الفصل الثالث

مس ألن

مضى سبعة عشر عامًا على الحوادث التي بسطناها رُبِّيَ في خلالها ابن النورية — أي ابن أخت جان دي فرانس — في قصر اللورد أبيه، وكان يدعى المركيز روجر دي إسبرتهون، وهو فتى في العشرين من العمر، وله جمال تام وأدب أتم. وقد بقي سر مولده مكتومًا عن جميع الناس ما خلا أباه وأمه وخاله والطبيب بولتون.

وكان ابن عمه السير جيمس قد اعتزل الخدمة في الجيش وأقام في قصرهم القديم في إسبرتهون وهو في الثلاثين من العمر وله نظرات تدل على الحقد وشفتان رقيقتان تدلان على أنه مفطور على الخبث.

ففي يوم من أيام الربيع، كان المركيز روجر سائرًا على جواده يصحبه خادمه لزيارة ابن عمه السير جيمس.

وما زال سائرًا حتى وصل إلى الغابة المؤدية إلى منزل ابن عمه فانتبه لصهيل جواد كان يسير في تلك الغابة بفارسه فقال: من عسى أن يكون هذا الفارس؟ ألعله ابن عمي قادم لزيارتي؟

ولكنه لم يلبث أن تبين خطؤه بعد بضع خطوات فقال: تُرى من هو هذا الفارس؟

فقال له خادمه: أظنه يا سيدي ذلك الهندي الذي اشترى أرض اللورد جاك جريجور منذ أسبوعين.

قال: لقد سمعت شيئًا من أخبار هذا الرجل، فقد قيل إنه أتى بثروة عظيمة.

ثم واصل الاثنان سيرهما، ولما توغلا في الغابة اعترضت المركيز امرأة نورية تبلغ نحو الأربعين من العمر، فقال لها: ماذا تريدين؟

قالت: أود لو أذنت لي أن أرى طالعك؛ فإني أعرف بأسرار المستقبل.

فضحك المركيز وقال: أحقٌّ أنك تعرفين؟

قالت: نعم.

قال: لا أرى في سماء مستقبلي شيئًا من الغيوم؛ فإني في العشرين من عمري، ولي ثروة يبلغ ريعها الملايين، وأنا من لوردية إنكلترا وقائد فرقة الملك.

قالت: إن الأخطار قد تهدد الملوك أنفسهم، فدعني أرى باطن كفك.

فبسط لها يده وهو يبتسم، فنظرت فيه وقالت: أرى أن خطرًا عظيمًا يحدق بك، وخير لك أن لا تذهب للصيد غدًا.

– كيف عرفت أني سأصيد غدًا؟

– ألم أقل لك إني أعرف المستقبل؟

– وأي خطر عليَّ من صيد الثعالب؟

– إن من يصيد الثعلب قد يلقى في طريقه دبًّا كاسرًا.

– ولكن الوحوش الكاسرة لا أثر لها هنا.

– أنصحك أن تثق بما أقوله لك وأن لا تذهب غدًا للصيد.

– حسنًا فسوف أرى. والآن فهل بقي لك ما تتنبَّئين لي عنه؟

فعادت إلى فحص يده وقالت له: إنك من العُشَّاق يا سيدي.

فارتعش وقال: ذلك ممكن، فهل أنا مخطئ أيضًا في هذا الحب؟

فهزت رأسها وقالت: إنك قد تندم لحبك هذا.

– وأنت ما زلت تعلمين كل شيء، فقولي لي هل تحبني التي أحبها؟

– سأجيبك في فرصة أخرى؛ إذ يوجد في يدك خط لم يكتمل بعد، والآن أستودعك الله، وأسأله أن يحرسك.

فرمى لها المركيز دينارين وواصل سيره وهو يقول: ترى لماذا أندم لحبي مس ألن؟

ثم قال لخادمه: أتعرف هذه المرأة؟

قال: نعم، فهي نورية ترتزق من هذا التدجيل، فاطمئن يا سيدي فإن تكهناتها لا تصدق.

•••

كان السير جيمس في إحدى قاعات قصره، فدخل إليه خادمه وقال له: إن ابن عمك يا مولاي قادم لزيارتك.

قال: كيف عرفت ذلك؟

قال: رأيته من الشرفة قادمًا بجواده عند مخرج الغابة.

– أتعلم يا ويلسن، إن ابن عمي كتب لي رسالة؟

– نعم وقد دعاك فيها إلى صيد الثعالب.

– وقد رفضت الدعوة لثقتي أنه سيزورني ويلح عليَّ فأقبل.

– إذا كان ذلك فلماذا رفضت في البدء؟

– لأنه إذا حدثت نكبة غدًا في الصيد، فلا يظنون أني أنا أعددتها لاغتيال ابن عمي كي أرثه.

– أتتوقع يا مولاي حدوث نكبة غدًا؟

– نعم.

– كيف ذلك؟

– إن من يصيد الثعلب قد يلقى دبًّا.

– ولكن لا يوجد هنا وحوش ضارية.

– سيوجد وحش في الغد بلون الجواد الذي يركبه ابن عمي العزيز.

– إنه لا يركب غير جواده نيشون الأسود كما تعلم.

– حسنًا، وإن لهذا الوحش ولعًا بالهجوم على الجياد السود.

فنظر إليه الخادم نظرة المنذهل دون أن يفهم فقال له: سأكشف لك هذا المعمى، والآن فلنتهيأ لاستقبال رئيس أسرتنا.

فخرج الخادم وجعل السير جيمس يقول: إني لا أزال أعجب كيف أنه سلم من الأفعى، فقد وضعتها في سريره حين كان له من العمر ثلاثة أعوام.

وبعد هنيهة دخل المركيز، فبالغ السير جيمس بالاحتفاء به؛ فأقام عنده ساعة وقد ألح عليه كثيرًا حتى رضي بحضور حفلة الصيد، ثم افترقا فشيَّعه إلى الباب الخارجي.

وبعد انصرافه نادى خادمه وقال له: تعال الآن أخبرك بما عزمت عليه. أتذكر أني كنت في الشتاء الماضي أذهب إلى هايد بارك؟

– إنك كنت تذهب كل يوم يا مولاي.

– ذلك أنه كان يوجد عند باب هذه الحديقة الكبرى رجل يروض الوحوش الضارية، فلبثت بضعة أيام أحضر هذه الألعاب إلى أن دعوت يومًا مروض الوحوش وقلت له: كم تكسب في يومك؟

قال: عشرة شلنات تقريبًا.

قلت: أتريد أن تكسب ثلاثين؟

قال: دون شك، فماذا تريد أن أصنع؟

قلت: أريد أن تلاعب الوحوش أمامي وحدي في كل يوم.

فاتفقنا على ذلك، وجعل يلاعب وحوشه مدة ثلاثة أشهر كل ليلة من انتصاف الليل إلى الساعة الثانية بعده.

وكانت الطريقة التي اخترتها هي أن يلبس براثن دب كاسر عنده أحذية من الجلد كي لا يستطيع الإيذاء بها، ثم يخرجه إلى ساحة اللعب فيجد هناك رجلًا يلبس ملابس الفرسان وهو يمتطي جوادًا أسود، فيسير بجواده حول هذا الدب ويجلده بسوطه جلدًا أليمًا.

وقد لبث الدب يصبر على الأذى مدة ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع جعلت عيناه تتوهجان من الغضب حين يرى الفارس وجواده الأسود.

ولبثنا على هذا التمرين ستة أشهر، وفي كل يوم يرى الدب الجواد الأسود ويشعر بالسياط تمزق جلده إلى أن خطر لي أن أجربه آخر تجربة، فأتيت بتمثال من الخشب ألبسته ملابس الفرسان وأركبته على جواد أسود، ووضعته في ساحة اللعب، ثم أمرت مروض الوحوش فنزع أحذية الجلد من براثن الدب وفتح له باب القفص، فلما رأى الجواد وفارسه هجم عليهما هجومًا هائلًا، ولم تكن غير هنيهة حتى بقر بطن الجواد وحطم التمثال الخشبي، وبات الدب ممرنًا أتمَّ التمرين.

فقال له الخادم: أين هو الدب الآن؟

قال: لقد جاء به مروضه أمس إلى الغابة التي سنصيد فيها غدًا.

قال: ولكن هذه الحفلة سيحضرها كثيرون وملابس الأشراف متشابهة، ويوجد بين جيادهم بعض جياد سوداء.

قال: لقد احتطت لهذا الأمر، ولكن المركيز سيصل إلى موقف الدب قبل سواه.

– كيف ذلك يا سيدي؟

– ذلك منوط بك، فماذا يكون من الجواد إذا وضع تحت سرجه صنارة صيد وغرست في لحمه؟

إنه يهيج في الحال ويجمح بفارسه.

– كلا إنه لا يهيج في الحال، بل بعد ساعة.

– كيف ذلك؟

– ذلك أن تلف الصنارة بشمع ويخاط أسفلها بالسرج، فمتى سار الجواد ساعة أذابت الحرارة الشمع ودخلت الصنارة إلى لحم الجواد.

والآن فإنك ستذهب في هذا المساء إلى قصر ابن عمي، فتنام هناك مع الجياد وكلاب الصيد، وإذا كنت حاذقًا تمكنت من وضع الصنارة تحت السرج.

قال: اطمئن، فسيكون ما أردت.

قال: وأنا متى ورثت ملايين ابن عمي ولقبه أعرف كيف أكافئك.

•••

وهنا لا بد لنا أن نذكر شيئًا بالإيجاز عن أبطال هذه الرواية الذين تركناهم في الهند منذ سبعة عشر عامًا، وقد عادوا كلهم إليها الآن؛ فإن اللورد إسبرتهون اعتزل منصبه في الهند وعاد إلى لندرا فمات فيها منذ عام، وهو يعتقد أنه ليس له غير ولد واحد من امرأته غير الشرعية، أي ابن النورية.

وجان دي فرانس عاد مع طائفته إلى لندرا تصحبه أخته أم المركيز، وقد جاء بتلك الأموال العظيمة التي أخذها من هيكل سيوا وأقام في لندرا متنكرًا باسم الناباب عثمان.

وناتا الهندية التي كانت حارسة الكنز أطلق الكهنة سراحها، فحقدت حقدًا عظيمًا على جان، وجعلت تطوف أوربا باحثة عنه للانتقام.

والسير روبرت قتل أخا اللورد بمبارزة وعاد إلى لندرا مع الطفلة التي اشتراها من أبيها ناثائيل النوري، فرباها وأوهم الناس أنها ابنة أخ له متوفًّى في الهند، وهي الآن في مقتبل الشباب تدعى مس ألن، ولها جمال نادر، واللادي سسيل امرأة اللورد إسبرتهون الشرعية عادت من إيكوسيا إلى لندرا يصحبها ولدها ليونيل ابن اللورد الأصغر، ولكنها أوهمت جميع الناس أن ولدها قد مات حذرًا عليه من بطش أخي زوجها بعد أن وثقت أنه يريد قتله، وكتمت عن ولدها نفسه سرَّ والده، فهو يعتقد أنه ابن أحد الضباط، وأن اللادي سسيل كفلته صغيرًا وربته عندها.

والطبيب بولتون عاد أيضًا إلى لندرا وهو مع السير روبرت من أصدقاء المركيز روجر.

وكان المركيز روجر وليونيل ابن اللورد الشرعي يحبان مس ألن، وكلاهما لا يعلمان أنهما أخوان، ويجهلان أنهما يحبان امرأة واحدة.

ففي الليلة التي تقدمت حفلة الصيد كان نحو أربعين مدعوًّا جالسين على مائدة المركيز روجر بينهم مس ألن تضيء إضاءة البدر بين النجوم.

وكان الجميع يتسابقون إلى إكرامها، ويطمعون بنيل ابتسامة منها، ولكنها لم تكن تبتسم في تلك الليلة، بل كانت منقبضة الصدر، حتى لقد خيل للمركيز أنه رأى دمعة سقطت من عينها.

ولما فرغوا من الطعام جيء بالخمرة الفرنساوية وحان دور شرب الأنخاب، فوقف المركيز وكأسه في يده وقال: أيها اللوردية والسادة، إني أشرب نخب مس ألن الحسناء.

فشكرته الفتاة بابتسامة وقالت: وأنا أشرب نخب الكولونيل روجر.

فأجابها روجر: إن الكولونيل روجر يضع فرقته تحت أمرك.

فابتسمت وقالت: ما عدا قائدها فيما أظن.

قال: بل الفرقة وقائدها.

قالت: احذر مما تقول، فلو أعطيت هذه السيادة هنيهة لالتمست من الكولونيل التماسًا.

قال: مري بما تشائين.

– أتفعل ما أطلبه إليك؟

– دون شك.

– إذن إني أسألك مركز ضابط في فرقتك، فضحك وقال: أأنت التي تتولين هذا المنصب؟

قالت: بل لفتى يتولى عمي حمايته، وأنا أحبه حب أخ، وهو ليونيل فارز.

قال: إن أخي كان يدعى بهذا الاسم حين مات وهو في سن الرضاع.

وقد عينت هذا الفتى كما تريدين، وسأجعله من أصدقائي.

فعادت إلى شرب نخبه وشاركها الجميع في شرب هذا النخب، وبعد ذلك نهضوا عن المائدة، وقال لهم المركيز: لا تنسوا — أيها الأسياد — أننا سنركب الجياد في الساعة التاسعة من صباح غد، وأما السيدات فإنهن يتبعننا في المركبات.

فقالت مس ألن: أما أنا فأمتطي جوادًا.

فقال لها المركيز: إذا كان ذلك فإني أعد لك جوادًا لا يوجد جواد يماثله في إيكوسيا.

فمدت له يدها شاكرة، فقبَّل يدها وقال في نفسه: لم يعد لي طاقة على الصبر، وسأبوح لها غدًا بغرامي.

في صباح اليوم التالي ركب الجميع جيادهم وانطلقوا بها إلى الغابة، فكانت مس ألن تسير بجانب المركيز ووراءهما ابن عمه السر جيمس وخادمه ويلسن.

فلما وصلوا إلى مكان الصيد ذاب الشمع وشعر جواد المركيز بوخز الصنارة، فجعل يهيج ويحاول الركض والمركيز يمنعه كي لا يفارق مس ألن، إلى أن قال لها: هذه أول مرة رأيت فيها جوادي على هذه الشدة.

قالت: أطلق له العنان فإني أتبعك.

فأرخى له عنانه فانطلق كالسهم، وتمكنت الفتاة من إدراكه فقد كان جواده شديدًا وكذلك السير جيمس وخادمه، فقد كانا لا يبعدان عنه أكثر من مائة خطوة خلافًا لبقية الفرسان، فقد كانت جيادهم ضعيفة فلم تتمكن من اللحاق.

أما المركيز فقد شعر أن جموح جواده غير طبيعي، وحاول مرارًا أن يكبح جماحه فلم يستطع.

إلى أن وصل إلى قمة عالية، وهناك صاحت الفتاة صيحة منكرة وغطت وجهها من الذعر؛ فإنها رأت وحشًا هائلًا قد انقض من أعلى القمة انقضاض الصاعقة، وهجم على جواد المركيز فبقر بطنه وألقاه على الأرض مع فارسه.

وقد حاول الوحش أن يبطش بالمركيز، وعند ذلك سمع صفير تلاه صوت رجل يقول: تون. تون.

فالتفت الدب إلى مصدر الصوت، وظهر رجل هائل الخلقة من بين الأشجار، فجعل الدب ينظر إليه بعينيه الصغيرتين نظر المنذهل، فقال له الرجل: تعال.

فمشى الدب خطوتين إليه كأنما صوت الرجل سحره، فقال له: نم هنا. فامتثل طائعًا، وجعل يلحس قدمي الرجل.

وقد جرت هذه الحادثة بدقيقة تمكن المركيز في خلالها من النهوض؛ إذ لم يكن أصيب إلا برضوض بسيطة.

أما الرجل فإنه ابتسم للمركيز وقال له: أرجو يا سيدي أن لا تكون أصبت بأذى.

قال: كلا، ولكن وحشك كاد يفترسني.

قال: إنك واهم يا سيدي، فهذا الوحش ليس لي.

– ماذا تقول؟

– أقول الحق؛ فقد كان لي، ولكني بعته منذ ثلاثة أعوام، فلما سمع صوتي الآن عرفني.

وكان السير جيمس وخادمه رأيا هذا المشهد من بعيد، فقال الخادم: إن مروض الوحوش قد خاننا، ولا أجد خيرًا من الهرب.

قال: لقد أَصَبْت فلنذهب.

وكانت مس ألن قد اطمأنت خلافًا لجوادها؛ فقد كان يرتعد، فأمر الرجل الدب أن يصعد إلى القمة فامتثل، وعاد المركيز إلى محادثته، فقال له: تقول إن هذا الوحش ليس لك؟

قال: نعم. فقد بعته حين اعتزلت مهنتي.

– لمن بعته؟

– لرجل يدعى سيمون، وهو يروض الوحوش.

فقالت مس ألن: وكيف اتفق وجود هذا الوحش هنا؟

قال: لا أعلم.

– وأنت كيف اتفق وجودك هنا؟

– إني هنا بأمر الرئيس.

– من هو هذا الرئيس؟

– هو الذي أسفك في سبيل خدمته كل دمي.

– ماذا يدعى؟

فمد يده مشيرًا إلى جهة الغابة وقال: هذا هو، فالتفت المركيز وصاح صيحة دهش. أما الفتاة فإنها كادت أن تسقط عن جوادها حين رأته.

وقد أقبل هذا الذي يدعونه بالرئيس، فقال للذي أنقذ المركيز: لقد أحسنت يا شمشون؛ فإنك أصدق المخلصين.

كان هذا الرجل جان دي فرانس الذي كان يعرفه أهل لندرا باسم الناباب عثمان.

وقد انحنى المركيز أمامه مسلمًا وقال: إني نجوت من الموت بأعجوبة، ويظهر أنك كنت سبب نجاتي.

قال: هو ذاك.

فحاول المركيز أن يشكره ولكنه قاطعه بإشارة وقال له: انظر إلى هذه القمة، فإن صاحب الدب كان مختبئًا فيها لينتظر قدومك، فلما رآك أطلق عليك الوحش، ولكنه كان يوجد رجل مختبئًا وراءه فأغمد خنجره بين كتفيه، وأسرع في أثر الدب وغدارته في يده، فلو لم يعرف صوت صاحبه القديم لأطلق عليه النار وقتله. أفهمت الآن؟

قال: كلا. فلم أفهم السبب الذي حمل هذا الرجل على أن يطلق وحشه علي.

– إنه لم يكن غير آلة في يد سواه.

– أَلِي أعداء يريدون قتلي؟

– إن من كان له صباك ونبلك وثروتك لا يخلو من أعداء، ورجائي أن تأذن لي بأن لا أصرح بأكثر من هذا.

– ولكن أرجو أن تقول لي على الأقل من الذي كان مختبئًا وراء مروض الوحوش وقتله.

– هو أنا.

– أنت؟

– نعم. والآن أرجوك يا سيدي أن تأذن لي بالانصراف، فإني أرى رفاقك قادمين وقد تأخروا عن إنقاذك، ولكنهم سيعطونك جوادًا تعود عليه، فأستودعك الله.

ثم نظر إلى جواد مس ألن وقال لها: إن حزام جوادك قد ارتخى يا سيدتي فائذني لي أن أشده.

وقد دنا منها فشد الحزام وقال لها همسًا: يا توبسي النورية، إن الرئيس يأمرك أن تذهبي بعد ثمانية أيام في الساعة العاشرة من المساء إلى ديتفورد وأن تنتظريه هناك وحدك.

ثم ودع المركيز وانصرف، فتبعه شمشون يصحبه الدب.

وعند ذلك التفت المركيز إلى مس ألن فرآها مصفرَّة الوجه تضطرب؛ فحسب أن اضطرابها من حادثته وقال لها: ما هذا الاضطراب؟

قالت: إني أضطرب من خوفي عليك.

قال: أعرفت هذا الرجل الذي أنقذني؟

قالت: كلا.

وقد أطرقت برأسها إلى الأرض كأنها تريد إخفاء مخاوفها، وعند ذلك انقطع الحديث بينهما لقدوم رفاق الصيد.

•••

أما عثمان أو جان دي فرانس، فإنه عاد من فوره إلى لندرا، وذهب إلى بائع المجوهرات وقال له: أُسْعدت صباحًا يا ناثائيل، فوقف الرجل إجلالًا له وحياه باسم الرئيس، فقال له عثمان: كيف مصير الأعمال؟

قال: إنها في خير حال.

فابتسم وقال له: إذن أنت غير آسف على الزمن القديم حين كنت ترتزق من سرقة كلبك.

قال: كلا أيها الرئيس، ولكن.

– ولكن ماذا؟

– ولكني يخطر لي أحيانًا بعد هذه السعادة أني وحدي.

– تزوج.

– كلا. ليس هذا الذي أعنيه، فقد مت مرة بالزواج، ولا يشتهي الموت من ذاقه، ولكنني نادم لأني بعت بنتي؛ فإنها من دمي، وإني أحن إليها.

– إذن أنت تريد أن تراها.

– وا أسفاه! كيف السبيل إلى ذلك وأنا لا أعلم ما جرى لها ولا أعرف اسم الرجل الذي أخذها مني.

– إن لندرا كبيرة، غير أن من يبحث يجد.

– أحق ما تقول يا سيدي؟

– إنك علمت بالتجربة أني حين أتولى أمرًا لا أخيب.

– إنها تبلغ الآن الحادية والعشرين من عمرها إذا كانت لا تزال باقية في قيد الحياة، وقد كانت تشبه أمها، فهي لا بد أن تكون من أجمل الفتيات، فإذا اشتغلت معي راجت تجارتي أعظم رواج.

– لقد عرفت الآن معنى حنوك الأبوي، ولكني سأجد بنتك، فهل هي موسومة بعلامة طائفتنا؟

– دون شك، فقد وسمتها حين ولادتها.

– أليس لها علامة أخرى؟

– نعم. فقد عضها الكلب في حداثتها، ولا بد أن يكون أثر هذا العض باقيًا بين الإبهام والسبابة.

– حسنًا فسأبحث عن بنتك، ولكني أشترط شرطًا.

– ما هو؟

– هو أني حين أرشدك إليها وأقول لك هذه هي بنتك تطالب بها.

– هذا لا ريب فيه.

فودعه وانصرف.

وفي اليوم التالي دخل ليونيل في فرقة المركيز، وقد أحسن استقباله وعيَّنه ضابطًا، وجاءت أمه من الريف فأقامت متنكرة في لندرا، فلم يكن يعرف أمرها غير السير روبرت.

وأما السير جيمس ابن عم المركيز فقد كان أسفه عظيمًا لخيبة مساعيه، فصبر حتى اطمأنَّ وأيقن أن ابن عمه لم يعلم شيئًا من حقيقة أمره، فعاد إلى الكيد له، وأغرى رجلًا مشهورًا بالمبارزة ورشاه بالمال كي يبارز المركيز. ولم يقتصر على ذلك، بل إنه اشترى حسامًا مقلدًا من نوري — وهو سيف ينكسر لأول صدمة — وأهداه إلى ابن عمه المركيز.

وكان عثمان قد عرف بأمر المبارزة وعلم من النوري سر السيف، فذهب إلى المركيز وسأله أن يجعله من شهوده ففعل.

وفي اليوم المعين للمبارزة أبدل سيف الرجل بسيف المركيز المقلد، وجرت المبارزة، فدارت الدائرة على الرجل، فأخبره عثمان بحكاية السيف المقلد، ولكنه كتم عنه مكيدة ابن عمه، فشكره المركيز شكرًا حميمًا إذ أنقذه مرة ثانية من الموت، ولكنه كان شديد الاضطراب؛ إذ أيقن الآن أن له عدوًّا هائلًا، ولكنه لم يعرف هذا العدو؛ فإن عثمان أبى أن يخبره عنه مدعيًا أنه لم يعرفه بعد.

غير أنه قال له: اطمئنَّ؛ فإذا كان لك عدو، فلك كثير من الأصدقاء، وإن عيونهم لا تنام.

فلم يكن هذا الكلام إلا ليزيد هواجس المركيز؛ فإنه لم يفهم سبب هذه الصداقة ولا ذاك العداء.

بعد حادثة الوحش بثمانية أيام كان عثمان يسير مسرعًا على ضفة نهر التيمس إلى أن دخل إلى مكان معين، فالتفت إلى ما حواليه ليرى إذا كان يتبعه أحد، فلما لم يجد ما يريبه صفر صفيرًا خاصًّا بفمه، ثم اتَّشَحَ بردائه ووقف ينتظر.

وبعد هنيهة سمع صوت المجاذيف، فالتفت فرأى قاربًا يدنو مسرعًا إلى الشاطئ.

وكانت الساعة قد بلغت التاسعة من المساء وظلام الليل مشتد الحلك، فنظر إلى القارب محدقًا وقال: أهذا أنت يا شمشون؟

قال: نعم أيها الرئيس.

فوثب عثمان إلى القارب، ونظر في ساعته فقال: لقد دنا الوقت فأسرع يا شمشون، وسر بي إلى دربيتورد.

وبينما كان القارب يسير كان عثمان يحدث نفسه فيقول: سوف نرى يا مس ألن ما يكون.

وقد كان الهواء شديدًا والتيار سريع الجريان، فاندفع القارب بملء السرعة.

وكان الضباب شديدًا متلبدًا، حتى إن المصابيح التي كانت مضاءة على ضفتي النهر لم تكن ترى لشدة تلبد الضباب.

ومع ذلك فإن شمشون كان يسير بقاربه بملء المهارة، ويدفعه بين السفن الكبرى دون أن يخشى الاصطدام.

وبعد ساعة وصل إلى المكان الذي كان ذاهبًا إليه، فنظر عثمان إلى منزل معتزل تحيط به الأشجار على الضفة اليمنى، فلم يجد فيه أثرًا للنور، فقطَّب حاجبيه وقال في نفسه: ترى أجسرت مس ألن على مخالفة أمري فلم تحضر؟

ثم أمر شمشون أن يرسو عند ذلك الشاطئ، وخرج من القارب فقال لشمشون: ابعد قليلًا، ولا تعد إلا حين أناديك بالصفير.

وقد مشى إلى ذلك المنزل، وسار بضع خطوات تحت جدرانه المظلمة وهو يقول: لا بد لنا أن تكون مس ألن منا.

وفيما هو على ذلك رأى فجأة نورًا قد لمع من وراء إحدى النوافذ، ثم فتحت النافذة، فدنا منها وسمع صوتًا يقول له: من أنت؟

قال: أنا هو الذي تنتظرينه.

قالت: إن النافذة مفتوحة فادخل.

فتسلق الجدار إلى النافذة، ووثب منها إلى الغرفة التي كانت فيها، وهي غرفة مفروشة بالحرير ومزينة بالأزهار وغير ذلك من التزيين الدقيق الذي لا يفهم أسراره غير النساء.

وعلى الجدران رسوم مصورة باليد كتب تحتها اسم ألن دلالة على أنها هي التي صورتها.

وبين هذه الرسوم رسم السير روبرت مما يدل على أن الفتاة كانت في منزلها الصيفي.

وإن تربية الفتاة في بلاد الإنكليز تختلف كثيرًا عن تربيتها في سائر البلدان؛ فإن ذويها يمنحونها الحرية المطلقة، فتركب الجياد، وتسير وحدها في الشوارع، وتتنزه في القوارب دون أن يصحبها أحد إذا شاءت.

ولذلك كانت مس ألن متمتعة بكل ما تتوق إليه نفوس العذارى من الحرية.

وكان السير روبرت قد ذهب منذ يومين إلى إيكوسيا في بعض الشئون وترك مس ألن في لندرا مع مربيتها القديمة.

ولكنها كانت تأتي في كل مساء إلى منزلهم الصيفي فتبيت فيه، وعند الصباح تركب قاربًا وتعود إلى لندرا.

وقد وقف عثمان أمامها، وبدأت هي الحديث فقالت: لقد أحببت أن أراك يا سيدي؛ لأني لا أزال أفكر إلى الآن دون أن أدرك معنى ما قلته لي في حفلة الصيد منذ ثمانية أيام.

قال: إذن أنت تريدين أن أوضح لك معناه؟

فأجابته بجفاء قائلة: نعم. ولا أريد أن تطيل انتظاري.

فجلس على كرسي أمامها وقال لها: إذن اعلمي أيتها العزيزة توبسي أني قادم إليك لأعقد معك محالفة.

فوقفت عندما سمعت كلمة توبسي، وقد توهجت عيناها واصفرَّت شفتاها كأنها رأت أفعى فاجأتها، وقالت له: إني أدعى مس ألن فالدن يا سيدي، وأمنعك عن أن تدعوني بغير اسمي.

فابتسم عثمان ابتسام المتهكم وقال لها: ليكن ما تريدين، فقد قلت لك إني أتيت لعقد محالفة.

فنظرت إليه نظرة المحتقر وقالت: مع من تريد أن أتحالف؟

قال: مع قوم فقراء لا يحسدونك لثروتك وألقابك، أي مع طائفة أميري النورية يا مس ألن.

فضحكت ضحكًا مغتصبًا وقالت: أأنا أتحالف مع النور؟ إنك تقص عليَّ حكاية شرقية.

قال: نعم. وهي حكاية هندية؛ فإن ملك النَّوَر يحبك كثيرًا يا مس ألن، ويريد أن تكوني سعيدة في عائلتك الجديدة.

فقالت له بلهجة المتهكم: أحق ما تقول؟

قال: نعم. وقد خشي أن تتمادي في أطماعك؛ فأرسلني إليك كي أسديك نصيحة، وهي نصيحة أخ صادق، فائذني لي أن أفترض هنيهة أنك تدعين توبسي، وأنك ابنة ناثائيل النوري.

قالت: أتم حديثك، فإنك ترى أني مصممة على أن أسمعه بجملته.

قال: وإذا صح هذا الافتراض، فإن أصحابك يسرهم أن يعقد هذا الزواج الذي يعده لك السير روبرت فالدن.

– مع السير ليونيول؟

– نعم. وهو يحبك بملء جوارحه.

– ولكن إذا خطر لي أن أطمع بأحسن من هذا الزواج، وأردت أن أكون يومًا مركيزة؟

– أتريدين الزواج بالمركيز دي إسبرتهون؟

فقطَّبت حاجبيها لهذه المفاجأة وقالت: لنفترض أن هذا الاسم يوافقني.

– ولكن لا يوافق رجال الطائفة على الإطلاق، وليس من فائدتك أن يكونوا من أعدائك.

فاتَّقَدت عيناها ببارق من الغضب وقالت: أيطمع أولئك الذين تدعوهم أصحابي أن يحكموا على قلبي ومستقبلي ويزوجوني بما يشاءون؟

– كلا. فإنهم يتركون لك الخيار فلك أن تتزوجي بمن تريدينه ما خلا المركيز.

– وإذا أردتُ أن أكون مركيزة، وأن أتشح بوشاح اللوردية، فماذا يكون؟

فوقف عثمان وقال: يكون أن ملك النور ورعاياه يشهرون عليك حربًا عوانًا لا رحمة فيها ولا إشفاق.

فنظرت إليه بعينين تتوهجان من الغضب وثارت في قلبها الأحقاد، فقالت: حسنًا فإن توبسي النورية تقبل هذه الحرب، وإني أقاتل جموعكم وحدي غير هيَّابة من ملككم ورعاياه، فقد ذكرت الآن أيام حداثتي، وذكرت نبرات صوتك التي وصلت إلى مسمعي كالصدى البعيد، وعرفتك حق العرفان؛ فأنت هو جان دي فرانس.

فكتَّف عثمان يديه، وجعل ينظر إليها بملء السكينة، ومضت في حديثها فقالت: نعم. أنت هو جان دي فرانس، أي إنك نَوَري مثلي وابن الطائفة الممقوتة التي قَدَّر لي نكد الطالع أن أكون منها، وأنا خلقت لأكون من بنات الملوك.

نعم. إني أكره هذه الطائفة كرهًا لا تصفه الأقلام، فقد ضُربت فيها وأُهنت وتعذبت، وإن ذلك الوحش الضاري الذي كان يقول إنه أبي كان يضربني دون ذنب، وقد أغرى كلبه بي فدعاه يعضني عضًّا شوَّه يدي.

نعم. إني أكره هذه الطائفة والالتجاء إليها، وأكرهك أنت يا جان دي فرانس؛ لأني أعلم أنك رئيس هذه الطائفة. ارجع أيها اللص. إلى الوراء أيها السفَّاك المتشرد؛ فإن هذه الثروة التي تتمتع بها إنما هي من السرقة والآثام وسفك الدماء.

فكان جان يسمع حديثها وهو يبتسم، حتى إذا أتمته قال لها: احذري؛ فإني قادر أن أجعلك تندمين.

قالت: اخرج من هنا أيها المتشرد؛ فإني لا أخافك.

ولكنه لبث واقفًا مكانه، فهاج غضبها وأخذت سوطًا كان على مقعد بجانبها فضربته به على كتفه.

أما جان، فإنه لم يهجم عليها ويعصرها بين ذراعيه، بل إنه رجع خطوة إلى الوراء وقال لها بصوت أجشَّ: إنك ستبكين دمًا لهذه الضربة. إلى اللقاء يا توبسي.

ثم مشى إلى النافذة فوثب منها وتوارى عن الأنظار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤