بلا عنوان

«الوقت من ذهب»، كلمة تدور على ألسنة الناس، وكثيرون منهم يضحكون حين تُقال، فتراهم يثرثرون ما طابت لهم الثرثرة، فيضيِّعون وقتهم ووقت غيرهم من خلْق الله، إنَّ الذهب لا يعادل الوقت ثمنًا؛ لأن ضربة مُحكَمة — لا تقتضي إلا قليلًا من الوقت — تساوي أحيانًا منجمًا من ذهب، ولهذا قال شاعر عتيق جدًّا: إن الخسارة التي تقع في دقيقة ما قد لا يعوِّضها الدهر الأزلي الأبدي. رُبَّ دقيقة أضاعها فاتح خسَّرته بلادًا جديدة، وضعضعت جيوشه، وخطَّت له في التاريخ أسطر الخيبة والانكسار.

قال هوراس مان: «بين شروق الشمس وغروبها أُضيع في مكانٍ ما ساعتين من ذهب مرصَّعتين بستين دقيقة من الألماس، ولم توضع جائزة للبحث عنهما؛ لأنهما لا ترجعان.»

وقال شاعرنا العربي:

إذا مرَّ بي يوم ولم أكتسب يدًا
ولم أستفد علمًا فما ذاك من عمري

وإن العمل الدائم المستمرَّ المنتج هو علامتنا الفارقة في بطاقة الهوية التي حازتها المخلوقات منذ البدء، فالحيوان لا يعنيه غير القوت، حتى إذا ما ملأ بطنه طابت نفسه وقعد يجترُّ. أمَّا الإنسان المجدِّد الباحث المكتشف المعمِّر والمدمِّر في وقت معًا، فهو الذي يعرف قيمة الوقت، وإذا أضاع يومًا من عمره يحسب أنه أضاع كنزًا.

كثيرًا ما تزورنا الأيام بصفة أصدقاء متنكِّرين، حاملةً إلينا أسنى الهدايا، فإذا نحن لم نقبل تلك الهبات تذهب بها سريعًا وهي صامتة ولا تعيدها إلينا أبدًا.

ما إخال أساطير «الرصَد» التي كانت تقصها علينا جدَّاتنا في أيام حداثتنا إلا رمزًا للوقت الذي يجب أن نحرص عليه حرصنا على الحياة نفسها، ولأنه يتوارى ومعه كنوزه كما يختفي «الرصد».

قالت الحكماء: الثروة المفقودة يستطاع استرجاعها بالكدِّ والاقتصاد، والمعرفة تُسترجع بالدرس، والصحة بالحمية والدواء، أمَّا الوقت المفقود فلن يُسترجع أبدًا.

كان الرئيس الثاني للولايات المتحدة جون أدمس يشكو ممن يضايقونه بزياراتهم الطويلة المملَّة فيسلبون وقته، وقد تدارك أحدُ علماء إيطالية أمر هؤلاء الثقلاء فكتب فوق بابه هذه العبارة: «يجب على كلِّ من يتأخَّر عندي أن يساعدني في أعمالي.»

أمَّا أحمد فارس الشدياق فكتب فعلًا في الجوائب مندِّدًا بهؤلاء الزائرين الصباحيين الذين يقتلون وقتهم باللفِّ والدوران، ولا شغل لهم غير التنقُّل من نادٍ إلى ناد حيث يرتعون في انتقاد الآخرين واغتيابهم.

إنَّ الرجال العظام يملئون أوقات الفراغ بأعمال من لونٍ غير لون أعمالهم اليومية؛ لتقوى قابليتهم للعمل فلا تمرُّ دقيقة بلا إنتاج.

قال قيصر: «في أهول معامع الحروب كنت حين أجلس في فسطاطي، لا أحرم الوقت الكافي للتفكير في أمور أخرى عديدة.»

ويُروى عن أحد الأطباء العظام أنه ترجم كتابًا نفيسًا أثناء ركوبه جواده لعيادة مرضاه، فالكثيرون من أعاظم الرجال قد أحرزوا مقامهم الرفيع باستفادتهم من أوقات الفراغ القليلة التي يُبدِّدها غيرهم من الناس، فحياة رافائيل القصيرة وروائعه الكثيرة الخالدة هي خير أستاذ يُعلِّمنا فوائد الوقت.

ولا ننس نابليون العظيم فإنه نموذج العمل الأعظم، حتى إنه لم يكن ينام أكثر من أربع ساعات. ولم يكن دانتي مكرِّسًا كل وقته لنظْم الشعر كبعض شعراء اليوم، بل كان يتاجر ليكسب معاشه نهارًا وينْظم الشعر في أوقات فراغه، وهكذا خلق منه الوقت الضائع شاعرًا خالدًا من أعاظم شعراء المسكونة.

ومع ذلك ترانا نتذمَّر دائمًا وأبدًا من ضيق الوقت، نجلس جلسة واحدة للمسامرة أو المنادمة والثرثرة ساعات متوالية، ونقول لجلسائنا بلا خجل ولا حياء: «الوقت قصير.» فإذا كان الوقت قصيرًا ونجلس هذه الجلسات الطويلة حتى تملَّنا الكراسي وتضيق بنا ذرعًا صدور الجدران، فماذا كنا نفعل لو كان الوقت غير قصير؟!

إنها العادة يا أصحابي، العادة هي التي ألقتنا في هذا الجُبِّ، فلنغالب أنفسنا لننقذها من هذه النقيصة، لا تتردَّدوا ولا تقولوا: بعد ساعة، بعد ربع ساعة نشرع في عملنا، باشروا حالًا وإلا ضاعت الساعتان الذهبيتان المرصَّعتان بستين دقيقة من الألماس.

لا تدع التراخي يستولي عليك فتضيع نهارك، ابدأ بعملك فور نهوضك من فراشك، ومتى استيقظت اطرح اللحاف عنك وانتصب على قدميك، انهض حالًا لا تتوانَ، الله معك.

وأنت يا عزيزي العامل — وكلنا عمال في هذه الحياة — إنَّ الدقيقة التي لا تستعملها على حقها قد تطيح بك إلى حيث لا تدري، كما أنَّ الدقائق التي تنقض فيها على عملك كجلمود صخرٍ حطَّه السيل من علُ، قد تكون رأس مال لك. اعلم أنَّ أولياء الأمر يضعون مستخدميهم دائمًا في كفة الميزان، فإذا كنت ممن يحرصون على الدقائق والثواني رجحت كفتك وشال سواك في ميزانهم.

زِن نفسك كلَّ يوم قبل أن تشكو من الجور وعدم التقدير والإنصاف، فإذا ارتقى سواك في السلَّم درجات وبقيت أنت حيث كنت، فاعلم أنك كسلان متوانٍ تضيع الوقت، واشكر أولياءك لأنهم لم يعزلوك.

إنَّ الثروة والترقِّي وراحة البال تنتظر من يضنُّ بالدقائق والثواني، فكن أيها العزيز ذلك الرجل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤