سِيَر العظام تخلق العظائم

نحن قومٌ خياليُّون يروعنا مشهد الحقائق عاريةً فنلجأ إلى الخيال نتذرَّى به، وإلى الصوفية فتشغلنا عن العمل المثمر، تُهنا في دنيا أحلام اليقظة مكتفين بما عندنا من ميراثٍ تاريخيٍّ، ثم تمادينا في غرورنا فأمست تلك الأحلام الهرِمة الشائخة رسالة، وأصبحنا جميعًا رُسُلًا وفلاسفة.

فماذا تنفعنا العُزلة يا أخي، بل ماذا يُجدينا وقوفنا في عرض الطريق غير مرور القوافل بنا ضاحكةً هازئةً؟ ما رأيت عظيمًا واحدًا قعد كالدرويش في واحة الأحلام والأماني، ولكنني رأيت مواكب العظماء ضاربةً في عُرض الصحراء متخبِّطةً في غمار البحار، ولولا المغامرات لما كان في الدنيا عظيم، بل كانت الدنيا سواسية كأسنان المشط …

فنصيحتي لكلِّ قارئ هي أن يضع سِيَر الرجال العباقرة موضع قصص المغامرات المصنوعة وحكايات الحبِّ، التي لا تزيد على أنها حوادث تتكرَّر بصور مختلفة.

لقد أصبح التعليم اليوم عمليًّا، فلماذا لا تكون قراءتنا مثله عملية؟ فلنقرأ في أوقات فراغنا سِيَر رجالٍ نهضوا بأوطانهم من الحضيض إلى الذُرى فصاروا هم قممًا إنسانيةً خالدةً، إنَّ قراءة قصة هؤلاء تدفعنا إلى المحاولة، فنصيب ولو بعض الشيء مما أصابوا.

فإذا قرأنا تاريخ رجال البرِّ والإحسان وماشيناهم في طريق حياتهم، فلا شكَّ في أنَّ تلك المرافقة تُحرِّك فينا عاطفة الإحساس إلى البؤساء والمساكين. وإذا تصفَّحنا سيرة مثاليٍّ رفيع الأخلاق، حاولنا أن نقتبسَ من فضائله شيئًا تزدان به شخصيتنا.

لهذه الغاية النبيلة كتبوا السيرة النبوية وكتاب الاقتداء بالمسيح، فعلينا نحن في هذا العصر أن نُكثر من قراءة سِيَر الأبطال، ففي السياسة أبطال نبلاء حرَّروا الأمم والشعوب، وفي الأدب فلاسفة وكُتَّاب وشعراء مرُّوا عَجَالى في مجاهل التاريخ ولكن خطواتهم الرصينة عبَّدت الطريق للذرية. فإذا قرأت — مثلًا — سيرة فتًى نَجَم من كوخٍ متداعٍ ثم صار زعيمًا مطاعًا وقائدًا أكبر لأمته، أفلا يُحرِّك ذلك همتك مهما كانت ساكنة؟ ألا تتمنَّى في قعر نفسك لو تستطيع أن تعمل ولو بعض الشيء؟ فاقرأ كثيرًا من أخبار هؤلاء فلعلَّك واجدٌ عند بعضهم ما يلائم ميولك وأهواءك.

لا تحتقر نفسك ولا تقل مَن أنا، فأعاظم الرجال ليسوا خيرًا منك إلا بجدِّهم وثباتهم وسعيهم الحثيث نحو الغاية.

اسمح لي أن أصارحك القول: إنَّ أجلَّ ما أقرأ فائدةً هو ما تُنبئني به الكتب عن هؤلاء العباقرة، وخصوصًا من كانوا يسقطون في معترَك الحياة ثم ينهضون ليدخلوا في معترَكٍ جديد.

قد يستولي عليَّ الكسل صباحًا، فأتذكَّر مثلًا أنَّ أحدَ هؤلاء الرجال كان ينهض في الساعة الفلانية ويعمل ساعات، فأنهض حالًا إلى عملي متشبِّهًا به وإن لم أُدرك ما أَدرك. إنَّ تاريخ الرجال العظام هو خيرُ مدرسةٍ للناس، فعلى السياسي أن يقرأ سِيَر السياسيِّين، وعلى التاجر أن يقرأ سِيَر أكابر رجال الأعمال، وعلى الأديب أن يقرأ سِيَر الأدباء، ففي هذه السِّيَر دروسٌ عظيمةُ الفائدة وهي ما تدفعنا دائمًا إلى الأمام.

إذا كنا نُحبُّ كثيرًا بطل قصة خيالي ونتشبَّه به، فكيف بنا إذا قرأنا سيرة رجلٍ عرفنا أنه عاش كما نعيش نحن وعمِل ما نعمل؟ فلو لم يتشبَّه نابليون بمن تقدَّموه من أبطال لما كان ذاك القِزم من عمالقة التاريخ، وكذلك قُل في جميع الرجال على اختلاف أشكالهم ومشاربهم وميولهم.

ليس تاريخ الأمة إلا تاريخ بضعة من رجالها، فهؤلاء الرجال العظام هم الذين يوجِدون أمةً لم تكن، أو يبعثون أمةً شاخت وهرِمت حتى دُفنت حيةً في ظُلمة تاريخها …

من يستطيع أن يتخيَّل النهضة العربية دون أن تمرَّ أمامه صورة أبي بكرٍ وعمر وعلي ومعاوية وهارون والمأمون وعبد الرحمن وغيرهم؟ ومن يتمثَّل أثينا بدون ديمستين وسقراط وأفلاطون وأرسطو؟ وهل تاريخ روميَّة غير قيصر وشيشرون وأوريليوس ويوستانيوس؟ وهل كانت قرطاجنة لولا هانيبال؟

لا تعجَب إن رأيتني أخلط لك رجال السيف برجال القلم، إنني أنحو بذلك نحو فولتير، كتب فولتير إلى أحدهم عندما كان يُعدُّ كتابه «تاريخ لويس الرابع عشر»:

إنني لمَّا طلبتُ منك بعض نوادر عن عصر هذا الملك لم أعنِ الملك بقدر ما عنيت الفنون التي نمت وازدهرت في زمانه، فأنا أوثر التفاصيل التي تتعلَّق براسين وبوالو وموليير وبوسيه وديكارت وأمثالهم على ما يتعلَّق منها بمعركة ستنكرك، فإنَّ الذين يقودون الجحافل والأساطيل لا يبقى بعدهم إلا اسمهم، وأيَّة نتيجة حصلت للجيش البشريِّ من الفوز في مائة معركة؟ أما الرجال العظام الذين ذكرتهم فهم من أدخلوا المسرَّة والبهجة في القلوب، ولا تزال آثارهم تقوم بذلك.

فالرجال العظام لا ينحصرون إذن كما زعم فولتير فيمن ولوا الأحكام وحكموا الشعوب، بل هم في نظر هذا الفيلسوف من وفَّروا السعادة للبشر، وهدوا الناس سبُلَ الحرية ودعوا إلى كلِّ ما يحقق المُثُل الإنسانية العليا. وهؤلاء نجدهم بين الملوك أيضًا، فقد وجدت على قبر ملك مصري عاش منذ أكثر من أربعين قرنًا هذه الكلمات:

إنني لم أوذِ ولدًا، ولا ظلمت أرملة، ولا أهنت راعيًا، ولم يكن في أيامي شحَّاذون، ولا مات أحدٌ من الجوع، ولمَّا جاءت أعوامُ المجاعة زرعت أراضي مملكتي كلها حتى أقصى حدودها الشمالية والجنوبية، وأطعمت كلَّ سكَّانها موجِدًا لهم القوت فلم يمت أحدٌ فيها جوعًا، وقد جعلت الأرملة تعيش كما لو كان لها بعل.

فمن يقدر في عصرنا أن يقول هذا القول أو يدَّعي هذا الادعاء؟ أليس في هذه «القبرية» تاريخ حِقبة من الزمن، وما هي إلا قطعة من حياة رجلٍ عظيم أخلص لأمته وأدَّى الأمانة التي في عنقه؟ فلو قرأ هذا من أُلقيت إليه مقاليد الشعب ألَا يدفعه مثل هذا الكلام إلى العمل المُجدي بدلًا من طلب الجاه الذي يذهب مع طالبه إلى غير رجعة؟ هذي هي فائدة مطالعة السِّيَر، إنها تُمزِّق بُرقع الغرور عن أعيننا فنرى الحقيقة كما هي.

إنَّ في الكون أناسًا طُبِعوا على الشرف والنُّبل، فرافق هذا الشرف نفوسَهم فكانوا خيرًا وبركةً لأمتهم، وزانوا تاريخها كما تُزيِّن الجوهرة العقد الثمين. وسيَر هؤلاء يجب أن تُطالَع، فالرجال العظام الحقيقيُّون هم من يتجسَّم الشرف في أعمالهم وتنطق به ألسنتهم فيُمسي سنة وشريعة، وهم يحيون مع هذا النبل وفيه وبه، إنَّ التسامي عندهم إلهٌ معبود وهو الذي جعلهم عظماء مقدَّمين مستقيمين.

قال أحد المشاهير العظام: «لم يصل أحدٌ إلى العظمة الحقيقية إلا وقد شعر بأن حياته مختصة بأبناء جنسه، وأنَّ ما أعطاه الله فقد أعطاه إياه ليخدم به البشرية.»

إنَّ مثل هذا الشعور لا يولِّده فينا إلا اطِّلاعنا على سيَر من اتصفوا به، وبهذا نَصَحَنا فيلسوف المعرَّة قائلًا: «خذوا سِيَري فهنَّ لكم صلاح»، ولم يقل «خذوا علمي» لأنه يعلم أنَّ القول غير العمل. قد يختلف الناس في أقوال المعرِّي، أما سيرته فإنسانية فاضلة، وهؤلاء الأفاضل هم سُرُج الأزمنة ومنارات الدهور والأجيال؛ فلنتعرَّفهم لكي نُفلح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤