الألفاظ العامة

كل ما ذكرناه من أمثلة نمو اللغة العربية في العصر الإسلامي، إنما هو قاصر على تفرع ألفاظها وتجددها بما اقتضاه الشرع، والعلم، والفلسفة، والإدارة، والسياسة. وهناك تغييرات أخرى نتجت عما طرأ على الآداب الاجتماعية من التغيير، فضلًا عن التجارة والصناعة وما اقتضاه كلٌّ منها من تنوع الألفاظ العربية أو اقتباس الألفاظ الأجنبية كأسماء الأنغام الموسيقية والألحان وفروعها، عدا ما اقتبسه المسلمون من العادات الأجنبية وما يتبع ذلك من أسماء الملابس والأطعمة والاحتفالات مما تغني شهرته عن إيراده.

وهناك تغييرات أخرى أصابت ألفاظ اللغة بغير داعٍ من الدواعي التي قدمناها، بل هي جرت في ذلك على ناموس الارتقاء العام القاضي على الأحياء بالتجدد والتنوع والتفرع، لأسباب بعضها معلوم وبعضها غير معلوم. والغالب في هذا التنوع أن يكون بالانتقال من معنًى كلي إلى معنًى جزئي، أو من معنًى إلى ما يشبهه أو يتعلق به مما يعبرون عنه بالتوليد، فالألفاظ المولَّدة هي التي أحدثها المولَّدون بعد أن دُوِّنت اللغة وضُبِطَت ألفاظها في أوائل الإسلام. والألفاظ المولَّدة أكثر كثيرًا مما يظن اللغويون، بل هي تتولد على الدوام بلا انقطاع، وكل ما تقدم ذكره من الألفاظ الإسلامية والإدارية والعلمية والتجارية، إنما هو من قبيل المولد ولكنهم قلَّما يسمونها مولدة.

وعندهم أن القاموس هو الحَكَم الفصل في العربي والمولَّد العامي، فما لا يذكره القاموس بين الألفاظ العربية عدوه عاميًّا أو مولَّدًا وحظروا استعماله. ولكن القاموس وحده لا يكفي للحكم في ذلك، لأنه لم يتضمن كل ما تناقلته ألسنة البلغاء أو تداولته أقلام الكتاب ولا كل ما نطقت به العرب، وقد فطن إلى ذلك أئمة اللغة في العصر الإسلامي وما بعده ونبهوا إليه؛ قال ابن فارس: «إن لغة العرب لم تنتهِ إلينا بكليتها، وإن الذي جاءنا عن العرب قليل من كثير»، وقال السيوطي: «ومع كثرة ما في «القاموس» من النوادر والشوارد فقد فاته أشياء ظفرتُ بها في أثناء مطالعتي لكتب اللغة، حتى هممت أن أجمعها في جزء مذيِّلًا عليه.»

فعدم ورود اللفظ في القاموس لا يدل دائمًا على أنه عامي أو ضعيف، ناهيك بألفاظ كثيرة اكتسبت بالحضارة معاني جديدة لم يدوِّنها القاموس لأن الأئمة اعتبروها من قبيل الألفاظ العامية، ولكن الكُتَّاب استعملوها وفيهم المشاهير المشهود لهم بالبلاغة وسلامة الذوق.

•••

فالأصل في معنى «البيت» في القاموس البناء المعروف والشرف والشريف، فكانوا يقولون «بيت بنى تميم» أي شرفهم، و«فلان بيت قومه» أي شريفهم، و«بيت القصيدة» أحسن أبياتها، قال: «والعامة تقول: هو من بيت فلان، أي من عائلته.» مع أن استعمال البيت بمعنى العائلة مما تداولته أقلام البلغاء وفي مقدمتهم ابن خلدون، وقد عرَّفه بقوله: «البيت أن يعد الرجل في آبائه أشرافًا مذكورين تكون له بولادتهم إياه والانتساب إليهم تجلة في أهل جلدته»، وقال: «وكان بنو إسرائيل بيتًا من أعظم بيوت العالم.»

و«الحضارة» الأصل في معناها سكنى المدن أي ضد البداوة، فلما تحضَّر العرب وكثر الترف في مدنهم صار معنى الحضارة عندهم «التفنن في الترف وأحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والفرش وغيرها.» ويقال نحو ذلك في «العمران»، فإن أصل معناها من «عمَّر الرجل في المكان» سكن فيه، ثم صارت تدل على معنى المدنية والحضارة. وهذا ما أصاب لفظ «التمدن»، فإنها من «تمدن الرجل» أي تخلَّق بأخلاق أهل المدن، ثم دلوا بها على مثل ما تدل عليه الحضارة أو العمران أو المدنية.

وقد استعملوا «ركاب السلطان» بمعنى موكبه، ولا تجد لهذه اللفظة هذا المعنى في القاموس ولكن الكُتَّاب استعملوها له. وكذلك «كافة»، فقد نبَّه «القاموس» أنها تُستعمَل في مثل «جاء الناس كافة» أي كلهم، وأنها لا تدخل عليها أل التعريف ولا تضاف، ولكن بلغاء الكتاب قد استعملوها في الحالين مرارًا: قال ابن خلدون: «لما كان الجهاد فيها مشروعًا لعموم الدعوة وحمْل الكافة على دين الإسلام»، وقال صاحب «أدب الدنيا والدين»: «وفرض جميعه على الكافة كان أولى مما لم يجب فرضه على الأعيان ولا على الكافة».

•••

وقال أبو إسحاق الصابي الكاتب الشهير من نسخة عهدٍ كتبَها عن المطيع لله إلى الغضنفر بن ناصر الدولة: «أمره أن يعرف لركن الدولة أبي علي وعز الدولة أبي منصور موليَي أمير المؤمنين تولَّاهما الله حق منزلتهما من أمير المؤمنين وغنائهما عن كافة المسلمين!»

ومن الألفاظ التي استعملها الكتاب القدماء واقتدى بها كتابنا مع أن استعمالها يخالف قول القاموس: تخصيص «القينة» بمعنى المغنية والأصل إطلاقها على الأَمَة مغنيةً كانت أو غير مغنية. و«المقراض» و«المقص»، فإن الأصل في استعمالهما بالمثنى لأنهما مقراضان ومقصان أي شفرتان، فيقال: «قرضتُه بالمقراضين» و«قصصته بالمقصين». وقلما نرى بين الكتَّاب القدماء أو المحدثين من يستعملهما كذلك، بل هم يقولون: «قرضته بالمقراض» و«قصصته بالمقص.»

والأصل في «المأتم» الاجتماع على العموم، ثم خصصوه بالاجتماع في مجتمع النياحة.

و«أرق» في الأصل للسهر في مكروه، ثم صار عامًّا.

ومن الاستعمالات الجارية على أقلام الكتاب وهي خطأ باعتبار القواعد المدوَّنة قولهم: «بدأ به أولًا»، والصواب «بدأ به أول» مثل قولهم «قبلُ» وحكمهما واحد.

ومن هذا القبيل جمع «حاجة» على «حوائج» و«عادة» على «عوائد»، وهما شائعتان عند الكتاب مع مخالفتهما للقاعدة. وكذلك جمع «ريح» على «أرياح» خطأً، ولكن الحريري استعملها. ومثله جمع «أرض» على «أراضي» وجمع «الجواب» على «أجوبة».

وقولهم: «شفعه بثالث» غلط، إذ لا يقال شفعه إلا للثاني، من «الشفع».

والأصل في «القافلة» الرُّفْقَة الراجعة، فصارت تُطلَق على الرفقة المسافرين ذهابًا أو إيابًا.

•••

وقس على ذلك تنوعات كثيرة يعدها القاموس خطأ، وقد نبه إلى خطئها جماعة من فطاحل البلغاء وألفوا في تصحيحها الكتب.

وأشهر ما ألفوه كتاب «درَّة الغوَّاص في أوهام الخواص» لأبي محمد الحريري صاحب المقامات، وقد شرحها وعلَّق عليها كثيرون، ومنهم: ابن برِّي بن عبد الجبار النحوي المتوفَّى عام ٥٨٢ﻫ، وأبو عبد الله المعروف بحجة الدين الصقلي المتوفَّى عام ٥٥٥، وابن المظفر المكي المتوفَّى عام ٥٦٨، وابن الخشاب النحوي، وأبو بكر الأنصاري، وأحمد الخفاجي المصري، وغيرهم. وكلٌّ من هؤلاء أضاف إلى ذلك الكتاب ألفاظًا من هذا القبيل فاتت صاحب الدرة ونبهوا إلى خطأ استعمالها، ومع ذلك فالطبيعة غلبت على آرائهم وأقوالهم لأن ما عدوه خطأً إنما هو من نتائج النواميس الطبيعية التي لا بد منها، سنة الله في خلقه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤