الفصل الأول

كنز الإله سيوا

تبدأ حوادث هذه الرواية في كلكوتا عاصمة الهند سنة ١٧٥٧، فقد كان السير روبرت ويلدن سائرًا على جواده عند بزوغ الفجر من شاندر ناجور إلى كلكوتا، وهو من أشراف نورمانديا، ولا يزال في مقتبل الشباب، وكان يسير بين الأشجار والحقول وهو يناجي نفسه فيقول: إن الشريف لا يحنث بما وعد، وقد وعدتُ تلك المنكودة الحسناء اللادي سيسلي — زوجة اللورد سبيرتهون حاكم الهند — أن أخلصها من أخيه السير جاك الأحدب.

وقد أتى هذا الأحدب الشقي أمس إلى كلكوتا يحمل نبأ موت ليونيل الصغير ابن اللورد الحاكم.

غير أن اللادي كتبتْ إليَّ أيضًا في اليوم نفسه وها أنا الآن على أتمِّ التأهُّب.

وفيما هو سائر رأى أمامه رجلين كان أحدهما يحمل طفلة على كتفيه، وكانا يلتفتان من حين إلى حين إلى الوراء فقال السير روبرت في نفسه: ترى ألعلهما يحتاجان إليَّ؟

وقد دفع جواده حتى وصل إليهما وسمع أحدهما يقول لرفيقه: لقد تعبت من حمل توبسي، وحبذا لو كان هذا الفارس يضعها أمامه على جواده إلى أن نبلغ كلكوتا.

فأجابه رفيقه وهو فتى لا يتجاوز السابعة عشرة من عمره: اسكت يا ناثائيل؛ فإنك ستبقى مدى حياتك جبانًا مستكديًا دون قلب. هات طفلتك فأنا أحملها ولا نحتاج إلى هذا الرجل.

فقال له السير روبرت: أراك شديد الكبرياء أيها الفتى.

قال: نعم، ويحق لي أن أتكبر.

وقد حاول أن يستمر في سيره فأوقفه السير روبرت وقال له: أرى أنك من طائفة النَّوَر الرُّحَّل، وأنك لم تقل لي هذا القول إلا لحقدكم علينا، ولكني لست ضابطًا في الجيش ولا عضوًا في مجلس اللوردية، أي إني لست من الذين طردوكم من لندرا، وما دام رفيقك قد تعب من حمل بنته فلماذا لا أحملها على جوادي وهو لا يتعب من حملها؟

ثم التفت إلى الرجل الكهل وقال له: هات بنتك وقل لي أين أضعها حين أصل إلى كلكوتا.

قال: تفضل يا سيدي، وضعْها في الحانة الكائنة عند باب العاصمة؛ فإن صاحبها يعرفني ويعرف بنتي.

فأخذها فوضعها أمامه على الجواد وابتعد عنهما فقال الفتى لرفيقه: لقد أخطأتَ يا ناثائيل بما فعلت.

قال: الحق أنه إذا رضي أن يكفل بنتي ويتولى تربيتها يكون قد أحسن إليَّ غاية الإحسان.

قال: كيف ذلك؟ أتتخلى عن بنتك؟

– بملء الارتياح؛ فإنها سيئة الطباع تزهقني ببكائها من الصبح إلى المساء، وإني أصبحت مضطرًّا بعد موت أمها إلى أن أصحبها معي أين ذهبتُ، وفوق ذلك فقد حاولتْ أمس أن تخنق ذلك الكلب الصغير، وهو كلُّ مورد رزقي كما تعلم.

– لا تنسَ أني سأغدو يومًا ملك النور.

– ماذا تعني؟

– أعني أني في هذا اليوم أطردك أقبح طرد فإنك شر الآباء، ولا يليق بالطائفة أن تكون منها.

فضحك ناثائيل وقال: إني إذا لم أصلح أن أكون رئيس عائلة فلي صفات طالما شكرتني عليها الطائفة.

– نعم أعلم أنك من كبار اللصوص، وأنك كنتَ تستعين بكلبك فتنهب مخازن المجوهرات في لندرا، ولكننا الآن في الهند، وأحب أن أعلم ماذا تريد أن تصنع في كلكوتا.

– إني آتٍ إليها لأعلم إذا كانت المجوهرات موفورة في مخازنها كما كانت في مخازن لندرا.

فنظر إليه الفتى نَظَرَ المحتقِر وقال: أما أنا فلي غرض آخر من القدوم إلى كلكوتا.

– ما هو غرضك؟

– هذا سِرٌّ لا أبوح به، ولكني أخبرك كي لا ترهقني بالأسئلة أني قادم إليها للبحث عن كنز.

فظهر الاندهاش العظيم على وجه الكهل، ووضع الفتى سبابته على فمه، فقال له: إني إذا اكتشفت هذا الكنز يصبح أفقر فقير في طائفتنا أغنى من لورد في إنكلترا، ولا تعود بعد ذلك محتاجًا إلى كلبك.

– إذا كان ذلك فسأحاول أن أحب بنتي.

ولبثا يسيران ويتحادثان إلى أن وصلا إلى كلكوتا، وعند ذلك ودَّعه الفتى فقال له الكهل: إلى أين أنت ذاهب يا جان؟

قال: إلى حيث أبحث عن كنزي.

– هل أراك في كلكوتا؟

– ربما التقينا هذه الليلة في محلَّتِنا. ثم افترقا، فذهب الكهل إلى الحانة ليرى بنته، وذهب جان في طريق المرفأ.

كانت طائفة النَّوَر تدعو هذا الفتى جان دي فرانس، فما زال سائرًا حتى وصل إلى المرفأ، وهناك وجد كثيرًا من الجنود وعمال الميناء مجتمعين حول راقصة هندية ورجل هندي كان يعزف بقيثارة، فدنا جان منهما وتفرس بوجه الهندي فقال في نفسه: نعم هذا هو.

وعند ذلك أُطلِق مدفعٌ من الثكنة إشارةً إلى افتتاح المرفأ؛ فتفرق الجميع، وذهب جان مسرعًا فسار في زقاق ضيق حتى انتهى إلى كوخ مبني بالقصب، فاضطجع على الأرض بجانب ذلك الكوخ وأطبق عينيه يوهم أنه نائم.

وبعد هنيهة أقبل الهندي والراقصة، ورأى الهندي جان بجانب الباب فرفسه برجله وقال له باللغة الهندية: قم من هنا أيها الكلب الدَّنِس؛ فإن مكان هذا الكوخ كان مقدسًا.

ولكن جان فتح إحدى عينيه ثم أغمضها فقالت الراقصة: إنه سكران فدعه وشأنه، ثم دخلت مع الرجل إلى الكوخ وجعلا يتحدثان.

أما جان فإنه ابتسم ابتسامَ الظافر؛ فقد كان حديثهما يصل إليه، وكان عارفًا بدقائق اللغة الهندية كأبنائها.

•••

قبل ذلك بساعة كان فريق من الضباط الإنكليز مجتمعين في خمَّارَة عند باب كلكوتا وهم يتحدثون عن اللورد حاكم الهند ويعجبون لما يرون منه من دلائل الهمِّ والتفكير الدائم، فقال لهم أحد الضباط: لا تعجبوا أيها الرفاق؛ فقد قيل إنه اختصم مع امرأته ونفاها إلى قصر له في إيكوسيا، وإنه يكره مولودها الأخير منذ ولادته.

وكان بين الحاضرين طبيب إنكليزي يدعى بولتون، فاعترضهم قائلًا: لكم أيها السادة أن تقولوا ما تشاءون عن اللورد إسبرتهون وعن ظلمه وتغاضيه عن واجباته في هذه البلاد، وأما إذا ذكرتم زوجته اللادي فلا تذكروها إلا بالاحترام؛ فهي الملاك الذي يمثل الطهارة والفضيلة وكرم الأخلاق في الأرض.

فقال الضابط: أهي حسناء مع هذه الفضائل؟

– إنَّ لها جمالًا يفتك النُّسَّاك.

– إذا كان ذلك فحدثنا بما تعلمه عن هذين الزوجين.

– ماذا تريدون أن تعلموا؟

– لماذا أرسل اللورد امرأته إلى إيكوسيا؟

– لأن أخاه الأصغر السير جاك الذي جاء أمس إلى كلكوتا قد وشى بها إلى أخيه، وحمله على الشك بولادة ولديه، وقد مات ولده الصغير، وهو لو مات ولده الآخر أيضًا لما حزن.

– كيف ذلك؟ أمات ولده الصغير؟

– إن أخاه جاء بهذا النبأ.

وعند ذلك دخل رجل يحمل بين يديه طفلة، فصاح الجميع قائلين: هو ذا السير روبرت ويلدن.

ودخل السير روبرت فحياهم وقال لهم: انظروا ما كان صيدي في هذا الصباح. أرأيتم أجمل من هذه الطفلة؟

وقال الطبيب: أظن أنها ابنة أحد أولئك النَّوَر الذين يطوفون في شوارع كلكوتا.

قال: هو ذاك، فاسقوني كأسًا من الشمبانيا.

فصبَّ له الطبيب كأسًا وقال له: من أين أنت قادم؟

قال: من غابات بردوان حيث كنت أصيد الفيل.

– وقد عدت إلى كلكوتا لتصيد النمر. أليس كذلك؟!

– هو ذاك.

وقد جلسوا يشربون ويتحدثون إلى أن جاءهم رسول من الحاكم يدعوهم للذهاب إلى التمرينات، فانصرفوا مسرعين، وخلا السير روبرت بالطبيب فقال له: إني ما أتيت إلى كلكوتا للصيد كما توهمت.

قال: نعم فإني لا أجهل علاقتك باللادي سسلي — امرأة الحاكم — وفرط احترامك إياها، وأنك حاقد أشد الحقد على السير جاك، فهل علمت أن ليونيل الصغير — ابن اللورد — قد مات؟

قال: نعم، ولكني هنا فلا يستطيع السير جاك قتل الولد الآخر.

وعند ذلك دخل ناثائيل — والد الطفلة — فلما رأته بنته تعلقت بالسير روبرت فقال لها: كيف هذا يا ابنتي؟ ألعلك خفت من أبيك؟

فأجابته قائلة وهي تبكي: نعم، فلا أريد أن أعود إليه.

– لماذا؟

– لأنه يضربني.

فنظر إليه السير روبرت نظرة منكرة وقال له: ويحك أيها الرجل! أتضرب بنتك؟ أمثل هذا الملاك يضربونه؟

قال: نعم، أضربها لأنها تضرب كلبي، وهو سبب رزقي، وفوق ذلك فقد باتت حملًا ثقيلًا عليَّ بعد موت أمها.

فتمعَّن هنيهة وقال له: أتريد أن تتخلى عنها لي؟ ثم قال للطفلة: أتريدين أن تبقيْ معي يا ابنتي؛ فإني أعلمك القراءة في كتاب فيه صور، وأشتري لك دمية تلعبين بها؟

فطوقت عنقه بيديها الصغيرتين وقالت: نعم نعم أبقى معك.

فأخرج السير روبرت من جيبه كيسًا مملوءًا بالذهب فدفعه إلى النَّوَريِّ وقال له بملء الاحتقار: خذ هذا الكيس وانصرف؛ فإنك لا تستحق أن تكون أبًا، وسأتولى تربيتها.

فأخذ النوري الكيس وخرج وهو يلاعب كلبه مسرورًا من هذا الاتفاق.

•••

في اليوم التالي أعد اللورد الحاكم حفلة صيد دعا إليها فريقًا من الضباط وأعيان الإنكليز، فكان بعضهم يركبون الفيلة وبعضهم يركبون الجياد.

وكان اللورد الحاكم راكبًا على فيل أبيض وبجانبه الطبيب بولتون والسير روبرت على جوادين وهما يسيران جنبًا إلى جنب ويتحدثان، فقال له الطبيب: إذن لقد عزمت على مبارزة السير جاك؟

قال: دون شك.

– متى؟

– حين نعود من الصيد.

– ولكن، أتظنه يرضى بالمبارزة؟

– سأرغمه على القبول متى صفعته أمام ضباط أخيه.

– احذر فإن السير جاك سافل شِرِّير؛ فقد يُشيع أنك عاشق امرأة أخيه.

– إن أخاه لا يصدق قوله.

– بل إنه يثق بكل ما يقوله، وعندي أنه خير لك أن تترك الصيد وتعود إلى السير جاك فتقتله وتهرب؛ فإن لأخيه هنا مطلقَ السلطان.

– سأرى في اقتراحك.

وفيما كان الموكب يسير إذ علا صياح الهنود الذين يتقدمونه، فوقفت الأفيال تضرب الأرض بأرجلها، وأخذت الجياد تصهل وقد بدت عليها علائم الرعب، ثم رأوا نمرًا هائلًا اخترق دائرة الأفيال، ووثب إلى الفرس الذي كان يركبه السير روبرت؛ فأطلقوا عليه نحو عشرين رصاصة دون أن يصيبوه، ونشبت براثن النمر في صدر الجواد فانقلب صريعًا إلى الأرض.

ولكن السير روبرت كان قد وثب عنه، فبينما كان النمر مشتغلًا بنهش الجواد صوَّب السير روبرت غدارته إلى أذن ذلك النمر وأطلقها فاخترق الرصاص دماغه وانقلب ميتًا.

وعند ذلك ظهرت نمرة أشد هولًا من النمر فقتلت اثنين من الهنود تعرَّضا لها ووثبت إلى الفيل الأبيض الذي كان يركبه الحاكم فأطلق عليها طلقين من غدارته فلم تسقط وجعلت تمزق جلد الفيل ببراثنها وهو يحاول أن يقبض عليها بخرطومه فلا يستطيع.

وقد أطلق الحاكم النار عليها أيضًا فلم تسقط وجعلت تصعد على الفيل حتى شعر اللورد بأنفاسها النارية تحرق وجهه؛ فصاح السير روبرت بالهنود قائلًا: ويحكم لماذا لا تطلقون النار؟

فقال له الطبيب: إنهم لا يفعلون حذرًا من أن يصيبوا الفيل الأبيض فإنهم من الشيعة التي تعبد الأفيال البيض.

واستمرت النمرة في صعودها حتى وصلت إلى اللورد، ولم يعد يستطيع استخدام سلاحه وما شكَّك الحضور أنها افترسته.

وعند ذلك رأوا فتى قد انقض على النمرة، ولم تكن غير هنيهة حتى سقط وإياها على الأرض، ثم نهض وقد صاح صيحة انتصار؛ فإنه أغمد خنجره في عنقها وألقاها تتخبط بدمها، فلم يكد السير روبرت يتبين وجه الفتى حتى صاح مندهشًا وقال: هذا هو الفتى النَّوَري الذي لقيته مع والد الطفلة.

وعند ذلك أحدق الضباط الهنود بذلك الفتى، وتدانى اللورد إلى النزول عن الفيل فأدنى الفتى منه وقال له: من أنت؟ وهل أنت من الهنود؟

قال: إني نَوَري وأدعى جان دي فرانس.

قال: إن من كان له بسالتك فلا يَخلُق به أن يعيش عيش المتشردين، فهل تريد أن تكون في خدمتي فأضمن لك مستقبلك؟

فنظر إليه جان نظرة إنكار وقال: أرى أنك لم تحسن تقدير خدمتي أيها اللورد؛ فإني من النبلاء، وإن نسبي يتصل بالكونت دي غرانفيل، فلا أخدم أحدًا.

فاصفرَّ وجه اللورد وأخرج كيسه من جيبه وناوله إياه، فأبى جان أن يمد يده إليه وقال: ليبق كيسك في جيبك، فما أنا من طلاب الصدقة.

ثم أدار له ظهره، فخرج من الدائرة وتوارى بين الأدغال.

فقال اللورد مغضبًا: لقد تجاسر هذا الوقح على رفض مكافأتي.

فقال له السير روبرت بلهجة المتهكم: ولكنه أنقذ حياتك يا مولاي، فواحدة بواحدة.

فعض اللورد شفته وقال لرفاقه: هلموا بنا أيها الأسياد؛ فإننا لا نزال بعيدين عن مركز الصيد.

فهمس السير روبرت بأذن الطبيب قائلًا: أما أنا فسأرجع إلى كلكوتا حين نصل إلى أول عطفة، فإني أريد أن أصطاد الرجل قبل أن أصطاد النمر.

قال: إذن اركب جوادي، فسأركب أنا أحد هذه الأفيال.

•••

كانت أخت جان دي فرانس تلقب بملكة النور وكان جان — على حداثة سنه — مطلَقَ النفوذ على الطائفة، ليس لأنه أخو الملكة، بل لأنه كان أشد رجال الطائفة ذكاءً وأبعدهم همة وأحذقهم فكرًا وأرقاهم نفسًا، فكانوا يحبونه ويحترمونه، ولا يخالفون له أمرًا كأنما أعطي حقيقة سلطان الملوك.

فلما ترك اللورد كما تقدم مشى بين الأدغال إلى أن وصل إلى مكان اكتظت فيه الأشجار، فوجد هناك رجلًا هائل الخلقة كأنه من الجبابرة، وهو نَوَري من طائفة جان كانوا يلقبونه بشمشون لشدة قوته.

وكان هذا الرجل مضطجعًا على العشب، فلما رأى جان نهض مسرعًا ووقف بين يديه بملء الاحترام، فقال له جان: متى أتيت يا شمشون؟

قال: منذ ساعة أيها الرئيس.

– ألم يرك أحد حين خرجت من محلة الطائفة؟

– كلا.

– هل أتيت بمركبة النقل؟

– إنها هنا وراء الشجرة.

– حسنًا فاعلم الآن أننا سننقل على هذه المركبة من الذهب والحجارة الكريمة ما لا يوجد بعضه في خزائن الملوك؛ فإني كنت أبحث عن هذا الكنز في الليل والنهار.

– هل وجدت مكانه يا سيدي؟

– نعم؛ فإن هؤلاء الحكام يحسبون أنهم تمكنوا من الشعب، فإنهم سادوا عليهم ولكنهم لا يطيعونهم إلا مكرهين، وهم لا يحلمون إلا بالاستقلال، ولكن لا بد لهم من المال الكثير، ولذلك فقد اجتمعت كلمة هذا الشعب بجملته على حشد الأموال، فجعل الغني والفقير والتاجر والعامل يضع كل منهم ما يتيسر له اقتصاده في صناديق خاصة بالمعابد كتب عليها صناديق الإحسان، فيطوف كل يوم أحد كهنتهم فيجمع هذه الأموال ويأخذها في كل أسبوع، فيذهب في ظلام الليل إلى غابة. وهناك يجد كاهنًا آخر في انتظاره فيأخذ منه الأموال ويقول له: اذهب واحذر أن تلتفت إلى الوراء.

فقال له شمشون: وهذا الكاهن إلى أين يذهب بالمال؟

قال: يذهب به إلى كاهن ثالث فيأخذه منه إلى مكان سري لا يعرفه سواه. وهذا السر لا يعرفه في جميع الهند غير ثلاثة من البراهمة وامرأة تحرس الكنز في الليل والنهار، وسأعرف هذا السر بعد ساعة.

– كيف ذلك؟

– لقد عرفت أن أحد الكهنة سيأتي في هذه الليلة بما جمعه من المال.

– كيف عرفت؟

– إن هذا الرجل الذي سيأتي الآن يتنكر في النهار بشكل عازف بالقيثارة، ويطوف مع إحدى الراقصات في شوارع كلكوتا، حتى إذا أقبل الليل خلع تنكره وعاد إلى حقيقته، فهو من أعظم الزعماء وأحد العارفين بسر الكنز، وقد سمعته في صباح اليوم يحدث الراقصة بهذا الشأن، فعلمت من الحديث أنه سيأتي في هذه الليلة إلى نبع الآلهة أموردافالي، وهو على قيد بضع خطوات من هنا.

– ولكن أي شأن لي أنا في هذه المهمة؟

– إنك سترى هذا الرجل حين يأتي فتتبعه وتسير ورائي على بعد مائة خطوة.

وعند ذلك سمع جان وقع خطوات فقال لشمشون همسًا: إنك تعلم بأني أقلد صوت عصفور الليل فابقَ الآن هنا إلى أن تسمعني أقلد ذلك الصوت فتأتي إلى جهة مصدره.

وقد مشى جان فوق الأعشاب إلى أن وصل إلى بقعة لا شجر فيها فنظر إلى تلك الجهات التي كان ينيرها ضوء القمر، فرأى شبحًا أبيض واقفًا بعيدًا تحت شجرة كبيرة، فقال في نفسه: لا شك أنه شبح الكاهن الذي ينتظر.

وقد سار من ورائه حتى وصل إلى تلك الشجرة واختبأ وراءها، فلم تكن غير هنيهة حتى رأى العازف بالقيثارة قد وصل وسمع الكاهن صاحب الثوب الأبيض يسأله قائلًا: بماذا أتيت أيها الأخ؟

فأجابه قائلًا: بكيسين من الذهب.

قال: هاتهما واذهب وإني أسأل آلهة الهند أن يرافقوك في طريقك، فأعطاه الكيسين ثم انحنى إلى الأرض فقبل طرف ثوبه الأبيض، فقال له الكاهن: اذهب والويل لك من غضب الآلهة إذا التفتَّ إلى الوراء فانصرف الرجل ممتثلًا دون أن يلتفت.

أما الكاهن فقد لبث في موقفه إلى أن توارى الرجل فانصرف عائدًا ومشى جان في أثره مستهديًا إليه بثوبه الأبيض؛ فإن القمر كان على وشك المغيب.

وكان الكاهن يسير مسرعًا إلى جهة الخرابات، فما شكَّك جان أن الكنز مدفون تحت خرائب هيكل سيوا، وما زال في أثره حتى وصل إليها ورآه جان قد ولجها، ثم رأى لهبًا ظهر لحظة وانطفأ، فسار جان ودخل إلى تلك الخرابات؛ فأدرك الكاهن وهو جالس بين أدغال متكدسة من الأعشاب اليابسة وقد أخذ قطعتين من الخشب الجاف وحك الواحدة بالأخرى حكًّا متصلًا حتى خرج منهما اللهب فألقاهما بين الأعشاب اليابسة، وحسب جان أنها ستلتهب من فورها، ولكن اللهب الذي ظهر من الخشبتين توارى في الحال وساد الظلام.

وعند ذلك اضطجع الكاهن فوق الأعشاب على وجهه وصاح قائلًا: أيتها العذراء حارسة الكنز هل أنت ساهرة؟

فسمع جان صوتًا من جوف الأرض لم يتبينه. أما الكاهن فإنه ألقى الكيسين فوق الأعشاب الواحد تلو الآخر، وخرج من تلك الخرابات.

وقد حبس جان أنفاسه كي لا يسمع الكاهن صوت خفوق قلبه حين مر به دون أن يراه وجعل جان يقول في نفسه: ما زالت الأعشاب لم تحترق فلا شك أنها تستر مدخل الدهليز وأن الخشبتين اللتين ألقاهما الكاهن إنما هما إشارة متفق عليها.

وقد صبر نحو ربع ساعة، وخطر له أن ينبه شمشون بالصفير، ولكنه خشي أن ينبه إليه الأفكار، ثم ذهب إلى تلك الأعشاب بعد أن وثق من انصراف الكاهن، وجعل يزيحها عن مواضعها؛ فانكشف له ثقب ضيق، ولكنه يتسع لمرور إنسان فيه.

وكان هذا الثقب مدخل دهليز في جوف الأرض، وهذا الدهليز كثير الانحناء يشبه السُّلَّم، فقبض جان على خنجره ودخل من ذلك الثقب، وجعل ينزل في الدهليز حتى انتهى إلى أرض رطبة مستوية.

وقد رأى عند ذلك نورًا عظيمًا يشبه أنوار المشاعل، وسمع صوت امرأة تغني باللغة الهندية فتقول: أنا ابنة ساشديفا حارسة الكنز.

قضى عليَّ الكهنة أن أعيش كل حياتي في جوف الأرض، وأن أعيش بجانب ذهب وجواهر لا فائدة لي منها.

قضوا عليَّ أن لا أرى وجه السماء وأشعة الشمس، وأن لا أشم عطر الأزهار.

إني صبية جميلة، وحين كنت فوق الأرض كان الفتيان يلتفُّون حولي ويلقبونني بإلهة الجمال.

قضى عليَّ الكهنة أن أعيش بتولًا، وأن لا أسمع كلمات الحب.

•••

وقد رأى جان أرضًا متسعة فوقها قبة من أرض الهيكل، وفي وسط تلك الأرض نارٌ لم تكن تنطفئ في الليل والنهار.

ثم رأى على نور تلك النيران فتاة لم تقع العيون على أبدع منها، كانت تغني وترقص حول النار، فلم تنتبه لسقوط جان، فوقف هنيهة شبه مأخوذ أمام هذه الفتاة، ثم دنا منها فوضع يده على كتفها وقال لها: أنا هو الرجل الذي تنتظرينه؛ فإن الإله سيوا الذي تحرسين كنزه قد أشفق عليك وأجاب ملتمسك.

ولم يكن جان أقل جمالًا منها، فلما رأته وسمعت كلامه صاحت صيحة فرح، ثم طوقت عنقه بذراعيها وقالت له: لنهرب لنهرب.

قال: نعم، لنهرب يا ابنة الفردوس إلى سيوا الذي أرسلني، ولكن لنأخذ معنا هذا الكنز الذي تحرسينه.

فتراجعت الفتاة منذعرة وقالت: إذن ما أنت رسول الإله سيوا، ما زلت تريد سرقة الكنز … اهرب أيها المنكود … كيف أتيت إلى هنا ومن أرشدك إلى طريق الكنز؟ اهرب أيها التاعس قبل أن يفاجئك الكهنة ويقتلوك.

وكان جان قد رأى تلك الدنانير الوهَّاجة والجواهر البراقة فقال لها: أحبك.

فعادت إلى معانقته وقالت له: إذن لنهرب معًا؛ فإني أصحبك إلى حيث تشاء ولكن دع هذا الكنز في مكانه فإن الإله سيوا يصعقنا إذا سرقناه.

فهز جان كتفيه وقال لها: إني أذهب بك إلى أوربا وهي بلادي، وليس للإله سيوا شيء من السلطان هناك؛ فنعيش أهنأ عيش بفضل هذا المال.

قالت: كلا فإن غضب سيوا ينزل بالناس أين كانوا؛ فاكتفِ بي فإنك ستجد من كنوز حبي ما لا تعادله كنوز الأرض.

ثم تعلقت به وجعلت ترقص وترقصه وهي تغني وتقول: كلا لم يقضِ سيوا على ابنة الهيكل أن تعيش تحت الأرض، إنها سترى النجوم وتستنشق أريج الزهر وتدوس رجلاها الصغيرتان على الأعشاب وتغمس شفتيها بمياه الينابيع.

إن ابنة الهيكل لا تحتاج إلى الذهب واللآلئ؛ فقد ظفرت بكنز الكنوز وهو الحب. لقد جاء الفتى الجميل الذي يحبني ويملأ فراغ قلبي من الحب كما تملأ الإناءَ أشعةُ الشمس.

وكانت تغني وهي ترقص رقصًا سريعًا وهو يجاريها ويقول في نفسه: إنها لا تلبث أن يستولي عليها التعب فأستولي على الكنز.

غير أن التعب أدركه قبل أن يدركها؛ فقد كانت متعودة على هذا الرقص، وقد أسكره صوتها الجميل ونظراتها الساحرة؛ فاسترسل إلى مراقصتها كما تشاء حتى انتهكت قواه وجلس على الأرض وهو يلهث من التعب، فدخلت إلى غرفة في المغارة وجاءت بكأس ذهبية كان فيها سائل أصفر يشبه الخمر الإسبانية المعتقة، فقالت له: اشرب ما في هذه الكأس تَعُدْ إليك قواك.

فشرب كل ما في الكأس جرعة واحدة، ولكن هذا الشرب لم يكد يستقر في جوفه حتى شعر أن جسمه ينتفض من البرد كأنه ملتفٌّ برداء من الثلج، ثم شعر أن أعضاءه قد تشنَّجت، وأن لسانه قد انعقد، ثم أطبقت عيناه وانقلب إلى الأرض دون حراك.

وعند ذلك برقت عينا الفتاة من الفرح وقالت: لقد أنقذته؛ إذ لم يبق سبيل إلى فراره؛ فقد آن وقت مجيء الكهنة، وسأخفيه، وبعد انصرافهم أرد إليه الحياة ونهرب معًا.

وقد أخذت يديه، وحاولت جره، ولكنها لم تكد تفعل حتى أفلتته وصاحت صيحة ذعر؛ فقد فتح باب خفي في المغارة ودخل منه كاهنان يحملان مشعلين، فلما رأيا جان على الأرض صاح واحد منهما قائلًا: ما هذا؟ أيوجد في الأرض من يجرؤ على اكتشاف هذا السر الذي لا يعرفه سوانا؟ إني — باسم إلهنا المعبود وباسم إخواننا المضطهدين وبلادنا المغتصبة ودموعنا السائلة — أحكم على هذا الجريء بالموت.

فصاحت الفتاة صيحة رعب؛ إذ رأت الخنجر يلمع في يد كاهن سيوا.

•••

ولنعد الآن إلى سراي اللورد الحاكم، فقد كان ولده الصغير وهو لا يتجاوز الثالثة من عمره نائمًا في سرير إحدى ردهات القصر، وبجانبه عبدان يحمل كل منهما مروحة فيطرد بها الذباب عن ذلك الطفل.

وكان السير جاك أخو اللورد الحاكم وولده وهو في الرابعة عشرة من عمره جالسين على مقعد في تلك الردهة غير بعيد عن السرير، فكان السير جاك ينظر إلى ابن أخيه الصغير نظرات ملؤها الحقد، ثم ينظر إلى ولده ويقول له: أي إحسان أحسن به هذا الطفل الشقي، فأعدَّت له الأقدار هذا المستقبل الزاهر؟! أما أنت مثله جميل الوجه زكي الفؤاد؟ ألا يجول في عروقك وعروقه دم واحد يا جيمس؟

فأجابه ولده: نعم يا أبي، ولكنه ابن أخيك البكر.

– هو ذاك، غير أن أخي شديد الهوس بصيد الحيوانات الضارية، فما يمنع أن يقتله نمر أو أسد؟

– وهَبْهُ قُتِلَ فإن ولده روجر يبقى حيًّا، وهو في أتم عافية كما ترى.

– ألم يكن أخوه ليونيل في أتم عافية أيضًا، ومع ذلك فقد مات بين يدي حاضنته؟

– وإذا مات أخوه روجر؟

– تصبح أنت وريث لقب اللوردية إذا مات أخي قبلي.

– إن الأطفال الذين لم يخلقوا في الهند لا يعيشون إذ لا يطيقون احتمال مناخها الحار.

– نعم، ولكن الخطر على الأطفال هنا لا يقتصر على الحُمَّيَات، فقد يموتون أيضًا من عضاض الأفاعي وغيرها من الحشرات السامة.

وفيما هما يتحدثان سمعا صوت ناي يعزف في الطريق تحت الردهة، فقاما وأطلَّا؛ فرأيا رجلًا يلاعب الأفاعي في الطريق والناس من حوله يتفرجون.

وقد وقفا يتفرجان إلى أن شعر السير جاك بيد لمست كتفه، فالتفت فرأى السير روبرت فيلدن فقال: أهلًا بك أيها الصديق، فما شرفني بقدومك؟

فتأبط السير روبرت ذراعه وقال له: إذا كانت راقت لك هذه الفرجة، فانزل إلى الطريق تَرَها عن كَثَب.

وقد تبادل الأب وابنه نظرة سريعة خفيت على السير روبرت، ثم نزل الابن إلى الطريق ودخل السير جاك بزائره إلى إحدى القاعات وقال له: عهدي بك أنك كنت في حفلة الصيد مع أخي، فهل قتلت نمرًا أم جئتني بنبأ من هذا الأخ العزيز؟

قال: الحق أني قتلت نمرًا، ولكني سئمت من صيد النمور، وجئت أبحث عن حيوان أشد فظاعة منها.

– ما هذا الحيوان؟

– هو حيوان هائل من طبعه مهاجمة أعراض النساء.

فقطَّب السير جاك حاجبيه ومضى السير روبرت في حديثه فقال: وهو حيوان يمشي على قدميه كالإنسان، ولكن ليس له شيء من صفات الإنسان، ومع ذلك فإنه يلقب بلقب الأشراف، ويدعى السير جاك إسبرتهون.

فوقف السير جاك وقد وضع يده على قبضة حسامه وأخرج السير روبرت غدارة فصوبها إليه وقال: إنك إذا لم تُصغِ إليَّ بملء السكينة ألهبت دماغك، فاعلم أني لا أريد قتلك بالغدارة كما تستحق، بل أريد قتلك بمبارزة كأنك من الأشراف؛ فقد وعدت ضحيتك اللادي سسلي أن أقتلك أو أموت من يدك.

فاستولى الخوف على السير جاك وقال له: وإذا أبيت أن أبارزك؟

– إذن فاعلم أنه لا يوجد ضابط إنكليزي في هذه البلاد لا يعرفك حق العرفان، وكلهم يحتقرونك ويودون لك الموت لتنجو الإنسانية من شرورك، فلا يوجد هنا من يحميك غير أخيك.

ولكن أخاك الآن في الصيد، وهو لا يعود قبل الليل، فإذا امتنعت عن مبارزتي صفعتك أمام جميع الناس، ثم قتلتك بالرصاص كما يقتلون الضواري.

فاصفر وجه السير جاك وهاج تأثره من الغضب، فقال له: ليكن ما تريد ولنتبارز الآن.

فمد السير روبرت يده إلى جهة البحر وقال له: انظر إلى هذه السفينة البيضاء، فقد اتفقت معها على السفر وهي مسافرة بعد ساعة.

وإنه يوجد بجانبها قارب وضعت فيه غدارتين، وسنذهب إليه ونبعد به عن السفينة، فإذا قتلتني فافعل بجثتي ما تشاء، وإذا قتلتك جعلت جثتك طعمًا لسمك البحار؛ فإنك لا تستحق أن تدفن في الأرض كما يدفن الناس.

– ولكني أحب أن أرى ولدي على الأقل.

فأدرك السير روبرت أنه يحاول الفرار فقبض على ذراعه بعنف وخرج به بالرغم عنه من القصر.

•••

بينما كان السير جاك يسير مع خصمه إلى البحر كان ولد السير جيمس قد ذهب للفرجة على الأفاعي.

وقد ابتعد جميع المتفرجين احترامًا له حين قدومه، حتى إن مُلاعب الأفاعي نفسه تهيَّب وامتنع عن ملاعبتها.

فأمره أن يعود إلى عمله، ثم دنا منه وهو يلاعب حية صغيرة، فهمس في أذنه قائلًا: أتبيعني هذه الحية بخمسة جنيهات؟

فسقط الناي من يده لفرط اندهاشه من هذا الثمن، فقال له: أرضيت؟ أسرع بالجواب فإني مستعجل.

قال: رضيت يا مولاي.

ثم أسرع فأخرج من جرابه علبة صغيرة وضع فيها الأفعى وأقفلها وناوله إياها.

فأخذها جيمس ونقده الثمن وعاد إلى ردهة القصر حيث كان ابن عمه الطفل الصغير نائمًا في سريره.

وكان العبدان اللذان يطردان الذباب بالمراوح عن سريره قد تركا السرير وذهبا إلى آخر الردهة ليتفرَّجا على الحاوي؛ فوقف جيمس وقفة المتردد وقد بحث عن أبيه فلم يجده، فلم يطل تردده ومشى إلى السرير فأزاح الغطاء عن الطفل وفتح العلبة، فوثبت الأفعى إلى السرير فغطاهما بالغطاء وانصرف دون أن يراه العبدان.

فلما عاد العبدان إلى السرير كان ذلك المركيز الصغير ابن اللورد الحاكم قد فارق الحياة، وكان جيمس خرج من القصر باحثًا عن أبيه.

•••

وبعد ذلك بنصف ساعة دوَّى طلقان ناريان في البحر ظهر دخانهما من قارب.

أما ذلك القارب فإنه دنا من سفينة بيضاء حتى التصق بها وكان شراعها منصوبًا، فخرجت من فورها من الميناء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤