الشباب التائه

صح النوم أيها الساهي في ليالي المقاهي والمراسح، أمامك الكأس وإلى جانبك حسناء (سكوند هند) تغريك وتُغويك، ألهذا اللهو وحده خُلقت؟! ومن قال لك إن الحياة لهوٌ فقط؟ أتجهل أنَّ للإنسانية عليك ديونًا مستحَقَّة، وللوطن فروضًا لا بدَّ لها من وفاء؟

هبْ أنك أعلنت إفلاسك لتأكل هذا الدَّين العام، فكيف تهرب من الدَّين الخاص؛ دين أمٍّ سهرت عليك ودَين أبٍ جاهد وكدَّ ليصير ابنُه رجلًا؟ ولنفرض أنه لا يهمك أمر غيرك أفلا تعلم — هداك الله — أنَّ من يُكلِّل شبيبته بالورد يكلِّل شيبته بالشوك، ومن يزرع الكسل والطيش يحصد الخيبة والذل؟ فاستفق — يا رعاك الله — من سَكرة الجهل، فمستقبلك يظلُّ مظلمًا إذا لم ينبثق نجم اجتهادك، اخلع عنك ثوب التواني واعمل، وإذا لم تنفع ذويك فلا أقلَّ من أن لا تظلَّ عيِّلًا عليهم.

المستقبل طريدة لا يقتنصها إلا الجادُّ الكادح، فهل نلام إذا أيقظناك من رقدتك؟ فلو أننا بقينا في جنة عدن متنعِّمين بأطايب تفَّاحها ورمانها وعنبها وتينها، لضربنا على غير هذا الوَتَر من أوتار عود الحياة، ألسنا في عصر الجوخ لا ورق التين؟

ولو كنا لا نزال نعيش في عصر البداوة، لما حذَّرنا أحدًا من الشبان وحثثْناه على ترك العبث والمُجون.

ولو كنا في أرضٍ تُدرُّ علينا لبنًا وعسلًا، وكان لنا موسى ثانٍ له ربٌّ يمطر المنَّ والسلوى، لكان لنا سلوى عن العمل، ولكن هذاك عصر مضى وراح، وعقبه هذا العصر الذي تفنَّن به الإنسان في أعماله، فكثرت مطالب الناس واقتضتهم المدنية الحديثة ما لم تطالب به جدودهم، فلماذا لا يكون وقتك مقسَّمًا على حدِّ قول المثل: «ساعة لك وساعة لربِّك»؟

كان للهو حظٌ كبير في الزمن الخالي، كانت الجارية تعزف على العود وتنفخ في المزمار من خلف ستار، وكان الناس يقولون ما هذا؟ أمَّا اليوم فنراهنَّ على الملاعب أسرابًا وقد نضب ماء الحياء من وجوههنَّ، يأتين على أعين الناس أشياء تصبي وتغوي، فصارت المسارح والسينماءات فخاخًا تصطاد بها الناس، وشباكًا تُطرَح في طرق الشباب، فالشاب الذي يستطعم مرة هذه المشاهد لا يحجم عن أن يُثنِّي ويثلِّث حتى يعتادها وتُمسي شغله الشاغل، يضيق صدرًا بالنهار ولو قصيرًا، ويتمنَّى أن يدوم له الليل ولو جاءه منه ألف ويل … وكم سمعناهم يردِّدون معتزِّين مبتهرين: الليل لنا.

نعم، الليل لكم، والله أسأل أن يُدرككم الصبح وفيكم بقية مما حبَتكم به الحياة من نشاطٍ وعزمٍ …!

ولو كنا نقنع بحضور ساعة لكانت المصيبة أخفَّ، ولكن بين شبابنا فريق يسهر الليل وينام النهار، ومتى استيقظ يبرُز بأبهى زينة ويسير توًّا إلى القهوة، وهناك يصرف بقية نهاره لاعبًا مقامرًا ينتظر المساء.

وطالب العلم ينيم كتبه نومة أهل الكهف، ويسرع إلى تلك الدور حيث يسبح في جوِّ الخيال، ويطير قلبه مع كل نغم، أقلامه في غرفته تحنُّ إلى مصافحة الطرس، وجنابه تائه النظر شارد الفكر وراء ظبية الأُنس.

أمَّا الشاب المعروف باسم «شمَّام هوا قطَّاف ورد»، فإنه يشرِّف الملاهي كل ليلة. ما سمعت الطلاب يشكون غلاء الكتب، ولكنهم يشكون غلاء سعر السينما، ليس لأن الكتب رخيصة بل لأنهم أمسوا لا يسألون عنها. والأمر الذي يُبكي هو أنَّ بعض فتياننا يشتركون في هذه النوادي اشتراكًا شهريًّا كما يشترك الأدباء منهم بالجمعيات والمكتبات، وهل تتعجَّب إذا قلت لك إنني سمعت أحدهم مرة يتبجَّح زاعمًا أنه اقتصد بهذا الاشتراك فربح كذا وكذا …؟ إنه يتباهى بحنكته هذه، فيا له ذكاء يرفع صاحبه إلى أسفل!

هذه بعض جراثيم الأمراض التي فشت في بلادنا، وتلك حال الكثيرين من أولادنا، وستأتي ساعة يندمون فيها كما ندم غيرهم على بيع زهرة العمر بيع السماح في أسواق اللهو، إنهم سوف يتذكَّرون أيام الشباب حين يُلِمُّ برأسهم ذلك الضيف غير المحتشم، وتُثقِل عاتقهم وطأةُ السنين.

وإذا وقفت بوجه أحد هؤلاء السادرين الجامحين، ورخَّصت لنفسك زجره وردعه، صاح بك: أنا حرٌّ يا سيدي، أنا بالغٌ رشيدٌ وغنيٌّ عن وعظك، فأتحِف سواي بآيات نُصحِك الذهبية.

نعم يا عزيزي أنت حرٌّ، أنت بالغ كما قلت، ولكنك والله غير رشيد؛ ولهذا ترفض النصيحة التي كانت في الزمن الغابر بجمل، ثم تملأ فمك بكلمة «أنا حر» لأنه لم يبلغك قول الشاعر:

يا رقيقًا لذات خصرٍ رقيقٍ
برئت منك ذمة الحرية

أنت حرٌّ إذا كنت تتنعَّم وتنفق مما جنيت، وأمَّا إن تبدِّد ما جمعه أبوك وجدُّك فأنت عبد أي عبد، عبد لشهواتك وميولك، عبد لنزوات الشباب التي جرَّك إلى حمأتها حنوُّ أمِّك وعطف أبيك، ولو أنصفا لتركاك تقلع شوكك بيدك، فتُقلِع إذ ذاك عن هذا الجنون.

فلولا هذه البطالة التي أنت فيها، واليُسر الذي متَّعك به أبواك لما اجتمعت فيك هذه المعايب: القمار والسُّكر والمجون …

وما بلغت إلى هنا حتى دخلت عليَّ آنسة عانس، أنثى جنَت عليها كبرياؤها وعويناتها السوداء التي نظرت من خلالها إلى الشباب الطامعين بمالها وجمالها وعلمها، الآنسة بعد أن كانت «برسم الزواج» مدة انتزعت تلك الفكرة من رأسها وحلَّ محلها حب الأدب، وقديمًا قالوا: أدركته حرفة الأدب.

قالت الآنسة حين شقت الباب دون أن تحيِّي أو تُسلِّم: في ساحة مَنْ أنت نازل اليوم؟

فقلت على الفور: في ساحة الشباب يا آنستي.

فابتسمت ابتسامة كالإجهاشة، فعلمت أنها أدركت مجاملتي لها، ثم قالت: ليس الحق على البنات كما توهَّمت هذه المرة، لقد ضعف الإيمان بالزواج، فشباب اليوم كالعابور الذي يظهر في أيام الربيع ضعيفًا هزيلًا لأنه قطع البحر، فلا يصدِّق حين يبلغ الشطَّ أنه رأى عودًا قائمًا ليقع عليه، تلك حالة شباب هذا الزمن، فهم لا يفكرون بالزواج إلا بعدما يقطعون مسافات من الحياة ينهك قواهم قطعها … وأمَّا البنات فهنَّ في غرفة الانتظار والرازق الله؛ هذا قصير، وهذا طويل، وهذا غنيٌّ لكنه جاهل، وهذا ابن بيت ولكنه قبيح الشكل، وهذا ملائم جمالًا وشبابًا وعلمًا ولكنه ليس من أصهارنا … وذاك شابٌّ غنيٌّ ولكن عينه شاردة، وهذاك يكدُّ ويعمل ولكنه يبدِّد في سهرة ما يجمعه في شهر، ناهيك أنهم جميعًا يريدون العصفور وخيطه: المال والعلم والجمال.

وهناك حجارة جديدة توضع في طريق الزواج وهي خفة رأس البنات، فلو اعتصمن في بيوتهنَّ، وضربن حولهنَّ أسلاكًا شائكة مكهربة فلا يدخلها إلا طالب زواج حقيقي، لما حصل ما نراه ونسمعه كلَّ يوم من عقد خطبة ثم حلها بعد أيام.

يُنسب إعراض الشباب عن الزواج إلى كبريائنا، فأي زواج تَرتجي بعد مساواة المرأة والرجل في الحقوق السياسية؟! أفلا تظن أننا واصلون إلى وقت تخطب فيه البنت الشاب بعدما كان يخطبها هو؟!

فنصيحتي لك ألا تحاول حلَّ هذه المعضلة الشائكة، فالأنثى أقبلت على الزواج حين كانت أبواب الرزق مقفولة بوجهها، أمَّا اليوم وقد صارت في مأمن من ضيق العيش، فهي تؤْثِر العمل على حجز حريتها.

قلت: ولكن أنسيتِ يا آنستي أنَّ في الدنيا شيخوخة؟ وأنَّ للأبوَّة والأمومة لذَّة تفوق لذَّة الفرفرة والثرثرة، أمَا خَلَقَنا الله لنتعاون؟

قالت: نعم، ولكن هذا التعاون الذي كان قد قضت عليه المساواة في الحقوق، والمخلوق الذي له رأسان هو مسخٌ عجيبٌ، انتظر المشاكل الكبرى عند كلِّ انتخابات، من المختار إلى عضو البلدية إلى النائب، سوف ترى إذ ذاك كل بيت مقسومًا على نفسه.

فقلت: وهل عندك حل لما تنذرين المجتمع به؟

قالت: نعم، فإما السياسة وإما العائلة، فعلى من تطمح إلى السياسة أن تنصرف عن شئون البيت.

فقلت: ولماذا تتشاءمين؟ فهذا الرجل ألَا يعالج الشئون الأخرى وشئون بيته في وقتٍ واحد؟

فأجابت: لأنه كان متَّكلًا على الأم، ولا أم بعد الآن.

فقلت: وهل تظنِّين أنَّ جميع النساء ينصرفن إلى السياسة؟

فقالت: ولا كل الرجال، ولكن لكل جديد حلاوة. ثم نهضت لتودِّع.

فقلت لها: ألف شكر لكِ، لقد كملت موضوعي وإن انحرف قليلًا عن السمت الذي كان فيه، قال المثل العربي: «في بيته يؤتى الحَكَم»، وأنت حكَمٌ جاء إلينا وأفتانا غير مأجور.

كنت ألوم الرجل، وها أنتِ تلومين المرأة، ولكل شيء آفة من جنسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤