الفصل السادس

دهاء النساء

عندما وصلت رسالة ألن إلى جان كان يتداول مع الطبيب بولتون، فكان جان يقول له: هل أنت واثق من أن هذه المرأة كانت مس ألن؟

قال: كل الثقة. ألم أقل لك أني قفوت أثر مركبتها؟

فقطَّب جان حاجبيه وقال: أتعلم أن روجر مُتَوَلِّهٌ بحبها؟

قال: لا أعجب من ذلك، فهي جميلة طماعة تريد أن تدعى مركيزة.

قال: ولكني أنا لا أريد. وهذا لا يكون، وأنا أعلم أن توبسي خصم لا يهزأ به؛ فإن لها ميلًا فطريًّا إلى الشر، ولها جرأة وصبر شديد وإرادة لا تغلب، فإذا ظفرت بي فهي لا ترحمني، وفوق ذلك فإنها تسلطت على السير روبرت فلا يعمل إلا بإرادتها.

قال: ولكني أخاف أن تكون نصبت لك فخًّا في هذه الرسالة.

فابتسم ابتسامة احتقار وقال: إن خنجرها لا يصل إليَّ هذه المرة.

– إذن ستذهب إلى حيث دعتك؟

– دون شك إني ذاهب من فوري.

ثم نادى شمشون وقال: أخبر اليبسي أن تتأهب؛ فإنها تكون في مأمن على ظهر السفينة، ثم اذهب بها في قاربي وانتظرني في النهر إلى أن آتي إليك.

فذهب شمشون مسرعًا وسأل الطبيب جان قائلًا: من هي اليبسي هذه؟

قال: إنها المرأة التي تستحق أن تحب، فإنها مثال الخير كما أن توبسي مثال الشر.

– أرى أنك تحبها من تهدج صوتك.

– هو ذاك؛ فإني أحبها أصدق حب.

وقد نظر عند ذلك في ساعته وقال: لقد بلغت الساعة الثامنة وإن روجر ينتظرك للعشاء أيها الصديق.

قال: إني ذاهب إليه، وسأعود إليك مساء غد فأخبرك بنتيجة الدواء.

وبعد انصراف الطبيب تنكَّر جان بملابس نوتي وذهب إلى النهر فوجد أخته وشمشون ينتظرانه في القارب.

وقد صعد إليه فسأله شمشون إلى أين تريد أن تذهب؟

قال: إلى الباخرة فولر ثم إلى ريشفورد.

فقالت له أخته: دعني أصحبك يا جان إلى حيث أنت ذاهب فأنتظرك مع شمشون في القارب.

لماذا تريدين أن تصحبيني؟

لأني خائفة؛ فقد حلمت أمس حلمًا مخيفًا.

إذا كنت تعتقدين بالأحلام فهلمي معي، ولكن لا تخشَيْ عليَّ، ثم أمر شمشون فدفع القارب إلى جهة ريشفورد.

وكانت ألن قد سبقته إلى الموعد، ووقفت في ردهة المنزل تنظر إلى النهر في تلك الليلة المقمرة فرأت جان قد خرج منه إلى الشاطئ، ورأت أن القارب لا يزال واقفًا وفيه رجل وامرأة.

وقد دخل جان إليها فاستقبلته بملء البشاشة وقالت له: أشكرك لإسراعك بتلبية دعوتي.

فانحنى أمامها، وأشارت له أن يجلس على كرسي بجانبها.

فقالت له: إنك تعلم يا عدوي العزيز أني ما دعوتك إلى مقابلتي إلا وقد عقدنا هدنة، فلا خوف عليك من خيانة ما زلت عندي.

قال: وأنا رضيت عقد الهدنة فلا خوف عليك من انتقامي.

والآن، فهل لك أن تخبريني عن سبب تشريفك إياي بهذه المقابلة؟

قالت: دون شك؛ فإني ما دعوتك إلا لأقترح عليك عقد الصلح؛ فقد رأيت أننا كفآن متوازنان؛ فأية فائدة من العداء؟

قال: هو ذاك، وإني راضٍ بالصلح.

– إن هدية العلبة التي أرسلها إليَّ ناثائيل دلتني على أنك عدو مخيف، ولكن نتيجة هذه الحادثة دلتك أيضًا على أني لم أكن مغلوبة، وفوق ذلك فقد رجحت عليك بتلك الطعنة التي أصابتك بها الهندية.

– تريدين أن تقولي إنك التي طعنتني؛ إذ أنت التي أرشدتها إليَّ؟

– هو ذاك، وإني بهذه المناسبة أريد أن أسألك عن أمر أشكل عليَّ.

– أتريدين أن تعلمي كيف نجوت؟

– نعم.

– الأمر بسيط؛ فقد كنت واهمة باعتقادك أن الخنجر مسموم، وذلك أن الهندي الذي يصحب الهندية كان يعلم أنها مجنونة فأبدل خنجرها المسموم بخنجر عادي فلم يقتلني الجرح.

فابتسمت ألطف ابتسام وقالت: إني أريد أن أعرض عليك الصلح.

– ما هي شروطك؟

– ليس لي غير شرط واحد.

– ما هو؟

– هو اعتزالك.

– إن اعتزالي قد يكون كثيرًا وقد يقل.

– إني منذ عام أسائل نفسي هذا السؤال، وهو: أية فائدة لجان دي فرانس وهو نوري مثلي في توليه حماية المركيز روجر ابن ذلك اللورد الذي طالما اضطهد طائفتنا.

– أأنت سألت نفسك هذا السؤال؟

– نعم. ولولا حدوث حادثة لم أكن أتوقعها لما عرفت الحقيقة.

– أعرفتها؟

– نعم. ووثقت الآن أن المركيز روجر هو ابن اللورد إسبرتهون وسينتيا النورية أي أختك، وعرفت أيضًا أن الطبيب بولتون لفق له حكاية عن الوشم الذي وشم به كتفه، وأنه آخذ بمعالجته فلا يمر أسبوع حتى يزول هذا الوشم كما زال وشمي.

أما هذه الحكاية الملفقة فقد يثق بها رجل بسيط القلب كالسير روبرت الذي رباني، ولكنها لا تجوز عليَّ؛ وعلى ذلك فإن المركيز روجر إنما هو نوري مثلنا.

– وبعد ذلك؟

– إني أحب هذا المركيز.

– تريدين أنك تحبين ثروته ولقبه.

– إنه يحبني ويريد الزواج بي، فلماذا تعترض هذا الزواج؟

– لأني لم أجعله مركيزًا ولوردًا كي يتزوج نورية.

– أصغ إليَّ يا جان، فإني أتوسل إليك جاثية أن تغفر لي إساءتي.

– وأن أدعك تتزوجين المركيز؟

– نعم يا جان. إني طامعة متكبرة، وإن روجر نوري مثلي، ولذلك أريد أن أشاركه في مجده.

وإنك متكبر مثلي، ولم يدفعك إلى ترقية ابن أختك غير الكبرياء؛ فثق يا جان أني إذا تزوجت به أكون من أشد الناس إخلاصًا لطائفتكم.

– إن هذا محال فكوني سيدة عظيمة إذا استطعت، وأما أن أجعل ابن أختي وملكنا سلمًا لمرقاتك فهذا محال.

فارتجفت شفتاها من الغضب وقالت له: إني توسلت إليك، فكنت من غير إشفاق، وأبيت إلا الحرب فليكن ما تريد واحذر لنفسك.

– كما تريدين، ولكني أمهلك يومًا لتتمعني.

– لا أريد مهلة.

فأخذ قبعته وحاول الانصراف فقالت له بصوت يرتجف: اصبر.

– إني مصغٍ إليك.

– احرص على ابن أختك وملكك؛ فإن عدوه سيكون له أتبع من ظله.

– لقد أعذر من أنذر.

– كلمة أيضًا.

– ماذا؟

– من هي هذه المرأة التي تنتظرك في القارب؟

– اليبسي؟

– تلك المصرية الحسناء.

– نعم. فهل غرت منها؟

– إنك تحبها.

– أصدق حب.

– إذن سأكون أقوى منك، فإنك تطعنني بأطماعي أما أنا فأطعنك بقلبك.

– جربي.

فاتقدت عيناها ببارق مخيف وقالت له: اذهب واذكر أني أهنت نفسي ونزلت عن عرش كبريائي بتوسلي إليك.

•••

بعد هنيهة كان جان واقفًا عند الشاطئ وقد صفر فجاء شمشون بالقارب وصعد جان إليه فجلس بجانب أخته فقالت له: إن هذه المرأة ستكون شؤمًا علينا يا جان، فإنك بينما كنت عندها سقط نيزك من السماء، وهذه علامة الموت.

فأجابها مازحًا: إن هذا النجم انْحَلَّ بُرْغِيُّهُ فسقط.

قالت: لا تضحك يا جان، فهذه علامة الموت كما قلت لك.

وعند ذلك سمع دوي طلق ناري فصاحت اليبسي صيحة عظيمة وسقطت بين يدي جان؛ فإن الرصاصة أصابتها.

•••

في تلك الليلة نفسها ذهبت ألن إلى حيث تقيم الهندية، فدخلت إليها وكشفت قناعها وقالت لها: إنه لم يمت.

فوقفت الهندية كأنما لسعتها أفعى وقالت: من هو؟

قالت: سارق كنز الإله سيوا.

فهزت كتفيها وقالت: إن هذا محال.

– لقد قلت لك إنه لم يمت.

– ألعلك رأيته؟

– وكلمته.

– متى؟

– منذ ساعة.

– إذن إن هذا الرجل تحميه قوة إلهية أو هو من السحرة.

– كلا، ولكن رفيقك الهندي بدل خنجرك المسموم بخنجر عادي.

– ذلك لا يصدق؛ فإن له قوة تحميه.

فرأت ألن أن لا فائدة من الجدال معها فقالت لها: إن هذه القوة قد تحميه من الخناجر، ولكنها لا تحميه من السموم التي تبيعينها.

فتوهجت عينا الهندية من الحقد وقالت: أين أجده؟

– في منزله في بيكاديلي.

– حسنًا. فستعلمين ما يكون من أمره قبل ثلاثة أيام.

– إذن فاعلمي أنه يدعى الناباب عثمان الهندي، والآن أستودعك الله. وقد أسدلت قناعها على وجهها وحاولت الانصراف، ولكنها سمعت أن باب دكان الهندية يقرع، فأسرعت واختبأت وراء ستارة كانت تفصل بين الدكان والسرير الذي تنام عليه الهندية، وأشارت إليها أن تفتح ففتحت ودخل رجل كان متشحًا برداء كبير وهو يحاول إخفاء وجهه، فقالت ألن في نفسها: لا فائدة من تنكرك فقد عرفتك.

أما الرجل فإنه قال للهندية: هل نحن وحدنا هنا؟

قالت: نعم، فماذا تريد يا سيدي أتريد شراء مسابح وروائح عطرية؟

قال: كلا.

– إذن. أتريد أن أكشف لك طالعك؟

– ربما.

– هات يدك.

فبسط لها يده ونظرت في باطن كفه فقالت له: يوجد رجل تكرهه أشد الكره.

– هو ذاك.

– وقد حاولت قتله مرارًا فلم تفز.

– لقد أصبت.

– ولكن يوجد طريقة للتخلص منه.

– ما هي؟

– السم.

– لقد خطر لي هذا الخاطر، ولذلك جئتك لأشتري منك هذا السم.

– إني لا أبيع السموم يا سيدي. وقد أخطأ من أخبرك.

فظهرت علائم الامتعاض على الرجل وقالت الهندية: إني أعلم بأنهم يتهمونني ببيع السموم، ولكنها تهمة باطلة؛ فإني أبيع المسابح، وأكشف الطوالع، وأرقص في الشوارع، وهذا كل ما أعمله.

وعند ذلك سمعت الهندية حركة من وراء الستارة لم ينتبه لها الرجل؛ فالتفتت فرأت ألن تشير إليها إشارة لم تفهمها فقالت للرجل: اصبر يا سيدي فسأريك سبحة تشتريها لا محالة.

ثم دخلت إلى ما وراء الستارة لترى ما تريده ألن، فهمست في أذنها قائلة: إن هذا الرجل سينتقم لك؛ فأعطيه السم الذي يطلبه، وضعي في العلبة التي تضعين فيها السم هذه الورقة.

وقد أخذت ورقة من دفترها وكتبت عليها هذه الجملة:

ابدأ بقتل الناباب عثمان إذا أردت أن تفوز.

ثم قالت لها: لا تعطيه من السم إلا بقدر ما يكفي لقتل رجل واحد فقط.

فأخذت الهندية علبة وخرجت إلى الرجل فقالت له: هذه سبحة مصنوعة من خشب الستيكنوس وهي تفيدك فيما تريد.

فارتعش الرجل وقال: ماذا تعنين؟

قالت: من محلول هذه الحبوب سم يقتل للحال، وهذه السبحة يستطيع صاحبها أن يعبث بها قدر ما يشاء دون أن يصاب بأذى وأما إذا أذاب حبة منها في كأس من الخمر تستحيل إلى سم صاعق، ولكن هذا السم غالي الثمن فإن الحبة الواحدة تساوي خمسة وعشرين جنيهًا.

قال: إذن أعطيني حبتين.

قالت: لا أستطيع أن أبيعك غير حبة واحدة؛ فإذا احتجت إلى سواها فعد إليَّ.

فنقدها ما طلبت وأخذ الحبة وانصرف.

فقالت ألن: هو ذا الرجل كان يحسبه الناس من الأموات وقد خرج من بين القبور.

ثم خرجت إلى الهندية فقالت لها: أصغي إليَّ واعلمي يقينًا أنك إذا كنت لا تريدين أن يحكم عليك بالموت في النار فاحذري أن تبيعي أحدًا حبة أيضًا من هذه السبحة.

– حتى هذا الرجل؟

– هو على الأخص.

– ولكن ما أصنع إذا توعدني بالشكوى؟

– أنقذك كما أنقذتك من كنز الإله سيوا، واعلمي أن هذا الرجل سيقتل جان دي فرانس قبل أسبوع.

– هل أنت واثقة مما تقولين؟

– كل الثقة؛ فإن هذا الرجل جبان، وهو يعلم أن جان يحمي عدوه، فسيقتله قبل ذلك العدو.

– إذن سأكون عبدة له.

– أنسيت أنك عبدتي؟

– نعم نعم. فمري أطع.

– إن هذا الرجل بعد أن يقتل عثمان يعود إليك كي يلتمس سمًّا يقتل به عدوه فتوهمينه أنك ستبيعينه ما أراد وتدخلينه إلى ما وراء هذه الستارة.

– لماذا؟

– لأن الصدفة قد تجعله يجلس على هذا المقعد، وفيه إبرة مسمومة تشك جلده، فإذا اتفق ذلك أعطيتك من الذهب قدر ما تكسبين في مدة عشرة أعوام.

– ليكن ما تريدين، فسأساعد هذه الصدفة.

أما هذا الرجل، فقد كان السير جيمس ابن أخي اللورد إسبرتهون، ذلك الذي ألقى نفسه من فوق الحصن في أميركا، ثم انقطعت أخباره فتوهم الجميع أنه مات.

وقد عاد إلى لندرا متنكرًا، فلم يعلم حقيقة أمره غير خادمه ويلس، وهو الآن يريد شراء السم كي يقتل به ابن عمه المركيز روجر.

فلما عاد إلى منزله فتح العلبة، وقرأ الجملة التي كتبتها ألن فأيقن أن له شريكًا يعاونه بالسر، وأنه مصيب بما أوصاه به؛ فإنه لا يستطيع أن يتمكن من ابن عمه إلا بعد أن يتخلص من عثمان.

غير أن كيد ألن لم يقتصر على هذا الحد؛ فإنها بعد أن مهدت للسير جيمس سبيل قتل عثمان، وبعد أن أصابت حبيبته بجرح كاد أن يودي بحياتها؛ كمنت لأخته سينتيا أم المركيز مع فريق من أعوانها فاختطفتها وهي خارجة من منزلها لغرض سوف يظهر.

•••

والآن؛ لنعد إلى السير روبرت فالدن، فقد كان شديد التمسك بالشرف، كثير الحرص على مقام الأشراف. وقد رأينا منه كيف أبى أن يزوج ربيبته بليونيل وهو يحبها كبنته كي لا يؤنبه ضميره على تزويج نورية بشريف، وإنما أراد تزويجها بالمركيز لاعتقاده أن المركيز ليس ابن اللورد الشرعي؛ فإنه كان أصيب مرة بجرح في كتفه إثر مبارزة كان السير روبرت أحد مشاهديه فيها، فلما كشف الطبيب عن كتفه رأى روبرت هذا الوشم على كتفه، وهو يعلم أنه خاص بالنَّوَر؛ فتولدت في نفسه الشكوك من ذلك العهد.

وقد كثرت هواجسه واشتد قلقه، وأراد أن يعرف حقيقة هذا السر الذي كاد يقتله، فقال في نفسه: لم يَبْقَ بد من أن أذهب إلى روجر وأستوضح منه جلية الأمر، فإذا برهن لي أنه ابن اللورد إسبرتهون الشرعي أعتذر إليه، وإذا لم يستطع البرهان لجأت إلى مروءته فإنه كريم الأخلاق عزيز النفس لا يرضى أن يلقب بلقب سواه.

وكان قد وعد ربيبته أن يأتيها بالخبر اليقين بعد ثلاثة أيام، فبرح منزله في اليوم الثالث وذهب إلى المركيز فلقي عنده الطبيب بولتون يعالج كتفه، فابتسم المركيز له وعاتبه لانقطاع زياراته، فتمتم بعض كلمات اعتذار وقال الطبيب: أنا أعرف السبب الذي دعا السير روبرت إلى الانقطاع عنك منذ عهد مبارزتك مع القائد مكسويل.

فقال له المركيز: إذا كنت تعرف السبب كما تقول فأسرع بإخباري عنه؛ فإني لا أزال مندهشًا من مناهج السير روبرت.

قال: تصور أيها المركيز أن السير روبرت فالدن — وهو صديقي منذ ثلاثين عامًا — أراد يومًا أن يقتلني عند سريرك.

فصاح المركيز قائلًا: ولكن هذا محال.

قال: سله يخبرك أني قلت الحقيقة.

فهز السير روبرت رأسه إشارة إلى الموافقة. وقال الطبيب: هل تعلم لماذا كان يريد قتلي؟ ذلك لأني أبيت أن أبوح بسر أبيك المرحوم.

فقال المركيز: هذا الذي أسمعه؛ فإني أحسب نفسي حالمًا. أحقٌّ ما يقوله يا سير روبرت؟

– نعم إنه يقول الحق.

– أأنت أردت قتله؟

فقال الطبيب: نعم؛ وذلك لأني أبيت أن أكشف له سبب وجود الوشم على كتفك.

فقهقه المركيز ضاحكًا وقال: أراهن على أن السير روبرت توهم أني من النور.

فقال الطبيب: هو ذاك.

وكان السير روبرت توقع أن يرى المركيز يضطرب، فإذا به يضحك ويقول له: اطمئن أيها الصديق؛ فإني حقيقة ابن اللورد إسبرتهون.

وقال له الطبيب: اعلم أيها الصديق أني أقسمت يمينًا للورد إسبرتهون أن لا أبوح بهذا السر لأحد إلا متى تمكنت من إزالة هذا الوشم عن كتفه، وقد وجدت اليوم الدواء الذي يزيله ولم أعد مقيدًا باليمين فاسمع ما حدث.

وعند ذلك قصَّ عليه الحكاية نفسها التي قصها على المركيز منذ يومين، فلما فرغ من حديثه احمرَّ وجه السير روبرت من الخجل والتفت إلى المركيز، فقال له: إني لا أعذر نفسي لظنوني السيئة، فهل تتفضل بمعذرتي أيها المركيز؛ فأجابه المركيز بأن مد له يده وصافحه وزالت الظنون.

•••

وعاد السير روبرت إلى منزله، فوجد مس ألن تنتظره فقالت له: أين كنت يا عمي؟

قال: إني قادم من عند المركيز، وقد ثبت لي الآن أن ليونيل لا يمكن أن يكون …

– كيف ذلك؟

– ذلك أننا خدعنا؛ فإن المركيز هو حقيقة ابن اللورد إسبرتهون.

– أأنت واثق؟

– كل الثقة.

– والوشم؟

– إن له حكاية قصوها عليَّ ووثقت بها.

– إنك تلبث واثقًا إلى أن تجد البرهان الوافي على أنهم كانوا يمثلون أمامك رواية.

– ماذا تقولين يا ابنتي، ألعلك جننت؟

– وأنت ماذا قالوا لك عن أصل هذه العلامة. ولكن لا تقل شيئًا؛ فإني أعرف الحكاية كما عرفتها، فهي من مخترعات جان دي فرانس.

– جان دي فرانس؟

– نعم، أي ملك النور، وهو أخو سينتيا التي كانت خليلة اللورد إسبرتهون وأم المركيز روجر. ألم يخبروك أن النور اختطفوا المركيز في عهد حداثته من سراي كلكوتا؟

– نعم. ولكن كيف عرفت ذلك؟

فابتسمت ابتسامة السائد وقالت: أصغ إليَّ يا عماه؛ فإننا نسير وراء غاية واحدة، ولكن الأسباب مختلفة؛ فإنك تريد أن ترى ليونيل — وهو ابن اللورد الشرعي — في مكان أبيه.

– ولكن كيف يكون ذلك إذا كانت الحكاية التي سمعتها أكيدة؟

– بل إنها مختلقة. وأنا أتعهد بأن أبرهن لك عن اختلاقها.

– أنت؟

– نعم ولكن بشرط.

– ما هو؟

– هو أن تدع لي حريتي التامة.

– كيف ذلك؟

– إني أستمهلك ثلاثة أيام على الأكثر ويومًا على الأقل فأثبت لك أن المركيز روبرت هو أميري ابن سينتيا النورية، وأُكْرِهُ هذه الأم على الاعتراف.

– أنت تفعلين ذلك؟

– نعم إذا أردت أن أكون أنا الفكر المدبر وأنت اليد العاملة.

– لقد رضيت.

– إذن إني أحتاج هذه الليلة إلى اثنين من رجالك لأستعين بهما على اختطاف.

فنظر إليها منذهلًا فقالت: ألعلك نسيت يا عمي أني نورية. إنك شريف حر الضمير فلا تستطيع أن تتغلب على جان دي فرانس.

– ولكن أين سمعت اسم هذا الرجل؛ فإني أذكر أني سمعته من قبل؟

– تذكر يا عماه. ألم تخبرني مرة أن اللورد إسبرتهون كاد أن يفترسه النمر فأنقذه رجل نوري.

– نعم.

– إن هذا النوري كان جان دي فرانس. ثم ألا تذكر أن المركيز روجر كاد يبطش به الوحش في الغابة وأن رجلًا أنقذه؟

– نعم.

– إن هذا الرجل كان جان دي فرانس. ثم ألا تذكر حين احتالوا على المركيز يوم مبارزته مع الضابط مكسويل، فأعطوه حسامًا سريع الانكسار، وأن رجلًا أبدل السيف بسواه؟ إن هذا الرجل كان جان دي فرانس.

– إذن، إنه شيطان في زي إنسان.

– هو ذاك. ولكنه ملاك يحمي روجر من كل الأحقاد، فقد أنقذه عشر مرات من الموت في أميركا، وهو يلزمه لزوم ظله أين ذهب.

– وإن روجر شريكه لا محالة؛ لأنه يعرف أصله.

– كلا؛ فإن روجر يعتقد اعتقادًا واضحًا أنه ابن اللورد الشرعي.

– إذا كان ذلك يمكن إرجاعه إلى الصواب.

– نعم. ولكن ليس أنت الذي تستطيع إرجاعه.

– كيف ذلك؟ أيشك بكلامي؟

– إن الذين يخضعون لسلطة جان دي فرانس لا يثقون إلا به أو بي.

– أنت؟

– نعم. فإن روجر يحبني أعظم حب بحيث أستطيع به مقاومة جان دي فرانس، فإذا أطلقت لي حريتي جعلت ليونيل يخلف المركيز دون أن أدع الألسنة تلهج بهذا الانقلاب.

– ولكن ماذا يكون مصيره؟

– ليتوارى معي عن العيون ويكفيه ثروةً أن أحبه كما يحبني.

– ولكن أية فائدة لجان دي فرانس من حماية المركيز؟

– إنه ابن أخته، ومن طائفته المضطهدة؛ فهو يريد أن يتخذه سلاحًا ضد مضطهِدي تلك الطائفة.

– وأنت تعتقدين أنك تستطيعين مقاومة جان دي فرانس؟

– بل إني واثقة من الفوز عليه إذا كنت تأذن لي أن أخرج من المنزل حين أشاء.

– إني أمنحك هذه الحرية فلا يهنأ لي عيش قبل أن تنحلَّ هذه الرموز.

– لقد قلت لك إني محتاجة إلى رجلين يساعدانني على اختطاف.

– من الذي تريدين اختطافه؟

سينتيا أم المركيز، وإن عندك خادمين شديدين، وهما نوح وبلاك، فمرهما أن يطيعاني وعليَّ البقية.

ثم قرعت جرسًا، وأمرت أن يُعِدُّوا لها مركبة.

•••

وقد تقدم لنا القول إنها اختطفتها، وكان اختطافها بواسطة الرجلين والهندية؛ فإنهم كمنوا لها عند مدخل منزلها، حتى إذا خرجت منه دنت منها الهندية وبسطت يدها تسألها الإحسان، فبينما كانت تحاول إعطاءها قطعة من النقود شعرت أن كيسًا غطى رأسها وأنها حملت فوضعت في مركبة، ثم سمعت تلك المتسولة تقول لها: احذري أن تصيحي إذا أردت السلامة لك ولولدك.

وبعد أن سارت المركبة قليلًا قالت لها الهندية: إن هذا الكيس يزعجك كثيرًا فإذا أردت أن نعصب عينيك نزعناه عن رأسك فتستطيعين التنفس بحرية.

فأومأت برأسها إشارة إلى القبول، فنزعت الكيس عن رأسها، وعصبت عينيها، ثم قالت لها: إننا نستطيع الآن أن نتحدث.

قالت: ماذا تريدين مني؟

قالت: أريد أن أحدثك بشأن ولدك.

– ليس لي بنون.

– بل إنك تكذبين؟

– ثقي أنك مخطئة فليس لي ولد ولا زوج.

– بل إننا واثقون أن لك ولدًا وأنهم فرقوا بينك وبينه.

– لقد قلت لك إنه ليس لي ولد؛ فإلى أين تذهبون بي؟

– إلى هذا الولد الذي تنكرينه.

– إذن سوف ترون أنكم مخطئون؛ فإن الولد يعرف أمه.

فامتنعت الهندية عن مباحثتها، وبعد ساعة وصلت المركبة إلى منزل ألن الصيفي، وهو ذلك المنزل الذي استقبلت فيه جان حين أرادت محالفته، فأخرجتها الهندية من المركبة، وأدخلتها إلى المنزل، فسمعت سينتيا الرجلين يتحدثان، وسمعت من خلال حديثهما اسم مس ألن فسرى الرجاء إلى قلبها؛ إذ علمت أنها في منزل مس ألن، وأن أخاها جان يعرف هذا المنزل.

وعند ذلك نزعت الهندية العصابة عن عينيها، فوثقت أنها عند مس ألن، فإن جان كان قد وصف لها تلك الغرفة فوجدتها كما وصف.

ثم مشت بها الهندية إلى قاعة المكتبة، فأدارت لولبًا في الجدار فانفتح باب خفي، فدخلت وإياها منه، فأقفلته وقالت لها وهي مجردة خنجرها: إنك سترين ولدك، ولكن احذري أن تصيحي صيحة.

وقد أزاحت كتابين عن موضعهما فنفذ النور إلى تلك الغرفة من ثقبين وراء الكتابين، فقالت: إنك تستطيعين أن تريْ من هذين الثقبين حين يأتي ولدك.

قالت: إني لا أفهم شيئًا مما تقولينه، فلقد قلت لك إنه ليس لي ولد.

قالت: سوف نرى.

بعد هنيهة دخلت مس ألن إلى القاعة، فرأتها سينتيا وعرفتها، فإنها وقفت معها في المركبة يوم عاد ابنها من أميركا.

أما ألن فإنها جلست على مقعد أمام الثقبين، وجعلت تحدث نفسها بصوت مرتفع فتقول: ترى أيأتي. نعم إنه سيأتي. آه كم أطلبه. ولكني أخاف أن يكون تأخر وصول رسالتي إليه.

ثم قامت ففتحت نافذة تشرف على النهر، فأطلت منها وقالت: روجر! أين أنت؟ إني لا أرى قاربًا في النهر ولا أسمع صوت مركبة في الطريق. أواه ما أشد وقع الريب في قلوب المحبين.

فكانت سينتيا تسمع أقوالها وهي تنذهل وتقول في نفسها: عجبًا كيف يقول أخي إنها عدوة روجر وهي تحبه هذا الحب؟

وعند ذلك صاحت ألن صيحة فرح وقالت: هذا هو قد حضر … إني أسمع وقع المجاذيف في المياه … نعم نعم. هذا هو. وا فرحاه!

وكانت الهندية ممسكة بيد سينتيا فقالت لها: أرأيت كيف أن يدك تضطرب في يدي حين علمت بقدومه؟

فحكمت نفسها وقالت: كلا ليس لي ولد، وأنتم واهمون.

وبعد هنيهة دخل روجر فقبل يد ألن فقالت له: أول ما أبدأ به أيها الحبيب رجائي أن تغض الطرف عن دعوتي إياك، ولكني فقدت صوابي للخطر المحدق.

قال: أي خطر هذا؟

– إنه خطر يحدق بي وبك؛ فقد كدت أفترق عنك إلى الأبد.

– رباه ماذا أسمع؟

– إن عمي أراد أن يحول بيننا؛ فقد علم بحبنا.

– إنه كان عندي اليوم.

– لا أعلم. ولكن الذي أعلمه أنه تآمر عليَّ مع والدة ليونيل.

فاصفرَّ وجه المركيز وقال: لقد بت أكره ليونيل بعد أن كنت أحبه كأخي.

قالت: اغفر له أيها الحبيب، فهو يحبني ويتوهم أني أحبه.

– وهذه المؤامرة.

– إنهما يريدان أن يرسلاني إلى قصر لعمي في إيكوسيا، وهناك يأتي ليونيل فيزوجاني به، ولكن اطمئنَّ فقد اكتشفت سر هذه المؤامرة، ولذلك دعوتك.

– إذن أنت لا تسافرين؟

– كلَّا.

– ولا تتزوجين ليونيل؟

– ألم أقسم لك؟

فقالت سينتيا في نفسها: لا شك أن أخي منخدع، فكيف تكون عدوته وهي تحبه هذا الحب؟

وعادت ألن إلى الحديث فقالت: أما وقد رأيتك الآن وأخبرتك بما كان يحدق بك من الخطر، فلا يجب أن أرتكب هفوة جديدة.

– ماذا تعنين؟

– أعني أن عمي علم أني زرتك في منزلك، والآن يجب أن أسرع إلى العودة إلى لندرا؛ فإني أخاف أن يعود عمي من النادي فلا يجدني في المنزل.

– كيف ذلك؟! أأفارقك وأنا لم أكد أراك؟

– لا بد من ذلك، ولكني سأعود معك فيخفينا الظلام.

فصاح صيحة فرح. فقالت له: اسكت إذ يوجد هنا خادمة جديدة تحرس المنزل، وأنا آتي إلى هنا من حين إلى حين لافتقدها.

وإن قاربي يرسو عند الشاطئ، وقد أطلقت سراح النوتي الذي أوصلني لترجعني أنت فلا تجزع لأمر وثق بي.

– أواه من ليونيل.

– لماذا تخافه وأنا لا أحبه؟

– إني أخاف أن يُكرهك عمك إلى الامتثال.

– لا توجد قوة تُكرهني، فثق بي كما تثق بأمك.

– أمي؟! وا أسفاه! إني لم أعرف أمي.

– أكنت تحبها إذا عرفتها؟

– بل كنت أعبدها. ومن هذا الذي لا يحب أمه؟

وعند ذلك سمعت الهندية تنهدًا عميقًا تلاه سقوط جسم على الأرض؛ ذلك أن سينتيا كانت قد أغمي عليها. أما ألن فإنها خرجت مسرعة مع المركيز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤