الميلاد

أجراس تطنُّ ونواقيس ترنُّ في أربعة أقطار المسكونة، تمجيدًا لذكرى ميلاد من أرسله الله آية للناس ورحمة منه، إنه يوم تجديد أمل الإنسانية بعام أحسن وعالم أفضل، فمنذ ألف وتسعمائة وخمس وخمسين سنة رأى المجوس نجمه في المشرق فجاءوا ليسجدوا له مقدِّمين القرابين مُرًّا ولُبانًا. وفي مثل هذه الليلة سمع الرعاة أصواتًا تُرتَّل في الأعالي: المجد لله في العلا، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرَّة أو الرجاء الصالح لبني البشر.

هذا ما اعتاد ترديده الناس يوم هذا العيد السعيد. أمَّا أنا فلست ممن يعومون في غمر الصوفية ما دام هناك قنبلة ذرية، وكيف أقول: وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرَّة … إن صحَّ أن دولة ما تستطيع — لو شاءت — أن تُبقي على الجنس البشري أو أن تمحوه من الوجود؟!

المجد لله في العلا وعلى الأرض السلام، تخرج اليوم من أفواه مئات الملايين مرتَّلة ترتيلًا شجيًّا، موقَّعة توقيعًا رخيمًا على أصوات الأجراس والنواقيس والصُّنوج والأرغن والبيانو، ولكنها، ويا للأسف، لا تتجاوز طرف اللسان ولا يحسُّ بها الجنان!

ما أحوجَ البشرَ إلى الغوص على كنه كلمات يسوع وتعاليمه! وما أفقر العالم إلى درهم من علاجه الروحي! جاء يسوع ليشيد مملكة الروح فأين هي تلك المملكة الروحية؟ أتتجاوز مبادئه السامية حدود التغنِّي بها؟

أترى الميلاد هو في أن نُهدي إلى أولادنا لعَبًا طريفة، والناس حولنا وحوالينا لا يجدون رغيفًا؟ … وهل الميلاد في تبادلنا أكياس الملبِّس وعلب الشوكولا، بينا غيرنا يعد لنا القنابل صغيرة وكبيرة؟!

وهل الميلاد في التنافس بعمل شجرة اصطناعية، بينا جناتنا الحقيقية مجتاحة يابسة تحنُّ إلى المحراث وتبكي على المعول؟

وهل الميلاد في إنفاق الملايين على اصطناع «مغارة» لا تنقع غُلَّة عطشان ولا تُشبع كبدًا جائعة؟

والمسيح الذي نعيِّد لميلاده قال لنا: «من سقى هؤلاء المساكين كأس ماء بارد باسمي، فأجره لا يضيع.» فوالله لو مرَّ المسيح مرة واحدة على بيوتنا لعادت إليه نخوته يوم دخل الهيكل، وأعمل في ظهورنا السوط الذي طرد به باعة اليمام والحمَام!

وهل عيد الميلاد في أن نُحمِّل شجرته مئات الشموع ونضيء مغارته بمئات أخرى، وبيوت جيراننا في ظلمة دامسة وقلوبنا في ظلمات أدجى؟

وهل العيد في أن نذبح الديوك حبشية وهندية وبلدية، ونأكل ونشرب هنيئًا مريئًا، والبؤساء حولنا مشتهون العضَّة بالرغيف؟

وهل الميلاد في أن نقطع لأولادنا ثيابًا نسيج وحدِها — كوبون — والفقراء، إخوة المسيح، عراة حفاة ليس لهم أطمار يسترون بها عوراتهم؟

اللهم سترك وعفوك عمن يُعيِّدون هكذا!

الهياكل والكنائس والمعابد تمتلئ ليلة الميلاد بالمرتِّلين: هاليلويا كيرياليسون، آمين!

ستُردَّد هذه الكلمات مئات ملايين المرات من أفواه الملايين المعتقدين أنَّ العيد بدونها لا يكون كبيرًا وعظيمًا، مع أنَّ صاحب العيد هو القائل في إنجيله: «ليس من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات، بل من يعمل إرادة أبي الذي في السموات.»

لقد جاء المسيح ليبلِّغ الناس إرادة أبيه الذي في السماء، وقد شعر بذلك تلاميذه فأطلقوا عليه لقب «المعلِّم»، وما دمنا نعيِّد لذكرى ميلاد معلِّم إلهي فحسنًا نصنع إذا ذكَّرنا الناس بما علَّم.

إنَّ السيد المسيح هو رسول تحرير ورحمة، ظهر في زمن كان فيه البؤس عظيمًا، فألقى محيَّاه الإلهي رجاءً وأملًا في نفوس الساقطين تحت الأحمال الثقيلة، فقال في خطبته على الجبل: «طوبى للحزانى! لأنهم يتعزون» وكأنه أراد أن يُدخل الرأفة إلى قلوب الملوك الذين إذا ما دخلوا قرية أفسدوها، فقال أيضًا: «طوبى للرحماء فإنهم يُرحمون!»

ثم التفت إلى تلاميذه الملتفِّين حول منبره الجبلي وقال لهم: «أنتم مِلح الأرض»، وإن فسد المِلح فبماذا يُملَّح؟ «أنتم نور العالم»، وهل يُوقَد سراج ويُوضع تحت مكيال؟

وأدرك السيد أنَّ السلطة تُحصي عليه أنفاسه، وأنَّ جواسيسها حوله وحواليه، فقال أولًا: «ما جئت لأنقض الناموس، بل لأكمل.» ثم مضى في النقض والإبرام، فقال: «قيل للقدماء: لا تقتل، أمَّا أنا فأقول لكم: إنَّ كل من يغضب على أخيه باطلًا يشجب، ومن قال له: يا أحمق، يستحق عذاب جهنم.»

وهنا تصطدم في رأس السيد فكرة كانت سائدة في ذلك الزمان، وهي اعتقاد الناس أنَّ بالصلاة وحدها تُمحى الذنوب، فأمر بترك القرابين على مذابحها، والذهاب إلى مصالحة من تذكَّرنا أننا أخطأنا إليهم.

وأراد أن يُخفِّف من حدَّة شريعة ذلك الزمان فقال: «سمعتم أنه قيل: العين بالعين والسن بالسن، أمَّا أنا فأقول: لا تقاوموا الشرَّ بالشرِّ، من طلب ثوبك اترك له رداءك، ومن سخَّرك ميلًا امشِ معه ميلين، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترضَ منك فلا تردُّه.»

ورأى تباغض الناس وتطاحنهم حول حطام الدنيا، فقال: «قيل لكم: حب قريبك وأبغِض عدوَّك، أمَّا أنا فأقول: حبُّوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم وصلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم، لتكونوا أبناء الله الذي يُشرق شمسه على الأشرار والأخيار، ويُمطر على الأبرار والظالمين. فإذا أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم؟ أليس العشارون يفعلون ذلك؟ وإن سلَّمتم على إخوتكم فقط فأي فضلٍ تصنعون؟»

وكأن السيد أراد ألا تكون الأعمال خبثًا ورياءً، بل أرادها صادرة من القلب منبع المحبة والرحمة، فقال — يحث على الإحسان لتخفيف ويلات البشر: «لا تتصدَّقوا قُدَّام الناس فيضيع أجركم، فمتى صنعت صدقة فلا تصوِّت قدَّامك بالبوق كما يفعل المراءون ليمجِّدهم الناس، بل لا تدع شمالك تعرف بما صنعت يمينُك.»

ثم ينهى عن الغشِّ والخداع والكذب، ويريد ممن يريد أن يكون مسيحيًّا أن يكون شجاعًا صريحًا لا يداجي ولا يداهن ولا يماحك فيقول: «ليكن كلامكم نعم نعم، أو لا لا. أنتم تعرفون الحق والحق يُحرِّركم فلا تخافوا. إنَّ حبة الحِنطة إن لم تمت لم تعش.»

وقد يقول قائل: قل لنا كيف نعيِّد؟ الجواب عندي يا أخي هو أن تخلع ثوب أنانيتك، فإن كنت حاكمًا فوزِّع العدل بالقسطاس والميزان، وبهذا تُعيِّد الميلاد على حقِّه. وإن كنت محكومًا فابتعد عن الإساءة ولا تضر بالناس، وهذا ما يسألك إياه صاحب العيد.

وإذا كنت معلِّمًا فحاول أن تبثَّ الأخلاق الفاضلة في نفس من تُعلِّم، واقترب جهدَك من المَثَل الأعلى، لا تنسَ أنَّ يسوع هو المعلِّم.

وإذا كنت سيِّد شعبٍ فلا تجرَّ أمتك إلى المجازر البشرية، فالمسيح جاء رسول سلام، وهو الذي علَّم: «من ضربك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الأيسر.»

وإذا كنت صاحب مصنع فتذكَّر مَثَل من بنى بيته على الرمل، وأتقِن صناعتك جيدًا.

كلُّنا يعلم أسطورة «البابا نويل»، يزعمون أنَّ هذا الشيخ يأتي ليلًا ويمنح هداياه وجوائزه الجميلة للأولاد الصغار الهادئين الذين لا يُقلقون سكينة البيت وراحته، تُرى ألا يتجاوز هذا البابا نويل صلاحيته الصغرى فيمنح قادة العالم جوائزه العظمى لعلَّهم يتركون عبادَ الله المساكين مستريحين في مزارعهم فلا يُغرقونهم في بحار الدم؟! …

وقصارى الكلام أنَّ عيد الميلاد يكون عيد ميلاد على حقِّه إذا ولد فينا قلب جديد، قلب يرافق تعاليم صاحب العيد ويماشيها.

ويكون الميلاد ميلادًا حقيقيًّا متى حُوِّلت الاختراعات الهدَّامة لخدمة البشرية التي أحبَّها يسوع، وإذ ذاك تنتصر مملكة الروح التي أرادها المعلِّم حين قال: «ليس ملكوت الله أكلًا وشربًا، بل برًّا وسلامًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤