كنيسة العلم والثقافة

إلى أولادنا بالعلم والتربية: سلام.

أيها الأبناء الأعزَّاء

سوف يدهشكم هذا العنوان الغريب «كنيسة العلم والثقافة»، ويشدهكم أسلوبي «الرعائي»، فكأني أصدر منشورًا إلى أبنائي بالرب! نعم أيها الإخوة: إن كنيستنا، كنيسة الثقافة والعلم، محتاجة إلى رعاة ومرسَلين ومبشِّرين، فالإخوة المؤمنون كثيرون وهم أنتم أيها الأحبَّاء. فمن على قمم المنابر الحقيرة المنصوبة في زوايا الغرف الصغيرة، طارت رسالتنا في الآفاق البعيدة، فإذا أصدرنا لكم منشورًا فهذا من حقوقنا، وإن كنا رعيَّةً بلا راعٍ. لا تخافوا فليس أمرنا إلا رغبة، وما نهيُنا غير استحسان وحض، وقصارى الحديث أنَّ نِيرنا طيب وحِملنا خفيف. أمَّا أنا فأطمئنكم إلى شبابي الذي أراه يتجدَّد كل ساعة، وإنني لأشعر كأنني أُولد كل يوم فأنسى ما ورائي وأنبسط إلى ما قدَّامي، كما قال بولس الرسول.

يؤلمني أيها الإخوان أن تكون خراف الثقافة مشتَّتة أسرابًا وقطعانًا، وأن تكون الموارد والمراعي بلا نواطير، وأن:

«يهدم» بعضنا بعضًا ويمشي
أواخرنا على هامِ الأوالي

يقولون لنا — نحن المعلمين — متى شاءوا نفْشنا ونفْخنا: أنتم مربُّو رجال الغد، ومكوِّنو الأمة. يردِّدون على مسامعنا قول أخينا بسمرك: «غلبنا فرنسا بمعلِّم المدرسة.»

هذا فخر جزيل لنا، وبه نرضى وإن جرح اتضاعنا العميق، فنحن الأساتذة متواضعون جدَّا … فحسبنا فخرًا يرفع رءوسنا أنكم أنتم رعيَّتنا، ومن كنتم رعيته كان المستقبل له، وإن قال أخونا هيغو: «المستقبل لله»، وحسبنا تعزية في ضيقتنا أنكم ميراثنا الخالد، كما قال داود النبي: «وأعطيك الأمم ميراثك» …

إننا راضون، ولنا إذن ملء السُّلطة بمخاطبتكم هكذا؛ لأن رسالتنا إنسانية بحت، ورعيتنا النسل البشري كله، على اختلاف الملل والنِّحَل، وإن لم يكن لنا لباس معلوم كرجال الرسالات الدينية ولا أوقاف عندنا … ألم يكن المعلِّم يسوع بلا مكان يسند إليه رأسه؟ هكذا نحن ولا ينقصنا إلا الصَّلْب، ويا ليتنا أهلٌ له! وبعدُ، فلماذا الشكوى؟ أليس كلُّ نادٍ هو نادينا، وكل مجتمع يحمل مصباحنا؟ فالحمد للروح القوية التي هي فينا، فتدفعنا في سبيل الواجب المقدَّس.

أيها الأبناء، إنكم ترون فينا أشكالًا وألوانًا وهذه سنة الطبيعة، أما منبع هذه الفوضى فإهمالنا «التأصيل»، فالبصل يؤصل أليس كذلك؟ ولكنَّ الثقافة والعلم كالدين لا يعدمون أفاضل يخدمونهم نزهاء مخلصين يرضون بالكساء والرغيف، فإن كان يابسًا بلُّوه، وإن اتسخ نظَّفوه، وكفاهم الذكر الخالد …

أيها الأعزاء

لا تنسوا أنكم ورثة مدنيتين: إحداهما اندثرت وذهب ذكرها مع الدَّويِّ، والأخرى احتضرت زمنًا، ولكنها لبطت عزرائيل وقعدت في فراشها، والحمد لباريها! فهلَّا تمدُّون إليها يدكم فتقف وتمشي! لا تنسوا أنكم أحفاد أول من ركبوا البحر وأخضعوا لمجذافهم، وغرسوا على شواطئه فسائل المدنية، فأورقت وأزهرت وأثمرت ثم سلَّموا رسَّه إلى الإنسانية.

لا تتفرَّقوا حول كلمتين: فينيقية وعروبة، فهما واحدة. ومن يتقعَّر في البحث عن الجذور فهو كالخُلْد لا يعيش إلا في الأنفاق.

اللسان يوحِّدكم فاحفظوا ذكر أنبيائكم ورسلكم في قلوبكم، وهم لو عادوا اليوم لما قالوا لكم غير هذا، لا بل قالوه يوم جاءوا، كل المعابد تُعلِّم الخير وتنهى عن الشر، أمَّا البلوى فمن أكثر رعيان القطيع، متى تقاتلت الغنم على المراعي؟ أليس الرعاة يتقاتلون؟ فاسمعوا وعوا كما قال ابن ساعدة.

يا أولادي، الناس يتقاتلون اليوم على «المنفعة» فلا دين لهم ولا مذهب، فلا تتصارعوا أنتم عند باب السماء، السماء مشاع. كانوا فيما مضى يستعمرون باسم الدين، أمَّا اليوم فيحاربون الشعوب ليُمَدِّنوها كما يزعمون.

أجل، لقد صار التمدُّن دكتورًا في الأدب يلقي دروسه غازات خانقة، والعلم من حملة الليسانس في الحقوق يلقي بألسنة المدافع مرافعات طويلة … لم يعد للمذاهب تلك الصولة كأيام الصليبيين، فانسوا ذلك، إنَّ الدول التي تتناحر كلها على دين المسيح، وأحبار وكهنة المسيح يحاربون في المعسكرين! فمن يتعظ منكم؟

ما لكم وللأديان فلها معابد، لكم دينكم ولي ديني، ومتى رأيتني ملتهبًا في جهنم — لا سمح الله — فلا تستغث بالإطفائية.

الحياة لعبات يا أولادي، ولكنها خطيرة ولذيذة، فنظِّموا صفوفكم جيدًا لتلعبوا وتفوزوا، تعلَّموا الرمي وإلا كنتم الكُرة، وسِيَّان أن تدفع بالرأس أو ترفس بالأقدام فأخيرًا مستقرها الأرض … أفهمتم؟

ليس العلم وحده بالعدة الواقية في معترك الحياة، فكم من معلم مغفَّل تهزءون منه وتتماجنون عليه ولا يحس، بل يضحك معكم على نفسه! إن هذا يجني عسلًا، ولكنه يضل كالنحلة، فلا تحوِّلوا فم الخلية … أما الفتى الذكي الفؤاد فقد يكون القائد لأمة لا قائد لها، وما رأيت أمة نهضت إلا بفرد، لست أعني «الديكتاتور» فأنا أمقت المستبدَّ ولو دفق الخير على الأمة دفقًا.

وأنا — وقد تستغربون — لست ممن يثقون بالرأي العام، ففكِّروا ولا تسيروا خلفنا لعل الله يفتح عليكم، كونوا شجعانًا واشغلوا عقولكم بالتأمل وأعينكم بالمراقبة، فكِّروا بمحيطكم، ولكن بمقدار، وقوُّوا أجسادكم وعقولكم فالوطن بحاجةٍ إلى أدمغتكم وسواعدكم.

اطلبوا التجديد دائمًا، ولا تتغنَّوا بالماضي فيلهيكم عن الحاضر، تذكروه للعظة لتعلموا أين كنتم وأين صرتم، فلا يكون أجدادكم خيرًا منكم، فيقال لكم: نِعم الجدود ولكن … إن المدارس تُسلِّح العقول وتجهِّزها لمعترك الحياة، فاحسبوا كل يوم كم رمية تعلَّمتم، لا تناموا قبل أن تفحصوا ضمائركم، ومن رأى أنه غير كفء للكتاب فليأخذ الفأس … ليذهب إلى الحقل، فكتاب الحقل أرحب من هوامش المدن. تعوَّدوا النقض والإبرام وحدكم، ما لكم ولنا؟ فما نحن أوصياء عليكم إن نحن إلا مرشدون لكم، نصارحكم بهذا لأننا لا نريد أن نُربِّي عبيدًا، فمن نستعبده نحن عاش عبدًا لغيرنا.

حذارِ أن تبصقوا في وجه الهواء! وأحسِنوا السباحة لئلا تأخذكم «الحامولة»، فنهر الحياة هادئ ماكر.

أيها الأبناء

في الكنيسة المسيحية أربع فضائل يسمونها «أصلية»، أوصيكم بثلاثٍ منها وهي: الفطنة، والعدل، والشجاعة، أمَّا الرابعة وهي القناعة فلا أوصيكم بها، فإيَّاكم والقناعة! فلا قناعة في الثقافة.

وفي الكنيسة أيضًا سبع خطايا رئيسية قبالتها سبع فضائل أدبية:
  • (١)

    الكبرياء، ويقابلها التواضع، فأنا أوصيكم بالاثنتين معًا.

    تواضعوا لمن يحسب تواضعكم أدبًا وكياسة، وتكبروا على من يخاله ذلًّا وجبنًا.

  • (٢)

    البخل، ويقابله التجرد عن حب المال، وهذه ننسخها فتعمل عمل كان وأختها صار، أأشرح لكم كيف؟ أعني كان بخلًا فصار اقتصادًا، فماذا نفعنا كرمنا وسخاؤنا غير ضحك الناس على ذقوننا؟!

  • (٣)

    الدعارة، وتقابلها العفَّة، فاحذروا الدعارة ألف مرة! الشِّباك والفخاخ منصوبة في طرقكم فاجتنبوها تعيشوا أباةً، فالأدعر قليل الهيبة، لا مروءة له، يُقبِّل حتى النعال، ولا ترتفع عينه إلى فوق.

  • (٤)

    الحسد، وهذه نسمِّيها المنافسة أو الغيرة، ونعمل عمل اللاهوتيين حين يتفلسفون على ربهم — في زعمهم — ليبرروا عبيده مأجورين …

  • (٥)

    الشَّرَاهة، ولا أخاف عليكم منها، لقد أتيتم في أسوأ الأزمنة، فأتمنى لكم الشِّبع.

  • (٦)

    الغضب، ويقابلها الحِلم، فاحلموا متى قدرتم، واغضبوا لكرامتكم، وإياكم أن تحوِّلوا خدَّكم الأيسر لأحد فتشبعوا ضربًا ولطمًا!

  • (٧)

    الكسل، تأملوا النحل والنمل وتعلَّموا منها، اهتمُّوا للغد، فالغد لا يهتم لشأنه، وليس قصد المعلم يسوع الشاب أن تناموا على ظهوركم فيأتيكم رزقكم في أنابيب، لا وألف لا، إني أسأل المفسرين الأتقياء أن يتَّكلوا عليه ليلة واحدة ويوزِّعوا مئونتهم على الفقراء. أمَا أخذ المعلم الوزنة الواحدة من العبد البطَّال الكسلان وأعطاها صاحب الوزنات الخمس لأنه تاجر وربح؟ ألم يخرج ذلك العبد البطَّال إلى الظلمة البرَّانية حيث البكاء وصريف الأسنان؟

أيها الأبناء

إنكم لقائلون: حدَّثنا هذا المعلم عما نعلم ونعمل، ولم يحدِّثنا عن مهمته.

يا أولادي أوصيكم، بل أوصي النابهين منكم بالآداب خيرًا، إنها عصارة كرم الأمة، استنبطوا فيها وأبدِعوا لتخلقوا مُثُلًا عليا، وإن لم نطعمكم خبزًا فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.

بركة الثقافة تشملكم جميعًا!

صدر عن كرسيِّنا في عين كفاع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤