الأخلاق ضمان جماعي

دار بيت شوقي في الأخلاق على كلِّ لسان حتى استفزَّ الشاعر — رحمه الله — إلى ترديد هذا المعنى في قصائد عديدة من شعره الرائع، حقًّا إنَّ الفقير خاصة لا رأس مال له إلا أخلاقه، فالرجل الفاضل — كما قال ابن سيراخ في سِفْر الأمثال — يتاجر بماله ومال غيره.

وأنا أعرف رجلًا كان عندنا لا يملك شبر أرض وهو أخو عيلة وليس عنده عشا ليلة، ومع ذلك عاش ميسورًا لائتمان الناس له على الكثير والقليل، عاش عمرًا طويلًا ولم يأكل قرش أحدٍ من الناس، ولم تكن الدنيا تنسدُّ بوجهه، بينا كان غيره من أصحاب العقارات الواسعة يعيشون في ضيق وضنك متى أصيبت حاصلاتهم بمَحْل أو ألمَّت بهم نكبة؛ لأنهم لم يكونوا يعطون رطل طحين ما لم يدفعوا ثمنه نقدًا.

وأعرف عن هذا الفقير أيضًا أنه كان هو دائمًا أحد المزكِّين، فالشرع العثماني كان يقضي في الدعاوى الحقوقية أن تُرسل المحكمة إلى قرية الشاهد استعلامًا يُسمَّى «مستورة»، تطلب فيه تزكية الشاهد من رجلين لا يُطعن في أمانتهما، حتى إذا لم يُزكِّيا ذاك الشاهد تسقط شهادته، وكانت هذه التزكية سرِّية لا يعرف بها أحد، وكثيرًا ما كان هذا الرجل الفقير الصادق لا يُزكِّي أوجه القرية، حتى إنه لم يزكِّ ابنه مرة لاعتقاده أنه لم يشهد بالحقِّ.

إنَّ الأخلاق الفاضلة هي ملاك حياتنا، وعليها ترسخ أساسات المجتمع؛ ولهذا شهد الله العظيم لرسوله الكريم في كتابه العزيز بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ.

والأخلاق — كما قال إمرسون — معروفة دائمًا، فما كانت السرقات لتجلبَ الغِنى ولا الصفقات لتجلب الفقر، فلماذا لا تكون فاضلًا متين الأخلاق؟ ولمَّا تعجب لويس الرابع عشر — وهو سيد مملكة عظمى كفرنسا — كيف لا يقهر مملكة صغيرة كهولندا! أجابه وزيره كلوبرت: «يا مولاي، إنَّ عظمة بلد من البلدان لا تقوم بسعة مساحته، بل بأخلاق سكانه.»

فإذا كان في العالم قوة تجعل الناس يشعرون بتأثيرها فإنما هي الأخلاق الفاضلة، قد تكون غير متعلم وغير غنيٍّ ولا مركز لك يخشاه الناس أو يرجون منه خيرًا، ومع ذلك تتمتَّع بنفوذ يضمن لك الوقار والاحترام لأنك ذو أخلاق سامية، فالأخلاق قوة ونفوذ، وهي تكسبك الأصدقاء وتوجِد لك رأس مال، وتجلب لك الحماية والوقاية وتفتح أمامك طريق المعاش. يجب أن تقف أخلاقنا وراءنا لتعضدنا في كل موقف كما قال أحدهم: في القصيدة، والصورة، والقصة، حتى في الشارع حيث نسير، لنكون قدوة لأولادنا وأصحابنا والناس أجمعين.

جاء في بعض الأساطير أنَّ الملك ميداس طلب من ربه أن يتحوَّل كلُّ شيء يلمسه إلى ذهب، فاستُجيبت طَلِبَته، فإذا بملابسه التي مسها، وابنته التي قبَّلها، وأزهاره التي داعبها، والكأس والماء، والأرض التي داسها قد تحولَّت كلها إلى ذهب، فتضرَّع أخيرًا إلى الآلهة أن تستردَّ ما منحت، وعلم إذ ذاك أنَّ في الكون أشياء كثيرة هي أثمن من الذهب الذي يستطاع استخراجه من الأرض في كل حين.

إنَّ الأخلاق هي أثمن وأغلى من الجواهر التي في عنقكِ يا سيدتي، أنتِ تتحلِّين بالألماس وإنني لأؤكد لكِ أنَّ الأخلاق هي الألماسة التي تخدش كل حجر آخر.

وأنت يا سيدي الغني العزيز صاحب الصناديق المصفَّحة، المحشوَّة حشو الموز والرمَّان بالذهب والأوراق النقدية والسندات المضمونة، ثق أنها لا توليك ذرة احترام إذا لم تكن متين الأخلاق.

قال فولتير: «إنني لا أعرف رجالًا عظامًا إلا الذين قدَّموا خدمات عظيمة للجنس البشري، فالناس يُقاسون بأعمالهم لا بما تحتوي عليه صناديقهم من جواهر وكنوز.» وهل تعد من تدلك ملامحه على البهيمية الشَّرِسة رجلًا مفلحًا لأنه جمع ثروته بالأخذ دون العطاء؟ فكم أجاد الجاحظ حين سمَّى هؤلاء التماثيل «أصحاب الجَمْع والمنع!» من منا لا يلمح على وجوههم المقطِّبة آلام الأرامل واليتامى؟ وهل من أمات آخرين واستنزف قواهم ليحيي نفسه، وهل من هدم بيوت غيره ليبني بيته يعدُّ رجلًا ذا أخلاق؟! وهل يكون هذا عصاميًّا داهية كما يسميه الناس؟ وهل يكون رجلًا كريمًا يحق له أن يرفع رأسه بين البشر من تظهر على وجهه علامات الفقر بأجلى معانيها كما يظهر الجوع على وجه الذئب؟

إنَّ العالم يقابل هؤلاء بالازدراء فيقتص من نقائصهم ووهن أخلاقهم، فقلَّما تسمع كلمتهم وتسمع كلمة رجل ذي أخلاق فاضلة دون أن يلجأ إلى فصاحة وبلاغة، فقد يشتبك الناس في شجار ولا تستطيع حراب الشرطة والجند أن تفصل بينهم، ثم لا يسمعون كلمةَ رجلٍ فاضل حتى يُلقوا سلاحهم عند قدميه! فلا تتعجَّب إذن متى عرفت أنَّ الأخلاق قوة لا تُضارعها القوى المادية.

يقول صاحب الأخلاق السامية كلمته فيُتَّبع وتطيعه الناس، بينا نرى مَنْ لا أخلاق له يطيل الكلام حتى يتعب حنكه ويخدِّر لسانه ولا يقنعك، يحلف لك ألف يمين فلا تصدِّق من كلامه حرفًا لأنك تعرف أنه غير ذي خُلُق.

كان إبراهيم لنكلن مهزأة لأعيان أوروبا لأنه غير كيِّس، وكانت صحفها تصوِّره صورًا مضحكة لتدلَّ على سماجته، أمَّا هو فلم ييأس بل ظل معتصمًا بأخلاقه السامية فكانت درعه الحصين في محكمة الزمن الذي يدين العظماء بعد حين.

ولمَّا كان محاميًا أعاد إلى سيدة أوراق دعواها بعد أن درسها ورأى أنها ليست على حقٍّ، أعادها مع المئتي الدولار التي كان قبضها منها، فقالت له: ولكنك قد استحققت هذا المبلغ أجرة تعبك، فأجابها: كلا، إنكِ غير مصيبة في هذا، فأنا لا أقبض أجرة إتمامي واجباتي.

أرأيت كيف تكون الأخلاق؟ إن في حياة الإنسان شيئًا أعظم من مهنته وأكبر من الكسب والثراء، وأسمى وأعلى من العبقرية؛ وهو الأخلاق.

قال شكسبير في مسرحيته «كليوبطره»: «إنه لشيء ضئيل أن يكون الإنسان إمبراطورًا؛ إذ ما هو إلا خادم الحظِّ والمنفِّذ لإرادته. وإنه لأمر عظيم أن يقوم المرء بعمل حاسم في تاريخ أمته.» ولكي نقوم بما عناه شكسبير في كلامه يجب أن نكون من الأخلاق في حصن حصين، لتنهار عند أقدامنا معاقل الباطل والبهتان. إنَّ الزمان هو القاضي القديم الذي يُحاكم جميع المذنبين، ويُفسد جميع الخطط التي لا يكون قوامها الأخلاق الفاضلة.

ولو لم يكن الخلفاء الراشدون والرسل والحواريُّون ذوي أخلاق عظيمة لما ثبت الإسلام والمسيحية، فكلُّ مبدأ جديد يحتاج إلى الأخلاق لتُرسخَ دعائمه وتستقر، فلنمتِّنْ أخلاقنا لتمتَّن أخلاق بنينا وأحفادنا، وبذلك تتكوَّن الأمة العظمى.

إنَّ الأخلاق هي الضمان الجماعي الأوحد ولا خوف على صاحبها ولا هو يحزن، فهي درعٌ في الشباب والكهولة، وإكليل مجد في الشيخوخة، وأمامها تصغر عظمة الموت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤