الفصل الثاني

حي بميت

كان فارسان يسيران بين الحقول وقد أقفرت لهبوط الظلام، فكان الاثنان ينظران إلى كل الجهات عساهما يريان قبسًا يسترشدان به؛ فقد ضلَّا عن الطريق، وكان هذان الفارسان اللورد إسبرتهون — حاكم الهند — والطبيب بولتون، فقال اللورد: أَقُدِّرَ لنا أن نهيم كل الليل في هذه البراري؟!

فأجابه الطبيب قائلًا: هذا الذي أخشاه.

قال: إني سأموت من الجوع والعطش، وإن جوادي سيقتله التعب، فأين نحن الآن؟

– لا أعلم. ولكنني أظن أننا نبعد عشر مراحل عن كلكوتا، ولكن انظر ألا ترى شبحًا أسود يتحرك؟

– نعم. ولكنه شجرة يحركها الهواء؛ إذ لا يوجد إنسان بهذه الضخامة.

وعند ذلك سمعا صوت هذا الشبح يقول: جان. جان. أين أنت أيها الرئيس؟

فقال الطبيب: لقد نجونا؛ فإني أعرف صاحب هذا الصوت، فهو شمشون الجبار.

وكان شمشون قد تبع سيده كما تقدم في الجزء السابق حين ذهب إلى الكنز وأمره أن ينتظره، فانتظر كل الليل، ثم أشرق الصباح، ثم أذنت الشمس بالمغيب، فكاد يجن من خوفه عليه؛ إذ خشي أن يكون الكهنة قد فتكوا به.

وقد جعل يهيم في تلك البراري باحثًا عن سيده وهو يقف من حين إلى حين فيناديه بصوته الجَهْوَري فلا يجيبه غير الصدى إلى أن اتفق مرور اللورد والطبيب، فدنا منه الطبيب وقال له: ماذا أصابك يا شمشون؟ ومن الذي تناديه؟

قال: إني أنادي جان دي فرانس شقيق ملكتنا.

وكان شمشون قد عرف الطبيب؛ إذ كان مدينًا له بجميل لا ينساه، فقد لقيه مرة في أحد شوارع كلكوتا مصابًا بطعنة خنجر في بطنه كادت تودي بحياته، فعالجه وشفاه فقال له: ألا يوجد هنا مدينة قريبة؟

قال: لا يوجد غير كلكوتا، وهي تبعد خمس مراحل.

– ألا يوجد مكان للمبيت؟

– لا يوجد غير مضاربنا وهي تحت هذه القمة التي تراها، وستجدان فيها خير مبيت.

فقال له اللورد: إذن سِرْ بنا إليها وسنكافئك.

ولم يكن شمشون يعلم أنه يخاطب حاكم الهند، فقال له: لكن لا بد لي من البحث عن جان دي فرانس.

فقال له بولتون: إنه لا بد أن يكون رجع إلى المضارب.

قال: لقد أصبت يا سيدي الطبيب؛ فإن هذا الخاطر لم يخطر لي.

ثم مشى أمامهما، فسارا في أثره يتحدثان بصوت منخفض.

فقال له اللورد: إني أعجب بهؤلاء النَّوَر؛ فإن لهم نفوس الملوك وحالات المساكين. ألا تذكر ما كان من هذا الفتى الذي أنقذني من النمر؟

– هذا هو الذي يبحث عنه شمشون.

– نعم نعم. لقد ذكرت الآن، فهو يُدعى جان دي فرانس، فما هذا الاسم الذي لقب نفسه به؟

– إنه يدعي بأنه من النبلاء.

فهز اللورد رأسه ضاحكًا وقال: أيكون نبيلًا ومتسولًا في حين واحد؟ ولكنك أذكرتني بمناسبة الحديث عن هذه الطائفة حكاية جرت لي في لندرا منذ ثلاثة — أو أربعة — أعوام وسأقصها عليك كي لا تشعر بطول المسافة.

– إني مصغٍ إليك يا مولاي.

– تصور أيها العزيز أني أحببت مدة أسبوع نَوَرية كانت تحسبني من النَّوَر؛ فقد خطر لي مرة أن أذهب إلى المكان الذي يسمونه ساحة الملك.

– إني أعرف هذا المكان؛ فقد اختبأت فيه مدة ستة أشهر لهربي من الدائنين.

– وقد تنكرت بالملابس العامة وذهبت لأرى ما تفعل هذه الطبقة من الناس في هذا المكان الشهير.

واتفق أن الزحام كان قليلًا في تلك الليلة، وكان هناك اثنان من طائفة النور يتحدثان بشأن حفلة قريبة سيعقد فيها زواج ولية عهد النور بولي عهد الدوق دي بولون.

وقد تبين لي من حديث الرجلين أن الخطيبين لم يتعارفا بعد، وأن هذا الزواج سياسي يراد به التوفيق بين طائفتي النور في لندرا وباريس، وأن الخطيب سيأتي من فرنسا إلى لندرا ليعقد زواجه فيها، وأن الحفلة ستكون في ساحة الملك ليلة قدوم الخطيب.

فسألت أحد الرجلين قائلًا: هل العروس حسناء؟

قال: لقد بلغ من جمالها أن أجمل سيدات لندرا لا تعد من وصائفها.

فهاج قولُه رغبتي في رؤياها، وقلت له: أين يمكن مشاهدة هذه الفتاة؟

قال: إنها تذهب في كل ليلة إلى مضارب النور المخيمين تحت جسر لندرا فتلقي عليهم أوامرها.

فاكتفيت بهذا الجواب وبرحت الساحة على رجاء أن أرى تلك النورية.

وفي اليوم التالي اختبأت في مركبتي، وتمكنت من رؤياها؛ فإذا بها فوق ذلك الوصف.

وكان يصحبني خادم ذكي الفؤاد، فكان من ذكائه أنه جعلني ابن الدوق دي بولون، أي خطيب تلك النورية، وخلوت بها في أحد الفنادق.

وقد بالغت في ملاطفتها حتى غفرت لي أني أدعي اللورد إسبرتهون.

وأقمت معها أسبوعًا، وأحببتها حتى إني أردت أن أتوسط لطائفتها لدى اللورد المحافظ فلا ينفيها من لندرا.

ولكن رجال هذه الطائفة كانوا قد أمعنوا بشرورهم حتى رجعت عن الوساطة حذرًا من الفشل، ونفيت الطائفة؛ فسافرت ملكتها معها.

– ماذا كانت تدعى هذه الحسناء؟

– سينتيا.

– أما رأيتها بعد ذلك العهد؟

– كلا.

– من يعلم فقد تكون في هذه المضارب التي نذهب إليها الآن.

فارتعش اللورد ولم يُجِبْ بشيء، ورأيا عند ذلك أنوارًا تضيء، فقال شمشون: لقد وصلنا، وهذه هي مضاربنا.

وكانت هذه المضارب مؤلفة من خمس خيام كبيرة ومركبتين ضخمتين كان يوجد فيهما كثير من الآلات المختلفة وأربع بقرات وقطيع من الماعز والخراف كانت موجودة في دائرة تبلغ مساحتها مائة متر، وهي مسورة بالقصب الهندي.

وكانت النار مشبوبة في ساحة في وسط الخيام، وعليها دست كبير كانت عجوزتان جالستين من حوله تطبخان فيه جديًا للعشاء، وأمامهما خمسة من النَّوَر مضطجعون على الأرض، وكلبان كبيران ينظران إلى قوائم الجدي البارزة من الدست ويهران، وقد نفد صبرهما من الجوع، وشغلا برائحة الطعام الشهية عن شم رائحة القادمين فلم يستقبلاهم بالنُّبَاح.

وكان يجري في الجهة اليسرى من المضرب حادثة أخرى، وهي أن جميع رجال الطائفة وغلمانها كانوا واقفين بانتظام وقد ركز أمامهم لوح كبير من الخشب، ووقف رجل مسندًا ظهره إلى هذا اللوح باسطًا ذراعيه عليه؛ فكان يشبه بجملته شكل صليب.

وقد برز رجل من صف الواقفين فوقف على مسافة عشر خطوات من اللوح، وعند قدميه كثير من الخناجر الحادة الطرف، فكان يأخذ الخنجر ويرمي به اللوح فيشك به على قيد أصبع من وجه الرجل المصلوب، ثم يأخذ غيره ويرمي به، وهكذا على التوالي إلى أن يشك الخناجر حول المصلوب وذراعيه دون أن يصيبه بأذى فيصفق له الحاضرون إعجابًا بفوزه، ويأتي سواه فيفعل هذا الفعل، فإنهم كانوا يتمرنون على استعمال السلاح بهذا الشكل، ففي كل يوم يصلب واحد منهم فيرميه الباقون بالخناجر على ما تقدم.

وقد وقف اللورد والطبيب يتفرجان على هذا التمرين الخطر دون أن ينتبه لهم رجال القبيلة؛ لانهماكهم بما كانوا فيه.

أما شمشون؛ فإنه اختلط بهم، وجعل يبحث عن جان دي فرانس، فلم يره إلى أن انتبه له واحد منهم فقال له: أهذا أنت يا شمشون؟ فمتى أتيت؟

قال: الآن. فهل رأيت جان دي فرانس؟

قال: كلا؛ فإنه في كلكوتا منذ يومين.

فتنهد شمشون، وظهرت عليه علائم اليأس، وعند ذلك رمى أحد اللاعبين آخر خنجر فأسرع سواه وقال: لقد جاء دوري.

فصاح شمشون صيحة فرح؛ فقد كان هذا القادم جان نفسه، وأسرع إليه فقال له: من أين أتيت أيها الرئيس؟

قال: لا أعلم. وأظن أني أتيت من عالم القبور، ولكن اسكت الآن سنتحدث فيما بعد.

ثم أخذ الخنجر ورمى به اللوح فاخترق الخشب على قيد شعرة من أذن المصلوب.

وكان جان أكثرهم تمرينًا وأحذقهم رماية؛ فشك ثمانية خناجر حول رأس الرجل، فأصبحت شبه تلك الدائرة التي يرسمها المصورون من نور حول رءوس القديسين.

ولما فرغ من ذلك ذهب إلى المصلوب فانتزع الخناجر من حول رأسه، وقال لرفاقه: لقد جاء دوري الآن؛ فإني غبت يومين عن المضرب.

ثم وقف في موقف ذلك المصلوب، وأمرهم أن يبدءوا التمرين به، فانبرى واحد من الحضور ورماه بأربعة خناجر أصاب بها المرمى، ووقعت بجانب رأس جان في اللوح.

ثم رمى الخنجر الخامس، فأصاب قبضة أحد الخناجر المغروسة وهي من العاج، فزلف عنها وأصاب كتف جان.

وقد صاح الجميع صيحة رعب، ولكن جان لم يتحرك من موضعه، وتمتم بضع كلمات بصوت منخفض.

ورأى الطبيب بولتون ما كان، وأيقن أنه مصاب بجرح بالغ، فشق الزحام بعنف ووصل إليه.

أما النور فلم ينذهلوا حين رأوا الطبيب، فقد رأوه مرارًا في سراي الحاكم حين كانوا يلعبون فيها هذه الألعاب.

أما الطبيب فإنه أسرع إلى إبعادهم عن جان ومزَّق قميصه، وحاول أن يفحص الجرح.

ولكن جان اصفرَّ وجهه ووهت رجلاه؛ فطوقه الطبيب بذراعيه كي لا يسقط، ونظر إلى الجرح فرأى أن رأس الخنجر قد كسر ودخلت قطعته في كتفه، فقال لهم: أسرعوا بحمله إلى خيمته؛ فإني لا أستطيع معالجته هنا.

فركضوا إليه يحاولون حمله، ولكنه أبعدهم عنه وقال لهم: دعوني؛ فإني أستطيع الوصول إلى الخيمة وحدي.

وقد دخل إلى أقرب الخيم منه، وتبعه النور، فجلس على حصير وخلع قميصه، بينما كان بالتون يخرج عدة الجراحة ويعدُّ المعدات اللازمة لضمد الجرح.

ثم أمر جميع النور أن يخرجوا من الخيمة، وركع بجانب جان، وجعل يخرج قطعة الخنجر من كتفه.

وكانت العملية مؤلمة جدًّا، غير أن جان لم يَصِحْ صيحة ألم، وبلغ من تجلده أنه لم يظهر على وجهه شيء يدل على التألم، كأنما الطبيب كان يعمل بتمثال من الخشب.

فلما نزع القطعة وأتم ضمد الجرح قال له وهو يمسح الآلة: الحق يا بني أني لم أجد أشد صبرًا منك، وإني أحمد الله الذي قدر لي المرور بكم في هذه الساعة فأخدمك خدمة فوق ما تتصورها، فلو عالجك أحد هؤلاء الدجالين لشوهك وجعلك أشل اليد.

وإني أرجو أن تطيب بعد يومين، ولكن لا بد لك أن تلزم الفراش في خلالهما.

قال: أألزم الفراش كل هذا العهد الطويل؟

قال: هذا لا بد منه يا بني.

فتمتم قائلًا: ولكن لا بد لي من الكنز أيضًا.

ولم يسمع الطبيب قوله فقال له: سأعودك في الغد.

فكان الحاكم واقفًا إلى تلك الساعة وقفة المتفرج، فدنا من جان وسأله قائلًا: كم يبلغ عمرك أيها الفتى؟

قال: ستة عشر عامًا.

فقال الطبيب في نفسه: أيكون عمره ستة عشر عامًا وتكون له جرأة الأسود وإرادة القدر ومطامع سياسي نمساوي. إنه لا يمر به عشرة أعوام حتى يصبح زعيم كل طائفته.

ثم وضع يده على رأسه وقال له بلهجة المشفق: إنك تتألم. أليس كذلك؟

فأطبق جان عينيه وقال: كثيرًا.

– ولكنك مع ذلك لا تشكو.

– إن الشكوى جديرة بالنساء والأطفال، ولكني شديد الظمأ؛ فأغيثوني بشربة ماء.

فأعد له الطبيب كأسًا من شراب الليمون فسقاه إياه ثم قال له: نم الآن يا بني؛ فإن النوم يفيدك أعظم فائدة.

فأطبق عينيه وهو يقول: أشكرك يا سيدي الطبيب.

وبعد هنيهة نام نومًا هادئًا فالتفت الطبيب إلى الحاكم وقال له: إن التعب أنهك جوادينا والمسافة من هنا إلى كلكوتا تبلغ ثلاث ساعات. ألا ترى أن نقبل ضيافتهم وننام هنا بقية هذا الليل؟

قال: كما تشاء.

وعند ذلك فتح سجن الخيمة ودخل شمشون، وحاول أن يدنو من جان؛ فمنعه الطبيب قائلًا: إنه نائم فلا تزعجه.

قال: إن ملكتنا تريد أن تراكما.

فابتسم الطبيب ونظر إلى الحاكم فقال له اللورد: حسنًا فهلمَّ بنا إلى جلالتها.

ثم ذهب الاثنان إلى خيمة مزخرفة خارجة عن دائرة المضرب، ورأيا رجلين عند بابها كأنهما يحرسانها في الليل والنهار، فضحك الحاكم وقال: أي فرق بينها وبين الملوك؛ فإن لها ما لهم من الحاشية والحراس.

وكان القمر يتلألأ في كبد السماء، فلما وصلا إلى الخيمة خرج منها غلام لا يتجاوز عمره ثلاثة أعوام، وهو جميل الوجه يشبه ابن اللورد أتم الشبه، فارتعش الحاكم حين رآه، وفتح شمشون باب الخيمة وقال لهما: تفضلا بالدخول.

وقد دخل الحاكم قبل رفيقه، فوقف حائرًا مبهوتًا؛ إذ رأى امرأة في الخامسة والعشرين من العمر، لها جمال يفتن الألباب، وهي مضجعة فوق حصير على الطريقة الشرقية، فنظرت إلى الحاكم وقالت له: هل عرفتني أيها اللورد؟

فقال بلهجة المنذهل: أميرة النور.

قالت: بل ملكتهم سينتيا.

ثم أشارت إلى شمشون أن يخرج، فقال لها اللورد: أأنت هنا؟

قالت: نعم. وستكون ضيفنا هذه الليلة.

وعند ذلك دخل الغلام إلى الخيمة فقال اللورد للطبيب: أرجوك أيها الصديق أن تدعنا وحدنا.

فخرج الطبيب وهو يقول في نفسه: لقد كنت أتوقع هذا اللقاء.

وبعد خروجه دنا الحاكم منها وقال لها: لقد كنت مخطئًا إليك يا سينتيا، ولكني مستعد لإصلاح خطئي.

قالت: إني لا أسألك شيئًا أيها اللورد لا لي ولا لولدك هذا.

– ماذا تقولين؟ أهذا الغلام ولدي؟

– انظر إليه؛ فهو مثالك مجسمًا.

فأخذه اللورد بين يديه، فجعل يقبله بلهف ثم قال لها: حسنًا يا سينتيا. إن ولدك سيكون غنيًّا قادرًا؛ فإن لي مالًا كثيرًا بحيث أستطيع أن أهب منه مقدارًا عظيمًا دون أن أجحف بحق ولدي الشرعي، فاعهدي إليَّ بولدي؛ فإني أربيه خير تربية وأجعله من الأشراف.

قالت: كلا. فإنه سيكون نوريًّا مثل أمه، ولا تستطيع أن تسلبني إياه؛ إذ تضطر إلى الاعتراف بزواجك من نورية، وهي فضيحة يجتنبها الأشراف.

قال: ولكن لماذا تؤثرين عيش التشرد؟ فهل تريدين أن تعودي إلى لندرا؟ فإني أقيمك في قصر وتعيشين أرفه عيش.

قالت: كلا. فإني أؤثر أن أكون ملكة في خيمتي الحقيرة على أن أكون عبدة في قصرك الفخم.

– ولكن دعيني أنفع هذا الغلام بشيء.

– كلا أيها اللورد. ولكن لي ما ألتمسه منك.

– ماذا تريدين؟

– أريد أن تحمي طائفتنا التي يحميها الجميع.

– أهذا كل ما تريدينه؟

– نعم. والآن أستودعك الله أيها اللورد؛ فقد أمرت أن يحسنوا ضيافتك وضيافة رفيقك جهد الإمكان.

ثم أشارت إليه أن ينصرف بجلال الملكات، فنظر إليها نظرة إعجاب، وقبل ذلك الطفل الذي لا يستطيع أن يعترف به وخرج، فلقي الطبيب فقال له: تعال فإني لا أريد أن أبقى دقيقة في هذا المضرب، وإذا مات جوادانا في الطريق سرنا إلى كلكوتا مشيًا على الأقدام.

•••

كان شمشون الجبار جالسًا عند فراش جان كالكلب الأمين فلم يغمض له جفن في تلك الليلة، ولبث ساهرًا يصغي إلى صوت تنفسات جان التي كانت تدل على أنه شديد التعب.

ثم سمعه يتنهد، واشتد صوت تنفسه؛ فوقف شمشون قلقًا مضطربًا.

وفتح جان عينيه فقال: إني ظمآن.

فأفرغ له في كأس شرابًا كان قد أعده له الطبيب؛ فشربه بجملته وقال: رباه! كم أتوجع! ومع ذلك فلا بد لي من الحصول على الكنز قبل أن ينقله البراهمة من مكانه.

فقال له شمشون: ألعلك وجدت الكنز؟

قال: نعم، وهو أعظم مرارًا من كنوز جميع ملوك الأرض.

قال: ولكن لماذا لم تدعني إليك يا سيدي؟

قال: أصغ إليَّ تعلم السبب.

ثم قصَّ عليه كل ما جرى له في جوف الأرض تحت خرابات الهيكل مع الفتاة حارسة الكنز، وكيف أنها راقصته حتى أعياه التعب فسقته شرابًا يشبه الخمر الإسبانية.

وهو لم يعد يعلم شيئًا بعد أن أضاع رشده من هذا الشراب، ولكنه حين استفاق لم يجد نفسه في تلك المغارة، بل وجد نفسه مُلقًى في الهواء الطلق تحت شجرة من تلك الأشجار الهندية المشهورة بسموم أوراقها وظلها؛ فإن من يستظل تحتها يموت لا محالة.

وهذا النوع من الأشجار معروف في جميع الهند، فلما رأى جان أنه كان نائمًا تحت تلك الشجرة الهائلة عجب كيف أنه لم يمت، وقال في نفسه: لا شك أن الذين ألقوني هنا باتوا يعتقدون الآن أني أصبحت من عالم الأرواح.

وقد ذكر جان عند ذلك أن شرائع البراهمة تحرم سفك دم الإنسان، ولكنها لا تحرم قتله بالاختناق، وأنهم يكرهون النَّوَرَ كرهًا عظيمًا، ويخشون أن يتدنسوا بهم، وهذا هو السبب الذي حملهم على أن يلقوه تحت الشجرة السامة.

هذا الذي خيل لجان أنه حدث، فبينما كان يروي لشمشون ظنونه سمع وقع حوافر جواد، فقال له: اذهب وانظر ما هذا؛ فإن جميع رجالنا قد سكروا وناموا حسب عادتهم، وأخاف أن يكون الهنود قد أغاروا علينا.

فخرج شمشون وقال جان في نفسه: إني سأذهب هذه الليلة لاختطاف الكنز، وسأصحب معي شمشون، ولا أبالي بجرحي ولو قتلني.

وبعد هنيهة، عاد شمشون إلى الخيمة يصحبه ذلك الفارس الذي سمع وقع حوافر جواده، فدهش جان حين رأى أن هذا الفارس إنما هو الطبيب بالتون.

وكان العرق يسيل من وجه الطبيب وهو يحمل تحت وشاحه شيئًا لم يتبينه جان، فقال له الطبيب: إني لم أبِت هنا وذهبت إلى كلكوتا، ثم عدت مسرعًا منها إليك لأحدثك بشأن خطير.

فأشار جان إلى شمشون أن يخرج وقال له الطبيب والاضطراب بادٍ في عينيه: هل نحن وحدنا الآن؟

قال: كما ترى.

– أواثق أنه لا يسمع حديثنا أحد؟

– كل الثقة. فقل يا سيدي ما تشاء.

فنظر إليه الطبيب نظرة الفاحص وقال له: قل لي يا بني، هل أنت من أهل المطامع؟

– إن لي مطامع أبناء الملوك.

– وهذه الأطماع أهي لخدمتك وخدمة قبيلتك؟

– ثق أنه متى أصبحت ملكًا على طائفة النَّوَر لا يعودون يرسفون بقيود الذل ولا يطردون عن الأبواب طرد الكلاب.

– إذن أصغ إليَّ يا بني، وافترض أنهم أخذوا من طائفتكم غلامًا يتراوح عمره بين الثالثة والرابعة، وأنهم جعلوه ابن لورد عظيم، وأن هذا الغلام الذي ولدته أمه النورية في البراري سيجلس يومًا في مجلس أعيان المملكة ويجادل في شئونها زملاءه اللوردية العظام.

فقال له جان: ألعلك تهزأ بي يا سيدي وأنت تعلم أن هذا الافتراض محال؟

– ولكن هَبْ أن هذا الافتراض أصبح حقيقة.

فبرقت عيناه كنجمين يضيئان في سماء مظلمة وقال: إنه إذا حدث ذلك فإني أسفك دمي في سبيل خدمة هذا الغلام، وأتمنى له أن يكون أعظم عظيم في بلاد الإنكليز.

– إذن، فاعلم أني قادم إليك لأخبرك أن هذا الافتراض الذي افترضناه ممكن الحدوث.

– كفى بربك يا سيدي؛ فإنك تضل صوابي.

فأخرج الطبيب من تحت وشاحه ذلك الشيء الذي كان يخفيه ووضعه على الفراش، وكان ملتفًا بقطعة من القماش؛ فأزاح القماش، وظهرت من تحته جثة طفل، فصاح جان قائلًا: ويلاه ما هذا … ابن أختي سينتيا؟

فهز الطبيب رأسه وقال: كلا. ليست هذه جثة ابن أختك فإنه في أتم عافية، ولكن الشبه عظيم، حتى إنك خدعت به لأول وهلة كما ستخدع إنكلترا بجملتها. أتعلم من هو والد ابن أختك؟

قال: نعم. فإن أختي لا تكتم عني شيئًا من أمورها؛ فإن الذي خدعها يدعى اللورد إسبرتهون، وهو الآن حاكم الهند.

– إذن. فاعلم أن هذا الغلام الميت الذي تراه الآن كان يدعى في صباح هذا اليوم المركيز روجر دي إسبرتهون. أتعلم ماذا يدعى الآن؟ إنه يجب أن يدعى أميري ابن سينتيا المتوفى بلسع أفعى.

– لله مما أسمعه! أتريد أن تستبدل ابن اللورد بابن أختي؟

– هو ذاك واللورد أبو الولدين.

– ولكن أختي قد تموت من حزنها.

– كلا. فإن عزاءها على فراقه أنها ستغدو أم لورد.

– إنك تغويني.

– بل إني أريد أن أحقق أمانيك، وأجعل ابن أختك من عظماء الأرض. فوثب جان من سريره وقال: ليكن ما تريد، وليعاقبني الله إذا كنت أسيء بما أفعل، فأعطني هذه الجثة، وانتظرني خارج المضارب، فلا يستطيع أحد سواي الدخول إلى خيمة أختي حيث ينام طفلها.

فدفع إليه الجثة، وخرج وهو يقول: لقد كنت أعلم يقينًا أن جان دي فرانس سيكون معنا، وعلى ذلك فإن موت ابن اللورد سيكون مكتومًا لا يعلم به إلا أنا واللورد وجان.

•••

بزغت الشمس، وصحت سينتيا من رقادها وهي تبتسم؛ فقد كانت حلمت أن ابنها بات له مستقبل زاهر وطال حلمها كل ليلها، فلما فتحت عينيها وجدت أخاها جالسًا عند فراشها وهو يبتسم فقالت له: لقد حلمت حلمًا سعيدًا يا أخي.

قال: ماذا حلمت يا أختي العزيزة؟

قالت: حلمت أن ولدي أميري قد اشتد وقوي وصار رجلًا يشبه بجماله الآلهة.

– سيصح حلمك يا سينتيا.

– ولكن العجيب أنه لم يكن يلبس كما يلبس رجال قبيلتنا، بل كان يلبس ملابس مذهبة وهو يتقلد حسامًا مثل النبلاء، ويلقبونه بصاحب السعادة.

ثم نهضت من فراشها، وذهبت إلى مهد ولدها، فلم تكد تراه حتى تراجعت منذعرة وصاحت صيحة هائلة فقالت: رباه! إن ولدي مات.

وكان جان يتوقع ما حدث، فأسرع إلى جثة ابن اللورد فحملها وقال لأخته: انظري إليه جيدًا، فما هو ولدك.

ثم كشف عن ذراع الطفل وقال لها: إنك تعلمين أن ولدك كان موشومًا بعلامة طائفتنا، فهل تجدين أثرًا لهذا الوشم؟

ولكن الأم لا تحتاج إلى مثل هذه العلامات لمعرفة ولدها فقد عرفته حين تمعنت في وجهه وقالت: نعم. إنه ليس ولدي، ولكن أين ولدي؟

قال: إن ابنك نائم الآن في مهد من الحرير والعبيد يروحون حوله بالمراوح كي لا يزعجه الحر.

– ماذا تعني؟

– أعني أن ابن اللورد الحاكم مات فحل ابنك محله، وهو الآن يدعى المركيز روجر دي إسبرتهون.

فسقطت على ركبتيها واهية القوى وأخذت بالبكاء، فقال لها جان: ما هذا البكاء؟ فإن ولدك سيغدو سيدًا عظيمًا من كبار النبلاء، وسيكون لوردًا عظيمًا يحضر جلسات مجلس الأعيان ويجالس الملك.

– ولكنه عندي شبه ميت؛ إذ لا أراه.

– كلا. فإننا سنلزمه لزوم ظله ونحميه من كل طارئ ونعتز به، فنخلع عن رقابنا نير الذل والهوان ونشاركه في مجده.

ولكنها لم تنتبه لشيء من أقواله، واسترسلت إلى البكاء وهي تقول: أريد ولدي … ردوا إليَّ ولدي.

فنظر إليها جان تلك النظرات النافذة التي كان يستهوي بها قلوب رجال قبيلته وقال لها: إني إذا أرجعت إليك ولدك يأتي يوم تندمين فيه الندم الشديد وتبكين بدموع من دم.

فأطرقت برأسها وجعلت تبكي وهي صامتة، فقال لها: لقد قلت لك إننا سنتبعه في كل مكان، فإذا احتاج إلى دمائنا سفكناها في سبيله، وإذا أعوزه المال أعطيناه كنوزنا ينفق منها ما يشاء.

فحسبت أن أخاها قد جن وقالت له: كنوزنا؟

قال: نعم. فسيكون لنا في هذا المساء كنز لا تعادله كنوز الأرض، وسيكون المستقبل لنا ولولدك.

•••

والآن لنبسط للقراء كيف كانت نجاة جان من قبضة البراهمة بعد أن تركناه مخدَّرًا على الأرض وخنجر الكاهن مشهر فوق صدره، وقد قُضي عليه بالموت لتجاسره على الدخول إلى المغارة واكتشاف أسرار الكنز.

إن الفتاة الهندية حين رأت هذا الخطر المحدق به صاحت بالكاهن قائلة: ماذا تفعل أيها المنكود؟ ألا تعلم أن الإله الذي نعبده يحرم علينا سفك الدماء؟

قال: يجب أن يموت.

قالت: إنه يموت، ولكن دون أن نسفك دمه.

– إذن كيف يموت؟

– احمله مع رفيقك، وألقياه تحت شجرة سامة فلا يشرق عليه الصباح حتى يموت.

– لقد أصبت يا ناتا؛ فإنك على حداثة سنك لك حكمة الشيوخ، وسنفعل ما أشرت به.

قالت: إن موته سيكون محتمًا، وقد تدركه النمور فتفترسه قبل الصباح. وقد وافق الكاهنان على ذلك، ودخلا إلى مكان في المغارة فأتيا بخشبة فحملاه عليها وانصرفا.

ولكن الفتاة كانت قد اغتنمت فرصة بحثهما عن الخشبة، فأسرعت إلى زجاجة صغيرة وأفرغتها في فم جان، فلما ذهب الكاهنان به برقت عيناها من الفرح وجعلت تحدث نفسها فتقول: نعم إن الشجرة السامة تقتل من ينام تحتها، ولكن ابنة الكهنة التي قضي عليها أن تعيش في جوف الأرض لا تريد أن يموت هذا الفتى الجميل الذي حرك عوامل قلبها، ولذلك سقيتُه ترياقًا يقيه الموت من كل السموم، وسيعود إليَّ.

نعم إنه سيعود، فقد شعرت أن صدره يخفق خفوق صدري، وسيذكرني حين يفيق ويعود إليَّ فنهرب معًا إلى حيث يشاء.

وقد نامت، فلما صحت علمت من مقدار الخشب الذي التهمته النار أن زمن عودة الكهنة قد حان.

وقد أقبلوا بعد هنيهة، فتجلدت إخفاءً لاضطرابها، وسألتهم أين وضعوه؟

قالوا: إننا وضعناه تحت شجرة سامة، ولكننا لم نجده حين عودتنا فلا شك أن النمور اختطفته.

ثم تركوها وانصرفوا، فكادت تجن من خوفها عليه، وجعلت تضرع إلى الإله سيوا أن يحميه ويقيه.

وفيما هي تصلي وتبتهل رأت جان داخل المغارة، فصاحت صيحة فرح لا توصف، وهجمت عليه فعانقته وهي تقول: لم يكن عندي شك أيها الحبيب أنك ستعود إليَّ، فدفعها عنه وهو يقول: ارجعي أيتها الشقية؛ فقد أردت قتلي بالسم، وألقيتني تحت الشجرة السامة.

فضمت يديها وقالت: كلا أيها الحبيب، بل إني أنقذتك من خناجر الكهنة لأني أحبك.

فضحك جان وقال: لا أعلم إذا كنت تحبينني، ولكن الذي أعلمه أني محتاج إلى هذا الكنز.

قالت: إن ذلك لا يكون؛ فإني لا أسرق أموال إلهي.

قال: إني أريد الكنز.

قالت: بل إنك لا تأخذ منه شيئًا، فخذني إلى حيث تشاء وسأكون عبدة لك، ولكن لندع كنز الإله.

وقد عادت إلى عناقه فصدها عنه بعنف وقال لها: إن الوقت لا يتسع الآن للغرام، فهل تريدين أن تتبعيني؟

– نعم.

– ونأخذ معنا الكنز؟

– كلا كلا.

– إذن اصبري.

ثم وضع أصبعيه في فمه وصفر صفيرًا خاصًّا، فلم تكن غير هنيهة حتى سقط من فم المغارة شمشون الجبار وناثائيل والد الطفلة التي تبناها السير روبرت.

وكان الاثنان مسلحين وهما يحملان كيسين كبيرين من الجلد، فقال لهما: قَيِّدَا هذه الحسناء وكمماها كي لا تصيح.

وبعد أن امتثلا وضعا ما كان في المغارة من الجواهر والذهب في الكيسين وخرجا يتقدمهما جان، فوضعوا الكيسين على مركبة، وعادوا جميعهم إلى المضارب وقد فاز جان بالكنز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤