نماذج شتَّى

في الدنيا أجناسٌ وأنواعٌ وأصنافٌ من المخلوقات، فكأنما الطبيعة فَبْرَكةٌ عظمى تقذف منتوجاتها إلى الأسواق بالمئات والألوف، والفرق بينها وبين الفبارك البشرية هو أن هذه تطبع مصنوعاتها على غرارٍ واحدٍ فلا تستطيع أن تميِّز الواحد من الآخر، أمَّا الطبيعة فلا تتقيَّد بغير الجنس والنوع، فقلَّما يتفق الأفراد في الشكل كلَّ الاتفاق ولو كانوا توائم، لا بدَّ من علامة تُميِّز كلَّ فردٍ من مصنوعاتها، سواء أكان ذلك في الشكل الجسدي أم كان في الشكل العقلي، حتى جاء في الكلام المأثور: «عقول البشر مثل نبات الأرض.»

قد تحرم الطبيعة أحدَ أفرادها من الهبات العقلية الكبرى، ولكنها في الوقت نفسه تجود عليه بما يغنيه عما يسمُّونه عبقريةً ونبوغًا، فكم من عالمٍ كبير وأديب عبقريٍّ لا يفهم أساليب الحياة حقَّ الفهم، فيتعثَّر بأذيال الخيبة عمليًّا كيفما وأينما توجَّه، ومن هنا جاء تشكِّي العبقريين والنوابغ الذين يُقصِّرون في ميدان الواقع، بينما نراهم يُحلِّقون في آفاق النظريات إلى أعلى عِلِّيِّين.

فمن الخير لنا ألا نبني رجاءنا على الكتب، ففائدة الكتب تُطلب خارج دفَّاتها، إنَّ الإفراط في التأدُّب والتعلُّم يُضعف الرجل ويجعله غير أهلٍ للحياة العملية إذا لم تهبه الطبيعة حنكة وتجاريب، فالتهذيب بالكتب يجعل المرء مبالغًا في الانتقاد، جبانًا غير واثقٍ بقدرته، رقيق المشاعر لا يتحمَّل مشاقَّ الحياة ومشاكلها الآلية، وهكذا تحُول رقَّتُه المتناهية دون الجزم، ويفصل أدبه العالي بينه وبين العمل اليومي.

إنَّ تربية المدارس والكتب تلطِّف وتدمِّث، وهي ليست أحيانًا إلا تربية أخلاقية يُفني المرء في سبيلها طاقة نشاطه وعزيمته، فهذه التربية المثلى إذا اعتمد عليها وحدها تشلُّ القوى العملية؛ لأنَّ المفرِط في الدرس بلا تجربة يفقد ذاتيته ويمتلئ دماغه بالنظريات ويبتعد عن الواقع حتى إنه يفقد النشاط العقلي الذي رافقه قبل دخول المدرسة ثم ما لبث أن تلاشى فيها، إنَّ حفظ البرامج التعليمية عن ظهر قلب لا يخلق شخصية صالحةً للحياة، ومن ينشأ هكذا يدهش؛ إذ يخرج إلى مدرسة العالم ويجد أنه فقد المقدرة على تفهُّم الناس والأشياء، يتعجَّب إذ يرى غلامًا فقيرًا محرومًا من تحصيل العلوم يسبقه في ميادين العمل.

إنَّ خرِّيج المدارس العليا يعيش في عالمٍ خيالي ويخال تخاذله قوة، بينما يرى العالم يضحك من نظرياته المثلى التي لا يُستطاع تطبيقها، إنَّ تلك النظريات كمسرحية لم تُمثَّل مشاهدها وأدوارها ليرى الناس قيمتها الفنية، نحن في زمانٍ يتطلَّب رجالًا عمليين، وليست معارف غير العمليين من ذوي العقول الكبيرة إلا مواد يستخدمها وينتفع منها أنصاف المتعلمين الذين وُهبوا مقدرةَ الدخول والخروج من أبواب معضِلات الدنيا ومشاغلها، إنَّ هؤلاء الذين لا يفهمون إلا المحسوسات يعرفون ماذا تفيدهم النار في أعمالهم، ثم لا يعنيهم بعد ذلك أن يعرفوا كيف وممَّ تتولَّد الحرارة، فمن الخير لنا أن نُعلِّم بنينا كيف يستفيدون من طاقة الماء قبل أن نُعلِّمهم أنه مُركَّبٌ من الأكسيجين والهيدروجين.

فإنسان الكهوف حين حكَّ العود على جدار كهفه واكتشف النار واستخدمها في منافعه لم يبحث عن أصلها وفصلها، ولكنه شوى عليها صيده وأكل هنيئًا مريئًا، ثم قعد يتدفَّأ عليها بعدما ملأ بطنه واستنار بها حين فقد البدر. إنَّ في الطبيعة نماذج عديدة من البشر تُضحكك إذا تأملتها ورأيت كيف تجتمع فيها الأضداد؛ فمن ذكاءٍ حادٍّ إلى جانبه غفلة كأنها البلاهة، فإسحاق نيوتن استطاع أن يُدرك سرَّ الخليقة، ولكنه كان يضيق ذرعًا بالنهوض عن كرسيِّه ليفتحَ الباب لهرَّته، فقوَّر لها طاقة في أسفل الباب لتدخلَ منه متى شاءت ثم عمل طاقة أصغر لجروها، ولم يُدرك أنَّ الطاقة الواحدة تكفي البسَّة وجروها.

وبتهوفن الموسيقي العظيم كان لا يعرف أن يقطع كوبونًا من سندٍ لديه ليقبضَ فائدته حين يحتاج إلى المال، فكان يبيع ذاك السند بل ربما باعه بثمنٍ بخْسٍ من تُوَيْجر يضحك من عبقريته وإن أُعجب بما يُبدعه من أنغام.

ويُحكى عن أحد الكُتَّاب الكبار الألمان أنه عاد مرةً إلى بيته وقرع الباب فأطل عليه خادمه من النافذة، ولمَّا لم يقدر أن يعرفه بسبب الظلام الحالك قال له: إنَّ مولاي الأستاذ غائب الآن عن البيت.

فأجابه الكاتب العبقري وهو ذاهل: حسنٌ! قل له سأعود لزيارته في فرصةٍ أخرى! وهكذا نام عبقريُّنا لا نعرف أين ليلته تلك.

وأحدُ أساتذتنا البلديين وكان من المتفوِّقين في علم الرياضيات، رافق مرةً زائريه إلى الشارع مودِّعًا، وبعد أن سار معهم مسافة غير قصيرة وقف يترجَّاهم ألا يزعجوا أنفسهم أكثر بوداعه وسألهم بإلحاح أن يعودوا، ولم يشعر أنه هو الذي يجب أن يعود إلا عندما أفهموه ذلك بالقلم العريض.

وأعرف أيضًا أستاذًا خرج من صفِّه وما زال عقله مشغولًا بحلِّ معضِلةٍ، فرأى في طريقه إلى غرفته كاهنًا عريض الأكتاف واقفًا يُصلِّي أمام تمثال في ساحة المدرسة، فشرع يُخربش أرقامًا على ظهره ظانًّا أنه أمام لوحٍ أسود.

قلَّ منا من لم يسمع بإديسون العظيم، فهذا الرجل الذي أدرك كثيرًا من أسرار الطبيعة واستخدمها لرفاهية الإنسان لم يعلم أنَّ البريد ينقل بسرعة كل ما يعوزنا من القارَّات الأخرى، فلمَّا قيل له ظهر في ألمانيا كتاب جليل عن الكهرباء، قال: «ابعثوا رسولًا إلى ألمانيا يجيئني به.»

وصاحبنا الجاحظ النابغة العظيم حصر مثل هذه الغفلة في المعلِّمين، فكتب دفتر المعلمين المشهور فأضحك الناس ولا يزال يُضحكهم منهم، وقد نسي مولانا الجاحظ أنَّ العلماء العظام مثله أغفل من المعلِّمين أحيانًا، وإني لأعجب من الجاحظ العظيم الذي لم يترك شاردةً ولا واردةً عن غفلة المعلِّمين إلا دوَّنها في ذلك الدفتر، كيف نسي غفلته هو حين حدَّثنا أنه نسي اسمه ثلاثة أيام!

إنَّ هذه الغفلة قد تنفع في العلم فينصرف صاحبها النابغة بكليته إلى قضيةٍ ما فيحلِّل ما اعتاص منها، ليأتي رجل وسط ويستغل تلك الموهبة الخارقة.

إنَّ علم هؤلاء لا ينفعهم بنافعة في الحياة، ولكن غيرهم يستفيد من ذكائهم ويستغلُّ علمَهم ومعرفتهم، فهم أشبه بالأرض التي تُطعِم ولا تأكل من ثمارها الشهية، كثيرًا ما ترى رجلًا يندب أمامك حظَّه ويرى نفسه فوق رؤسائه، بل يرى أنه أهلٌ لأن يُدير أمته ويُدير شئونها، ولكن الناس حُسَّاد يكرهون أن يسودهم عبقريٌّ مثله؛ ولذلك ظلَّ هو حيث هو بينما فلان الذي كان رفيقه في المدرسة وكان دونه في الصفِّ يتمتَّع اليوم بمركزٍ مرموق، فإلى صاحبنا هذا قل: لقد ظلمتك مدرستك التي عظَّمت ذكاءك لأنها نظرت إليك من جهةٍ واحدة ونمَّت فيك موهبةً لا تُطعمك خبزًا ولا تسقيك كأسَ ماءٍ بارد، نظرت إلى نُخْرُوب عامر من دماغك وعميت عما في نخاريبه الأخر من خراب، فجاء حكمها العام فاسدًا.

إنَّ كتاب الحياة يُقرأ بغير الطريقة التي تُقرأ بها الكتب العلمية والفلسفية والأدبية، فلا تتعجَّبوا إذا رأيتم من لا يعرف الخمس من الطمس يتفوَّق في ميادين شتَّى على الشباب الجامعيين الذين قتلوا العلوم الحديثة درْسًا، تعلَّموا — مثلًا — الاقتصاد السياسي ثم ما عرفوا اقتصدوا ولا ساسوا، وحذقوا مواقع النجوم في قُبَّة الفلك بينما لا يدرون موقعهم على الأرض، وتعلَّموا سرعة النور وانتشار الضوء ولا يزالون أيضًا كالسلحفاة قابعين في مدارجهم لا يعرفون أنَّ العمل غير العلم.

إنَّ الرجل العمليَّ المحنَّك هو الذي خُلِق لاستغلال العقول الغنية الرفيعة التي لا تعرف أن تُفكِّر إلا بالقضايا التي تستبدُّ بذكائها، فكم حال انصباب بتهوفن على رائعاته الموسيقية دون تفكيره بخبزه اليومي، فلم يكن لديه أحيانًا غير قطعة بسكوت وكأس ماء لغدائه!

حقًّا إنَّ العبقرية نعمةٌ وكارثة في وقتٍ معًا، وما أجمل وأصدق قول أمِّ الإسكندر لابنها: «إني أتمنَّى لك أصحاب عقول تخدمك، ولا أتمنى لك عقلًا تخدم به غيرك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤