نحو عالَمٍ أفضل

١

وُجِد الناس فكانوا ولا يزالون يتخبَّطون في ظلمات السعي وراء إنشاء عالم جديد، عالم يستريحون فيه، عالم كله سلام وطمأنينة يأتيهم فيه رزقهم رغدًا كما كان جدُّهم في الجنة يعمل بقول الحُطيئة: «واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي» … أما نواميس الحياة فكانت دائمًا تقطع عليهم الطريق فيظلون مُسيَّرين غير مخيَّرين.

إنَّ هذا الموضوع «حول عالم أفضل» الذي كثر التحدُّث عنه في هذه الأيام، يوجِّه الكاتب إلى التفكير بخلق عالم مثاليٍّ لا شرَّ فيه. وعندي أنا أنَّ الشر ضربة لازب بخلاف ما قال النابغة في ممدوحيه الغساسنة، وإذا عدنا إلى ما وراء التاريخ رأينا أن آلهة البشر الأولى كانت آلهة حرب، وتلك الآلهة هي التي خلقت هانيبال والإسكندر، وبالرغم عن أحلام أشعيا وأفلاطون بعالم فاضل مُنقًّى من جميع أدران الشر.

فإذا نظرنا في أساطير الأولين رأينا أن آلهة فينيقية واليونان وجميع الآلهة القدماء آلهة تتطاحن فتزعج السموات والأرض، يقاتل بعضها بعضًا قتالًا لا هوادة فيه، يخلقون العُدد اللازمة ارتجالًا؛ لأنهم آلهة يقولون للشيء كن فيكون.

فهذا هركيل — الذي عبدته فينيقية زمنًا طويلًا — زعمت أساطير الأولين أنه زحف على المغرب بجيوشٍ لا تُحصى جمعها من كل جهات المشرق، وكان هو على رأس تلك الجيوش الجرَّارة، فافتتح قبرس والجزائر المجاورة وجزر الأرخبيل وبلاد اليونان، وكل ما عمر ربُّنا من بلدان فاستولوا عليها، ثم عاد هركيل بعد تلك الحرب الأولى العظمى ليموت حتف أنفه في قادش.

ولم يكتفوا بفحول الآلهة الذكور فجعلوا مينرفا إلهة حرب، زعموا أنها وُلدت من جوبيتر فخرجت من دماغه لتُجْعَل ربة الحكمة والفنون الحربية، حتى زعم فانيلون — وهو يكاد يكون من المعاصرين بالنسبة إلى العصور التي نتحدَّث عنها — فوصف لنا جمال وجه منيرفا كأنه كان معاصرًا لها، فقال إنه لم يكن فتَّانًا يهيج الشهوات في الناظر إليه كجمال فينيس، ولكنه كان جمالًا طبيعيًّا خاليًا من التصنُّع يُحرِّك على الاحتشام، وكل ما فيها كان موقَّرًا شريفًا مملوءًا من العزة والشهامة. يقول هذا فانيلون متحدِّثًا عن إلهة خرافية كأنه جادٌّ غير هازلٍ، والأساطير تجعل شعار هذه الإلهة مِجَنًّا ودرْعًا مصنوعين من جِلد أحد الجبابرة الذي غلبته، وهوميروس شاعر اليونان الأعظم جعلها مدرِّبة ومساعدة لليونان في حرب طروادة.

ثم يأتي مارس إلهُ الحرب العظيم فيكون في عون الطرواديين، وقد قال في وصفه الشاعر أشيل: إنه إله ميَّال إلى الإتلاف والخراب، ولا شيء مقدَّسًا لدى قساوته وتحت يده الثقيلة، وبالاختصار حميت المعركة، وانتقلت ساحتها من بين بني البشر فصارت بين آلهتهم ومعبوداتهم، وها هي منيرفا ترمي الإله مارس بحجر فجرحته، فضجَّ ضجَّة عشرة آلاف رجل … ولمَّا سقط على الأرض غطَّى بجسده مساحة سبعة فدادين.

وتنتقل فكرة الحرب في ظلمات تلك العصور حتى تبلغ عصر بني إسرائيل، فإذا إلههم إله حربٍ أيضًا يصفونه بأنه ينتصر لقومه وينتقم لهم، كما جاء في سِفْر الخروج، يقول الرب: «إني نحو نصف الليل أخرج في وسط مصر، فيموت كلُّ بكرٍ في أرض مصر؛ من بِكر فرعون الجالس على كرسيِّه إلى بِكر الجارية التي خلف الرَّحى، وكل بِكر بهيمة. خذوا باقة من زوفا واغمسوها في الدم ومسوا العتبة العليا، حتى إذا اجتاز الربُّ ورأى الدمَ على العتبة يعبر عن الباب ولا يدع المهلك يدخل بيوتكم ليضرب.»

وها هو داود يترنَّم في زبوره، يُسبِّح ويمجِّد «يهوه» ويسمِّيه دائمًا رب الجنود فيقول: «في ضيقي دعوتُ الربَّ، وإلى إلهي صرخت، فسمع من هيكله صوتي، وصراخي قدَّامه دخل أذنيه؛ فارتجَّت الأرض، وارتعشت أسس الجبال، صعد دخانٌ من أنفه ونارٌ من فمه آكلة، برد وجمر نار، أرسل سهامه فشتتهم، وبروقًا كثيرة فأزعجهم.»

وفي مزمور آخر يقول في وصفه: «الربُّ القدير الجبَّار، الربُّ الجبَّار في القتال، ويكسر الربُّ أَرْز لبنان، كما يقول داود، إكرامًا لسواد عيون شعبه إسرائيل.»

ويتطوَّح داود فيقول لربه: «خاصم يا رب مخاصمي، وقاتل مقاتلي، امسِك مِجَنًّا وتُرْسًا وانهض إلى معونتي، واشرع رمحًا وصُدَّ تلقاء مطاردي.»

وفي مكانٍ آخر يقول أيضًا: «عجَّت الأرض، زُعْزِعت الممالك، أعطى الربُّ صوته فذابت الأرض، رب الجنود معنا …»

أما حين يشيخ داود فيتغيَّر رأيُه في إلهه، فيقول في آخر زبوره: «الربُّ حنَّانٌ رحيمٌ، طويل الروح وكثير الرحمة، الرب صالحٌ للكل، ومراحمه على كل أعماله.» (مز، ١٤٥ :  ٨).

وكأنِّي بأشعيا الذي جاء بعد داود والذي اعترف أخيرًا أنَّ الربَّ للكل، شاء أن يحلم بعصر سلام، ولكنَّ حلمه هذا كان بعيد المنال لا يمكن أن يكون، فقال متنبِّئًا عن عالم جديد: «ينصف فيه لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل، لا ترفع أمةٌ على أمة سيفًا، ولا يتعلَّمون الحرب فيما بعد. ويخرج قضيب من جذْع يَسَّى يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف للبائسين، فيَسكن الذئب مع الخروف، ويربض النمر مع الجَدْي، والعِجل والشبل والمسمن معًا وصبيٌّ صغير يسوقها، والبقرة والدُّبَّة ترعيان تربض أولادهما معًا، والأسد كالبقر يأكل تبنًا، ويلعب الرضيع على سرب الصَّلِّ، ويمدُّ الفطيم يده إلى جُحر الأفعوان، فلا يسيئون ولا يفسدون؛ لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تُغطِّي المياه البحر.»

وقبل أن يخرج قضيب من جذع يسى سمعنا صوتًا في اليونان هو صوت فيلسوفها أفلاطون صاحب المدينة الفاضلة — جمهورية أفلاطون — فتصوَّر عالمًا مثاليًّا كما لا يزال الإنسان يتخيَّل ويتصوَّر ويحاول الابتعاد عن الشر، ولكن تخيُّلات هذا الفيلسوف العظيم قد ذهبت عبثًا، وما زال الناس يتخبَّطون في ظلمات أطماعهم جارِّين ذيول الجشع مقتتلين على حُطام الدنيا، متعثِّرين بأذيال الطمع، إلى أن ظهر يسوع وبشَّر برسالة السلام فسمع العالم صوتًا جديدًا، صوتًا يدعو الناس أجمعين إلى طاعة الله إلهه وإلههم، دعا إلى المحبة دعوةً صارخةً حتى قال: «من ضربك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الأيسر، ومن طلب رداءك أعطِه ثوبك، ومن سخَّرك ميلًا امشِ معه ميلين.»

ولكن كل هذه التعاليم لم تُثمر وظلَّ الإنسان يتدهور في هوَّة الشر، وينقلب من درك إلى درك، وجاء محمدٌ رسول الله، فعلم أنَّ الله غفور رحيم منزَّه عما وُصِف به — سبحانه وتعالى — دعا إلى التسامح والأخوَّة العالمية مناصبًا العبودية العداء.

ثم قام من أتباع عيسى ومحمد رجالٌ كثيرون يدعون إلى نصرة تعاليم المرسلين لهدي الناس، ولكن آذان الناس صُمَّت عن سماع كلام المرسَلين، فكانوا كأنهم صمٌّ بكمٌ عميٌ متى لاحت لهم فريسة لذيذة.

فهذه الصوفية تنادي بأن الكون جزءٌ لا يتجزَّأ، هذا هو أحد فلاسفتها ينحو نحو أفلاطون راسمًا للبشر عالمًا جديدًا، يشد أزره في دعوته «السلامية» فريق من شعرائنا إلا واحدًا منهم فإنه لم يؤمن بالسلام، ما دامت جرثومة النزاع متأصِّلة في النفس البشرية، فقال في ذلك:

صحِب الناس قبلنا ذا الزمانا
وعناهم من أمره ما عنانا
وتولَّوْا بغصة كلهم منه
وإن سرَّ بعضهم أحيانا
كلَّما أنبت الزمانُ قناةً
ركب المرء للقناة سِنانا

فهو يرى أن الشر طبع فينا، وأن النضال مستمرٌّ ما استمرت هذه الميول في النفس البشرية.

وفي الحِقبة الأخير من عصرنا الحاضر، الذي يسمونه عصر النور، يفكِّر الناس بقطع دابر الشر، وخلق عالم جديد يستريح فيه الإنسان من متاعب الحياة ومشقَّاتها، ومن الحروب وضرباتها وويلاتها، فيخلقون مؤتمر لاهاي ثم جامعة الأمم ومنظَّمة الأمم المتحدة، وأخيرًا الأونسكو.

أما ما يكون فهذا علمه عند الله — عز وجل — ولكن الطبخة الطيبة تبين من العصر، فلا أظن أنَّ العشاء يكون كما نتخيَّل ونتفهَّم.

أما العالم الذي أراه أنا فهو هذا العالم الذي نعيش فيه، ولا يمكن أن يكون غير ذلك. وكلَّما بعد عهد الإنسان بالآلهة المحاربين الذين عبدهم في أظلم العصور، اقترب الإنسان من أخيه الإنسان وفهمه. إنَّ عالم الاختراعات التي قرَّبت شُقَّة السمع والعيان بين البشر هي التي ستُقرِّب بينهم وتؤلِّفهم، فيتفاهمون ويأتلفون ويُطلُّ علينا عالمٌ جديد.

إنني أرجو منك منذ الآن أيها القارئ الكريم ألا تطمع بالنوم على ظهرك ليلًا نهارًا، وأن يأتيك رزقك إلى البيت مطبوخًا وما عليك إلا أن تلتهمه، فلا غصَّة ولا فواق ولا ولا … يجب أن تعلم أنَّك لا تلتذُّ ما لم تتعب، ولا تترقَّى ما لم تنافس وتناضل، فلا بد لك من عَرَق جبينك لتأكل خبزك.

٢

عاش الناس قبلنا حالمين، عاشوا في دنيا أساطيرهم وخيالاتهم مترجِّين عالمًا أحسن وأفضل، وقد ضرب صاحب «ألف ليلة وليلة» الرقم القياسي فيما ترجَّى، فجعل المستحيلات عصا يتوكَّأ عليها أبطاله ويقضون مآربهم الأخرى. حقًّا إنَّ الإنسان عمل كثيرًا واكتشف أسرارًا كثيرة وخطيرة إلا سرًّا واحدًا لم يستطع اكتشافه، ألَا وهو سرُّ العدالة والسلام والقناعة والرضا بما قُسم له.

فمن عهْد تلك القميص التي خاطتها حوَّاء من ورق التين إلى عهد فساطين الدنتلا والبوبلين، لا يزال الإنسان إنسانًا لا يهدأ ولا يقرُّ له قرار ينظر إلى جاره بعينٍ محمرَّة، ويحاول القبض والاستيلاء على ما يملك.

ما لي وما لغيري؟ فلأحدِّثك عن نفسي: قد لبست الغنباز والشروال والعباءة والعقال كما ألبس اليوم ما صُنع على مثال آخر طراز، ومع ذلك ما وجدت تغيُّرًا في ملاذِّي وراحتي وعواطفي وإنسانيتي، وسكنت البيوت الرفيعة العماد كما أويت إلى البيوت المتواضعة، ورتعت في قلب المدينة الكبرى كما عِشت في القرية النائية، فما رأيتني في تلك خيرًا مني في هذه.

وركبت الحمير والخيل والبغال والعجلات والسيارات — ولا أقول الطائرات فما طرت بعد — فما زادتني الأخيرة نشاطًا ولا منحتني قوة ولا وفَّرت لي لذَّة.

قد تقول: هذا رجل رجعيٌّ، لا يا عزيزي فما أنا ذاك، إن أنا إلا رجل يُماشي الزمان، وإن شئت فقل يسبقه ولا تخف.

إنني أروي لك ما أشعر به وما أحسسته، فكل ما أُحدث في زماني من اختراعات ما رأيته غيَّر شيئًا من أخلاق الناس وميولهم، فالبُغض ظلَّ بغضًا وزاد، والطمع استحال جشعًا وكَلَبًا. هذا اعتراف مني أمامك وقد سجلتُه على نفسي.

إنَّ ما كنا نعدُّه خرافات وأوهامًا قد صار على عهدي حقائق ملموسة، كان أستاذنا الذي علَّمنا الأدب العربيَّ يرتبك في شرح هذا البيت الذي كان يعجبه جدًّا، إلا أنه لم يكن يرتاح إلى ما فيه من مبالغة:

غنَّت سليمى بالعراق فأطربت
من كان في أرض الشآم نشيدا

فيحاول أن يُخفِّف من إغراق الشاعر وغلوِّه، إلى أن جاءنا ذات يوم يقول لنا: «قد تحقق زعم شاعر سليمى التي غنَّت بالعراق واخترعوا الفونغراف.» فصحنا: «الفونغراف! وما هو الفونغراف؟!» وأخيرًا رأيناه وسمعناه، وعندما جاءنا الراديو بعد الحرب الأولى ترحَّمت على الأستاذ وقلت: «الراديو يحقِّق الفكرة أكثر، فليت أستاذنا ظلَّ حيًّا ليراه ويَسمعه!»

وكان هذا الأستاذ عينُه يهز برأسه حين يشرح لنا «التمنِّي والترجِّي» ويُردِّد هذا البيت:

أسرب القطا هل من معير جناحه
لعلِّي إلى من قد هَوِيتُ أطيرُ!

فيقول: «ما أقلَّ عقل الإنسان وما أطمعه! اسمعوا يتمنَّى أن يطير، فما عليه لو مشى على مهله؟!» ثم رأيت طائرة فدرين تُحلِّق لأول مرة في سماء الشرق، فقلت: «أين أنت يا معلِّمي لترى مطامع الإنسان تتحقَّق؟»

وإني لأتخيل جدِّي وقد استيقظ ورأى المخترعات الجديدة، أفلا يُصيبه ما أصاب رجال الكهف؟!

قد شهدت بيروت تستضيء شوارعها بالكاز والغاز، وشهدتها مضاءة بالكهرباء، وشهدتُ أناسًا من ماضين وحاضرين فما رأيت هؤلاء أسعد حالًا ولا أفضى بالًا.

رأيت الناس يلبسون الخام المصبوغ، ويجلسون على مقاعد من الخيش والجنفيص، رأيتهم في القصور الحاضرة المَنيفة، حتى إذا سألتهم عن حالهم هذا وحالتهم تلك فما سمعت إلا تأوُّهًا.

يقولون إنَّنا مقبلون على عالم تخدمنا فيه الآلة، فتغنينا عن الخدم والحشم. وزعموا أننا سنعيش على «الخلاصات» فلا نضطر إلى مضغ وبلع، وإذ ذاك نُدرك السعادة والنعيم المقيم. أمَّا أنا فما أرى أنَّ العالم يصلح أكثر إذا خلا من العمل، ولعمري كيف تُدرك لذَّة بلا تعب؟! أما خبَّرونا عن أغنياء العالم الذين لم يذوقوا طعم التعب أنهم يتسلَّقون الجبال العالية ليشعروا بلذة الراحة بعد التعب؟

الطائر يلتذُّ بالإسفاف كما يلتذُّ بالتحليق إلى أبعد مدى يستطيع إدراكه، وكذلك الإنسان فلا يعيش عيشةً لذيذة إذا لم تتنوَّع حياته بين بؤسٍ ونعيم وهناءٍ وشقاء، وقد قال أحد القدماء: «لا تأكل لقمتك إلا مغموسة بعسل» أي لا تأكل إلا بعد تعب وجوع فتستطيب الأكل مهما كان رديئًا.

إنَّ الحياة الخالية من كل شرٍّ وعناء لهي أغنية على وتيرة واحدة، ومن تروق له مثل هذه الأغنية؟! فالحياة لا تحلو وتطيب ما لم تتنوَّع. وإنني لا أتصور حياتي الهانئة في الجنة حيث النعيم المقيم إلا وأخشى مَلَلها وإن كان يترجَّاها غيري ويتفانى في سبيل إدراكها.

إنَّ من يطلب عالَمًا لا شرَّ فيه كمن يطلب لحمًا بلا عظم، ونارًا بلا دخان، ونورًا لا يحرق. والذي أراه أنَّ خير ما في هذا العالم هو هذا التقلُّب الذي فيه، فلا تحلو الطبيعة إلا بهُدُوِّها وثوراتها، ونسيمها وعواصفها، وبردها وحرِّها. ما أصدق قول أبي تمَّام:

وإني رأيت الشمس زيدت محبةً
إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمدِ

أعرف رجلًا عاش فقيرًا وكان أسعدَ الناس، يحمل حملة حطب لم تحمل أعظم منها امرأة أبي لهب، ولمَّا رُزِق مالًا استراح واسترخى وترهَّل وجاء الموت، وقد سُئل أي الحياتين هي أحبُّ إليه، فأجاب: لولا هاتيك ما شعرت بلذَّة هذه.

فالعالَم الأفضل الذي يصبو إليه الإنسان ويحلم به لن يكون إلا هذا العالم، فكل راحة نكسبها نجد متاعبها منها وفيها، وهيهات أن نجد عالمًا بلا شرور ودواهي، ولا إخالني أكفر إذا قلت: «إنه لا بدَّ من الشر لأنه من مقوِّمات الحياة.» تصوَّر إنسانًا لا يطمح ولا ينافس، ويرضى بالحالة التي هو فيها، فأيُّ تقدُّمٍ يُدرك؟ وماذا تجني الإنسانية من وجوده؟!

اخترع الله سفينة لنوح ليحفظ الجنس البشريَّ من الفناء، وها هو الإنسان الذي حفظه الله يخترع المدرَّعات والنسَّافات والغوَّاصات والطائرات والحاملات، وأخيرًا القنبلة الذرية فالهيدروجينية ليقتل ويدمِّر، ومع ذلك ما زال الناس يعيشون كما كانوا يعيشون في عهد الكبش والمنجنيق.

وما أرى الشقاء في الحياة إلا كالسموم التي هي في دمائنا، لا بدَّ لنا من كميةٍ منها وإلا فلا تصلح دماؤنا، إنَّ القليل من السُمِّ دواء أما كثيره فيقتل، ولا شك في أن عالم اليوم خيرٌ من عالم الأمس، كما أنَّ عالم الغد سيكون خيرًا من عالمنا شكلًا، وأما الجوهر فواحد. لا بدَّ للإنسان من الشقاء ليدرك لذَّة الحياة، فاللذَّة تصبح شقاءً والإنسان يسأم ويضجر.

وخير ما أختم به مقالي هذا هو حكاية سمعتها أو قرأتها صغيرًا:

كان رجلٌ تقيٌّ يسكن كوخًا تقوم إلى جانبه تفَّاحة، وكان ذاك الرجل لا يملك من أشجار الدنيا غيرها، ولكنه قلَّما ظفر منها بثمرة، فلا تكاد أن تنضج واحدةٌ حتى يقطفها أحدُ الصبيان. وفي إحدى أمسيات الصيف استضافه درويش عليه سيماء رجال الخير والصلاح، فسأله أن يبيت عنده فعشَّاه على فاقته ومدَّ له فراشًا لينام، فركع الدرويش ليصلِّي ثم انْفَتَل من صلاته وقال لمضيفه: «تمنَّ عليَّ، فأسأل الله أن ينيلك ما تبتغي!»

فضحك الشيخ ولم يصدِّق ما يسمع، فقال له الرجل: «جرِّب فأنت لا تخسر شيئًا إذا لم يستمع ربي إلى صلاتي.» فاستضحك الرجل وقال لضيفه: «اسأل لي ربَّك ألا يُنزل من يصعد إلى تفاحتي إلا بإذني.»

فصلَّى الدرويش لربه بحرارة وإلحاح شديدين، ولمَّا وثق من استجابة الله — تعالى — له نام ملء عينيه، وعند الصباح ودَّع مضيفه شاكرًا سائلًا له الثواب من الله — تعالى — لأنه آوى في بيته أحدَ أبناء السبيل.

وقضى الرجل نهاره يُراقب الغزاة الذين يشنُّون الغارة على تفاحته، وما جاء الليل حتى سمع حركة في التفاحة فأضاء قنديله ليرى فوقعت عيناه على صبيٍّ قد ملأ عبَّه تفاحًا، وهو يحاول النزول ولا يستطيع، فتذكَّر ضيفه تلك الليلة وأدرك أنه نبيٌّ وقد استجاب الله لطلبته، فقال للولد: «عاهِدني يا بنيَّ على ألا تقرب تفاحتي لكي آمرك بالنزول.»

وكان العهد وكان النزول، فطار الخبرُ وابتعد الناس عن التفاحة المرصودة، ونَعِم الرجل بأكل التفَّاح زمنًا. وفي ذات ليلة جاء الموت فظنه صاحبه الذي صلَّى في قديم الزمان، فقال له الزائر: «لا … أنا عزرائيل جئت لأقبض روحك.»

فتنهَّد الرجل الشيخ وقال بألم: «نعم، حان الوقت … طال عمري وكبرت جدًّا. ولكن لي رغبة يا عزرائيل أسألك إياها، وهي أن تصعد إلى التفاحة وتأتيني ببضع أثمار، فأنا شيخ لا أستطيع التسلُّق»، فخفَّ عزرائيل إلى التفاحة وقطف بعضًا من ثمارها، ولكنه لم يستطع النزول، فضحك الشيخ — الذي هو «الشقاء» — وقال له: «عاهدني يا عزرائيل على أنك لا تجيئني إلا عندما تنتهي من قبض أرواح جميع الناس» فعاهده، وصدر أمر الشيخ بالنزول.

قال الراوي: «وهكذا سيظلُّ الشقاء ما بقي إنسانٌ على وجه الأرض.»

القصة حكايةٌ خرافية، ولكننا كثيرًا ما نرى في الخرافات روح الحق، فقد نتصل بالمريخ وقد … وقد … ولكننا مهما عملنا فلا نستطيع أن نمحو الشقاء لا من الأرض ولا من العوالم التي نكتشفها، فسعْيُنا وراء عالم أفضل لنستريح من الشقاء والألم لسنا ببالغيه مهما سعينا ومهما رسمنا من الخُطط لهذا العالم، وكأنَّ الفرزدق قد عنانا نحن بقوله لجرير:

ولئن رغبتَ سوى أبيك لترجعن
عبدًا إليه كأنَّ أنفَك دُمَّلُ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤