التدقيق

إذا رأيت الرجل، موظفًا كان أو معلِّمًا، عاملًا أو تاجرًا، يأتي متأخِّرًا عن موعده فلا تلُمْه، لا تلم إلا الذين ربَّوْه ناشئًا، لُمِ البيتَ لأنه لم يربِّ، ولُمِ المدرسة لأنها لم تُهذِّب. فلو علم الأبوان أن ابنهما سيكون يومًا ما حزمة عادات تمشي على الأرض، لأرضعته أمه في مواعيد مضبوطة، وأنامته في أوقات معيَّنة، ولقيَّدته بنظامٍ صارم صغيرًا لترى منه رجلًا دقيقًا في سلوكه مستقيمًا في أعماله.

تفتح المدرسة بابها الساعة الثامنة والولد لا يزال منسلًّا تحت لحافه ينعم بالدفء، ويسمع الأب الساعة تدقُّ السابعة والنصف فيرفع عقيرته مؤنِّبًا وموبِّخًا، فإذا بالأم تنتصر لولدها متغضِّبة على العلم والمدرسة: «الصحة قبل كل شيء»، ويسمع الصبي النائم نومة الهرِّ فيطمع. ثم ترتفع الكُلفة بينه وبين النظام المدرسي، فيصبح ولدًا غير مكترث ويشبُّ على الميوعة والإهمال، ويصير آخر من يروح إلى المدرسة وأول من يرجع إلى البيت، ويشبُّ على هذه الخصلة فيدخل دور الأعمال من بابها الغربيِّ ليخرج من بابها الشرقي، ويعود إلى أمه شاكيًا قلة العمل وانسداد باب الرزق.

ما سدَّ باب الرزق بوجهه إلا اليدان الأبويتان، فلو كانتا حازمتين دقيقتين لما انتهى ابنهما إلى حيث انتهى من سوء المصير.

من يحمل منا ساعة تُقدِّم أو تؤخِّر ولا يلعنها عشرين مرةً في اليوم؟ وإذا كانت هذه حالنا مع ساعاتنا فكيف تكون حال أرباب الأعمال مع معاونيهم الذين لا يُدقِّقون في مواعيدهم؟

حُكي عن أحد رؤساء الولايات أنه انتظر كاتبه الخاص دقيقة، ثم تكرر هذا التأخر فضاق صدر الرئيس فدعا كاتبه ولامه على عدم تدقيقه، فنظر الكاتب إلى ساعته وأجاب معتذرًا: ساعتي تؤخِّر.

فأراه الرئيس وجهًا كالقُفْل وقال له: إما أن تغيِّر ساعتك أو أنني أغيِّر كاتبي.

قد استغرب الرئيس العظيم تأخُّر كاتبه دقيقة واحدة واستفظع عمله حتى أنذره بالصرف، فما قولنا نحن بمن يتأخر ساعة وساعتين، والناس في انتظاره وفي أيديهم أوراقهم، حتى إذا سمع وقْع خطاه في الرواق دقَّت القلوب وتنفَّست الصدور وزال الكابوس، ولكنه لا يلِج الباب حتى يردَّه في وجوههم؟!

ها هو يستريح منتظرًا فنجان القهوة، فالفطور يتناوله على مهل وبتأنٍّ ورزانةٍ ووقار عملًا بنصائح الأطباء مجيدًا المضغ، والناس قيام عند بابه يضجُّون وهو هادئ البال بارد القلب … حتى إذا حانت الساعة الحادية عشرة قلَّب بعض وريقات على مكتبه ببطء يتخلَّله مطُّ شفتين وهزُّ رأس، ثم يأمر بدخول عبيده الواقفين بالباب واحدًا واحدًا، فينظر إليهم مرة وإلى أوراقه أخرى لاعنًا الحياة ساخطًا متبرِّمًا سابًّا!

لا أحد غيره خليقٌ بالسبِّ؛ لأنه أضاع ثلاث ساعات بين تأخير وسوء تدبير، وإذا ضمَّك وإياه مجلس تشكَّى إليك أنه لم يقفز على سُلَّم الترقِّي درجات!

وإذا انتقلت إلى أصحاب المهن الحرة، رأيت أكثر رجالها يسلكون هذا المسلك، يضرب لك أحدهم موعدًا الساعة الرابعة ثم لا يأتي إلا الساعة السادسة، هذا إذا صدَق وجاء، فكيف تتعاطى فيما بعد مع من يقتلك صبرًا في غرفة الانتظار قبل أن يقتلك بألاعيبه وأكاذيبه؟! وشرٌّ من هذا وذاك ما يقوله لك المستخدمون عنده حين تسألهم عنه: يأتي بعد خمس دقائق، فتنتظر ساعة أو ساعتين ولا يطل القمر … إنني أؤكد لك أنَّ ربَّ عملٍ هذه صفاته لا يفلح أبدًا، وإن أفلح أولًا فهو مخفق أخيرًا، ما رأيت شيئًا يخلق الرجال ويكبرهم في عيني مثل التدقيق في أقوالهم وأفعالهم.

إنَّ نفسك يا أخي تركب رأسها إذا لم تُحاسبها حسابًا دقيقًا، إنَّ ضميرك يموت ويهجرك هِجْرانًا لا لقاء بعده إذا كنت لا تُدقِّق في الإصغاء إليه، وتجري الحساب بينك وبينه يوميًّا. الدقة قوام الحياة، ومن يثق منا برجل يعرف أنه غير دقيق في أقواله وأعماله؟ علينا أن نتعلَّم الدقة من الطبيعة، فالتفاحة لا تفرِّق بين جنينة القصر المنيف وبين أطراف الحقل وظلِّ الكوخ الحقير، إنَّ عملها واحد في المكانين: صبر ودقة وإتقان، والوردة في البَرِّيَّة تُدقِّق في صنع زهرتها كما لو كانت في بستان ملك الملوك.

والأجرام في نظامنا الشمسيِّ لا تتأخر قط عن مواعيدها، ولو تأخرت ثانية لاضطرب الكون، فلماذا لا نتعلم من هؤلاء الأساتذة: التفاحة والوردة والأجرام؟ فحفظُ النظام مطلوب من الكبير والصغير.

التدقيق أخو الاستقامة؛ ولهذا نفضِّل «ماركات مسجَّلة» على غيرها، فنشتري هذه البضاعة مطمئنِّين مبتهجين، إن أصحابها لم ينالوا ثقتنا بما ينتجون ويصدرون إلا لأنهم ثابروا ويثابرون على الدقة في العمل. يخال البعض أنَّ الإعلانات تجرُّ الرواج فالربح الطائل، نعم، إنَّ الإعلان المشوِّق المغري ينفع مؤقَّتًا، أمَّا الأنفع فهو إتقان الصنعة والتدقيق، فلا يفتخر أحدُنا أنه عمل كثيرًا، بل فليفتخر بالعمل المتقن الدقيق، وليس في العمل عار مهما سفل، بل العار كلَّ العار في عدم الدقة والإتقان.

قال أحد أعضاء مجلس العموم الإنكليزي لعضوٍ آخر أثناء اشتباكهما في مناقشة: اذكر يوم كنت تمسح حذاء أبي، فأجابه على الفور: هذا صحيح، ولكن ألم أكن أمسحه بدقَّة؟!

وعيَّر أحدُهم المسيو فاليير عندما كان وزيرًا، وقبل أن صار رئيس جمهورية فرنسا، بأن اسمه مطبوع على النعل، فأجاب: نعم، ولكنه نعلٌ دقيق الصنعة لا غشَّ فيه.

إنَّ عبقريةً بلا تدقيق وعمل متواصل لا تخلق إلا التافه، ليست الألماسة بنت ساعة ولكنها بنت عمل دقيق مستمر، وأروع الآثار الأدبية عُمل في سنين تُعدُّ بالعشرات.

رُوي عن مونتسكيو أنه قال لصديقٍ له عن أحد مؤلَّفاته ولعلَّه «روح الشرائع»: إنك ستطالع هذا الكتاب في ساعات، ولكني أحلف لك أنه كلَّفني من التعب ما شاب له شعري.

أمَّا أمثلة التدقيق الكثيرة فنجدها في سيرة الجنديِّ العظيم نابليون، كان يُدقِّق في الكبائر والصغائر، ويسهر على تنفيذ أوامره سهرًا كليًّا، عهِد مرةً إلى أحد جنوده بخفارة مخرم خطير يخشى أن يعبر جيش الأعداء منه، ولكنه لم ينم قبل أن استوثق من سهر ذلك الخفير، فرآه غافيًا على كرسيِّه يشخر وينخر، فتناول الإمبراطور العظيم البندقية وانتصب خفيرًا حتى أفاق ذلك الجندي التَّعِب من غفوته، وهكذا علَّم جيشه الدقة وإتمام الواجب على حقِّه.

إنَّ التدقيق واجبٌ في كبار الحاجات وصغارها، فالأمُّ التي لا تُدقِّق تركب الزِّرَّ عشر مرات لقميص ابنها، بينا الأم الدقيقة لا يقع الزرُّ الذي تركبه إلا عندما تلفظ تلك القميص روحها، وبين العملين فرق زهيد جدًّا لو تأمَّلنا وتبصَّرنا.

إنَّ حياتنا تذهب هدرًا إن لم نستعملها بتدقيق، فالذين أحسنوا استعمال وقتهم على اختلاف طبقاتهم جاءوا بأعمال ذُكرت بالاحترام والتقدير، فكم من عاملٍ أمين مدقِّق صار ربَّ العمل! وكم من ربِّ عمل أمسى فقيرًا لأنه لم يصنْ متجره أو مصنعه بدقة! ولكن أكثر الناس لا يعتبرون.

إنَّ سلاحنا — نحن الشرقيين — هو: غدًا نعمل كذا وكذا، وبعد غدٍ نعمل كذا وكذا، و«غدًا» و«بعد غدٍ» لا يأتيان أبدًا، فنظلُّ حيث كنا، ولو كنا ممن يُدقِّقون لجعلنا لكلِّ يوم عملًا وأفلحنا كغيرنا. وهبْ أننا عملنا، فأكثر ما نعمل يكون إمَّا ناقصًا وإمَّا فجًّا غير ناضج، وهذا شرٌّ من عدم العمل.

الذهب والألماس أثمن المعادن، فإذا صنعت منهما عقدًا غير دقيق الشكل والصنع، كان عقد الخرز الدقيق النظام أجمل منه وأبهى.

قد تقول لي: أراك شخَّصت المرض وجئت بالأمثلة لتحثَّنا على التشبُّه بالكرام، ولكننا نطلب منك أن تصف لنا دواء نستعمله فنُشفى من دائنا.

هاكم يا أحبائي الدواء:
  • خمسة غرامات من الإرادة.

  • خمسة غرامات من العادة.

  • وعشرة غرامات من المثابرة.

  • وثلاثة غرامات من حبِّ عملك الذي تعمله.

امزجها جيِّدًا واشرب كلَّ صباح جرعة، ولا تنسَ أن تخضَّ القنِّينة جيدًا عند الاستعمال.

يجب أن نريد أولًا، ثم نعوِّد أنفسنا يوميًّا القيام بواجباتنا وإن كنا لا نحبُّها ونميل إليها، فإذا أردنا وثابرنا تعوَّدنا، ومتى تعوَّدنا أن نقوم بأعمالنا بدقة، وجدنا أنفسنا أقوياء في الشدائد نستطيع الصبر والمقاومة، والصبر والمقاومة ضمانة الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤