ظهور دويلات جديدة
ظهرت في هذه الحقبة دويلات جديدة هي:
(١) دولة آل بويه. (٢) دولة الحمدانيين. (٣) دولة الغزنويين.
***
(١) دولة آل بويه (من ٣٣٤ إلى ٤٤٧ﻫ/٩٤٥–١٠٥٥م)
(١-١) أوليتها
(١-٢) معز الدولة
لما دخل أحمد بغداد استقبله المستكفي بالله وخلع عليه، وحلف كلٌّ منهما لصاحبه هذا بالخلافة وذاك بالسلطة، ولقبه الخليفة أحمد بصاحب العراق معز الدولة، كما لقَّب أخويه عليًّا بعماد الدولة، والحسن بركن الدولة، وأمر أن تُضرب ألقابهم وكُنَاهم على النقود. وهكذا سقط السلطان العباسي سقوطًا رسميًّا، وأصبح الخليفة رئيسًا دينيًّا لا غير، ولم يَعُد له وزن ولا هيبة، وإنما سمح له معز الدولة البويهي بتسمية كاتب يدير إقطاعاته وإخراجاته كما رأينا.
وقد حاول معز الدولة أن يخلع الخلافة عن العباسيين ويوليها بعض آل علي، وكان شيعيًّا زيديًّا متعصبًا، ولكن بعض خواصه حذَّروه من ذلك فعدل، كما تقدَّم، ولم يمكث المستكفي في الخلافة بعدئذٍ أكثر من نصف شهر، خلعه بعدها معز الدولة سنة ٣٣٤ﻫ متهمًا إياه بالتآمر عليه، مع قواده والاستنجاد بالحمدانيين.
وقد أراد معز الدولة أن ينقل الخلافة إلى العلويين الزيديين، وعدل عن ذلك للأسباب التي قدمناها، ولكنه أظهر المذهب الشيعي وتعصَّب له، وأعلن الاحتفال بالمواسم الشيعية، واستهان بالخليفة العباسي. يقول ابن الأثير (في تاريخه ٧: ١٤٩): «وكان من أعظم الأسباب في ذلك أن الديلم كانوا يتشيعون، ويغالون في التشيُّع، ويعتقدون أن العباسيين قد غصبوا الخلافة، وأخذوها من مستحقيها، فلم يكن عندهم باعث ديني يحثهم على الطاعة، ولما نزل «المستكفي» عن الخلافة ولَّى معز الدولة «المطيع لله».»
وفي سنة ٣٣٥ﻫ قدِم جيش ناصر الدولة بن حمدان للانتقام للمستكفي، ولكنه أخفق في حملته، فسجن معز الدولة المستكفي ثم قتله.
ولم يكن حال «المطيع» مع البويهيين خيرًا من «المستكفي»، فقد استخلفه معز الدولة على ألا يبغيه سوءًا، ولا يمالئ عليه عدوًّا، فقبل «المطيع» بذلك، ولكن ذلك لم يمنع بهاء الدولة سنة ٣٨١ﻫ/٩٩١م من أن يصادر الخليفة ويستصفي أمواله، ويهينه في مجلس الخلافة ويضربه ويخلعه على ما قدمنا سابقًا.
- أولاهما: أن عامله في البصرة أبا القاسم البريدي أعلن استقلاله سنة ٣٣٩، وامتنع عن تأدية الخراج لمعز الدولة ووقعت حروب وفتن كثيرة بين الجانبين انتهت بالقضاء على البريدي، وقد انتهز قرامطة «البحرين» و«هجر» هذه الفتن فجددوا عزمهم على مهاجمة البصرة واستطاعوا في سنة ٣٤١ﻫ أن يحاصروا البصرة، ولكن الوزير المهلبي وزير معز الدولة قاومهم وردهم على أعقابهم بعد أن أفسدوا البلاد إفسادًا عظيمًا.
- وثانيتهما: أن عمران بن شاهين استقل بأرض «البطيحة»، في العراق، وعمران هذا كان جابيًا للخراج، جمع أموال الخراج وهرب إلى البطيحة في سنة ٣٢٩ﻫ فأقام بين أهلها بين القصب والآجام متحصنًا بها، مقتصرًا على ما يصيدون من الأسماك والطيور والأوز، ثم أخذ يقطع الطريق على من يسلك البطيحة، ولما قام أبو القاسم البريدي بثورته تعاون معه، واتفقا معًا على معز الدولة، فبعث إليه معز الدولة وزيره أبا جعفر الصيمري على رأس جيشٍ كثيف، كاد أن يتغلب به على عمران، ولكنه فشل واستمر عمران وأولاده ووزراؤه يستقلون بالبطيحة من سنة ٣٢٩ﻫ إلى سنة ٤٠٨ﻫ.
ودولة عمران بن شاهين: هي إحدى الدويلات التي انفصلت عن جسم الدولة العباسية، وظلت كذلك إلى أيام السلاجقة، وكان سبب فشل معز الدولة بالقضاء على هذه الدولة أنه انشغل كذلك بعد وفاة أخيه الأكبر عماد الدولة بالثورة في شيراز، فطلب إلى وزيره الصيمري أن يترك البطيحة ويتوجه إلى شيراز، فتنفس عمران الصعداء، وأخذ يجمع قواه ويعيث فسادًا في تلك المناطق، فاضطُر معز الدولة أن يُنفذ إليه جيشًا ثانيًا فالتقى به عمران وفرَّق شمله وغنم منه سلاحًا وجندًا، ثم قطع الطريق بين بغداد والبصرة فلم يستطع أحد العبور من منطقته إلا إذا دفع إليه مالًا، فضاق الناس به واضطُر معز الدولة أن يأمر وزيره المهلبي فسار إلى البطيحة ولم يكن نصيبه خيرًا من القواد الذين سبقوه، واضطُر المهلبي إلى النجوة بنفسه، واضطُر معز الدولة إلى مصالحة عمران وتقليده إمارة البطيحة، واستمر ملك عمران ومن بعده في البطيحة إلى سنة ٤٠٨ﻫ حين صارت البطيحة كلها بؤرة فساد وسلب وإجرام، إلى انقضاء عهد الدولة السلجوقية، ثم عادت إلى حوزة خلفاء بغداد.

(١-٣) عز الدولة بن معز الدولة (٢٥٦–٣٦٧ﻫ)
هو عز الدولة بختيار بن معز الدولة أحمد، ولي العراق بعد أبيه في ١٣ ربيع الآخر سنة ٣٥٦ﻫ إلى أن خلعه عمه عضد الدولة سنة ٣٦٧ﻫ، فكانت سلطنته إحدى عشرة سنة قضى سبعًا منها في عهد الخليفة المطيع، والباقي في عهد الطائع، وكانت البلاد في عهده على شر حال؛ فقد انصرف هو إلى اللهو واللعب، وأساء معاملة وزرائه وقواده، وسلَّط الجند وكبار الديلم على أصحاب الأرضين، قال مسكويه (في تاريخه، ص٣٠٢–٣٠٧): «وكان لا ينظر في دخل ولا خرج، وإنما يُلزِم وزيره تمشية الأمور؛ حيث لا يعنيه ولا ينصره، ولا يمنع أحدًا من جنده شيئًا، فإذا وقفت أموره على وزيره واستبدل به، فلا يلبث الأمر أن يعود من الالتياث والانحلال إلى أسوأ ما كان.» وصار كل طامح إلى الوزارة يتعهد لبختيار بسد نفقاته وجمع الأموال له ينال وزارته. وفي عهده لقي المسلمون وأهل الذمة أسوأ المعاملة وصُودرت أموالهم، حتى بطلت الأسواق وانقطعت المعايش (كما في تاريخ مسكويه، ص٣٠٢–٣٠٨) إلى أن فرَّج الله الغمة عن البلاد حين خلعه ابن عمه عضد الدولة ثم قتله في سنة ٣٦٧ﻫ.
(١-٤) عضد الدولة (٣٦٦–٣٧٢ﻫ)
هو عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو بن ركن الدولة الحسن بن بويه، كان أبوه ركن الدولة أميرًا على الريِّ وطبرستان وجرجان والجبل وفارس والأهواز، فلما مات سنة ٣٦٦ﻫ خلفه ابنه عضد الدولة، وكان قويًّا حازمًا سيطر على مملكة أبيه، وعزم على السيطرة على بغداد فسار إليها، وخلع ابن عمه بختيار في سنة ٣٦٧ﻫ، ثم سار نحو الموصل فطرد أبا تغلب الحمداني منها، واستولى على ملك الحمدانيين، وبث سراياه في طلب أبي تغلب، فهرب أبو تغلب إلى بلاد الروم، وسيطر عضد الدولة على ديار ربيعة، وديار بكر، وديار مصر، وبذلك سيطر عضد الدولة على إيران والعراق والجزيرة والجبال والري والحجاز وما إليها من البلاد، وأضحى سيد المشرق، ولا غرو فإن ما امتاز به من حزمٍ وجرأة وإدارة وعقل قد وطَّد ملكه.
كما كانت له مساوئ، منها: أنه أحدث في أواخر أيامه رسومًا ظالمة، منها رسوم بيع الدواب والأمتعة، وأنه منع من عمل الثلج والقز وجعل ذلك تجارة خاصة به، ومات عضد الدولة في شوال سنة ٣٧٢ﻫ ببغداد، وحُمل إلى مشهد الإمام علي فدُفن عنده.
(١-٥) صمصام الدولة وعقبه إلى انقراض الدولة
صمصام الدولة هو أبو كاليجار المرزبان ابن عضد الدولة، تولَّى الأمر بعد أبيه بإجماع القواد، وكان إخوته وبنو أعمامه متفرقين في الولايات، وهو في العراق، ولكنه لم يكن حازمًا مثل أبيه، فوقعت الفتنة بينه وبين إخوته وأبناء عمومته، فانتهز الأكراد، بقيادة شجاع دوستك، هذه الفرصة فاستولوا على الموصل، وحاولوا الاستيلاء على بغداد ولكنهم فشلوا، وتم الصلح بينهم وبين البويهيين، واستمر أمر صمصام الدولة في اضطراب حتى استطاع أخوه شرف الدولة أن يدخل بغداد ويقضي عليه في رمضان سنة ٣٧٦ﻫ.
استولى شرف الدولة على بغداد سنة ٣٧٦ﻫ فلم يطل عهده فيها؛ لأن جنوده من تُرك وديلم، كانوا لا ينفكون متحاربين إلى أن مات في سنة ٣٧٩.
ولما مات سنة ٣٧٩ خلفه أخوه بهاء الدولة أبو نصر بن عضد الدولة، ولم يكن عهده من الناحية السياسية خيرًا من عهد أخيه؛ فإن الأتراك والديلم عادوا من جديدٍ إلى التصادم، ثم نشبت فتن كثيرة بينه وبين أهل بيته، وفي سنة ٣٨١ﻫ قبض بهاء الدولة أبو نصر فيروز بن عضد الدولة، على الخليفة الطائع طمعًا في أمواله وخلعه، وولى القادر الخلافة، وكان عهده عهدًا مضطربًا كثرت فيه الحروب بينه وبين أهل بيته إلى أن مات سنة ٤٠٣ﻫ، وكان سلطانه على العراق والأهواز وفارس وكرمان.
ولما مات خلفه ابنه سلطان الدولة أبو شجاع بن بهاء الدولة، ولم يكن عهده خيرًا من عهد أبيه، وكان جنوده لا يطيعونه، فأفسدوا البلاد، وثار عليه أخوه شرف الدولة أبو علي بن بهاء الدولة، فانتزع منه المُلك في المحرم سنة ٤١٢ﻫ ونفاه عن العراق، ثم تصالح الأخوان على أن يكون لشرف الدولة العراق، ولسلطان الدولة فارس وكرمان، إلى أن مات سلطان الدولة سنة ٤١٥ بشيراز فخلفه ابنه أبو كاليجار بن سلطان الدولة. وفي سنة ٤١٦ﻫ مات شرف الدولة فخلت سدة السلطنة من وجود سلطان، وسيطر الأجناد، وخطبوا أول الأمر لجلال الدولة أبي طاهر بن بهاء الدولة، صاحب البصرة ثم قطعوا خطبته، وخطبوا لابن أخيه أبي كاليجار صاحب الأهواز وطلبوه إلى بغداد فوعدهم أن يجيء، ولكنه تأخَّر لما كان بينه وبين عمه أبي الفوارس صاحب كرمان من الحروب، فازدادت الفتن ببغداد لعدم وجود سلطان فيها، وكثُر شر الجند الأتراك فكتب عقلاء البلاد إلى جلال الدولة بن بهاء الدولة يستدعونه إلى بغداد وخطبوا له في سنة ٤١٨ﻫ، ولكنه لم يستطع ضبط الأمر طويلًا، وكثُر شغب الجند عليه. وفي سنة ٤٢٦ﻫ فسد أمر الخلافة والسلطة البويهية معًا في بغداد، وسيطر الأجناد والأكراد على البلاد، إلى سنة ٤٣٥ﻫ حين مات جلال الدولة بعد أن ملك ١٧ سنة إلا شهرًا، ولما مات خلفه ابن أخيه أبو كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة ولقَّبه الخليفة بمحيي الدولة، ولم يكن عهده حسنًا، ولما مات سنة ٤٤٠، خلفه ابنه أبو نصر فيروز الملقب بالملك الرحيم، وأقام ملكًا إلى سنة ٤٤٧ﻫ حين قدم السلطان طغرل بك السلجوقي مستوليًا على بغداد.

(٢) الحمدانيون (٢٩٣–٤٠٢ﻫ)
ينتسب الحمدانيون إلى حمدان بن حمدون بن الحارث التغلبي الوائلي العدوي، حوالي «؟–٣٠٠» ومؤسس هذه الدولة، وهو أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان، وكان من القادة المقدَّمين في الدولة العباسية، ولَّاه المكتفي بالله إمرة الموصل وأعمالها سنة ٢٩٣ فأقام فيها وتوسط سلطانه هو وإخوته على هاتيك الديار.
ولما مات الخليفة الراضي، وتولى المتقي، ووقعت الفتنة بين أبي عبد الله البريدي وابن رائق كما ذكرنا، واضطُر الخليفة على السفر إلى الموصل، بعد استيلاء البريدي على بغداد، كان المتقي قد أنفذ إلى ناصر الدولة يستمده على البريديين، فأرسل أخاه سيف الدولة نجدة له في جيشٍ كثيف، فلقي الخليفة المتقي وابن رائق بتكريت قد انهزما من بغداد، وخدم سيف الدولة الخليفة خدمةً عظيمة، وسار في ركابه إلى الموصل، ثم إن الخليفة المتقي خلع على ناصر الدولة وجعله أمير الأمراء في شعبان سنة ٣٣٠ﻫ وبعث أخاه سيف الدولة في ملاحقة البريديين الذين تسلطوا على واسط، فأخرجهم منها، وكان يريد الانحدار إلى البصرة لأخذها من البريديين، ولكنه لم يتمكن من ذلك لقلة المال عنده، فكتب إلى الخليفة يستمده، ولما تأخر المال أخذ سيف الدولة يستميل القادة الأتراك أن يسيروا معه للاستيلاء على الشام ومصر، فلم يتفقوا معه على ذلك، واضطُر إلى الرجوع إلى بغداد، ثم انحدر إلى الموصل.
وفي سنة ٣٣٠ﻫ اتفق توزون وناصر الدولة بن حمدان أن يقتسما المملكة، فيكون للأول أعمال البصرة وما إليها، وللثاني الموصل وما إليها شمال الشام والعواصم وحمص، وبعث ناصر الدولة أبا بكر محمد بن علي بن مقاتل أميرًا على قنسرين وحلب، ثم استبدله بابن عمه أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان، فقدم حلب وطرد أميرها يأنس المؤنس المولَّى عليها من قبل الإخشيد أبي بكر محمد بن طغج، وحين علم الإخشيد بذلك، قدم على حلب بجيش لَجِب، فهرب الحسين الحمداني إلى الرقة، ولما وصلها كان فيها الخليفة المتقي، فلم يأذن له بدخولها، واستدعى الخليفة الإخشيد، فجاءه وأكرمه، وثبت ملكه على الشام ومصر، ورجع الإخشيد إلى مصر بعدما ولَّى حلب أبا الفتح عثمان بن سعيد الكلابي، فحسده إخوته الكلابيون واستدعوا سيف الدولة فقدمها بموافقة أخيه ناصر الدولة واستولى عليها سنة ٣٣٣ﻫ وهو الاستيلاء الأول، واستمر أمر الدولة الحمدانية يقوى حتى سيطرت على الموصل وحلب ودمشق.
وبقي ناصر الدولة في إمارته على الموصل والجزيرة والشام، على أن يؤدي عنها الأموال للبويهيين ويخطب لهم، وعلى الرغم من أنه أراد أن يقطع صلته بالبويهيين مرات؛ فإنهم استطاعوا أن يفسدوا عليه خططه باتفاقهم مع ابنه أبي تغلب فضل الله الذي حجر على أبيه وسجنه واستولى هو على الموصل وأطرافها سنة ٣٥٦ﻫ، وجرت له مع عضد الدولة البويهي حوادث انتهت بزحف عضد الدولة على الموصل، فغزا أبو تغلب ونزل بظاهر دمشق وانتقل منها إلى الرملة وقُتل بظاهرها سنة ٣٦٩ﻫ.
-
في سنة ٣٣٣ﻫ غزا سيف الدولة بلدة الصفصاف وعرسوس فغنم وعاد.
-
وفي سنة ٣٣٥ﻫ كان الفداء بين المسلمين والروم على يد عامل سيف الدولة في الثغور، وكان عدد الأسرى ٢٤٨٠ أسيرًا، وفَضَل للروم على المسلمين ٢٣٠ فوفَّاهم سيف الدولة من ماله.
-
وفي سنة ٣٣٧ﻫ غزا الروم فانكسر وأخذ الروم مرعش وأوقعوا بأهل طرسوس، ثم غزاهم سيف الدولة فملك حصن بَرْزَية، وفي ذلك يقول المتنبي قصيدته:
وفاؤكما كالرَّبْعِ أشجاهُ طاسمُه -
وفي سنة ٣٣٩ﻫ غزاهم وأوغل وفتح حصونًا كثيرة وغنم وسبى، ثم ضيقوا على جيشه، فلم ينجُ إلا هو وقليل، وفي سنة ٤٣١ غزا الروم سروج فخربوا مساجدها وانصرفوا، فتبعهم سيف الدولة وفتك وعمَّر ما خربوا وأعاد بناء مرعش، وفي ذلك يقول المتنبي قصيدته:
فدَيْناكَ من رَبْعٍ وإن زِدتنا كرَبا -
وفي سنة ٣٤٢ﻫ خرج سيف الدولة إلى ديار مصر وأوقع بالدمستق وأسر ابنه قسطنطين، وفي ذلك يقول المتنبي قصيدته:
لَيَاليَّ بَعْدَ الظَّاعِنِينَ شُكُولُ -
وفي سنة ٣٤٣ﻫ سار إلى الحدث وأوقع بالدمستق الذي جاءه بجموع الروم والأرمن والروس والبلغر والصقلب والخزرية، فهزمهم وأسر صهر الدمستق نوذس البطريق، وأقام في الحدث حتى بناها ووضع بيده آخر شرافة، فقال أبو الطيب قصيدته:
على قدْرِ أهلِ العزْمِ تأتي العزائموقد غلط ابن الأثير فذكر أسر ابن الدمستق في هذه الوقعة، كما غلط بعض المؤرخين في هاتين الوقعتين (هذه الوقعة والتي قبلها) فتوهموا أنها وقعة واحدة مع أنهما اثنتان.
-
وفي سنة ٣٤٤ﻫ ورد عليه رسول الروم مع فرسان طرطوس وأذنة والمصيصة في طلب الهدنة والفداء، فقال أبو الطيب قصيدته:
أرَاعَ كَذا كُلَّ الأنَامِ هُمَامُ -
وفي سنة ٣٤٥ﻫ سار سيف الدولة ومعه المتنبي لغزو الروم إلى تل بطريق فأحرقه، وفتك بالروم ووصل آمد وأنشده فيها المتنبي قصيدته:
الرَّأي قبْلَ شجاعة الشُّجعان -
وفي سنة ٣٤٩ﻫ بلغ خرشنة ولكن الروم ردُّوه، واستردوا جميع ما أخذه وفرقوا جنده، واستطاع هو أن يهرب منهم، وفيها يقول المتنبي قصيدته:
غَيري بِأَكثَرِ هَذا الناسِ يَنخَدِعُ -
وفي سنة ٣٥١ﻫ غزا دمستق الروم الديار، واستولى على عَيْن زَرْبَة، ففتك بأهلها ثم دخل حلب، وانهزم سيف الدولة، فأخذ الدمستق كنوز سيف الدولة وأحرقوا الجامع ومكتبته، وفي هذه المعركة أُسر أبو فراس الحمداني في معركة منبج، وكان متقلدًا لها، ثم رجع الدمستق إلى بلاده فعاد سيف الدولة إلى حلب.
-
وفي سنة ٣٥٤ﻫ هاجم نقفور الرومي المصيصة وفتحها، وأسر من أهلها عددًا عظيمًا.
-
وفي سنة ٣٥٥ﻫ تم الفداء بين الروم وسيف الدولة، فسار سيف الدولة بالبطارقة الذين هم في أسره إلى الفداء، ففدى أبا فراس وجماعة من أكابر الحلبيين.
-
وفي سنة ٣٥٦ﻫ مات سيف الدولة بحلب ونُقل إلى ميافارقين، فخلفه ابنه سعد الدولة أبو المعالي شريف، ولم يَقُم بعمل إلى أن مات سنة ٣٨١ﻫ/٩٩١م، فتولى بعده ابنه أبو الفضائل سعيد الدولة، وكان سعيد صغيرًا فتولى الأمر مولاه لؤلؤ، فطمع الخليفة العزيز الفاطمي، بتملك حلب، فجهَّز جيشًا بقيادة منجوتكين، فاستنجد لؤلؤ بملك الروم فأنجده بجيشٍ كبير ولكنه انخذل أمام الجيش المصري، وصالح لؤلؤ منجوتكين فقبل، ولكن الخليفة الفاطمي لم يرضَ بالصلح، وأمر منجوتكين أن يعود إلى حلب فاستنجد لؤلؤ بالروم ثانية فقدموا بجيشٍ عظيم، وهزموا الجيش المصري، وجاء ملك الروم إلى حلب، فاستقبله أبو الفضائل بالإكرام.
-
وفي سنة ٣٣٩ﻫ مات لؤلؤ فخلفه ابنه مرتضى الدولة ابن لؤلؤ، وكان ظالمًا عسوفًا أفسد البلاد، فتمنى أهلها زواله.
-
وفي سنة ٤٠٢ﻫ أغار صالح بن مرداس في ٥٠٠ فارس على حلب واستولى عليها وقضى على دولة الحمدانيين، وطرد ابن لؤلؤ القائم بأمر ولدي سعيد الدولة، وهما أبو الحسن علي وأبو المعالي شريف، وبذلك انتهت دولتهم وسيطرت الدولة المرداسية.

(٢-١) العلم والأدب في عهد البويهيين والحمدانيين
وفي حلب جعل سيف الدولة من جامعها ومن قصره دارَي علم يجتمع فيهما أئمة الأدب والدين في عصره، ويجري عليهم أمواله ويرفع شأنهم. يذكر أبو الفداء (في تاريخه ٢: ٤٥٨) أن سيف الدولة أجرى على أبي نصر الفارابي الفيلسوف المشهور (٣٣٩ﻫ) أربعة دراهم كل يوم، كما كان سيف الدولة يحضر مجالس العلماء ويتنافس وإياهم، وربما تطور النقاش العلمي إلى وثب وضرب؛ فقد روى ابن خلكان (في الوفيات ١: ٦٥)، أن ابن خالويه النحوي كان خشنًا، فوقع بينه وبين المتنبي كلام في مجلس سيف الدولة، فوثب ابن خالويه على أبي الطيب وضرب وجهه بمفتاحٍ كان معه، فخرج من المجلس ودمه يسيل على وجهه. وقد ضمت حلقات سيف الدولة في قصره ومسجد حلب أئمةً فحولًا في كل فنون العلم، نذكر منهم سيد شعراء العربية أبا الطيب المتنبي الذي جلَّ عن أن يُعرَّف لقدره وفضله وأدبه وعلمه وشعره، ومنهم أبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني، الكتاب الأدبي الأشهر، ومنهم ابن نباتة الخطيب اللَّسن. ومن الأئمة الذين كانوا يحضرون مجلس سيف الدولة، أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (؟–٣٩٢ﻫ) مخترع مباحث الاشتقاق الأكبر، ومؤلف سر الصناعة والخصائص.
والحق أن سيف الدولة مَدين في شهرته في التاريخ العربي أولًا لمناصرته للعلم والأدب، ثم لجهاده في مناضلة الروم بعد أن أعيا قواد الإسلام أمرهم، وإن حلقة الأدب التي رعاها الأمير الحمداني الشاعر لتعيد إلى الذهن ذكرى الرشيد والمأمون.
(٣) الدولة الغزنوية (٣٥١–٥٨٢ﻫ/٨٦٢–١١٨٦م)
يُنسب تأسيس هذه الدولة إلى «ألب تكين» التركي أحد موالي السامانيين، الذين ارتفع شأنهم في الدولة السامانية، حتى صار أحد أفراد الحرس الملكي، ثم رئيسًا لهذا الحرس، ثم نال إمرة خراسان سنة ٣٥٠، ولكنه لم يلبث فيها طويلًا لأن السلطان الساماني عزله عن ولاية خراسان، فصار إلى أطراف المملكة في الشرق، واستطاع أن يجمع جموعًا من أفراد جيشه ويستولي على غزنة من حكامها الأصليين وجعلها سنة ٣٥١ نواة مملكته التي سنراها تسيطر على إقليمي أفغانستان وفارس والبنجاب حتى بشاور.
ولما مات آل تكين خلفه مولاه وصهره سبكتكين جد ملوك هذه الأسرة السادسة عشرة الذين حكموها بعده.
وقد أوجزنا في كلامنا على الدولة السامانية ذكر الدور الذي لعبه سبكتكين، وابنه محمود في وقف سيل الأتراك القرخانيين لما أرادوا الانسيال على الدولة السامانية.
وكيف أنهم استطاعوا منذ ذلك الحين أن يوطدوا أقدامهم في منطقة «جيحون» حتى «خراسان»، وإليك تفصيل ما أوجزناه هناك.
وفي سنة ٤٣٢ﻫ اختلف مسعود وأخوه محمد فاقتتلا وخُلع مسعود واستولى محمد، ثم إن مودود بن مسعود ثار وقتل عمه محمدًا، واستمر أمراء هذه الأسرة يتنازعون المُلك بينهم حتى انقسمت دولتهم إلى إمارات وضاعت هيبة الغزنوية التي أوجدها سبكتكين وابنه محمود، فتسلط عليهم الأجانب، مثل خانات التركستان، وسلاجقة فارس، واستطاع الفوريون أصحاب أفغانستان أن يصوِّبوا للدولة ضربة مسددة، أتت عليها في سنة ٥٨٢ﻫ/١١٨٦م، ومات آخر الغزنويين، في لاهور.
ومما يجب أن نذكره، أن ظهور هذه الدولة كان أول نصر للعنصر التركي على العنصر الإيراني في ميدان زعامة العالم الإسلامي.
والحق أن هذه الدولة لا تختلف عن الدولتين؛ السامانية والصفارية من حيث أساليب الحكم التي لا تعتمد إلا على القوة، حتى إذا ما زالت القوة دبَّ الضعف في جسم الدولة، وهذا ما جرى على الدولة الغزنوية؛ فإنها حين ضعفت أمام السلاجقة أخذت تنهار حتى سقطت.
(٣-١) العلم في عهد الغزنويين
كان محمود بن سبكتكين وأبوه يحبان العلم وأهله، حتى عُدت «غزنة» في أيام محمود كعبة طلاب العلم والحكمة في العالم الإسلامي، وقد أسَّس محمود فيها معهدًا علميًّا راقيًا، وقف عليه جليل الأوقاف، كما جعل بلاطه موئل العلماء والحكماء والفلاسفة والشعراء، نذكر منهم المؤرخ العربي «العتبي» الذي ألَّف لمحمود تاريخًا جليلًا امتدح به محمودًا، وسجل عهده.
ومن رجال محمود، المؤرخ الفيلسوف العالم الجليل أبو الريحان محمد البيروني الذي قام بعدة رحلات علمية في الديار الهندية، وكان يعرف السنسكريتية، فاستطاع أن يعرف كثيرًا من مغاليق الثقافة الهندية، التي سجَّلها لنا في كتابيه القيمين؛ «تحقيق ما للهند من مقولة» و«الآثار الباقية عن القرون الخالية».

وكان محمود تركيًّا سنيًّا؛ فلذلك رعى الأدب العربي وعني به أكثر من عنايته بالأدب الفارسي، كما أنه وقف وقفةً قوية أمام حركات الإسماعيلية والباطنية على العموم.
ومن الرجال الذين رعاهم السلطان محمود، الشاعر الفردوسي الطوسي، الذي نظم له ملحمة الشاهنامة الكبرى، وقدَّمها إلى سلطان البلاد محمود بعد أن مجَّده كثيرًا في مواطن عديدة منها.
وربما نسبهم بعض المؤرخين إلى بهرام جور أو سابور الملك الساساني أو إلى وزيره مهرنرسي أو إلى بني ضبة، وكل هذه النسبة إنما وجدت بعد أن علا كعبهم. انظر: تاريخ المنتظم لابن الجوزي ٦: ٢٧٠؛ وابن حسول: تفضيل الأتراك، ص٣٥؛ وابن خلكان ١: ٩٨؛ والفخري ٥: ٣٧٦؛ وابن الأثير ٨: ١٩٧.