الخاتمة

كان البحر هادئًا وسفينة النور تتأهب للسفر بتلك الطائفة إلى غير هذه البلاد.

وكان عند الشاطئ خلق كثير من تلك الطائفة، وبينهم أميري ملك النَّوَر أي روجر، وجان دي فرانس، وشمشون، وجميع رجال الطائفة ونسائها وأولادها، وقد أحدقوا جميعهم بملكهم الجديد بعد جان، فاسترعى مسمعهم ووقف بينهم فقال: أيها الإخوان، إني جمعتكم هنا لأن ساعة الرحيل قد دنت، وسترفع سفينتنا مراسيها.

أيها الإخوان، إن الله إلهنا وإله جميع الناس قد وضع كلًّا من مخلوقاته في الموضع الذي خصه به، فقال للنسر: إنك ستحلق في الفضاء وتحلق بجناحيك وتجعل الهواء مملكتك.

وقال للرجل: إنك ستنشئ المدن وتؤسس الممالك.

ولكنه قال للنوري: إنك ابن البَرِّيَّة، وإن هواء الحرية كان عاصفًا حين مولدك، فكانت الرمال تثور على خيمتك والرياح تقتلع أطنابها وأنت بعيد عن المدن والقرى.

غير أني منحتك نظر النسر النافذ، وقوة الجواد العربي السريع، وجرأة الأسد الهصور. وأردت أن تكون ذلك السائح الأبدي تطوف البلاد وتجوب الفيافي وأنت آمن مطمئن، وجعلت مواطنك الدنيا وحدود بلادك من القطب إلى القطب، فدع الناس العاديين يشتغلون ببناء المدن وتعيين الحدود وإنشاء الممالك. أما أنت فمدنك المضارب، ومملكتك لا حدَّ لها.

أيها الإخوان إنه إذا وجد بينكم من التَذَّ عيش الحضارة وأنف من عيشنا عيش التشرد، وأراد أن يبقى في هذه البلاد فليقف؛ فإني لا أُكْرِهُ أحدًا على الذهاب معنا.

فلم يقف واحد منهم، بل هتفوا جميعهم بصوت واحد ارتج له الفضاء قائلين: ليحيَ أميري … ليحيَ ملكنا.

قال: إذن، لنسافر.

ثم أخذ مشعلًا من يد شمشون فلوَّح به ثلاث مرات وقال: هذه هي الإشارة التي اتفقت عليها مع ربان السفينة.

ولم يكد ينتهي من إشارته حتى أجابه ربان السفينة بإشارة مثلها وأرسل القارب لنقلهم إليها.

وعند ذلك سمعوا وقع حوافر جواد يركض، ولم تكن غير هنيهة حتى وصل ذلك الجواد ورأوا عليه امرأة.

وقد نزلت تلك المرأة عن جوادها وقالت: إني نَوَرية مثلكم، وأريد أن أسافر معكم.

فصاح جان وأميري وشمشون قائلين: توبسي؟

فقالت لأميري: نعم. أنا هي توبسي التي كانت تدعى مس ألن، ولو أخبروك بأني أنا التي أعطيت السيف لبولتون فأنقذك لرضيت أن أكون منكم وأنا أسافر معكم.

قال: نعم. لقد علمت، وستسافرين معنا.

فنهضت عند ذلك امرأة وقالت بصوت مرتفع: ولكني أنا لا أريد.

وقد مشت إليها والخنجر مجرد بيدها فضجَّ الجميع إذ رأوا أن تلك المرأة التي كان يحبها جان أصدق حب، وهي التي أطلقت ألن النار عليها فأصابتها بجرح كاد يقتلها.

أما تلك المرأة، فإنها دنت من أميري وقالت له: إنك ملكنا الآن، ولا بد للملوك من العدل.

قال: إني سأحكم بالعدل.

قالت: إني أدعى اليبسي، وهذه المرأة عدوتي اللدودة، وقد أصابتني برصاصة لا يزال أثرها في كتفي، فألتمس طردها من الطائفة أو قبولها بمبارزتي.

فقالت ألن: لقد رضيت المبارزة.

فاضطرب جان وقال: إني لا أريد.

ولكن أميري أسكته وقال لتوبسي: أتقولين إنك ترضين مبارزتها؟

فجردت ألن خنجرها وقالت: نعم، ولكن بشرط أن لا ينتهي قتالنا إلا بالموت، وأن لا يعترضنا أحد فيه.

فأطرق جان برأسه، وجعل أميري ينظر إلى هاتين المرأتين اللتين بلغتا من الجمال بقدر ما بلغتا من الحقد، ثم قال: لقد أذنت بقتالكما.

فصاحتا صيحة فرح، وقال جان: ماذا فعلت يا أميري؟ فقال له شمشون: لا يحق لك أن تعترض الآن؛ فإن اليبسي كانت البادئة.

ولم ينقضَّ المتبارزتان كما يتبادر إلى الأذهان، بل وقفت كل منهما والخنجر مجرد بيمينها ويدها اليسرى إلى الأمام كترس تذود به عن صدرها وهي تنظر إلى خصيمتها كما تنظر الضواري إلى الفريسة وتتأهب للانقضاض، فقالت اليبسي: إني أكرهك؛ لأنك أردت قتل جان دي فرانس، وهو شبه معبودي.

فأجابتها توبسي أما أنا فلا أكرهك، ولكني أحتقرك، وأريد أن أجعلك سُلَّمًا أرقى به إلى حيث أشاء.

فهلع قلب جان من خوفه على حبيبته، وركض يريد أن يحول دون القتال، ولكن شمشون أوقفه في مكانه وقال له: إن الملك أمر أن لا يعترض أحد قتالهما، فلا تكن أول العابثين بأمره يا جان.

ونشب القتال بين الفريقين، ولكن توبسي احتالت على اليبسي فألقتها إلى الأرض وركعت فوق صدرها، ورفعت يدها بالخنجر، وهمت أن تغمده في قلبها، فبسط جان يديه إلى أميري وقال له: رحماك العفو العفو.

فالتفتت إليه توبسي وقالت: إنك تسأل العفو؟

وقالت: إني أعفو، ولكن بشرط.

ثم نظرت إلى أميري وهي لا تزال راكعة على صدر خصيمتها، وقالت له: إني كنت طامعة، وشرائعنا لا تحرم الأطماع وتجيز الانتقام، وبعد فإني أصلحت ما أفسدته. أليس كذلك؟

قال: نعم.

قالت: إني يحق لي أن أغمد خنجري في صدرها؛ فإذا عفوت عنها فبماذا تكافئني؟

فهاج في صدر روجر حبه القديم وقال: إني أجعلك ملكة.

فنهضت توبسي نهوض المنتصر وألقت بخنجرها إلى الأرض؛ فأمسك أميري بيدها وقال للجميع: انحنوا أمامها فإنها زوجتي وملكتكم.

فكادت تسقط بين يديه لفرحها، وقالت له بصوت خافت: إنك تعلم يقينًا أني بت أحبك أصدق حب بعد أن أنقذتني، فاعلم أن حبك لا ينتزع من صدري حتى بعد الموت.

•••

وعند الفجر كانت السفينة تخترق عباب البحر وهي تحمل النَّوَرَ وأموالهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤