهن. وكانت قريبتها منهمكةً في مشاهدة التليفزيون. خرجت بعد قليل فمشَيت إلى منزل رمزي ولم أجده. خلعت ملابسي وأخذت حمامًا ساخنًا، ثم ارتديت البيجامة وأعددت كوبًا من الشاي وتمدَّدت على الأريكة في الصالة. تناولت روايةً بوليسيةً وجدتها بجوار التليفون، وقرأت حتى جاء رمزي أخيرًا. قال إنه متعب وإنه شرب ثلاث زجاجات بيرة، وقال إنه كان على موعد مع فتاة روسية وجاءت متأخِّرة وجعلت طول الوقت تتلفَّت حولها مذعورةً خوفًا من أن يراها أحد من أبناء بلدها. ودخل حجرته. أطفأت النور وتمدَّدت فوق الأريكة أدخِّن في الظلام. دقَّ جرس التليفون. رفعت السماعة، ومرت فترة صمت، ثم جاءني صوت زوجة أخي. قالت إنها لا تستطيع النوم. قلت: أنا أيضًا. قالت إنها آسفة رغم أنها لم تخطئ في شيء. قلت إني أحبُّها وأود أن أراها على الفور. اتفقنا على أن نلتقي في الغد بمنزل رمزي. وضعت السماعة وأكملت سيجارتي، ثم نمت. وفي الصباح ذهبت إلى منزل أخي ولم يكُن هناك أحد، فحلقت ذقني وأبدلت ملابسي وأفطرت، ثم ذهبت إلى الجريدة. واتصل بي رمزي قبل الظهر، قال إن معه سائحةً تريد أكبر عدد من الرجال، وقال إنه التقى بها في الموسكي، وإنها تبدو فوق الأربعين، وربما كانت سويدية. قلت إني قد آتي. وبعد ساعة غادرت الجريدة واشتريت كيلو لحم وانطلقت إلى منزل رمزي. فتح لي بملابسه الداخلية وقال إني أستطيع الذهاب إليها الآن. كان باب غرفته موصدًا فدفعته ودخلت، وكانت ممدِّدةً فوق الفراش وقد تغَّطت حتى ذقنها. جلست على مقعد بجوارها وقدَّمت لها سيجارة. كان شعرها رماديًّا وإن خلا وجهها من التجاعيد. سألتها عن بلدها فقالت إن هذا لا يهم، وقالت إنه يحسن بي أن أخلع ملابسي لأنها بدأت متأخِّرة. صعدت بجوارها ورفعت الملاءة عنها، وتمدَّدت فوقها أتأمَّل شعرةً وحيدة فوق شفتها، ثم أدركت أني انتهيت بسرعة، وأبقت هي عليَّ داخلها، ثم بدأت تأتي في اهتزازات حادة وأنا أتأمَّل عينَيها اللتَين غابت الرؤية منهما، وعندما كفَّت ابتعدت عنها. طلبَت مني أن أبعث إليها بصديقي. أخذت ملابسي إلى الصالة وألقيت بها على مقعد، ثم دخلت الحمام واغتسلت جيدًا، وعندما خرجت وجدتها ترتدي ملابسها في الصالة، وبدت طويلةً للغاية وثدياها متهدلَين وحافة مشدهما الأبيض صفراء. تمطَّت وقالت إنها تشعر بالرضا التام. وصحبها رمزي إلى الخارج بعد أن اتفقنا على موعد عودته، ثم ذهبت إلى المطبخ ووضعت قطعةً من اللحم على النار، وأعددت طبقًا من السلاطة وأكلت وأنا أقرأ الصحف، ثم نمت قليلًا. وقمت فصنعت فنجانًا من القهوة. دقَّ جرس الباب أخيرًا، ففتحت لزوجة أخي. قالت إنها تعرَّفت على البيت بسهولة؛ فقد سكنَت هي وأخي في هذا الشارع نفسه في بداية زواجهما. لم يكن لديهما وقتها ثلاجة أو شيء على الإطلاق. قلت إن أخي لم يذكر هذا في خطاباته لي. أغلقت الباب بالمفتاح، ثم تبعتها إلى الداخل، وأغلقت المصراع الخشبي لنافذة الصالة. طلبَت مني أن أُشعل لها سيجارة، فأحطتها بذراعي. قالت إنها تريد أن تذهب إلى الحمام أولًا. أرشدتها إليه، وأحضرت ملاءةً نظيفةً من دولاب رمزي. نزعت ساعتي ووضعتها على مائدة بجوار الأريكة، وخلعت ملابسي. تمدَّدت على الأريكة في انتظارها. جاءت بعد لحظة، وطلبت مني أن أطفئ النور حتى تخلع ملابسها. قلت إني أريدها أن تخلعها في الضوء، فرفضت. أطفأت النور وبقي نور الحمام هو المصدر الوحيد للضوء. وانضمَّت إليَّ فوق الأريكة. حاولت أن أجعلها فوقي، قالت إنها تتألَّم إن لم تكُن على ظهرها، ثم رقدت ساكنةً وأنا فوقها. ظلَّت بلا حراك حتى أوشكت أن أفقد نفسي، فبدأت ترتعش، لكني كنت قد انتهيت. احتضنتني وقالت: لا تهتم. قمت وأضأت النور. اعتدلَت على جانبها ونزعت خاتم الزواج الذي يحمل اسم أخي من أصبعها، وتناولت أصبعي وثبَّتته فيه. ظَلِلت أتطلَّع إلى الخاتم في أصبعي في سكون، وقبَّلتني وهي تهمس: أحبك. جذبتني فوقها واحتضنتني في قوة. راقبتها وهي تتحرَّك ثم تتقلَّص وترتعش، ثم طوَّحت بذراعها في عنف، وأمسكت بساعدي وضغطت عليه في وحشية حتى تألَّمت، ثم نحَّتني عنها في قوة وأعطتني ظهرها. اعتدلَت بعد قليل وقالت: أين كنت؟ وقالت إني كنت أتفرَّج عليها، وإني لن أكف عن الشك في أنها تمثِّل طول الوقت. وقالت: كيف يمكن أن تمثِّل امرأة هذه المتعة؟ مددت يدي أمامي وتطلَّعت إلى أصبعي فوجدت الخاتم قد سقط منه. قالت بعد قليل إنها ربما تعمَّدت أن تهرب مني في تلك المرة التي تشاجرنا فيها لأنها كانت تشعر بآلام في ذلك الجزء من جسمها، وقالت إن أخي يشك في أن لها علاقةً بشخص ما، وإنه يفتِّش دولابها بحثًا عن دليل، وقالت إنها أشفقت عليه أول أمس فقد شعرت أنه يحتاج إليها، وقالت إنها ربما هي التي تحتاج إليه، وقالت إنها تريد أن تترك العمل وتلزم المنزل، وإنها اليوم أعطت المدير درسًا قاسيًا عندما حاول أن يلمس صدرها. وقالت إن الرجل الذي يسكن الشقة المقابلة لنا ينتظرها دائمًا على السلم كل يوم، وقالت إنها تتمنَّى أن يخلِّدها أحد في كتاب، وقالت ضاحكةً إن لديها الآن كل شيء؛ الزوج والعشيق والطفلة، ولا ينقصها غير سيارة. قلت أنا فجأة: عندما كنت صغيرًا جدًّا دخلت غرفة أبي ذات صباح فوجدته يداعب أمي في الفراش وهما يضحكان، فتسلَّلت إلى سترته وأخذت كل ما بها من نقود وأخفيتها، ونلت علقةً ساخنةً منه بعصًا كان يسمِّيها فاطمة، ويحتفظ بها فوق الدولاب. وقلت إن أبي كان وقتها صارمًا، ولا بد أنه كان قد أحيل إلى التقاعد؛ فقد كان يقضي اليوم كله في البيت، وكانت لديَّ سيارة صغيرة أدور بها في الشقة طول اليوم، وعندما يأتي موعد نشرة الأخبار كان أبي يجلس في الصالة أسفل الراديو، وأُضطر إلى التوقُّف، وأنتظر في سيارتي على باب الصالة وأنا أتطلَّع إلى وجهه في صبر نافد حتى تنتهي النشرة ويغيِّر المذيع نبرة صوته ويبدأ في تلاوة أسعار القطن، فأستعد للانطلاق بسيارتي، ولا بد أني كنت أحسب ذلك من المتاعب التي يواجهها أصحاب السيارات في الشوارع الحقيقية. وتوقَّفتُ فجأةً عن الكلام؛ فقد شعرت بها تبحث عن شيء، ورأيتها تتناول الخاتم الذي سقط خلف الأريكة، ثم جذبت مشدها من المقعد المجاور وارتدته، وقالت إنها يجب أن تذهب الآن كي تأخذ نهاد من عند الجيران، وقبل أن يعود أخي. ارتدينا ملابسنا، ومشَّطَت شعرها أمام مرآة الحمام، وقالت إن أخي يريدها أن تقصه لكنها تفضِّله طويلًا هكذا. وتناولَت حقيبتها. أطفأنا الأنوار واتجهنا في الظلام إلى الباب. سألتني: ألَا يُحتمل أن يعود رمزي الآن؟ قلت إنه لن يعود قبل ساعة أخرى. فتحَت الباب فأغلقَته بكتفها واستدارت إليَّ قائلة: قبِّلني. قبَّلتها وغادرنا الشقة. أغلقت الباب خلفي وهبطنا السلم، وعند باب المنزل تقدَّمتها إلى الخارج بعد أن أشرت إليها بالانتظار، وخرجت إلى الشارع فتلفَّتُّ حولي. كان خاليًا من المارة. دقَّقت النظر في الأركان المظلمة، ثم سرت إلى نهايته وانتظرتها حتى لحقت بي. قالت: أخشى أن يقابلنا صديقك. وانكمشَت على نفسها عندما اقتربت منا سيارة وسقطت أنوارها الأمامية علينا. ناديت تاكسيًا وقلت إني سألحق بها بعد قليل. انتظرت حتى ابتعدت السيارة فاتجهت إلى شارع المطار. كان خاليًا تمامًا إلا من السيارات التي انتحت جانبَيه وقد أظلمت أنوارها، بينما ظلَّت محرِّكاتها دائرة. سِرت طويلًا وكان الهواء قد بدأ يميل إلى البرودة، وكنت ألمح برج المطار بعيدًا أمامي والكشَّاف الدوَّار في أعلاه. ظَلِلت أسير حتى شعرت بالتعب، فاستدرت عائدًا وسرت إلى أقرب محطة أوتوبيس وركبت إلى منزل أخي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤