عداوة المهنة

ويسمِّيها العوامُّ عداوة «الكار»، وشعارهم فيها: «على إزميلك أن ينحت دائمًا في صخرة زميلك»، وإذا لم تفعل ذلك فكنز الثروة المرصود لا يظهر على وجهك. هكذا يتوهَّم من لا يعتقدون أنَّ النجاح حليفُ الصادق الأمين، فيظلُّون دائمًا يثرثرون ويهذرون، يطرون أنفسهم وينادون على ما عندهم ممتدحين، ويطعنون في زملائهم كلَّما وجدوا مجال القول واسعًا، صورٌ تجدها إذا تأمَّلت في جميع أسواق المدن، بل في كل مكان تطؤه رجلُك.

أمَّا الصادقون من الناس الواثقون من أنفسهم العاملون بأمانة وإخلاص، فهؤلاء لا يغشُّون ولا يغدرون، لا في الأسعار ولا في الموازين والأمتار.

عداوة الكار آفة سرى سمُّها الزُّعاف في عروق مجتمعنا فأفسد الدم وقرض اللحم ونخر العظم، وهي العصا التي تُوضع بين أضلاع الدواليب فتقف لا تكرُّ ولا تفرُّ، قد استفحل شرُّها بيننا وطغى فثقُلت وطأتُها على مجتمعنا حتى كادت تخنق الصناعة وتسحقُ رأسَ التجارة، وتُقعد كلَّ نهضة وتُثبِّط هممَ رجالها.

فالصانع عندنا مهما سَمَتْ أو انحطَّت مهنتُه يطعن في رصيفه وزميله، وتقوم بينهما قيامة البُغض وتسود الشحناء حتى تتقطَّع بينهما حبال المواصلة، فإذا دخلت مخزنَ تاجرٍ تسوم بضاعته قضيت عنده ساعة يُسمعك فيها أولًا خطبة العرش التي تدور حول خامه وجوخه وشيته وعنبر كيسه. وإذا قلت له في معرض الكلام: عند جارك مثل هذا وبثمنٍ أقلَّ، احمرَّ واصفرَّ وازورَّ وقدحت عيناه شررًا وراح يكلِّمك بفم يندلق فكُّه التحتانيُّ كأنه بابٌ عتيق مهرهر، ثم يزعم لك أنَّ بضاعته نازلةٌ من السماء، وأنها لا توجد عند غيره، وأن بضاعة جاره مغشوشة مقلَّدة. وإذا طغاك الشيطان واجترأت على القول له أن لا فرق بين بضاعته وبضاعة رفيقه سوى أنَّ تلك رخيصة الثمن؛ رمى جاره المنافق بقذائف الطعن والشتم وسبَّ عرضه ودينه، وأخذ يخترع الأكاذيبَ زاعمًا أنه غشَّ أمس فلانة، وقبلها خدع السيدة الفلانية، ومنذ ساعة جاءه فلانٌ وهو يحلف ألف يمين أنه لا يدخل محلَّ ذلك الغشَّاش والخدَّاع الذي لا يقتني إلا أردأ أصناف البضاعة، ثم يقول: أما أنا فلا يدخل مخزني إلا أحسن البضائع وأجودها وخير الناس وأكرمهم.

وأخيرًا يرمي قدَّامك دفتره ويقلِّبه وشفاهه ترقص حقدًا وغيظًا، ثم يقول لك: انظر هذا اسم مَنْ؟ تفضَّل اقرأ بعينك ألا تُحسن القراءة والكتابة؟ هذا اسم الشيخ الفلاني أو الأمير الفلاني أو الوزير الخطير، وكلهم — والحمد لله على هذه النعمة — من زبائن المحل، ثم يقلِّب صفحةً أخرى قائلًا: وهذا تعرف مَنْ هو؟ هذا وزير الاقتصاد، وهذا وزير العدلية، أعرَفت الآن من هم زبائني؟ ثم يُقلِّب صفحات دفتره بنَزَق ليقول لك بعد تنقيبٍ وتقليبٍ: وصلنا، هذا اسم «مدام» فلان وهي لا تشتري ذراعَ قماش إلا من عندي، تقول دائمًا للناس: ما رأيت مثل فلانٍ بين التُّجَّار؛ سعره محدود وبضاعته فاخرة، ليس في المدينة مثله، هذا لو كان في باريس أو لندن لكان صاحبَ ملايين، ولكنَّ الناسَ في بلادنا لا يعرفون قيمة الأوادم.

ثم يتنفَّس الصُّعداء ويستريح قليلًا ليستأنفَ ما بدأه من جهادٍ، ويقول: بحياتك لا تذكر جاري إذا شرَّفتنا ثاني مرة، فهذي إهانة لي وللتجارة، حرامٌ أن تقابل بيننا فما يدخل دُكَّان جاري غير فقراء الحال.

وإذا رأى أنك لم تُخدع بتلك الفصاحة والبلاغة لجأ إلى الأيمان المغلَّظة، فأقسم لك بنبيِّك إن كان يعرف ملَّتَك، وإلا فهو يقسم بهم ثلاثتهم متَّكلًا على الله داعيًا إياك إلى ذلك بقوله: «توكَّل على الله وغمِّض عينيك.»

ولا تخرج من باب دكَّانه حتى ترى جاره واقفًا لك بالمرصاد، إنه يأبى إلا أن تُشرِّف محلَّه، يتمسَّك بأذيالك كأنك غريمه وله عندك دَيْن، حتى إذا ما سايرته ودخلت أقسم لك بالله وملائكته وعرشه وكرسيِّه أن سيبيعك ما تريد برأس المال فقط نكايةً بجاره الأنانيِّ الملعون الذي يريد أن يستأثرَ بكل الناس ويقطع لقمة جيرانه.

إنَّ الأسطوانة عينها تُدار أمامك، وعليك أن تسمعها إمَّا مجاملةً وإمَّا غصْبًا عن رقبتك، فتتحيَّر في أمرك ولا تدري من تُصدِّق.

وأخيرًا تعزم على أن تدخل مخزن تاجر يحترم نفسه ويعلم أنَّ من غربل الناس نخلوه، فيبيعك إن شئت، ولا يكذب ولا يذمُّ؛ لأنه يعلم أنَّ هذا الكيل يُردُّ كيلين.

فمن دعا الناسَ إلى ذمِّه
ذمُّوه بالحقِّ وبالباطل

هذه خطوط من صور بعض التُّجَّار، أمَّا هذا المعرض — معرض عداوة المهنة — فلا حصر لما فيه من تماثيل وصور؛ لأنَّ هذه الآفة لا تنحصر في منطقةٍ واحدةٍ من مناطق الحياة، بل تتعدَّى الأسواق إلى العلماء والأدباء، فالعالم إن رأى الناس ينظرون إلى زميله نظرةَ إكبارٍ وتقدير، أو ردَّدوا ذكره مع الثناء أو استحسنوا شيئًا من آثاره الأدبية ينقبض صدره ويكفهرُّ وجهُه، ولا يخفِّف من آلامه المبرحة إلا الطعن والتنديد، فيقف للناس بالمرصاد منتظرًا الساعة التي ينفسح له فيها المجال ليُشبعَ جوع نفسه الصغيرة.

ومن يجل في شوارع مدننا الكبيرة يرَ أنَّ هذه العداوة قابضةٌ على القلوب الضعيفة، جاثمةٌ فوق الصدور، والأكثرون منا يخضعون لحكمها وينقادون إليها، حتى ندرت الصداقة بين اثنين يعملان عملًا واحدًا، فكأنَّ «مِكروب» البغض والحسد يختبئ بين ثنايا تلك الأصناف والمهن.

تُرى ما يضر أرباب الحِرَف وأصحاب المتاجر لو دعوا البشر إلى متاجرهم بالتي هي أحسن؟ وما ضرَّهم لو تنافسوا في إجادة العمل والصدق في المعاملة والتنزُّه عن الغش والخداع، بدلًا من التسابِّ والشتائم؟ ألا يعرفون أنَّ تبادلَ هذه «العواطف» يُسقط الاثنين من عيون الناس؟

إنَّ الصدقَ وحده هو الرائد الذي يصدق أهله، أمَّا الغدَّار وإن أدرك نجاحًا فالخيبة أمامه، إنه يستطيع أن يغشَّ الناس مرةً ومرتين، أما أن يغشَّهم كلَّ مرةٍ فهذا لا يكون.

إنَّ الأمانة من صفات الناس الذين يثقون بما يعملون، فالمعمل الذي لا يتقن منتوجاته عمره قصير، وإذا كان خطير الشأن وليس له وجدان فإنه يكون خطرًا على الناس ويقضي عليهم بالجملة، فمعمل السلاح الذي لا يُصفِّي حديدَه من الخَبَث يقضي على كثيرين من البشر من حيث لا يدرون ثم لا يطالب بالدية، ومسمار أو برغي غير متين أو غير محكَم الوضع قد يُهلك المئات من الناس متى غرِقت السفينة التي صنعها ذلك المعمل.

والصيدليُّ الذي لا يُتقن عملَ العلاج هو أخو عزرائيل، والطبيب الذي لا يُهمُّه غير قبض الفلوس هو حليف ملك الموت على قبض النفوس، فخيرٌ له وللناس إن كان لا يحذِق مهنتَه أن يُفتِّش عن غيرها.

هذه صورٌ مختلفة الملامح والألوان والأشكال نراها كلَّ يومٍ، بل في كلِّ ساعة إذا أعرناها انتباهًا، فليت هذه الوجوه تتجمَّل بدلًا من أن تسعى لكسب الرزق بالحيلة، فحبل الكذب قصيرٌ.

فأنت يا أيُّها المعلِّم غيره ما ينقص من قدرك إذا أثنى الناسُ على زميلك؟ أهذا يحطُّ من كرامتك؟ أم هو حبُّ الذات قد عقد لسانَك؟ إن ثناءك على ابن مهنتك يسوق الثناء إليك عملًا بقول المثل: «كما تراني يا جميل أراك.»

فحتَّام يعمي ظلام الحسد بصائر الأنام ويجرُّهم إلى المهاوي؟ ومتى تتبدَّد من سماء عقولهم ظلمات الحسد فيروا العظمة الحقيقية؟

فليت هذه العداوة تستحيل منافسةً شريفةً فنتسابق ونحن بشر كما تتسابق الخيل! أليس كلٌّ منها يسعى إلى الغاية، ولا يهمه أن يُعرقلَ خطى سواه؟ فلنكن جيادًا على الأقل إذا لم نشأ أن نكون بشرًا.

العالم اليوم يتنافس بالإعلان لا بقذائف اللسان، حُكي أنَّ خيَّاطًا روسيًّا شاء أن يعلن عن دكَّانه فكتب فوق بابه: «أكبر خيَّاط في روسيا.» وقرأ ذلك جارٌ له فشاء أن يفوقه إعلانًا فكتب: «أكبر خيَّاط في العالم.» وكان هناك خيَّاطٌ شهيرٌ لم يجد ما يقوله ليبز زميليه وهما دونه شهرة، فاستعان بأحد الظرفاء فقال له: «المسألة بسيطة جدًّا، اكتب: أكبر خيَّاط في هذا السوق.»

هكذا يتنافس الناس عندهم، ولا يتعادون كما نتعادى نحن.

فلا نجاح إلا بالصدق وإتقان العمل، وكما أن لكلِّ إنسان وجدانًا كذلك يكون لكلِّ مهنةٍ وعملٍ ومصلحة ضمير، ومن خان هذا الضمير ولم يستجب له حين يدعوه يُشرف على الخسارة والبوار من حيث لا يدري، فأتقِن عملَك واصدُق تفلح إن شاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤