في نتائج الانحلال
نتج من انحلال الدولة العباسية في هذا الحين أمران خطيران رئيسيان؛ الأول: انقسام الدولة إلى دويلات. والثاني: قوة أمر أصحاب العقائد والمذاهب المخالفة لمذهب الخلافة.
وإليك تفصيل هذين الأمرين:
(١) ظهور الدويلات الجديدة وهي
(١) الدولة الطاهرية. (٢) الدولة الزيادية. (٣) الدولة الزيدية. (٤) الدولة الصفارية. (٥) الدولة السامانية. (٦) الدولة الساجية. (٧) دولة الأدارسة. (٨) دولة الأغالبة. (٩) دولة الطولونيين. (١٠) دولة الإخشيديين.
فقد كان طبيعيًّا، بعد هذا الانحلال الذي رأينا مظاهره ومجاليه، أن تتجزأ الدولة الكبرى وتنفصل عنها دويلات ترتبط بها اسمًا، وما هي في الحقيقة إلا دولة مستقلة، استقل أصحابها ببلادهم، وتمتعوا بخيراتها وأبقَوا للخليفة الاسم الوهمي الذي لا طائل تحته، ولم يُبقوا له إلا النفوذ الروحي والأثر الديني، والحق أن أولى هذه الدويلات التي استقلت في المشرق استقلالًا حقيقيًّا عن دولة الخلافة، هي الدولة الصفارية، أما الدولة الطاهرية، التي يرجع عهدها إلى ما قبل العصر الذي نؤرخه، فقد أبقت بعض العلائق القوية بينها وبين المركز في بغداد، وإنما نذكرها ها هنا؛ لأنها هي أولى الدول التي ابتدعت بدعة الانفصال، وقد أشرنا إلى بعضها في «عصر الازدهار».
(١-١) الدولة الطاهرية (٢٠٥–٢٥٩ﻫ/٨٢٠–٨٧٢م)
أول مَن أسَّس هذه الدولة هو الأمير طاهر بن الحسين بن مصعب الخراساني، وهو من بيتٍ عريق في إيران، وُلد ببوشنج من أعمال مرو سنة ١٥٩ﻫ، وكان جده مصعب بن زريق بن ماهان، واليًا عليها وعلى هراة، وكان قبل ذلك كاتبًا وصاحب سر سليمان بن كثير الخزاعي أحد دعاة الدولة العباسية.
وقد رأى المأمون ألا يقصي آل طاهر عن الحكم لما رآه من قوة سيطرتهم على تلك البلاد، فولَّى طلحة بن طاهر موضع أبيه، وقد احتفظ أبناء طاهر بسلطانهم على تلك الديار فترة غير قصيرة، وكان هذا أول حدث في تجزئة الإمبراطورية الإسلامية.
وهكذا انتهت أيام هذه الدولة، التي هي أولى الدول الفارسية المنفصلة عن جسم الإمبراطورية الإسلامية، والتي شجعت أصحاب المطامع من الفرس وغيرهم عن الانفصال، واستطاع الطاهريون بمواهبهم وذكائهم أن يستمروا في الحكم عهدًا طويلًا، لِما كانوا يتمتعون به من مواهب وكفايات وحب للعلم وأهله، ولما لهم من مكانةٍ محلية بين أهل تلك الديار، ولمَّا عزم المعتصم، الذي كان يكره عبد الله بن طاهر، على أن ينقله من خراسان إلى ولاية أخرى لم يستطِع تنفيذ إرادته، بل عمل على قتله في الخفاء، وحين هلك عبد الله وأراد الواثق أن يولي إسحق بن إبراهيم المصعبي لم ينفذ فكرته لخشيته من ألا تتم. ولو لم يكن آخر الطاهريين — وهو محمد بن طاهر — ضعيف الإرادة، ميالًا إلى اللهو، لما استطاع يعقوب بن الليث الصفار أن يقصيه عن إمارته ويقضي على دولته.
ويجب أن نعلم أن عهد الطاهريين في خراسان كان على العموم عهدًا طيبًا؛ فقد كانوا — وخصوصًا عبد الله — على جانبٍ عظيم من الثقافة وحسن الإدارة، وحب الخير، فنشروا العلم وقرَّبوا العلماء، وأحيوا الأرض الموات، ونظموا الري والسقاية، وجمع عبد الله جماعةً من أئمة الفقهاء وأهل الرأي وطلب إليهم دراسة أوضاع الري ومشاكله من الناحية الفقهية والقضائية، فألَّفوا له كتاب «القني» ولكن فُقد مع الأسف.
ولم تكن صلات الطاهريين بالخليفة في بغداد — على الغالب — صلات جفاء، بل كانوا حسني الصلة مع المركز، يقدِّمون ما عليهم لبيت المال، ويذكر قدامة بن جعفر أن مقدار الخراج الذي كان يدفعه الطاهريون بلغ «٤٨ ألف ألف درهم»، وكان الطاهريون على استقلالهم بإمارتهم لا يقطعون صلتهم ببغداد وأهلها، وهذا ما جعلهم يحرصون على استبقاء ولاية الشرطة في بغداد بأيديهم، حتى بعد أن أجلاهم الصفَّارون عن ولايتهم في خراسان والري وطبرستان وجرجان وكرمان وسجستان، كما سنرى تفصيل ذلك بعد.

(١-٢) الدولة الزيادية (٢٠٣–٢٥٣ﻫ)
كان أهل اليمن منذ نشأة دولة بني العباس لا يقرون بدولتهم؛ لأنهم يميلون إلى «آل علي» ويرون أن «آل العباس» قد ظلموا العلويين وفتكوا بهم؛ فلذلك لم يخضعوا لحكمهم خضوعًا تامًّا، وكانوا يتحينون الفرص لخلع طاعتهم وتأسيس دولة علوية مستقلة، فكانت الثورات في اليمن لا تهدأ؛ ولذلك بعث إليهم المأمون بقائدٍ عربي قوي هو محمد بن إبراهيم الزيادي، أحد أبناء زياد بن أبي سفيان، فولَّاه اليمن في سنة ٢٠٣ﻫ، وكان إنسانًا قويًّا فاتكًا، فتوجَّه إلى مكة للحج، ثم قصد اليمن ففتح تهامة، واختطَّ مدينة زبيد، ثم شرع في تتمة فتح بلاد اليمن حتى أخضعها جميعها، وقضى على روح الثورة، وأرجع الخطبة للعباسيين، وما زال أمر الزيادي هذا في نمو، وسلطانه في قوةٍ، حتى صار كالملك المستقل، إلا أنه استمر في ولائه للعباسيين، وفي حمل الهدايا والخراج إليهم.
وقد طال ملكه إلى سنة ٢٤٥ﻫ، ثم انتقل الأمر إلى أبنائه وأحفاده فمواليهم إلى سنة ٢٥٣ﻫ، وهذه الدولة هي أولى الدول التي انفصلت عن بغداد في الجزيرة العربية، ولم يَعُد للخلفاء العباسيين ومن بعدهم من حكام العراق وغيره، سيطرة على اليمن منذ ذلك الحين؛ فقد قامت بعد الدولة الزيادية دول علوية الهوى زيدية المذهب، استمرت في السيطرة على اليمن إلى أيام الفتح العثماني.
(١-٣) الدولة الزيدية (٢٥٠–٣٥٥ﻫ)
كان العلويون ينتهزون كل فرصة للقيام بحركاتٍ طلبًا لحقهم في الخلافة؛ ففي أيام الفتنة بين «الأمين والمأمون»، قاموا يطالبون بحقوقهم، ويعلنونها ثورة على العباسيين، وكانت لهم حركات أخرى، منها حركة أبي السرايا السري بن منصور، الذي ثار بالكوفة ومعه ابن طباطبا سنة ١٩٩ﻫ وهو محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن، وامتد نفوذه حتى بلغ واسطًا والحجاز، ولولا موت ابن طباطبا، ثم موت أبي السرايا نفسه سنة ٢٠١ﻫ، لكان لهذه الحركة العلوية شأنٌ آخر. وفي أيام المعتصم ثار منهم محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي في الكوفة، وعظُم أمره إلى الطالقان في خراسان، وهو يدعو إلى «الرضا من آل محمد» فاجتمع إليه خلق كثير، ووقعت بينه وبين عبد الله بن طاهر أمير خراسان وقعات، ثم أُسر محمد، وسيق إلى المعتصم، فحبسه بسامراء سنة ٢١٩ﻫ، ثم تمكن من الهرب ولم يُعرف له خبر، ويعتقدون أنه حي غائبًا، وأنه يعود ويملأ الأرض عدلًا.
وفي أيام المتوكل، الذي كان يعلن عداءه لآل علي وشدة كراهيته لهم، وهدم قبر الحسين وما حوله، ثار يحيى بن عمر بن يحيى بن زيد بن علي بن الحسين، فتمكَّن المتوكل منه وحبسه في سجن المطبق ببغداد، ثم تمكَّن من الفرار، فتجمع حوله نفر كبير من الزيدية والأعراب، ولكنه لم يوفَّق إلى الوصول لهدفه وقضى على حركته سهل بن هارون. وفي أيام المستعين خرج ثانيةً وتمكَّن من الاستيلاء على الكوفة، وبلغت دعوته بغداد، فانضم إليه كثير من أهلها وقوي سلطانه إلى أن كانت سنة ٢٥٠ﻫ فخرج وبعث إليه الخليفة بالحسين بن إبراهيم المصعبي، والتقى جمعاهما ظاهر الكوفة، ودارت الدائرة على يحيى فقُتل ومُثِّل به، فلما بلغت أخباره الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن ثار بطبرستان واستولى على عاصمتها آمُل، ثم على سارية وسائر بلاد طبرستان والديلم، واستطاع بما أُوتي من قوةٍ وعلم أن يؤسس دولة قوية دامت نحو قرن، تولى فيها الحسن بن زيد ٢٥٠–٢٧٠ﻫ، ومحمد بن زيد القائم بالحق ٢٧٠–٢٧٨ﻫ، وحكم فترةً طويلة استطاع فيها أن يقوي نفسه، ويرتِّب بعوثه ودعاته لنشر دعوته الزيدية حتى تغلب السامانيون عليها، كما سنرى. وفي سنة ٣٠١ﻫ تمكَّن الحسن الأطروش بن علي بن الحسين بن علي بن عمر بن زين العابدين أن يعيد سلطان الزيدية من جديد على بلاد طبرستان والديلم وظل إلى سنة ٣٠٤ﻫ، ثم خلفه الحسن بن القاسم بن علي بن عبد الرحمن، ومعه أولاد الأطروش من سنة ٣٠٤ إلى سنة ٣٥٥ وفي هذه السنة انتهى أمر الدولة الزيدية.
(١-٤) الدولة الصفارية (٢٤٧–٢٨٩ﻫ)
كان الخوارج قد استقروا في سجستان وثبَّتوا أقدامهم فيها منذ زمنٍ بعيد، ويظهر أنهم منذ أوائل القرن الثالث قد انقلبوا إلى عصابات تفتك بالناس، وتقطع السبيل، حتى لقي الأهلون منهم عناءً كبيرًا، فألَّفوا فرقًا متطوعة للدفاع عن أنفسهم، ومحاربة هؤلاء الخوارج القساة، الذين لم تتمكن الدولة من إخضاعهم، وقد استطاع صالح بن النضر الكناني، أحد قادة هذه الفرق المتطوعة، أن يستولي على العاصمة، ويطرد عامل آل طاهر عنها، وكان بين أجناد صالح أخوان كانا يشتغلان في حداثتهما بعمل الصُّفْر، وهما يعقوب بن الليث وأخوه عمرو بن الليث، وقد استطاع يعقوب بذكائه ودهائه أن يتقرَّب من صالح وتسمو مكانته بين الجند، لِما كان له من بلاءٍ حسن في قتال الخوارج وقطع دابر المفسدين. وحدث في سنة ٢٤٧ﻫ أن مات صالح، وتولى إمرة المتطوعة رجل ضعيف اسمه درهم بن الحسين، وكان درهم هذا لا يساوي شيئًا ولا يصلح للإمرة، فرأى المتطوعة أن يعزلوه ويولوا يعقوب بن الليث مكانه، فلما أن تولى قيادتهم، وكان ذلك في ٦ محرم سنة ٢٤٧، أبلى أحسن البلاء في قتال الخوارج والشراة، واستولى على هراة وبوشنج وما إليهما سنة ٢٥٣ﻫ، ثم وجَّه همَّته إلى قتال أمراء الترك والديالم بتخوم سجستان فانتصر على كثيرٍ من ديارهم، وأذعن له أمراء الملتان وذابلستان والسند ومكران، وفي سنة ٢٥٦ﻫ استولى على كرمان، وكان الخليفة المعتز بالله قد أعطاها له، ولوالي فارس علي بن الحسين، وقد حاول علي أن يسبق يعقوب إلى احتلال كرمان، ولكن يعقوب سبقه فتغلب عليها وهزم جنده، وما زال يطارده حتى ألجأه إلى شيراز عاصمة إقليم فارس، وانتهز يعقوب مناسبة نصره هذا فبعث بحلائل الهدايا إلى الخليفة يؤكد له ولاءه، ويرجوه أن يوليه على بلاد فارس، وأن يعزل عنها علي بن الحسين، على أن يقرر عليه خمسة عشر ألف درهم، ثم شخص على أثر كتابته بذلك للخليفة متوجهًا إلى كرمان فاستولى عليها، ثم توجَّه إلى شيراز فحاصر الحسين بن علي واستولى عليها في جمادى الأولى سنة ٢٥٥ﻫ، وضم إقليم فارس إلى دولته فارتفع ذكره، وسما قدره، وفي سنة ٢٥٩ﻫ قصد نيسابور عاصمة آل طاهر فاستسلم له محمد بن طاهر، وهكذا انتهت الدولة الطاهرية، فانتهز يعقوب هذه الفرصة لإرسال وفد إلى الخليفة المعتمد في سامراء مع كتاب إلى الخليفة يذكر فيه ما تناهى إليه من حال أهل خراسان، وأن الخوارج والشراة المخالفين قد استولوا عليها، وأن محمد بن طاهر قد غلب على أمره، وأن أهل خراسان قد سألوه القدوم عليهم، وأنه سار إليهم وأقر نصاب العدل والأمن فيها؛ ولذلك جاء يطلب من الخليفة تأميره عليها، وكان المدبِّر لشئون الخلافة وقتئذٍ الموفق طلحة أبو أحمد، فقال لرئيس وفد يعقوب: إن الخليفة لا يقرُّ يعقوب على ما فعل، وأنه يأمره بالانصراف إلى عمله الذي ولَّاه إياه — وهو إقليم فارس فقط — فلما بلغت هذه الرسالة يعقوب لم يأبه لها، واستمر في عمله وتوطيد سلطانه في إقليم فارس وخراسان كلها. وفي سنة ٢٦٠ﻫ سار يعقوب بجنده إلى طبرستان جنوبي بحر قزوين يريد طرد الحسن بن زيد منها، فافتتح مدينتي ساري وآمُل، وهرب الحسن أمامه فلحقه إلى جبال طبرستان، ولكن قسوة الإقليم وبرده الشديد منعاه من الاستمرار في وقوفه أمام يعقوب، فرجع إلى خراسان، ولكنه فوجئ بعملٍ أزعجه، وهو أن رجال الخلافة، وعلى رأسهم الموفق طلحة في سامراء، أصبحوا يتخوفون من حركة يعقوب ونفوذه، فأمر الموفقُ عبيد الله بن طاهر أن يجمع في بغداد حُجاج خراسان والري وطبرستان وجرجان، ويقرأ عليهم كتابًا للخليفة، يذكر فيه أنه لم يولِّ يعقوب على ما استولى عليه ظلمًا، ويأمرهم بالبراءة منه والثورة عليه، ولما بلغت هذه الأخبار يعقوب لم يأبه لها، أول الأمر، ثم خاف على نفسه، فأخذ يعمل على تقوية جيشه استعدادًا للطوارئ، وبلغ ذلك الخليفة، فاضطر أن يعترف بالأمر الواقع، ويبعث إلى يعقوب بتوليه خراسان وما إليها من بلاد المشرق، ولكن يعقوب كان قد غضب مما عُومل به سابقًا، فعزم على الثورة، وأنه لا بد له من الاستيلاء على العراق أيضًا، وعلى بغداد نفسها، ولم يتأخر عن تنفيذ عزمه، فجمع جيوشه واتجه نحو العراق، فلما رأى الخليفة المعتمد ذلك، خرج إليه بنفسه وعليه بردة الرسول وفي يده القضيب، والتقى الجيشان بالقرب من دير العاقول، وكانت الغلبة أول الأمر لجيش يعقوب، ثم تغلَّب الجيش العباسي، واستطاع محمد بن طاهر أن ينجو من أسْر يعقوب فأحضره الخليفة مجلسه وخلع عليه، وثبَّته في ولايته، وقُرئ على الناس في يوم ١١ رجب سنة ٢٦٢ﻫ كتابٌ من أمير المؤمنين فيه مثالب يعقوب، وخبر مشاققته لله ورسوله وخليفته وعزله.
أما يعقوب فقد قفل منهزمًا إلى خراسان وأخذ يرتِّب أموره ويقوِّي جنده، وجرت له وقائع مع رجال صاحب الزنج إلى أن مات في ١٥ شوال سنة ٢٦٥ﻫ بالأهواز بعد أن ثبَّت أركان مملكته في خراسان وجنوبي إيران. ومهما يكن من أمر فإن يعقوب، كان عصاميًّا تطلع إلى معالي الأمور فبلغها، ولكن منشأه الدنيء، وتفكيره الساذج، وعدم معرفته بالسياسة لم تمكِّنه من توسيع دولته؛ فقد كان جنديًّا قويًّا بارعًا، وحسب، ولو أنه جمع إلى القوة عقلًا وحزمًا لاستطاع أن يصل بدولته إلى منزلةٍ سامية.
ولما هلك يعقوب بايع الجند أخاه عمرًا (٢٦٥–٢٨٧) لما كان عليه من القوة فكان أول عمل عمله أن طلب رضاء الخليفة والاعتذار إليه عما قام به أخوه، فرضي عنه الخليفة وولَّاه على خراسان وفارس وأصفهان وسجستان وكرمان والسند، وسمَّاه حاكمًا عسكريًّا لبغداد، وسامراء، تشريفًا له، ولكن ما عتَّمت الأمور أن فسدت بينه وبين بغداد من جديد، حينما أراد طلحة الموفق منه أن يتنازل عن خراسان سنة ٢٧٢، فرفض وأعلن عصيانه، فجمع الموفق بأمر المعتمد حجاج خراسان وقرأ عليهم كتابًا من الخليفة بإقالة عمرو، وبلغه على المنابر، وجهز الموفق طلحة جيشًا فتح به بلاد فارس وهزم عمرًا، ولكن عمرًا استطاع أن يسترد ولايته بحد حسامه، وظل إلى أن تُوفي المعتمد.
ولما تولى المعتضد في سنة ٢٧٩ أقر عمرًا في ولايته، واستقرت بلاد المشرق لعمرو فطمع في بلاد ما وراء النهر، وطلب من الخليفة أن يوليه إياها، فكانت تلك الولاية سبب القضاء عليه. روى الطبري أن عمرًا طلب إلى الخليفة أن يوليه ما وراء النهر، فولَّاه ذلك، وقُرئ في بغداد كتاب من الخليفة بعزل إسماعيل بن أحمد الساماني عن ما وراء النهر وتولية عمرو مكانه، وأرسل رسولًا إلى عمرو في نيسابور يحمل إليه الخُلَع والعهد، فلما وُضع العهد بين يدي عمرو قال: ما هذا؟ فقال الرسول: هذا الذي سألت. فقال عمرو: وما أصنع به؟ فإن إسماعيل بن أحمد لا يسلِّم إليَّ ذلك إلا بمائة ألف سيف! فقال الرسول: أنت سألته، فشمِّر الآن لتتولى العمل في ناحيته. وفي ربيع سنة ٢٨٧ﻫ حطَّم السامانيون جند عمرو قرب مدينة بلخ، ووقع عمرو أسيرًا، ثم أرسله السامانيون إلى بغداد فقُتل، وبذلك انتهى عهد هذه الأسرة العسكرية التي حكمت، وهي لا تستند على شيءٍ سوى السيف والقوة، على أن عمرًا كان خيرًا من أخيه؛ فقد وصفوه بأنه كان على جانبٍ من الدهاء والإدارة، ورووا أنه كان شديد الاهتمام بضبط موارد دولته، وأنه كانت له ثلاثة بيوت للمال؛ أولها بيت المال الوارد من الخراج والضرائب الأخرى، ومنه كان ينفق على الجيش، وثانيها بيت المال الوارد من الضِّياع والأملاك الخاصة، ومنه تُصرف نفقات البلاطات والحاشية، وثالثهما بيت المال الوارد من المكوس والصادرات، ومنه كانت تُصرف المِنَح والهدايا. ورووا عنه أيضًا أنه كان عادلًا في حكومته، عاملًا على المساواة بين رعيته.
وصفوة القول أن هذه الدولة التي ظلت قرابة نصف قرن كانت دولة قوية لم يحاول أمراؤها قطْع كل الصلات بالخليفة، وإن كانوا قد استمتعوا باستقلال مملكتهم، وتلقَّبوا بألقاب الملك، وخُطب لهم على المنابر مقرونًا اسمهم مع اسم الخليفة، وسُكَّت الدراهم والدنانير باسمهم، ولولا فترات الجفاء التي وقعت بين يعقوب وأخيه، وبين رجالات العاصمة بغداد، لكانت هذه الدولة على أحسن حال.
(١-٥) الدولة السامانية (٢٦١–٣٨٩ﻫ/٨٧٤–٩٩٩م)
كان سامان خداه جَدُّ هذه الأسرة، أميرًا ينتسب إلى بهرام جور، صاحب كسرى هرمز، أسلم على يد أسد بن عبد الله القسري الأمير الأموي ووالي بلخ، واتصل به وسمَّى ابنه الأكبر باسمه، وكان لأسد بن سامان أربعة بنين وهم: نوح وأحمد ويحيى وإلياس، وقد ارتفعت أقدارهم في دولة المأمون، فولَّاهم والي خراسان غسان بن عباد تلبيةً لأمر الخليفة على بعض المقاطعات، فكان نوح أميرًا على سمرقند، وأحمد أميرًا على الشاش وأسروشنة، وإلياس أميرًا على هراة. وعمَّر أحمد أكثر من إخوته فصار إليه حكم سمرقند وهراة والشاش وأسروشنة إضافة إلى بلاد فرغانة، وأخذ سلطانه يتسع حتى امتد إلى بلاد الصفد. وفي ٢٦١ﻫ/٨٦٤م مات أحمد فخلفه ابنه نصر وهو أول من حكم استقلالًا من رجال هذه الدولة، وكان مقره في سمرقند، واضطر الخليفة المعتمد أن يبعث إليه تقليدًا بولايته على كافة بلاد ما وراء النهر.

وفي سنة ٢٧١ﻫ اضطربت بخارى، وعاث المفسدون فيها فطلب أهلها من نصر أن ينقذهم من تلك الفوضى، فبعث إليهم أخاه إسماعيل فوطَّد الأمن فيها، وحكمها بالنيابة عن أخيه. وفي سنة ٢٧٢ﻫ عهد الخليفة المعتمد بولاية كافة بلاد بخارى والمشرق إلى نصر. وقد استطاع إسماعيل أن يقضي على الثورات المحلية، وينقذ الفلاحين من ظلم أصحاب الأراضي واستبدادهم، فأحبه الناس وقويت مكانته في البلاد، فطمع إلى الاستقلال بها، ووقعت بينه وبين أخيه نصر خطوب وفتن وحروب دامت مدة طويلة. وفي سنة ٢٧٥ تغلَّب جيش إسماعيل على جيش نصر، فأُخذ أسيرًا، ولما التقى الأخوان تصافيا، ورجع نصر حاكمًا إلى سمرقند إلى أن مات سنة ٢٧٩، فأوصى لأخيه من بعده بالمُلك، وقد كان إسماعيل على جانبٍ عظيم من حسن السياسة والدهاء والإدارة، فتوطدت أركان الدولة في عهده، واتسع نطاقها حتى بلغت أقصى حدود المشرق، وقضى على عمرو بن الليث الصفار أمير خراسان، كما قضى على محمد بن يزيد العلوي صاحب طبرستان، وإسماعيل هذا هو أعظم أمراء هذه الدولة، وهو الذي أسَّس قواعدها ووسَّع رقعتها، وقضى على خصومها، ولما هلك في سنة ٢٩٥ﻫ تعاقب الأمراء عليها إلى سنة ٣٨٩ حين انتهى أمرها على يد دولة آل سبكتكين الغزنوية والأتراك الخاقانية، كما سنرى بعد.
ويجب أن نلاحظ أنه لم يظهر أمير كفء من هذه الأسرة بعد إسماعيل، ولكن متانة الحكم الساماني وحسن الإدارة التي وطدها إسماعيل مكَّنت أولاده وأحفاده من الاستمرار في الحكم طول تلك المدة. وعلى يد السامانيين هؤلاء، تم للإسلام إخضاع بلاد ما وراء النهر نهائيًّا، وكادت بخارى عاصمتهم وسمرقند سيدة حواضرهم أن تسبقا بغداد في ميادين العلم والعرفان والحضارة والتأليف، ولم تخلص هذه الدولة من عناصر التخريب وإشاعة الفوضى على الرغم من عناية أمرائها لتوطيد ملكهم على قواعد العدل والعلم والإصلاح، وقد كان السامانيون مسلمين متعصبين لإسلامهم ولسنيَّتهم، وحدث أن اتهم أحدهم، وهو نصر الثاني بن أحمد (٢٩٥–٣٠١) بأن هواه مع الإسماعيلية، فاضطُرَّ إلى أن يتنازل عن المُلك لابنه نوح، وكان نوح فتًى حدثًا لم يستطِع أن يضبط الدولة، وكان للمماليك الأتراك، الذين سيطروا على البلاط، نفوذ كبير عليه، ولم يكن الأمراء الذين خلفوه خيرًا منه، فتعاظم نفوذ الحرس التركي في البلاد، وأصبح قادته أصحاب الحل والربط، يتداخلون في السياسة، ويُسقِطون هيبة الوزارة والإمارة، وقد حدثت عوامل أخرى أضعفت شأن الدولة، وهي ظهور آل بويه في الغرب والأتراك القرخانيين في الشرق، وهم الذين نراهم لأول مرة في التاريخ الإسلامي، يبرزون إلى ميدان السياسة بقبائلهم الطورانية الجرارة القادمة من آسيا الوسطى للسيطرة على مقدرات العالم الإسلامي.
وفي سنة ٣٥١ﻫ/٩٦٢م تمكَّن ألب تكين التركي، أحد قواد السامانيين أن ينفصل عن جسم الدولة السامانية، ويؤسس دويلة مستقلة في غزنة، ثم خلفه في سنة ٣٦٦ﻫ/٩٧٧م مولاه سبكتكين فأعلن ولاءه للسامانيين، وفي سنة ٣٨٤ﻫ/٩٩٤م استطاع ابنه محمود أن يخمد بعض الفتن التي قامت على السامانيين فكافَئوه بتسميته أميرًا على خراسان، وكان ذلك مبدأ دولة محمود بن سبكتكين.
وفي سنة ٣٨٦ﻫ/٩٩٦م أراد الأتراك (الإيلاق خاينون) (القرخانيون) الانسيال على الأراضي السامانية، فاستنجد السامانيون بسبكتكين وابنه، واستطاعا أن يوقفا سيل القرخانيين، وعُقد صلح بين الطرفين على أن تكون منطقة سهول قطوان، منطقة فاصلة بين الحدودين، وتسلَّط سبكتكين على كافة الأراضي الواقعة جنوب نهر جيحون، وأخذت دولته تنمو. ولما مات سبكتكين ٣٨٧ﻫ/٩٩٧م وانشغل ابنه محمود بتوطيد أركان دولته في غزنة، أراد السامانيون إعادة الجزء الذي سلبهم إياه سبكتكين وابنه، ولكنهم فشلوا في محاولتهم، ثم تراجعوا وجيشهم مشتت، فتمكَّن محمود من الاستيلاء على خراسان كلها سنة ٣٨٩ﻫ، وقد انتهز الأتراك القرخانيون تضعضُعَ الدولة السامانية، فهاجموا بخارى عاصمتهم، واستطاعوا السيطرة عليها في سنة ٣٨٩ﻫ، وهكذا قضي على الدولة السامانية.
وصفوة القول في هذه الدولة، أنها كانت دولة سنيَّة متعصبة، انفصلت عن جسم الإمبراطورية الإسلامية، ولكنها ظلت روحيًّا متصلة بخلافة بغداد، وكانت حملات أمرائها على الإسماعيلية حملات قوية، أقرت عين الخليفة، وقد رأينا أنه لما دخل الأتراك بلاد ما وراء النهر سنة ٢٩١ﻫ واستطاع إسماعيل أن يطردهم وبعث إلى الخليفة كتابًا يبشِّره بالقضاء على فتنة الأتراك، فسُرَّ بذلك ولقي كتابه أحسن القبول لدى الخليفة.
وعلى الرغم من أن الدولة السامانية كانت دولة سنيَّة متعصبة، إلا أنها أحيت الآداب والثقافة الفارسية، وجعلت اللغة الفارسية اللغةَ الرسمية للدولة، وشُجِّع أفرادها الشعراء والكتاب، فألَّفوا بالفارسية، ويُعتبر عصر السامانيين هو العصر الذي نشأ فيه الأدب الفارسي الحديث؛ ففيه نظَم الفردوسي «الشاهنامة»، وفيه نقل الوزير العالم البلعمي «كتاب تاريخ الطبري» إلى اللغة الفارسية، وهذان الكتابان هما اليوم من أقدم نصوص النثر الفارسي.
يقول بروكلمان: «… وفي هذا الوقت تفتَّح الوعي القومي عند الفرس من جديد، بعد أن استعبدتهم سيادة العرب السياسية والدينية زمنًا طويلًا، ومع أن الفرس تفوَّقوا على العرب في إدارة الدولة وفي النواحي الثقافية تفوقًا كبيرًا، منذ ابتداء الدولة العباسية؛ فقد كانت خدماتهم ذات فائدة للعرب فيما بعد؛ إذ لم يَعُد من الممكن إقصاء لغة التنزيل عن الشئون العامة وعن الأدب جميعًا، بيد أن الفرس تذكروا — هنا في الشرق لأول مرة — شرفَ لسانهم القومي وعظمته، وعلى الرغم من أن أشراف الفرس من أصحاب الأراضي لم ينقطعوا يومًا عن العناية بمضافرهم القومية في سير ملوكهم وأبطالهم، وعلى الرغم من أن الشعب لم ينسَ — غير شك — فن إنشاد الشعر، فالحق أن تلقيح هذا الإرث الروحي من جديد لم يتم إلا في بلاط السامانيين، وعلى أيديهم؛ ففي ظل نصر الثاني لمع «رودكي» أول شاعر غنائي فارسي، وصلتنا عنه أخبار على شيء من التفصيل، وعلى الرغم من أن شعره لم يخلُ من الكلمات العربية، وعلى الرغم من أن الأوزان التي اصطنعها كانت كأوزان جميع شعراء الفرس من بعده مفرغة في القوالب العربية، فقد دعا في منظومته إلى فلسفة في الحياة بعيدة عن الهم والغم ناضجة بالحبور مستوحاة، على الرغم من وصايا الإسلام، لا من حيث النساء والغناء فحسب، بل من حيث الخمر أيضًا، وكان رودكي إلى ذلك مؤسس الملحمة التعليمية، وهي أخصب فروع الأدب الفارسي على الإطلاق … وفي بلاط السامانيين بلغت الجغرافية العربية أوجها العلمي أيضًا … وفي بلاط إسماعيل ألَّف الوزير الجيهاني كتابًا لم يصلنا، استطرد فيه من بحث الضرائب إلى وصف البلدان المجاورة، ثم إن أبا زيد البلخي، وكان في خدمة إسماعيل ببلخ، وضع مصوَّرًا جغرافيًّا وجعله ذيلًا لأطلس إسلامي قديم موضوع على أساس اقتبسه كتاب الخوارزمي قبل سنة ٨٤٦ عن جغرافية بطليموس.»
لقد اعتنَوا بالعلوم الإسلامية عامة، وشجعوا العلماء على الكتابة، فوُصف عهدهم بأنه من أزهر العصور العلمية. وقد عُرف حبهم للعلم وعنايتهم بأهله فقصدهم العلماء من الأرجاء وأفادوا منهم، وقدَّموا إليهم كتبهم. ومن كبار علماء دولتهم الطبيب الفيلسوف الرازي الأشهر الذي ألَّف كتابه الطبي المعروف بالمنصوري نسبة للأمير أبي صالح منصور الساماني، ومنهم الفيلسوف ابن سينا الذي زار نوح الثاني فكرَّمه وفتح له أبواب خزانته الملكية، فأفاد من كنوزها.
(١-٦) الدولة الساجية
من تلك الدول الدولةُ الساجية التي حكمت من سنة ٢٦٦ إلى سنة ٣١٨ﻫ، ورأس هذه الدولة هو يوسف بن أبي الساج عامل أرمينية وأذربيجان في عهد المقتدر، وكان يوسف داهية حازمًا تولى أرمينية وأذربيجان سنة ٢٦٦ﻫ، وقوي مَركزه في عماله فثار على بغداد وأعلن انفصاله عنها، فاضطُر علي بن الفرات وزير الخليفة أن ينفق كثيرًا من موارد الدولة في سبيل القضاء على ثورة ابن أبي الساج، فلم يفلح، ووقعت الدولة في أزمةٍ مالية كبرى، وتمكَّن ابن أبي الساج من القضاء على جيش مؤنس التركي، واتُّهم ابن الفرات بممالأة ابن أبي الساج، فغضب عليه المقتدر، وحاول تبرئة نفسه من ذلك، فأرسل جيشًا جديدًا للقضاء على ثورة أذربيجان فلم يفلح، واضطرب الخليفة وعزل ابن الفرات ثم سجنه، ولكن ذلك لم يمنع من انفصال ابن أبي الساج ومصادرة أموال الدولة، وقوي نفوذ الساجية في أرمينية وأذربيجان والري، وجرت بينهم وبين أعدائهم المجرية معارك وحروب لاقت البلاد من ويلاتها كثيرًا، وقد استمر الحكم في يد الساجية على بلاد أذربيجان إلى سنة ٣١٨ حين قُضي عليهم نهائيًّا.
ومن الدول التي ظهرت في هذه الفترة وانسلخت عن جسم الإمبراطورية العباسية:
(١-٧) دولة الأدارسة في المغرب العربي
وتُنسب إلى الأمير العلوي إدريس بن عبد الله من أحفاد الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب؛ فقد أسَّس مُلكًا دام قرابة قرنين (١٧٢–٣٦٤ﻫ/٧٨٨–٩٧٤م)، وكانت مدينة فاس عاصمتهم وهي أول دولة شيعية قوية في التاريخ.
(١-٨) دولة الأغالبة
وتُنسب إلى الأمير إبراهيم بن الأغلب الذي ولَّاه هارون الرشيد على إفريقية (أي بلاد تونس)، ولكنه ما لبث أن استقل وأسَّس دولة عاصمتها القيروان دامت طوال قرن (١٨٤–٢٩٧ﻫ/٨٠٠–٩٠٩م)، وقد كانت لهم حملات في إيطالية وفرنسة وقورشيقة وسردينية ومالطة.
(١-٩) دولة الطولونيين
وتُنسب إلى الأمير أحمد بن طولون التركي الذي ولَّاه المأمون على مصر، فاستقل بها وأسَّس دولة دامت من ٢٥٤–٢٩٢ﻫ/٨٦٨–٩٠٥م بعد أن خلَّفت حضارة رائعة وآثارًا جليلة.

(١-١٠) دولة الإخشيديين
وتُنسب إلى الأمير محمد بن طغج الإخشيد الذي ولَّاه الخليفة الراضي على مصر فأسَّس فيها دولة مستقلة دامت من ٣٢٤–٣٥٩ﻫ/٩٣٥–٩٦٩م.

(٢) قوة أمر أصحاب العقائد المخالفة لمذهب الخلافة
(١) الحركات العقائدية. (٢) الإسماعيلية. (٣) القرامطة.
(٢-١) الحركات العقائدية
- أما الراوندية: ففرقة ظهرت في «راوند» بالقرب من «أصبهان» في عهد المنصور كانت تهدف إلى إحياء التقاليد الفارسية من دينية ودنيوية، وخلاصة مذهبهم أنهم يقدِّسون الملوك ويرفعونهم إلى مرتبة الآلهة، ويعملون على إباحة المحرمات، وقد زعموا أن المنصور هو إلههم، فلما بلغه ذلك تتبعهم وفتك بهم.
- وأما المقنعة: فهي حركة أخرى تشابه الراوندية، سُمِّيت بذلك نسبة لصاحب دعوتها «المقنع الخراساني» الذي اتخذ لوجهه قناعًا من ذهب، وادعى الألوهية، وأسقط الصوم والزكاة والحج، وأباح أموال الآخرين ونساءهم، ودعا إلى تعاليم «مزدك» الإباحية، وقد فشا أمرهم في عهد المهدي مما اضطره إلى أن يشدد عليهم ويبيدهم.
- وأما الخُرَّمية: فهي طائفة ترجع مبادئها إلى «مزدك» الإباحي أيضًا، واسمهم مأخوذ من كلمة «خرَّم دينان» الفارسية، ومعناها الدين الفرح، وقد مزجوا بين تعاليم الإسلام والمزدكية، من تناسخ، واشتراكية في المال والنساء، والحلول، ومن زعمائهم خداشي الخُرَّمي.
- وأما البابكية: فنسبتهم إلى بابك، وقد كانت حركة من أخطر حركات العقائدية التي قامت في إيران أيام العباسيين، وهي استمرار للحركة الخُرَّمية،٧ والحق أن هذه الحركات كان لها غرضان رئيسان هما: هدم الإسلام أولًا، وإرجاع المُلك إلى الفرس ثانيًا كما فصَّلناه في تاريخ العصر العباسي الأول من كتابنا هذا، وقد كانت حركتا الإسماعيلية والقرامطة في هذا العصر حركتين لهما تأثير كبير؛ فلذلك خصصناهما بالبحث.
(٢-٢) الإسماعيلية
كان من نتائج الانحلال الذي مُنيت به الدولة في هذا العصر ظهور حركة الشيعة الإسماعيلية التي ابتدأت بالظهور منذ أوائل القرن الثاني للهجرة وقويت في القرنين الثالث والرابع واستمرت إلى ما بعد، حتى أيامنا هذه.

- (١)
ضعف سلطان الخلافة العباسية وتقلص نفوذها الزمني والديني تقلصًا واضحًا عن كثيرٍ من أجزاء المملكة.
- (٢)
فشل «آل علي» في الوصول إلى الخلافة التي كانوا يأملون في الوصول إليها بعد انقضاء عهد آل أمية، ويبينهم خداع «العباسيين» لهم وعدم إعطائهم حقهم.
- (٣)
فشل العناصر غير العربية في الوصول إلى أهدافهم التي أملوا الوصول إليها في عهد الدولة الجديدة، بعد أن عملوا على هدم الدولة الأموية أملًا في أن يعيدوا نفوذهم القديم.
- (٤)
خيبة آمال تلك العناصر غير العربية في الحكم العربي الذي لم يمكِّنهم، في العهد الأموي ثم في أوائل العهد العباسي، من استعادة تقاليدهم وسلطاتهم التي كانت لهم قبل الإسلام.
- (٥)
انتشار الترجمة والتدوين وإحياء ذكر الحضارات والعقائد القديمة التي أحيت الغرور القومي عند الأمم المفتوحة غير العربية.
- (٦)
انتشار الفلسفات القديمة، وبخاصة الفلسفتان اليونانية والسريانية، انتشارًا جعل الناس يفتحون عيونهم وقلوبهم لمناقشة ما جاء به الإسلام والتطلع إلى آفاقٍ جديدة بعيدة عن بساطة الإسلام.
- (٧)
البُعد عن روح الإسلام الحقيقية السمحة بانتشار الإسرائيليات والخرافات الفارسية وغير الفارسية، مما جعل العامة تتقبل بسهولة كل فكرة روحية غريبة.
- (٨)
تدخُّل الخلافة تدخلًا عمليًّا في عقائد الناس ومحاسبتهم عليها، والتضييق على من يعلن زندقة أو هرطقة أو انحرافًا عن المذهب الرسمي للدولة وهو الإسلام وطريقة أهل السنة والجماعة، وخاصة حين أخذ المهدي والهادي يضيقان على الناس في محاسبتهم على عقائدهم، أو حين أخذ المأمون يحاسب الناس على عدم اعتناق مذهب المعتزلي القائل بخلق القرآن وغير ذلك، وبإنشاء «ديوان المحنة» لامتحان من أنكر تلك العقيدة.
- (٩)
تبدل المجتمع الإسلامي من مجتمعٍ زراعي وتجاري ساذج إلى مجتمعٍ زراعي وتجاري معقد، ووجود طبقة أرستقراطية مالية، سواء أكان أهلها عربًا أو موالي، وقد أحست الطبقات الفقيرة العاملة، من موالي وعرب، بالبؤس المحيط بها من جهة، كما أحس الأغنياء، من موالي وعرب بوجوب اتحادهم حمايةً لمصالحهم؛ فلذلك حصلت التكتلات من الجانبين، وكان لهذه التكتلات أثرها الواضح في الحركات العقلية والاجتماعية التي ترمي إلى توحيد أهداف المتذمرين على اختلاف نِحَلهم وعقائدهم وعناصرهم.
- (١٠)
تعقُّد الحياة، وظهور المغالاة في كل شيء من نواحيها؛ فبعد أن كانت في العصر الأموي عربية ساذجة، تعقدت في العصر العباسي جدًّا وبدا الغلو في كل شيء.
ولقد كان من نتائج هذه الأسباب أن نشأت في البيئة الإسلامية فئةٌ من الرجال اتخذت ذلك ذريعة للقيام بحركة سترتها بفكرة «الانتصار لحق آل علي» واتخذتها وسيلة للدعاية لفكرتها، وقد اتخذ هؤلاء الرجال مدينة الكوفة مقرًّا لبذر فكرتهم؛ لأنها كانت مركزًا فكريًّا وسياسيًّا تجمعت فيه الثقافات القديمة من كل صوب، وكل نوع، ولأنها كانت مقر نفر من الأئمة العلويين الذين أُحيطت أسماؤهم بكثيرٍ من الروايات المتعلقة بمثل هذه الحركات في القديم، ويظهر أنه يمكن تقسيم العلويين الذين قامت حولهم هذه الحركات إلى فريقين:
(١) فريق الحنفية. (٢) فريق الحسنية والحسينية.
- أما الحنفية: فنسبتها إلى الإمام محمد بن الإمام علي (عليه السلام) المعروف بابن الحنفية، ويذكر المؤرخون وأرباب الفرق أن المختار الثقفي حين قام بحركته الثورية في الكوفة سنة ٦٦ﻫ/٦٨٥م ادعى أن ابن الحنفية هو «المهدي المنتظر»، وعلى الرغم من القضاء على المختار وموت ابن الحنفية؛ فإن الحركة الشيعية المهدية الحنفية انتشرت بسرعة بعدهما وانقسم أربابها بعدها فرقًا ثلاثًا، قالت «أولاها» إن الإمام لم يمت بل اختفى، وإنه سيعود ويملأ الأرض عدلًا كما مُلئت جورًا. وقالت «الثانية»: إنه عهد إلى ابنه أبي هاشم للأمر من بعده، ثم انقسموا إلى فرق؛ «فرقة» قالت إن أبا هاشم أوصى إلى أخيه علي بن محمد، وإن عليًّا هذا أوصى بالإمامة إلى بني العباس. و«فرقة» قالت إنه أوصى إلى عبد الله بن معاوية من آل علي. وقد اختفت الحركة الحنفية وأربابها بعد أن سيطر العباسيون على الحكم لأنهم ضيَّقوا عليهم وخنقوا أصواتهم.
-
وأما الحسنية، الحسينية: فنسبتها إلى الإمامين «الحسن» و«الحسين»
ابني علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد ثار
من ذريتهما جماعات على الخلافة منهم: زيد
بن علي المعروف بزين العابدين، وولداه يحيى
وعيسى من أئمة الفرقة الزيدية
التي ما
تزال في اليمن، ومنهم محمد بن علي بن زين
العابدين، الذي نادى بنفسه إمامًا وتبعته
جماعات، منهم أبو منصور العجلي زعيم الفرقة
المنصورية التي لاحقها يوسف بن عمر الثقفي،
وقتل زعيمها أبا منصور سنة ١٢٥ﻫ، ولما مات
الباقر افترق أتباعه إلى فرقٍ لا مجال
لتعدادها، ومنهم محمد بن عبد الله بن الحسن
بن الحسن بن علي المعروف بذي النفس الزكية
الذي أعلن أنه هو المهدي، ولم تكن سنه يومئذٍ
تجاوز التاسعة عشرة، وقد حبذ له هذه الدعوة
المغيرة بن سعيد العجلي، ولما مات محمد ادعى
المغيرة أنه قد غاب وأنه سيرجع، وقد كذَّبه
الإمام جعفر الصادق ورفض هو وأتباعه مؤازرة
الداعين إلى هذه الفكرة وقالوا إن الإمامة
لجعفر، وكان من أبرز أتباعه رجل اسمه
أبو الخطاب أو محمد بن أبي الخطاب، مؤسس
الفرقة الخطابية، والتي تعتبر أول حركة باطنية
قوية، وقد كان أبي الخطاب داعية لمحمد الباقر
ثم لجعفر الصادق، وقد غلا في دعوته لهما، وزعم
أن جعفرًا قد جعله وصيَّه من بعده، ثم زعم أنه
(أي جعفر) إله ونبي، فأحل المحارم، وقال
بالتقيَّة وأوَّلَ آيات القرآن، فقال: إن
الجنة والنار والصلاة والصوم ما هي إلا أسماء
رجال بعينهم، وقال بنظرية «النور» و«التناسخ»،
ولما قُتل ابن أبي الخطاب سنة ١٣٨ تحوَّل
أصحابه إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق،
حتى تبرأ جعفر الصادق من ابنه إسماعيل ومن أبي الخطاب٨ ولما مات جعفر الصادق سنة ١٤٨
انقسم أصحابه إلى ثلاث فرق:
- (١) فرقة الناووسية التي زعمت أنه لم يمت وأنه سيرجع.
- (٢) الاثنا عشرية، وهم أتباع ابنه موسى الكاظم، وهم المعتدلون منهم.
- (٣) الإسماعيلية: وهم القائلون بإمامة ابنه إسماعيل ثم ابنه محمد بن إسماعيل.
- (١) إن المذهب الإسماعيلي هو مذهب شمولي في العقيدة Inter Confessionalism وهو مذهب متسامح لا يحارب العقائد مزدكية أو مانوية أو صابئية أو نصرانية أو يهودية، أو إسلامية مخالفة لهم.
- (٢) إن المذهب الإسماعيلي هو مذهب اشتراكي في الأموال، وقد ذكر لنا الكاتب الفارسي الإسماعيلي ناصر خسرو١٤ الذي زار البحرين في القرن الخامس للهجرة بعض أحوال الإسماعيلية الذين زار عاصمتهم الأحساء، فرأى عندهم نظامًا يشبه النظام الاشتراكي.
- (٣) إن المذهب الإسماعيلي — على اختلاف فرقه — من قرامطة وسبعية وتعليمية وغيرها، مذهبٌ باطني، أي إن لكل ظاهر عندهم باطنًا مستورًا، ولكل تنزيل تأويلًا، وأن جميع ما استعبد الله به عباده مما ظهر في الكتاب والسنة، إنما هو أمثال مضروبة تحتوي معاني باطنية، عليها العمل١٥ وأن هذا الباطن لا يعرفه إلا عدد قليل هم الأئمة المعصومون ومن يعلمونهم بذلك.
- (٤) إنهم يقسِّمون تاريخ البشرية إلى حلقات نبوة عددها سبعة، وإن العقل الكلي يتجسد بين حينٍ وآخر في شخصٍ بعينه يُعرف ﺑ «الناطق» يخلف هذا النبي الناطق سبعة أئمة يُعرف كل واحد منهم ﺑ «الصامت»، وكل نبي يعلِّم الناس الحقائق الروحية اللازمية لسيادتهم وهدايتهم بشكلٍ أكمل مما كان عليه سلفه، كما يقضي بذلك نظام التطور الكوني، وإن آخر حلقة نبوة هي حلقة محمد بن إسماعيل، وهو خاتم الأنبياء.١٦
- (٥) إن الأئمة لا يكونون ظاهرين أبدًا، بل منهم مَن يظهر ومنهم من يستتر؛ ولهذا نجد سلسلة من الأئمة المستورين بين «محمد بن إسماعيل» وبين «ظهور الأئمة الفاطمية»، ولكنه لا بد من وجود دعاة ظاهرين يبشِّرون بدعوة الإمام المستور، أما الأئمة المستورون فهم صنفان: صنف من أبناء علي جسمانيًّا، وصنف من أبنائه روحانيًّا وهم القداحون وإليك رسم شجرتَي النَّسب نقلًا عن الأستاذ المستشرق برنارد لويس:١٧
- (٦)
يذهب مؤرخو الفرق الإسلامية القدماء إلى أن المذهب الإسماعيلي مذهب ثنوي، فيقول البغدادي: «وذكر علماء الباطنية في كتبهم أن الإله خلق النفس، فالإله هو الأول والنفس هي الثاني، وهما مدبِّرا هذا العالم، وسمَّوها «الأول» و«الثاني»، وربما سمَّوها العقل والنفس، وقولهم إن «الأول» و«الثاني» يدبِّران العالم هو بعينه قول المجوس بإضافة الحوادث إلى صانعَين أحدهما قديم، والآخر محدث، إلا أن الباطنية عبَّرت عن الصانعين ﺑ «الأول» و«الثاني» وعبَّر المجوس عنهما ﺑ «يزدان» و«أهرمن».»
قلت: وتتجلى هذه الآراء لمن قرأ رسائل إخوان الصفا.
- (١)
يبدأ الداعي دعوته ويحذر في عرض آرائه على المدعو لئلا يُشوَّش، ويحاول إثارة روح السؤال، وطلب الإجابة بشكل يجعله يقتصر فيه (أي في الداعي) سعة التفكير ورحابة الصدر وسمو العقل، وأول ما يبدأه، هو تأويل الآيات، ومعاني القرآن ومسائل الشرع مبينًا له أن لظواهر الشرع باطنًا، وأن مَن تمسَّك بالظواهر هلك، ومن كان على الباطنيين نجا، وأن الناس لن يضلوا ما تقبلوا علم الباطن من الأئمة الذين بعث بهم الله لهداية البشر، وأن «إمام الزمان» وصاحبه هو ممثل الله وصاحب علمه، وأن على المدعو أن يقسم أغلظ الأيمان على ولائه التام لصاحب الزمان، وعدم إفشاء أسرار الدعوة، والإخلاص للإسماعيلية، ومقاومة خصومها، ودفع الضريبة المطلوبة، وتُسمَّى هذه الطبقة «طبقة الأزرق»، أو «التفرُّس» أي التفرُّس في تعرُّف شخصية المدعو وقوة استعداده لتقبل الدعوة وأسرارها.
- (٢)
يعلم المدعو أن رضا الله ودخول جنته لا يكونان بمجرد اتباع ظواهر أحكام الإسلام، بل لا بد له من معرفة علم الباطن من الأئمة المنصورين بحفظ الشريعة، وتُسمَّى هذه الطبقة «طبقة التأنيس»؛ أي إن المدعو يعلم ما يأنس به إلى الدعوة.
- (٣)
يجب أن يؤمن بأن الأئمة سبعة، وأن خاتمهم هو محمد بن إسماعيل الذي أحاط بعلم الله وسره، وتُسمَّى هذه الطبقة «طبقة التشكيك»؛ إذ فيها يبدأ بغرس فكرة الشك في قلب المدعو وزعزعة عقائده السابقة.
- (٤)
يعلم المدعو أدوار النبوات السبعة، وطبيعة النبي الناطق، والأئمة الستة الصامتين الذين خلفوه، وأن محمد بن إسماعيل خاتم الأنبياء، وتُسمَّى هذه الطبقة «طبقة التعليق»؛ أي أخذ القسم.
- (٥)
يجب على المدعو أن يعلم أسرار العددين «٧» و«١٢»، والحجج الاثني عشر الذين يسيرون دعوة كل إمام، وأن هؤلاء الحجج منتشرون في جزر الأرض الاثني عشر، وتُسمَّى هذه الطبقة «طبقة الربط»، وأظن أن القوم قد أخذوا فكرة تقديس «العدد سبعة» أيضًا من الفيثاغورثية التي قدَّست هذا العدد، وهم يجعلون التجليات سبعة: (١) الله. (٢) العقل. (٣) النفس. (٤) المادة الأساسية. (٥) القضاء. (٦) الزمن. (٧) عالم الأرض والبشر. وربما أُطلق اسم السبعية على الإسماعيلية نفسها، ويمكننا أن نلاحظ أنها قد استقت بعض أفكارها الفلسفية من الفلسفة الغنوصية القائمة إلى حدٍّ كبير على الفلسفة الأفلاطونية الحديثة.
- (٦)
يُعلَّم المدعو تفسير معاني الشريعة الإسلامية والمقصود من كلمات: صيام وصلاة وزكاة وحج وطهارة وغير ذلك، ويُفهَّم معاني: الجنة والنار والعذاب، وأن الاكتفاء بظواهر هذه هو للعوام والجهلة، أما الخواص فإنهم يعلمون علم الباطن المراد منها، وهو علم لا يُؤتاه إلا من اطلع على كتب الحكمة والفلسفة، وهنا يحثه الداعي على قراءة كتب الفلسفة القديمة والحكمة الصحيحة، وتُسمَّى هذه الطبقة «طبقة التدليس».
- (٧)
لا يبلغ الدرجة السابعة إلا الدعاة الذين أُوتوا علم المذهب وأسراره، وفي هذه الدرجة معلومات تشبه المبدأ الثنوي، وهدم عقيدة التوحيد، وتُسمَّى هذه الطبقة «طبقة التأسيس».
- (٨)
يطلع فيها على تأويل بعض الكلمات كالقيامة والحشر أو الثواب والعقاب، والمعجزات، وتُسمَّى هذه الطبقة «طبقة الخلع» …
- (٩) هذه مرتبة الكمال، فإذا ما وصلها الإنسان أُبيح له أن يفكر كما يشاء فيما يشاء، وأن يتبع أي مذهب بعينه، أو يخترع لنفسه مذهبًا يرتئيه، وتُسمَّى هذه الطبقة طبقة «المسخ» أو السلخ.٢٣
«وبعد»، فهذه معلومات عن هذه الطائفة الإسماعيلية استخلصناها لكم من المصادر السنية والشيعية والإسماعيلية والأوروبية القديمة والحديثة، ولكنها لم تبلغ بعدُ درجةَ التمام، وفيها كثير من النقاط التي تحتاج إلى المناقشة والشرح، ولكن ما العمل، والمصادر تعوزنا والمعلومات جد عزيزة، وأظن أن تفهُّم حقيقة هذه الحركة وأسرارها محتاج إلى زمن أطول يُتمَكن فيه من العثور على مخطوطاتٍ جديدة، تكشف المجهولات عن هذه الحركة وأسرارها.
(٢-٣) القرامطة
يرى كثير من المؤرخين المسلمين القدماء ومؤرخي الفِرَق، وعلى رأسهم أبو عبد الله بن رزام (أو زرَّام) وهو مؤلف سُنِّي عاش في أوائل القرن الرابع للهجرة، ألَّف في العقائد الإسلامية كتابًا قيمًا ضاع، ولكن نقلت لنا عنه بعض المصادر الباقية في كتب الفرق الإسلامية، أن حركة القرامطة والإسماعيلية من معدنٍ واحد، وأن ميمونًا القداح وابنه عبد الله اللذين رأينا أثرهما في الحركة الإسماعيلية هما اللذان لعبا دورًا هامًّا في خلق مذهب القرامطة أيضًا، وأن عبد الله لما صار إلى البصرة من الأهواز، أخذ يدعو لمحمد بن إسماعيل، وكان بصحبته رجل يُدعى حسين الأهوازي، ولما طارده جنود العباسيين فر إلى «سلمية» واتخذها له مقرًّا، وأخذ يبعث دعاته منها إلى العراق، فأجابه رجل من أهل «الطالقان» في سنة ٢٦١ﻫ اسمه حمدان بن الأشعث، ويُلقَّب بقرمط، وأن قرمط هذا قد قوي أمره، وذاعت نحلته، فأجابه كثير، ومنهم رجل اسمه أبو سعيد الحسن بن بهرام الخبَّابي بالبحرين، هو الذي قام المذهب على يديه، حتى صارت البحرين مقر الدعوة ومركز الحركة.
- (١)
أنه بعد وفاة عبد الله بن ميمون قام بالأمر بعده ابنه أحمد، وأن أحمد هذا بعث الداعي الحسين الأهوازي إلى الكوفة، وأنه لقي في طريقه، في منطقة النهرين من سواد الكوفة، حمدان قرمط ودعاه للمذهب فاستجاب، وأنزل الحسين في داره، فأقام هذا يدعو الناس فاستجاب له أهل المنطقة، وكان يعيش من الحياكة وحراسة البساتين، ولما حضرته الوفاة عهد بالأمر بعده إلى حمدان.
- (٢)
أن رجلًا متعبدًا من أهل الأهواز قدم الكوفة، فأخذ يدعو لآل علي فأجابه كثيرون، وأنه كان يأخذ من كل منهم دينارًا للإمام، ورتَّب للدعوة اثني عشر نقيبًا من الأهلين، وفرض على أتباعه خمسين صلاة بدل الخمس، ثم أنه رحل إلى الشام ونزل في «سلمية» واستخلف حمدان قرمط.
ونخلص من هاتين الروايتين إلى أن الأهوازي قد استطاع أن ينشر دعوته في الكوفة وسوادها، وأنه عند وفاته أو سفره عهد بالأمر إلى حمدان الملقَّب بقرمط.
وفي سنة ٣١٦ﻫ سار أبو طاهر سلمان بن أبي سعيد الجنابي إلى جهة البصرة فوصلها وفتك بأهلها ونهب المدينة، ثم خرج متوجهًا إلى طريق الحج ففتك بالحجاج وأسر عددًا كبيرًا من وجوههم وساقهم إلى هجر، وكتب إليه الخليفة المقتدر يطلب إليه أن يُطلِق الأسرى، فأطلقهم، وطلب ولاية البصرة، فلم يجبه الخليفة، فتوجَّه إلى الكوفة وفتك بأهلها، ووقعت وقائع بينه وبين جيش بغداد فقهره، وبلغت أخباره بغداد فخاف أهلها من فظائع القرامطة وقسوتهم، ثم سار أبو طاهر إلى الأنبار فدخلها وسيطر على الجزيرة، ودخل قسمٌ كبير من أهلها في نحلته.
وفي سنة ٣١٧ﻫ سار أبو طاهر بجنده إلى مكة فوافاها يوم التروية، فنهب الحجاج واقتلع «الحجر الأسود» وأنفذه إلى هجر، وأخذ الكسوة وحليها وملأ المسجد الحرام بالقتلى، فضج العالم الإسلامي لذلك، حتى إن المهدي عبيد الله العلوي كتب إليه ينكر عليه ذلك ويلومه ويقول له: «قد حققت على شيعتنا ودولتنا اسم الكفر، وإن لم تَرُدَّ على أهل مكة ما أخذت منهم، وإن لم تَرُدَّ الحجر الأسود فأنا بريء منك.» وفي سنة ٣٢٢ﻫ أرسل محمد بن ياقوت رسولًا إلى أبي طاهر يدعوه إلى طاعة الخليفة ليقره على ما بيده من البلاد على شريطة أن يردَّ الحجر الأسود، فلم يأبه لذلك، ومنع الحجاج من الذهاب إلى مكة وظل على فساده إلى أن هلك ودُفن بالكوفة، وقد ظل الحجر الأسود بعيدًا عن مكة قرابة ثلاثين سنة في عاصمتهم بالأحساء.
وفي الوقت الذي أخذ أمر القرامطة يشتد في الشام، نجده قد أخذ يضعف في العراق؛ فإن زعيمهم في العراق، وهو حمدان قرمط، قد أعلن انفصاله عن حركة القداحي في سلمية؛ لأنه أخذ يلاحظ لديه تعابير غير مألوفة في رسائله، فساوره الشك في أمره، وأرسل عبدان ليتحرى له الأمر، فلما وصل عبدان إلى سلمية وجد أن أحمد بن عبد الله القداحي قد مات، وأن ابنه حسين قد حل محله، وأن حسينًا لا يدعو لمحمد بن إسماعيل بن جعفر صاحب الزمان، وإنما يدعو لأبيه عبد الله القداح، فأدرك عبدان أن القداحين إنما هم قوم خداعون اتخذوا اسم الإمام محمد بن إسماعيل ذريعة للدعوة إلى أنفسهم، ولما علم حمدان قرمط بالأمر، جمع الدعاة وأخبرهم الخبر فقطعوا صلتهم بسلمية.
- (١)
تنظيم أحوال الفلاحين وأرباب الصناعات الصغيرة ورفع مستواهم وتنظيم أمورهم المالية وتعاون بعضهم مع البعض الآخر، وإيجاد نقابات لهم.
- (٢)
الانعتاق من قيود الدين الإسلامي وتقاليده.
- (٣)
الانعتاق من فكرة النبوات على العموم.
- (٤) نشر الفلسفة المانوية واليونانية وما إليها، والاكتفاء بفكرة الإمام المستتر مما نجده واضحًا في «رسائل إخوان الصفا» و«الرسالة الجامعة» للمجريطي.٣٨
وصفوة القول أن حركة القرامطة، حركة قامت في بيئةٍ معينة لأسبابٍ اقتصادية واجتماعية وعقلية، واتخذت المبادئ الاشتراكية سببًا لتعميم نشاطها، ولكن لم يُكتب لها الفوز لأن عَمَدتها كانوا بدوًا مخربين.
-
M. J. de Goeje; Memoire sur les Carmathes de Bahrain, Leiden 1882.
-
Lewis: The Origine of Ismaïlism, Cambridge 1940.