العفو حبيب الله

لولا استسلام الناس لغيظهم وغضبهم لمَا كان في الدنيا شرٌّ، ولو اتسعت صدورنا ما خربت دورنا، فرُبَّ غضبة يليها من الشرور ما لم يكن في الحسبان، أمَا تقول لجليسك إذا احتدَّ أو احتدم: خذنا بحلمك؟ فترى أنَّ هذه الكلمة أطفأت نار صدره المتأجِّجة، وأغنت عن تكاليف كثيرة.

تدوس خطأ رِجْل إنسان في الطريق، فيقف ليردَّ لك الكيل كيلين، حتى إذا ما قلت له بلطف عفوًا يا أخي أو يا سيدي، أجابك: لا بأس، ويمضي كلٌّ منكما في طريقه وينتهي كل شيء، فهذه هي الكلمة التي يجب أن نُعلِّمها أبناءنا حين يشبُّون عن الطوق، فهي أمضى سلاح في معترك الحياة.

فالكتاب العزيز يُعلِّمنا، بل يأمرنا بقوله: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.

يظهر أنَّ العفو سجيةٌ من سجايا العرب الأولى؛ ولذلك مدح بها الشعراء كلَّ ذي فضل. كنت فيما مضى أستشهد بأعاظم من كل الشعوب، أمَّا هنا فسأتكلم عن هذه المكرمة العربية مؤيِّدًا ما أزعم بما أُثر عن العرب من أحاديث تدلُّ على محبتهم للعفو وتنافسهم فيه، وكم في القديم من عبر ودروس للمعاصرين! وربما كان الميت أوعظ لنا من الحي، فالدرس الذي نعلمه بصورة إيجابية لا يؤدي الفائدة التي تؤدِّيها الدروس الإخبارية، فمن طبيعة الإنسان التشبُّه بمن سبقوه، وهكذا تتأصَّل أخلاق الشعوب.

وأشهر من اشتُهر بالعفو في الخلفاء كان المأمون، الذي قال عن نفسه: لقد حُبِّب إليَّ العفو حتى إني أخاف ألَّا أثاب عليه، وقال أيضًا: لو علم أهل الجرائم لذَّتي في العفو لارتكبوها وتقرَّبوا إليَّ بالجنايات.

وعمرو بن العاص — وهو المشهور بصلابة العود مع دهاءٍ — رُوي أنه ركب بغلة له شهباء ومر على قوم، فقال بعضهم: من يقوم للأمير فيسأله عن أمه وله عشرة آلاف؟ فقال واحدٌ منهم: أنا، وقام وأخذ بعنان بغلته وقال: أصلح الله الأمير! أنت أكرم الناس خيلًا، فلماذا ركبت دابة اشهابَّ وجهها؟!

فقال ابن العاص: إني لا أَمَلُّ دابتي حتى تملَّني. فقال الرجل: أصلح الله الأمير! أمَّا العاص فقد عرفناه وعلِمنا شرفه، فمن الأم؟

فكظم ابن العاص غيظه وقال: على الخبير سقطت، أمي النابغة بنت حرملة بن عزة سبتها رماح العرب فبيعت، فاشتراها عبد الله بن جُدعان وزوَّجها للعاص بن وائل فولدت وأنجبت، فإن كان قد جُعل لك جُعْل فارجع وخذه.

أمَّا معاوية فأشهر من عُرف بالعفو حتى ضُرب به المثل وقالوا: حلم معاوية. وحوادث عفوه وحِلمه تكاد لا تُحصى، وما نذكر هنا إلا كبيرة تدل على سعة صدره وبُعد نظره وكيفية حلِّه للمشاكل الخطيرة.

قالوا: كان لعبد الله بن الزبير أرض، وكان له عبيد يعملون فيها، وكان إلى جانبها أرض لمعاوية وفيها أيضًا عبيد يعملون فيها، فدخل عبيد معاوية في أرض ابن الزبير، فكتب هذا إلى معاوية يقول: أمَّا بعدُ، يا معاوية، إنَّ عبيدك قد دخلوا في أرضي فانْهَهم عن ذلك وإلَّا كان لي ولك شأن. والسلام.

أسمِعت هذه الرسالة الجافَّة؟ إنها تهديد للخليفة وإنذارٌ بقتال! ولكن ابن حرب الذي حمل أثقال الدولة قبل وبعد لم تُهجْه هذه الرسالة، بل قرأها ودفعها إلى ابنه يزيد، حتى إذا ما قرأها قال له معاوية: يا بني، ما ترى؟

قال يزيد: أرى أن تبعث إليه جيشًا يكون أوله عنده وآخره عندك، يأتونك برأسه، فأجاب معاوية: بل غير ذلك خير منه، ثم أخذ ورقة وكتب فيها جواب كتاب عبد الله بن الزبير يقول فيه:

أمَّا بعدُ، فقد وقفت على كتاب ولد حواريِّ رسول الله وساءني ما ساءه، والدنيا بأسرها عندي هيِّنة في جنب رضاه، نزلت عن أرضي لك فأضفها إلى أرضك بما فيها من العبيد والأموال. والسلام.

فلمَّا قرأ ابن الزبير هذا الكتاب كتب إليه:

قد وقفتُ على كتاب أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، ولا أعدمه الله الرأي الذي أحلَّه من قريش هذا المحل! والسلام.

وقرأ معاوية هذا الكتاب ودفعه إلى ابنه يزيد، فلمَّا قرأه تهلَّل وجهه، فقال أبوه: يا بُنيَّ، من عفا ساد، ومن حلم عظُم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب، فإذا ابتُليت بشيء من هذه الأدواء فداوِه بمثل هذا الدواء.

فكم من دماءٍ تُسفك من أجل شبر أرض! ولو عقل المعتدي والمعتدى عليه لقابلا هذا التعدِّي بصدرٍ رحب واقتدوا بمعاوية ولم يقتتلوا على حُطام الدنيا التي لا تساوي كلها نقطة دم، فالعفو يجب أن يكون سلاحنا في حرب المعاش.

وأمر زياد ابن أبيه بضرب عنق رجل، فقال الرجل: يا أيها الأمير، إنَّ لي بك حُرمة، فقال زياد: وما هي؟

فأجاب الرجل: إنَّ أبي جارك في البصرة.

فقال زياد: ومن أبوك؟ فقال الرجل: يا مولاي، إني نسيت في هذه الساعة اسم نفسي، فكيف لا أنسى اسم أبي؟!

قيل: فردَّ زياد كمَّه على فمه وضحك وعفا عنه.

وأمر مصعب بن الزبير بقتل رجل، فقال له ذلك الرجل: ما أقبح بي أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة، ووجهك هذا الذي يُستضاء به، فأتعلَّق بأطواقك وأقول: أي ربي، سل مُصعبًا لماذا قتلني.

فقال: أطلِقوه، فلمَّا أطلقوه قال: اجعل أيها الأمير ما وهب لي عفوك من حياتي في خفْض عيش، قال مصعب: قد أمرت لك بمائة ألف درهم.

وكان الخلفاء يتنافسون في العفو، وكانت بطانتهم من أهل الخير، فكانوا يمهِّدون أمامهم السبيل، ومن ذلك ما جرى لعبد الملك بن مروان: غضب عبد الملك على رجل فقال: والله لئن أمكنني الله منه لأفعلنَّ به كذا وكذا. فلمَّا صار بين يديه قال له رجاء بن حيوة: يا أمير المؤمنين، قد صنع الله ما أحببت، فاصنع ما أحب الله، فعفا عنه وأمر له بصِلة.

وقال أبو ذرٍّ الغفاري الصحابي الصالح لغلام له: لمَ أرسلت الشاة على علف الفرس؟ فقال الغلام: أردت أن أغيظك، فأجابه أبو ذر: لأجمعنَّ مع الغيظ أجرًا، أنت حرٌّ لوجه الله تعالى.

ورُوي أنَّ رجلًا شتم رجلًا فقال: يا هذا لا تتمادَ في سبِّنا ودع للصلح موضعًا، فإني أبَيْتُ مشاتمة الرجال صغيرًا فلن أجيئها كبيرًا، وإني لا أكافئ من عصى الله فيَّ بأكثر من أن أطيع الله فيه.

وسبَّ رجلٌ الأحنف وهو يماشيه في الطريق، فلما قرب من المنزل وقف الأحنف وقال له: إن كان قد بقي معك شيء فهات وقله ها هنا، فإني أخاف أن يسمعك فتيان الحي فيؤذوك ونحن لا نحبُّ الانتصار لأنفسنا.

والأحنف هو الذي يقول: إياكم ورأي الأوغاد! قالوا: وما رأي الأوغاد؟ قال: الذين يرون الصفح والعفو عارًا.

وقال الرشيد لأعرابيٍّ: بمَ بلغ فيكم هشام بن عروة هذه المنزلة؟

قال: بحِلمه عن سفيهنا، وعفوه عن مسيئنا، وحمله عن ضعيفنا، لا منَّان إذا وهب، ولا حقود إذا غضب، رحْب الجنان، سمح البنان، ماضي اللسان.

قيل: فأومأ الرشيد إلى كلب صيد كان بين يديه وقال: لو كانت هذه الصفات في هذا الكلب لاستحقَّ بها السؤدد.

ورُوي عن جعفر الصادق أنَّ غلامًا له وقف يصب الماء على يديه، فوقع الإبريق من يد الغلام في الطست، فطار الرشاش في وجهه، فنظر إليه جعفر نظر مُغضب، فقال الغلام: والكاظمين الغيظ، قال: قد كظمت غيظي، قال: والعافين عن الناس، قال: قد عفوت عنك، قال: والله يحبُّ المحسنين، قال: اذهب، فأنت حرٌّ لوجه الله تعالى.

هذا ما نرجو أن يكون لنا منه شيء، فإذا عفونا وغفرنا الإساءة ولم نُقابلها بمثلها قضينا العمر هانئين، ولأجل مثل هؤلاء قال الشاعر:

وتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم
إنَّ التشبُّه بالكرام فلاح

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤