النمل

النمل خلق عجيب يرى الباحث حكمة في كل عمل من أعماله، وقد عني أهل البحث في درس طبائعه وكتبوا فيها الكتب المطولة حتى ألف الناس كثيرًا من أعماله، ولم تَعُد تعدُّ عندهم من غرائب المخلوقات. فنقتصر في هذه المقالة على بيان خلاصة حكمة النمل وتدبيره وطبائعه بسرد أعمال نملة من أول النهار إلى آخره، ثم نتطرق إلى ذكر صنف من النمل يشبه الماشية عند الآدميين يربيه النمل ويقتات من «لبنه».

إذا رأيت النمل يسرع أسرابًا واقتفيت أثره، رأيته ينتهي إلى ثقب في الأرض يدخل فيه هو باب منزله، فإذا قطعت ذلك البيت قطعًا عموديًّا من أعلاه إلى أسفله رأيت علوه من أرضه إلى سقفه يزيد على قدم، وهو مؤلف من طبقات يستطرق بعضها إلى بعض بدهاليز أو طرقات تنتهي إلى غرف.

وترتيب بيت النمل على هذه الصورة مقصود لحكمة في تدبير المنزل، ففي الطبقة السفلى من ذلك البيت غرفة كبيرة تقيم فيها ملكة النمل، وهي الأم الوالدة وحولها أسراب الخدم من النمل الصغير يخدمونها باحترام ولا يتجرأ أحد منهم أن يوليها ظهره إذا خرج من عندها. وفي الطبقات الأخرى من ذلك البيت يختزن النمل مئونته ويربي صغاره في أدوارها الثلاثة من الدودة فالشرنقة فالنملة، وهناك «زرائب» يربي فيها نوعًا من النمل الحلاب يسرحه في ضواحي المنزل يقتات من جذور بعض النبات وأوراق البعض الآخر ويتعهده بالحراسة خوفًا عليه من الهوام المفترسة، كما يحمي الراعي خرافه من الذئب. وفي بعض جوانب البيت طبقة من النمل دنيئة تطوف في أطراف الدهاليز وتقف بباب الغرف تتناول ما يقع من فضلات أهل الطبقة كما تقف الكلاب والقطط حول موائدنا، وأهل هذه الطبقة لا يكترثون بوقوفهم أو انصرافهم كأنهم في شاغل عن هذه الأمور التافهة بواجباتهم نحو هيئتهم الاجتماعية، وأهمها خدمة الوالدة وتربية الصغار وبناء المنازل ورعاية الماشية والدفاع عن أنفسهم وحماية أموالهم، يفعلون كل ذلك بهمة ونشاط ونظام لا يختلفون في شيء ولا يختصمون على شيء ولا يخطئون في اقتسام الأعمال.

(١) حكاية نملة

استيقظت نملتنا نحو الساعة السادسة صباحًا من تلقاء نفسها بلا منبه، فغسلت وجهها وأصلحت من شأنها بالفرشاة والمشط اللذين منحتهما الطبيعة لها في طرف قائمتيها المقدمتين، ثم نظفت تينك القائمتين بفمها وخرجت في سرب من أخواتها ماشيات في بعض دهاليز المنزل نحو غرفة الملكة، فالتقت بأسراب أخرى سائرة إلى أشغال أخرى، وفيما هن سائرات وقفت نملتنا لنزع قشة علقت ببدن إحدى رفيقاتها في أثناء الطريق، كما يلتقط الرجل خيطًا وقع على رداء صديقه، فلما فرغت من ذلك أسرعت للحاق بسائر الرفاق، فاعترضتها في أثناء الطريق نتف من القش فنظفت الطريق منها، وهي مع ذلك تغتنم الفرص للبحث عما قد تعثر عليه من أطراف الجذور أو قطع الأوراق أو غير ذلك لتدخرها لطعامها.

واتفق وهي في ذلك أنها عثرت بنحلة ميتة؛ والنحلة فريسة كبرى عند النمل للشهد الذي يكون باقيًا فيها مما قد جنته بالأمس قبل موتها، والنمل يحب العسل كما يحبه الأولاد. فهمَّت النملة واستخرجت العسل من الأخلية، واستأثرت به وحملت ما بقي من الفريسة إلى أهل البيت، ولو رأيتها وهي تحمل تلك الجثة لاستغربت قوتها لأنها كانت مثل كلب يحمل فرسًا، وهي قوة غريبة في الحيوان؛ إلا النمل فإنه قد يحمل ثلاثة آلاف ضِعفه وزنًا، وجاءت النملة بنحلتها إلى باب المنزل فضاق الباب عن دخولها فخرجت فصيلة من النمل واقتسمت الغنيمة خارج الباب.

وكانت أسراب النمل قد بدأت في العمل، فخرج بعضهم من أبواب المنزل وأخذوا يشتغلون بجمع المئونة من الورق والقش، واشتغل الآخرون بإصلاح الأبنية، والبعض الآخر ونملتنا في جملتهن اشتغلن بجمع ما يقعن عليه من حيث النحل أو الفراش أو الجنادب أو غيرها من الهوام، فيحملنها إلى الأهراء لاختزانها، ولم تصبر نملتنا إلى آخر العمل، ولكنها أسرعت إلى غرفة الملكة فلقيت عندها مئات من العملة قائمين بخدمة البيوض التي وضعتها؛ لأن ملكة النمل تضع البيوض وهي ماشية، والخدمة يقتفون أثرها فيلتقطون تلك البيوض ويعتنون بها. وقد يكون في الوكر الواحد ملكة أو ملكتان أو عدة ملكات، وأما في وكر نملتنا فلم يكن إلا ملكة واحدة، فانخرطت في جملة حملة البيوض إلى غرف خاصة بها، وكانت تحمل ما فقص منها، وهو بشكل ديدان لا قوائم لها فتسير بها؛ حيث تتلقى أشعة الشمس ويغذيها الخدم والمراضع، وفي جملتها نملتنا، ثم ينتقون من بين النمل الإناث اللواتي سيكن ملكات ويدخلونهن إلى الأخبية ولا يخرجونهن إلى الأزواج إلا في أوان العرس …

والنمل عند أول تكونه لا تعرف أنثاه من ذكره، ثم تتميز الأجناس بالتدريج، والأجناس ثلاثة؛ ذكر وأنثى وجنس لا ذكر ولا أنثى، ويمتاز هذا الثالث بعدم الأجنحة. وأما الاثنان؛ الأولاد فلهما أجنحة تختلف في الذكر عما في الأنثى اختلافًا قليلًا، وأنثى النمل أكبر من ذكره وأقوى، فإذا بلغ الذكر والأنثى طارا في الهواء وتزاوجا، ومتى قضى الذكر عمله مات، أما الأنثى فلا تزال ملكة النمل حتى تضع بيضها فإذا فرغت من ذلك تساقطت أجنحتها، فالخَدمة وطبقة العمال في دولة النمل هم الذين ليسوا ذكورًا ولا إناثًا وليس لهم أجنحة.

ولنعد إلى تاريخ نملتنا فإنها ذهبت في أواسط النهار مع رفيقاتها إلى الزرائب والمراعي لاستدرار «البقر» الذي سيأتي وصفه، فرأت «البقرة» التي استدرت لبنها واقفة على ورقة بحيث يخشى عليها من بعض الهوام المفترسة، فأسرعت إلى بعض الأتربة فحملتها وبنت بها حول بقرتها سورًا منيعًا يقيها غائلة المفترسين، وقضت نملتنا بقية يومها في الادخار والدفاع مما يطول شرحه.

(٢) النمل الحلاب

هو صنف من النمل، عمله في دولة النمل مثل عمل الماشية في دولة الإنسان، فإن هذا النمل يقتات على ورق الأقحوان وغيره من الأزهار الرطبة، فيقضي بعض نهاره وخرطومه في الزهرة يمتص ما فيها من العصارة حتى يملأ بدنه به ثم يعود أسرابًا إلى الوكر كما تعود قطعان الغنم إلى زرائبها، فيأتي النمل الآخر ويحتلبه بخرطوميه من حلمتين بارزتين من أسفل، فإنك ترى النملة الحلابة ووراءها نملة من طبقة العمال وقد حاولت احتلابها فقبضت بخرطوميها على حلمتي تلك، وترى سربًا من النمل الحلاب يتسلق غصنًا، أو هو حائم حول زهرة أو نقرة رطبة يمتص ماءها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤