الدواء في الثكنة

عندما دخل عليَّ المقدِّم زين الدين ومعه طبيب مصلحة التدريب الدكتور فؤاد أبو حمزة، تهلَّلت لمَّا عرفت أنهما قادمان بمهمة تربوية علمية، وهي التدريب العسكري في المدارس الثانوية، إنَّ ما كان حبرًا على ورق جاء من يُصيِّره عملًا نافعًا مفيدًا.

وعادت بي الذكرى إلى ما كتبت في نقاش حول التربية الوطنية، فقلت حينذاك: إنَّ دواء الداء الذي نحن فيه ليس في المدرسة إنه في الثكنة العسكرية، فهي البوتقة التي تطبع أبناء الوطن على غرار واحد، فينسون نعراتهم وعنعناتهم.

ثم مرَّت الأيام، وأخيرًا أُقِر التدريب العسكري في المدارس، فشكرنا وانتظرنا ساعة التنفيذ لنرى طلائع التجنيد الذي يرعب اسمه الكثيرين منا كأنه الغول الذي خوَّفونا به صغارًا.

كان عهدًا ومضى، كان ذلك يوم كان سيف اللبناني مخدته، يوم كان يقول ككل عربي: «أيقتلني والمشرفيُّ مضاجعي؟» ولا ينكرون القول حين يقول.

كان عهدًا ومضى، عهد الرجال القشمريين والأبطال المشمرين، وجاء دور بنطلون الشرلستون، عرض ساقه أربعون سنتيمترًا، يلف سيقان الفتيان المرهرهة فوق مرمر المقاصف، كانت الشراويل الخشنة تمر بالقندول المعجرم مر الكرام، وصارت بذلات السموكن تترحَّم على طيلسان ابن حرب …!

رحم الله عهد اللبادة والكوبران، والصدرية المزررة كأنها الدرع، وزُنَّار الكشمير والعباءة المخطَّطة!

ليس فيما أقول حِطَّة من قدر النفوس والهمم، فالبلاد لا تزال تنجب الغطاريف، ولكن تربيتنا وأنظمتنا تخمد الهمم وتميت الإباء والشمم.

شاءت دول أوروبا السبع أن تسبغ ثوبَ حمايتها على لبنان، فوضعت له ذلك النظام المخنَّث المشلول، النظام الذي خنق الرجولة في صدور اللبنانيين فأصبحوا يرتعدون إذا ضجَّت الخيل والبارود. كان اللبناني يستقبل المنايا كالحات ولا يلاقي الهوان، فصار يؤثِر العافية، اتكل على «الدول السبع» فعاش يأتيه رزقه رغدًا، ولم يرحل لبُغية المكارم، ولماذا لا يقعد الزبرقان وهو الطاعم الكاسي؟!

كثيرًا ما سمعت: «هنيئًا لمن له مرقد عنزة في لبنان»، إنَّ هذا المرقد الذي تغنَّى به الشعراء قد صيَّر اللبنانيين أعنزًا ونعاجًا، قتل الإباء وأخمد المروءات، فأصبحنا نُغلق الباب ونعيا عن ردِّ الجواب، وهل يعز وطن بلا جنود؟

أمِنَّا شرَّ العدوِّ الطارق فتعاديْنا مِلَلًا ونِحَلًا وأُسرًا وبيوتًا، وتقسَّمت مدننا وقصباتنا حارات وأحياء، فصحَّ فينا اليوم ما قاله شاعرنا في الأمس:

وأحيانًا على بكر أخينا
إذا ما لم نجد إلا أخانا

رحم الله عهدًا كان فيه اللبناني فلَّاحًا ومحاربًا في وقتٍ معًا، ينحت صخور جبله مسالمًا، ويهبُّ للذود عن حوزته مهاجمًا!

كان يسوق ثيرانه إلى الحقل ليحرث أرض آبائه وأجداده، يعاونه بنوه وزوجه، كلهم عمال يدهم واحدة، حتى إذا داعٍ دعا وسمع الصوت في الحقل لم يرجع إلى بيته، يُلقي عن بقراته النِّير، ويسوقها إلى مراحها ابنه الصغير، وتمضي الأمُّ لإعداد الزاد.

ها هو يستبدل المساس بالطبنجة والسيف والغدارة والقرابينة، وجراب البذار يصبح كنانة الفلَّاح البطل، وإلى أين؟ هو يُلبِّي صوت الداعي ولا يدري، يمضي مسرعًا ووجهته الصوب الذي طُرح منه الصوت، لا يعنيه ماذا، كذا نشأ وتعوَّد، وهكذا عاش كريمًا ومات عزيزًا.

«اطرح الصوت يا صبي.» هكذا يخاطب ابنه ورفيقه إلى المعمعة، لعل أحدًا لم يسمع الصوت فيعتب علينا، نادِ فيسمعوا ويجيئوا معنا، نادِ يا ابني نادِ، لا يبقى في بيته إلا الجبان والعاجز، أسرع يا ابني، عجِّل قبلما يفوت الفوْت.

في ذلك الزمان كان لبنان أشمَّ، وذلك العهد يعود إن عادت إليه الجندية ماحقةً النعرات الطائفية، فلا يمَّحي تبلبلنا القومي ما لم تُصهر نفوس أبنائنا في بوتقة واحدة هي بوتقة الجندية، وإلا بقينا نماذج وأشكالًا تزدريها الأمم وتحتقرها الشعوب.

لا يُرجى من المدارس أن تخلق للوطن رجالًا، فمدارسنا كما هي حالها لا تُخرِج إلا كل مخنَّث رخْو، إنها مضطربة الميول متعدِّدة النزعات والأنظمة، في مناهجها سمٌّ ودسم. إن «ولدنا» عرضة لعوامل شتَّى مُفسدة، أهمها البيت المستضعف والمدرسة المسترخية.

أصبحت المدارس لتخاذلها ولتنافسها ولسقوط سلطة الآباء عن بنيهم تراعي طلابها، فانفرج بركار الحرية المدرسية عن دائرة واسعة خطرة، بات النظام مهدَّدًا وخرج الشبان أقرب إلى الفوضى منهم إلى النظام، ولم يتأصَّل فيهم شيء من العادات القومية؛ لأنهم مسوقون بسياط التقليد.

العادة تُكوِّن الأخلاق التي يحتاج إليها المواطن، والمدرسة عاجزة عن توطيد هذه الأخلاق في معظم الدول العريقة في القِدَم، فكيف تطلبها من مدارسنا البابلية؟

بالتكرار تستقر فينا الأخلاق التي تحتاج إليها الأمة، ومدارسنا تريد ذلك ولا تقدر عليه لتباين أهدافها وتنوُّع أغراضها ومراميها، إنها تُعلِّم ولكنها لا تربِّي الخلق القومي الذي لا وطن بدونه. هذا الخلق لا يستقر في أبنائنا إن لم يصبح من عاداتهم الراسخة، والعادة لا ترسخ وتصبح خلقًا إلا بالتكرار؛ ولذلك قالوا: «من شبَّ على شيء شاب عليه.» العادة تُكوِّن الرجل تكوينًا يقتضيه الزمان والمكان، ومدارسنا جميعها عاجزة عنه؛ لأنَّ لكل مدرسة منها نزعة وغرضًا.

فلا رجاء لنا ولا أمل إلا بالجندية الواجب فرضها على كل مواطن؛ ليُخلق فينا بالتكرار والعادة ما يسميه علماء الأخلاق ﺑ «الوازع الباطني»، إنَّ الوازع الباطني مفقودٌ عندنا، ولا أثر له في أكثر شخصياتنا المنحلَّة، كلنا يرجو الثواب، كلنا يأبى الدَّنيَّة — إن أباها — لا لأنها دنية بل لمآرب أخرى، فالمأمور لا يتم عمله إلا خوفًا من أن يتقلقل تحته كرسيُّه أو خوفًا من الفضيحة، أما إباء العار لأنه عار فلا بدَّ له من وازعٍ باطنيٍّ نامٍ في الصدور.

«نظام عسكري»، كلمة كثيرًا ما سمعتها من إخواني القرويين إذا وصفوا رجلًا دقيقًا مثابرًا على عمله، لا يتوانى ولا يتكاسل، ولا يتأخر ولا يُبطئ؛ أثنوْا على عمله وهمته قائلين: نظام عسكري.

أجل، إنَّ المدرب العسكري هو المربِّي الأكبر لا نحن، والثكنة العسكرية هي مدرسة الوطن، عند عتبتها ينسى الطالب ملته، وتحت سقفها يصافح ابن بلده غير ناظر إلى ملته ودينه.

لا وطن بلا حدود، وحدود الوطن وتخومه الصحيحة مخيم جنوده.

وهنا يطيب لي أن أوجِّه إلى الجنديِّ اللبناني الذي له في نفسي أسمى الاحترام:

إنَّ يدك الكلَّة يا أخي الجندي لنقية شريفة طاهرة، فلا تمدها إلى مواطنيك إلا مضطرًّا.

إنَّ ثوبك الخشن لأرخم من البرفير والأرجوان، فاحفظه من الوسخ والتلطيخ، لست أعني لطخات الزيت والدهن، بل الذي لا يمحوه الغسل فافهم عني.

إنَّ سيفك مغمد إلى حين، فلا تدعه يصدأ.

إنَّ بندقيتك مِجَنُّ الوطن، فتفقَّدها كلَّ يوم.

إنَّ الجندي محترمٌ ونبيلٌ ومسئولٌ، فليرعَ احترامك صدق طويتك، وصُن نبلك بجمال خُلُقك، وعزِّز المسئولية بالحق والعدل.

احفظ القانون يحفظك ويحفظنا.

كن شجاعًا، فالشجاعة أُسُّ الفضائل — حتى عند الرهبان — فكيف بها عند الجندي؟

لا تظن عملك يدويًّا وسيرك آليًّا، أنت مسئول عن علمين: علم عام وعلم عسكري، فازدد منهما ما استطعت كل يوم، بل كل ساعة.

لا ترجُ المهابة عن يد التهويل والتنكيل والعدوان، فالوعورة والخشونة تُذهب الهيبة والوقار.

إنَّ يد القانون طويلة فلا تُقصِّرها بمدِّها. إنَّ خير شعار لك يا أخي الجندي، كلمة زميلك زياد ابن أبيه: شدة في غير عنف، ولِين في غير ضعف.

اعرف القانون وطبِّقه، تعرف قدرك وتحفظ هيبتك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤