هارب من الأيام

١

في فرحة غامرة واستبشار بيوم جديد، وفي تكاسل رخي وبطء هادئ، تحرك الشيخ زيدان أبو راجح عمدة قرية السلام، ونزل عن سريره لينادي الخادمة: يا فاطمة.

وسرعان ما رجع النداء بصوت الخادمة: نعم يا سيدي.

وصاح الشيخ في تظاهر بالغضب يصحبه هدوء مستريح: يا بنت هاتي ماء الوضوء، الفجر سيفوتني!

وفي هذه المرة رجع النداء بالخادمة نفسها تحمل إبريقًا وطستًا، وأخذ العمدة يتوضأ والخادمة تصب الماء، ولكن العمدة لم يطق أن يتوضأ فقط، وإنما هو — على عادته — يسأل الخادمة عن أفراد البيت فردًا فردًا، فتختلط ألفاظ الوضوء بألفاظ الأسئلة: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، نويت فرض الوضوء … أين ستك؟

فتجيب الخادمة وهي تصب الماء: نزلت عند الفرن.

– اللهم اجعلني أمسك كتابي بيميني … وأين ستك دُرية؟

– تعد لك الفطور.

– اللهم ولا تجعلني من أهل اليسار، وماذا عندكم اليوم في الفطور؟

– عندنا يا سيدي ما يرضيك إن شاء الله، عندنا فول وقشدة وعسل، الخير كثير والحمد لله.

– اللهم ثبت قدمي اليمنى على الصراط المستقيم، الحمد لله، هذا شيء عظيم، أسأل عني أحد اليوم؟

– لا.

– ألم يُحضِر صالح أبو سعد الله فراخًا؟

– يا سيدي إننا ما زلنا في الفجر.

فيجيب العمدة في شبه غيظ: ولكنه مدين يا فاطمة … الدين يا بنتي … أينسى أحد دينه؟

وتسأله فاطمة ذاهلة: وهل اقترض صالح منك يا سيدي؟

فيجيب العمدة وهو ينزل أكمام جلبابه بعد أن أتم وضوءه: نعم.

وتسأل فاطمة وهي لا تزال في ذهولها: هل اقترض منك فراخًا يا سيدي؟

ويطلق العمدة ضحكة صغيرة ساخرة من غفلة خادمته، ثم يقول وهو يثبت قلنسوته على رأسه: يا مغفلة أرأيت أحدًا يقترض فراخًا من العمدة؟

– أنا الأخرى أتعجب يا سيدي!

– لقد حكمت له في قضية أمس فأقسم أن يحضر لي فراخًا اليوم، اليوم فجرًا، وها هو ذا الفجر يولي وهو لم يجئ، كم أنت ثرثارة يا فاطمة! الفجر سيفوتني، الله أكبر، الله أكبر، أصلي الصبح ركعتَين فرضًا حاضرًا لله العلي العظيم، الله أكبر.

وتركت فاطمة العمدة يقيم الصلاة، وخرجت هي لتجد البيت وكأنما هو آلة زر إدارتها هو نداء العمدة «يا فاطمة»؛ فالسيدة الكبيرة تُعدُّ الفرن للعيش، والسيدة الصغيرة تُعدُّ الفطور للأب، وإن كلًّا من السيدتَين لفَرِحة غاية الفرح بهذا العمل الذي تقوم به، وإن كلًّا منهما لتصرخ بأعلى صوت لها، فكلما ارتفع الصوت كان العمل الذي تقوم به ضخمًا يحتاج إلى مجهود كبير، وعمل كثير، وصوت جهير، وسعي حثيث، وكر وفر.

والعمدة فَرِحٌ بهذه الأصوات التي تنبعث إلى حجرته، فكلما ارتفع الضجيج ازدادت أهمية العمدة في بيته، وإلا فمِن أجل مَن تقوم هذه القيامة؟ ومِن أجل مَن يُعد العيش والفطور، ويعلو الصراخ ويُحَثُّ السعي ويُكَر ويُفَر، أليس كل هذا من أجله هو؟ رجل البيت وعمدة البلد على رغم كل سن ورمح يمكن أن يتعرض له. وينتهي العمدة من صلاته، ويرتفع صوته في شبه غضب ولكن في هدوء تمامًا كما كان ينادي فاطمة، ولكن — دون أن يحس — خالجت الصوت نبرة من حنان وحب لا يطيق الأب كتمانهما حين ينادي ابنته: يا دُرية.

وتجيب الابنة في فرح ولكن في تظاهر بالعمل: حالًا يا أبي.

وما هي إلا لحظات حتى تدخل دُرية حاملة طعام أبيها، ويستقبلها الأب في عطف بالغ: ما هذا الجمال يا بنت؟ من أين تزيدينه كل يوم؟

وتجيب دُرية في خجل فرحان: طبعًا يا أبي، إن لم تشهد لي أنت فمن يشهد؟

ولم يكن العمدة كاذبًا في هذه المرة، فقد كانت دُرية جميلة حقيقة؛ فهي بيضاء صافية اللون، إلا من حمرة وردية تخالط بياضها بمقدار ما يجعل جمالها حيًّا متوثبًا، وهي ذات شعر ذهبي مسرح في تموجات ثائرة معربدة. وإنها لتشجع هذه العربدة من شعرها فهي لا تكبح جماحه بمنديل أو شريط، وإنما تتركه على هواه فيلتوي حيث يطيب له أن يلتوي ويسيل حين يطيب له أن يسيل، وهو على الحالَين جميل رائع الجمال. وإن لها جبهة طاب للشعر أن يأخذ مكانًا كبيرًا منها، فأخذ دون رادع، ولم يترك إلا ومضة ضيقة يتبعها حاجبان مرسومان في دقة رائعة، يعلوان عينَين خضراوَين ينبعث منهما نور فيه ذكاء لمَّاح وجمال آسر، يعقبهما فم ما هو بالصغير ولا هو بالكبير، وإنما هو شفتان فيهما غلظة رقيقة، تزيدهما جمالًا تلك النثلة التي تصل الشفة العليا بالأنف الصغير ذي الأرنبة المتوثبة. والوجه في مجمله يكاد يستدير لولا ذلك الذقن الصغير الذي أبى إلا أن ينفر نفورًا منعه الجمال أن يشتط. تتوسط خدها الأيمن تلك النونة الصغيرة التي تزداد وضوحًا عندما تضحك دُرية، وكم كانت تضحك دُرية! كل هذا الجمال يعلو رقبة تلعاء تفضي إلى صدر ينهد إلى باكر الشباب، حيران بين الظهور الواضح والاستخفاء الخجلان. ودُرية فارعة الطول هيفاء غيداء، متوثِّبة إلى الفرح، سريعة إلى الضحك، تستعجل الأيام والأشخاص والأشياء. لا تطيق أن ترى الأيام تمضي مكتملة جميعًا، تتمنى لو أن النهار أومض ثم أعقبه آخر. ثم هي تكلم الناس جميعًا فلا يشعرون أنها مغرورة بجمالها هذا، وإنما هي تغمرهم بفيض من حنان فيحسون وكأن دُرية يهمها من أمرهم ما يهم أصدقاءهم الأقربين. لم تكن دُرية تستثني من عطفها هذا شخصًا أو شيئًا، نعم فإن من الناس أشياء، وهل كان كمال إلا شيئًا؟ حتى هذا الشيء كانت دُرية تبذل له من كريم عطفها ما جعله يحس أن له وجودًا ولا وجود له، أو أن له كيانًا ولا كيان له. لقد كان العمدة مُحقًّا إذن حين فرح بابنته عندما قدمت إليه بالفطور في باكر الصباح، وكان مُحقًّا في تدليلها؛ فإنه هو لا شأن له بتربيتها فما كان يفهم في أصول التربية إلا أن يقول ما يراه، وهو يرى ابنته جميلة غاية الجمال، ويرى الناس من حوله وحولها يحبونها، ولا يهم العمدة إن كان حب الناس لدُرية مبعثه أنه عمدة أو أنها تستحق هذا الحب، إنما كل شأنه أنهم يحبونها. ولو أن دُرية تُركت لتدليل أبيها لكانت الطامة الكبرى، ولفقدت هذا الحب الذي يحبوها به الناس. لم يكن تدليل أبيها وحده هو قوام أخلاقها، وإنما كانت أمها من ورائها تشتد حين ترى لين الأب مائعًا، وتقسو حين ترى البنية تنحرف عما تريده لها الأم.

أفطر العمدة في يومه هذا، وهمَّ بأن يغير ثياب نومه ليخرج إلى الناس، حين سمع صوتًا يعلو بجانب شباكه، ولم يسأل مَن ذاك فقد عرف الصوت وصاحبه … كان ذاك هو كمال أبو منصور ذلك الشيء الذي ينطلق مع الفجر يلتمس رزقه بالدعاء للناس، وما هو بالشيخ العجوز الذي يقعده الكبر، ولا بالمريض المقعد الذي تحتجزه العلة، ولا هو بالعاطل المتبطل الذي يفقره العجز، وإنما هو شاب في ريعان الفتوة مكتمل الجسم موفور الصحة، وما له لا يكون وهو على كل مائدة واجد زاده! وهو — بعد — صاحب صنعة تجمع بين نقيضَين، فهو رجل الأحزان والسعادة، وهو نجم المأتم والفرح، وهو الناعق عند الفراق الذي لا لقاء بعده في الدنيا، وهو البشير بلقاء يرجى فيه الاتصال. إنه عمود الوفيات في قريته، فما لاقى إنسان ربه إلا كان كمال هو ناقل نبأ هذا اللقاء إلى أهل القرية، حتى يبادروا إلى القيام بواجب العزاء ورد الجميل السابق، ومساندة أهل الذاهب، الحزين منهم والمتظاهر بالحزن.

وما لاقى إنسان زوجته إلا كان كمال أبو منصور هو الزغرودة، زغرودة الرجاء التي تنطلق مبشرة باللقاء، على حبٍّ كان هذا اللقاء أو على طمع في مال أو جاه، أو كان على ظروف اقتضت فتحكمت فكان الزواج … لا شأن لكمال بشيء من هذا، وإنما كل شأنه أنه يعلم بالوفاة أو الزواج، فيهب إلى طبلته يعلقها إلى رقبته ويمسك بعصاه بالخيزران الغليظة بعض الشيء، ويطوف بالقرية. ولن يسمع أهل القرية نغمة حزينة أو فرحة، وإنما هي دقات تُصاب بها الطبلة فتطلق لها صوتًا ضخمًا يصيب بدوره آذان الآمنين من قرية السلام. نعم لقد كان كمال أبو منصور طبالًا؛ فهو إذن ليس متبطلًا، ولكن قرية السلام قرية لا تزيد، ولن تجد بالقرية ملاقيًا لربه أو لعروسه في كل يوم، وقد تتباعد الأيام بين كل لقاء ولقاء، ولكن مواقيت الغذاء لا تتباعد، والبرد يأتي في موعده المعلوم، وكمال يعتقد أن الكرامة كل الكرامة هي أن يحصل على قوت يومه، ليس يعنيه أي سبيل يسلكه إلى هذا القوت، فما البأس به لو أنه طاف بالأغنياء من قريته يطلب أن يُعوِّضوه خيرًا عما يُفوِّته عليه عدم انتظام الوفاة أو الزواج؟ ولا بأس عليه ما دام قد فكر في الأغنياء أن يكون في مقدمتهم عمدة القرية وعميدها، لا بأس عليه نعم. ولكن أكان عدم البأس وحده هو الذي ساق كمالًا إلى موقفه هذا، أم أن هناك سببًا آخر؟ ويحك يا كمال! ماذا تُراه يكون السبب؟ حذارِ أن تفكر، حذارِ أن تهمس نفسك ولو إلى نفسك، ولكن لتَقلِ الحق، وما ضرَّك أن يُقال وهو مجرد أحلام؟ وهل تملك يا مسكين إلا هذه الأحلام؟! نعم، إن كمالًا ليقصد إلى بيت العمدة لينال من بر العمدة، وليفتتح يومه بنظرة كريمة طيبة متفضلة تلقيها إليه دُرية مع ما تلقيه إليه من طعام، وهو لا يطمع في غير تلك النظرة، وإنه ليعتدها كرمًا منها يتخاذل إزاءه كل كرم يلقاه من أي كريم، وإنه ليعتدها زاد الدنيا الذي به يعيش إلى أن تتحقق له آمال وأحلام. وكم فكر في هذه النظرة إذا ما خلا بمغارته! وكم وقفت هذه النظرة حائلًا دون أفكاره العاتية أن تنثال في ذهنه! ولكنه مع هذا لا يطيق الصبر عليها. لا بأس إذن بكمال أن يقف دون الشباك في باكر الصباح داعيًا إلى الله: أن يطيل عمرك يا حضرة العمدة ويبقيك لنا يا رب.

ويجيب العمدة في فرح مبتسم، سعيدًا أنه مقصد يُدعى له ويُسعى إليه: خيبك الله يا ولد يا كمال، يا بني الفجر حاضر لا يزال، ألا تنام يا ابن الملاعين؟

ويجيب كمال في تظاهر بالعبط والسذاجة السعيدة بهذه المداعبة: أطال الله عمرك يا حضرة العمدة، ولا أرانا فيك سوءًا أبدًا، والله صحوت وجئت إليك؛ لأني أستبشر بوجهك يا حضرة العمدة.

– تعني أنك تريد أن تجد مأتمًا بعد أن تشوفني؟

– العفو يا حضرة العمدة، إنما وجهك كله أفراح، اللهم أطل عمرك يا رب أنت وستي دُرية الأميرة المؤدبة …

ويسارع بالاستدراك: وستي الحاجة يا رب.

– طيب طيب انتظر حتى تحضر لك فاطمة لتفطر.

ويجيب كمال بالدعاء مترسلًا، ويترك موقفه من الشباك ويذهب إلى الباب الخلفي لينتظر ما سيجود به العمدة، وتمر به دُرية فيسارع منتهزًا الفرصة السانحة: صباح الخير يا ستي دُرية.

– صباح الخير يا كمال، كيف حالك؟ ألم تحضر لك فاطمة الفطور؟

– ستحضره يا ستي، لا تتعبي نفسك، اللهم أطل عمرك يا رب.

وتنصرف عنه دُرية إلى شئون المنزل ويظل هو حيث هو: إن رأى عينًا تطل عليه أمعن في الدعاء للعمدة ولزوجته وابنته، وإن آمن كيد العيون صمت وظل ينظر إلى الخير الذي يرتع فيه العمدة، فيرى الدجاج الكثير معه الوز والبط، ويلقي بنظرة إلى مرتع الماشية فيرى عددًا وفيرًا من الجاموس والبقر والثيران والحمير والخيل، ويل للأيام! أكل هذا الخير في بيت واحد تنعم به أسرة واحدة؟! أهذا عدل يا رب؟ ويا ليته جمع ما جمع من الطريق الحلال! بل هو النصب والسرقة والرشوة، عدلك يا رب! هذا العتلُّ الغليظ يتمتع بكل هذه الخيرات وأنا لا أملك شيئًا، ما ذنبي إن كان أبي طبالًا فكنت مثله؟ وكان أبوه عمدة فهو مثله! أأنا الذي خلقت أبي وجدي ومن سبقهم وقلت لهم كونوا طبالين فكانوا؟! أي ذنب جنيته؟! آه لو تحقق حلمي! اللهم حقق أملي يا رب، شيء تافه ذلك الذي أرجو أن أحصل على ثمنه أو أجده أو حتى أجد فرصة لأسرقه.

وتنقطع آمال كمال عندما تأتي فاطمة وفي يدها الطعام، ويسارع كمال داعيًا لها ممازحًا: اللهم أطل عمرك يا فاطمة أنت وسيدي وسيتي.

– يا أخي كُل، ما لك كثير الكلام؟! أتظننا فارغين مثلك؟! كل بسرعة.

ولا يمنع هذا الرد الجاف كمالًا من أن يصل مزاحه: اللهم لا تحرمني من يدَيك الكريمتَين، تتزوجيني يا فاطمة؟

وتغضب فاطمة من هذا المزاح الثقيل، وتثور أن ينطق كمال — وإن كان مازحًا — بمثل هذه الكلمة، فما كانت لتظن أن يخطر بباله هذا الفكر. وإن كان مازحًا فهي تسارع مجيبة وقد دقت صدرها بيمناها وبدا الحنق على وجهها: هل جُننت يا ولد؟! ألم يبقَ إلا أنت يا طبال حتى تقول هذه الكلمة؟! والله إن لم يبقَ في الدنيا كلها إلا أنت لما قبلت أن أسمع منك هذه الكلمة.

ولا يعجب كمال مِن ردِّها هذا؛ فقد كان يعلمه، ولكنه يسارع ملاطفًا في ضحكة ما زالت مازحة: أعرف يا فاطمة لكني كنت أمزح.

– ولو! لكل شيء حد! أيصل بك المزاح إلى هذا؟

– لا تغضبي يا ستي فاطمة، أنا غلطان.

– طيب، كُل وأسرع.

– اللهم أطل عمرك يا فاطمة أنت …

وتتركه فاطمة وتنصرف إلى عملها، ويفكر هو فيما كان بينه وبين فاطمة غير غاضب، فهو قد تعوَّد أن تصدَّه الألسنة وتعود أن يحتملها، ولكنه يخاف أن يبلغ الغضب بفاطمة حدًّا تبلغ معه سيدها بما كان من أمره وأمرها، ولكنه لا يلبث أن يصرف هذا الخاطر عن ذهنه؛ فهي تعلم أنه كان يمزح، ولن تذكر من الأمر شيئًا، ففاطمة عاقلة، وهي تأبى أن يرتبط اسمه باسمها وإن كان يمزح.

يخرج العمدة إلى شُرفة منزله فيستقبله شيخ الخفراء بالتحية والود، ثم يسأله العمدة: هل أرسلت أحدًا ليحرث الفدانَين كما قلت لك أمس؟

ويجيب شيخ الخفراء في فرح: نعم يا حضرة العمدة، لقد ذهب إليهما عبده أبو مسعود بعد صلاة الفجر مباشرةً.

– وهل اتفقت معه على الأجر؟

– خيرك سابق يا حضرة العمدة.

– لا، أنا لا أقبل هذا أبدًا.

– لا تقبل ماذا يا حضرة العمدة؟

– أيريد أن يرشوني أبو مسعود؟

– لا، ومن قال هذا لا سمح الله؟ إنما هو يقدم خدمة خالصة لوجه الله.

– آه، إن كان هذا فلا بأس.

– وسيزورك الليلة إن شاء الله.

– زيارة لوجه الله أيضًا؟

– طبعًا طبعًا يا حضرة العمدة، لكن فقط …

– ماذا؟

– له مسألة بسيطة.

– ما هي؟

– عبد الحميد جاره منع عنه المياه.

– ابن الكلب! والله لأمنعنه هو أن يروي أرضه، وأجعلن الماء يمر في أرضه إلى عبده أبو مسعود … ألم يأتِ صالح حتى الآن؟

– لقد رأيته راكبًا حِماره في الفجر، يمر بالبيوت ليشتري الفراخ التي طلبتها منه سعادتك؟

– أنا! أطلب؟ أتعقل هذا يا عبد الجليل؟ أليس هو الذي قال إنه سيحضر لي فراخًا اليوم؟! وحين أقسمت أن يأخذ ثمنها أقسم هو بالطلاق أنه سيُحضرها هدية في مقابل تعبي في قضيته التي كانت بينه وبين امرأته؟ سبحان الله يا أخي أأرفض الهدية وأطلق المرأة من زوجها؟ ألم تكن شاهدًا؟

– نعم يا حضرة العمدة ولكني نسيت، ولكنك يا حضرة العمدة — باسم الله ما شاء الله — تتذكر كل شيء، هذا ما كان والله!

– وأنت ماذا تنتظر؟ ألم تذهب لتراقب الأولاد وهم يجمعون القطن؟

– لقد جئت يا حضرة العمدة من أجل هذا.

– من أجل ماذا؟

– أريد أن أجمع القيراطَين اليوم، وأريد أن تمنحني إجازة.

– ماذا جرى يا عبد الجليل؟ أتطلب الإجازة اليوم؟ وتريدها اليوم؟ لماذا لم تقل بالأمس حتى أرسل غيرك؟

– والله يا حضرة العمدة نسيت.

– دائمًا تنسى ولكن لماذا تجمع القطن اليوم؟ لماذا لا تنتظر إلى الغد؟

– لقد ذهب الأولاد فعلًا إلى الأرض.

– اجعلهم يذهبوا إلى أرضي اليوم، وغدًا اجمع قطنك.

– أمرك يا حضرة العمدة.

– وما أجر الولد عندك؟

– مثلما تعطيهم يا حضرة العمدة.

– عظيم لقد خفت أن ترفع أجورهم فيتركوني إليك.

– وماذا يفعلون عندي؟ سعادتك عندك الأرض واسعة، أما أنا فثلاثة أفدنة أيتركون الدائم للعاجل؟ أهم مجانين؟

ويضحك العمدة ملء شدقيه بهذه المقارنة التي جعلته يزداد إحساسًا بمكانته، ويأمر شيخ الخفراء بالانصراف ليشرف على جني القطن ونقل الأولاد من غيط إلى غيط. ويكاد شيخ الخفراء يفعل لولا خفير التليفون الذي يأتي مهرولًا مقبلًا من حجرة التليفون التي كانت أمام الشرفة، ويصيح الخفير: انتظر يا شيخ الخفراء.

ويسأل العمدة في قلق: ماذا جرى لك يا ولد يا عبد الهادي؟

– المأمور يا حضرة العمدة.

– ما له يا ولد؟

– يجيء الآن.

– الآن يا ولد؟!

– الآن يا سيدي.

فيلتفت العمدة إلى شيخ الخفراء في اهتمام: عبد الجليل، أين الخفراء؟

– في الغيط.

– اجمعهم وأسرع.

– أمرك يا حضرة العمدة، ولكن ألا تعرف لماذا سيأتي المأمور؟

– علمي علمك يا عبد الجليل، اذهب أنت الآن وأحضر الخفراء.

ولكن عبد الهادي خفير التليفون لا يجعله يذهب، فكأنما أقسم في صباحه هذا أن يثير الرعب والقلق في نفس العمدة.

– بل انتظر يا عمي يا عبد الجليل.

فيقول العمدة في ثورة مكبوتة: ماذا تريد أيضًا يا عبد الهادي؟

– سعادة البك المأمور يريد مشايخ البلد.

– أيضًا؟

– أيضًا.

– ومن أين آتي بهؤلاء ما هذا النهار الأسود؟

ولكن شيخ الخفراء يسارع إلى نجدة عمدته.

– وما يهمك يا حضرة العمدة؟ سنخبر الذي نجده، ومن لا نجده نخبر المأمور أنه ذهب إلى البندر؛ لأنه لم يكن يعلم بمجيئه.

– وهو كذلك، اذهب إذن فادعُ مَن تجدُه، ومُرِ الخفراء أن يلبسوا ملابسهم الرسمية ويقفوا على طول الطريق من عند المفارق حتى البلد ليؤدوا التحية.

ويذهب شيخ الخفراء، وينتقل العمدة إلى منزله في حيرة واهتمام بالغَين مناديًا زوجته: يا صفية، يا صفية.

وتجيب زوجته من أقصى المنزل: نعم، نعم.

فيسارع إليها العمدة حيث هي ويصرخ في وجهها: المأمور يا صفية، المأمور!

– ما له المأمور؟

– وصلت إلينا إشارة تليفونية الآن أنه …

– مات؟

– لا سيجيئ.

– أكل هذا؛ لأن المأمور سيجيئ؟ أهذه اول مرة يزورك فيها المأمور؟ إنك منذ عشرين سنة عمدة، وفي كل يوم يأتيك مأمور.

– نعم، ولكن هذا مأمور جديد، ويقولون عنه إنه شديد جدًّا.

– إنهم في كل مرة يقولون إن المأمور الجديد شديد، ثم يأتي، وما إن تصل إليه الفراخ والسمن والديوك حتى يصبح لينًا لطيفًا كالخراف التي تذهب إليه تمامًا.

– هذا صحيح، ولكن لا بد لنا من جس النبض أولًا.

– اذهب واطمئن، وكل شيء سيكون على ما يرام.

– الفطور يا صفية، هذه أول مرة يزورنا فيها المأمور الجديد.

– ألم أقل لك اطمئن؟!

ويذهب العمدة مهرولًا ليرى كيف دبر شيخ الخفراء الأمر، ولكن الوقت لم يتسع بعد؛ لأن يصل شيخ الخفراء إلى أول خفير، ولا بد من الانتظار انتظارًا قلقًا مليئًا بالأفكار السوداء. أي داهية ستحط على دماغه إذا جاء المأمور ولم يجد ممن طلب أحدًا؟ لا شك أنه سيقفه عن العمودية، ومن يدري من أي حزب هذا المأمور؟ لعله من الحزب المناوئ؟! ولكن ما يهم؟ إن جميع المآمير ينتمون إلى الحزب الحاكم، والحزب الحاكم هو حزب العمدة، والحمد لله لعله إذنْ شريف، يا للخراب لو كان شريفًا! إذن فهو لن يقبل أن يتناول الفطور، وإذن لن يقبل الهدايا التي سيقدمها له، ولكن كيف يكون مأمورًا شريفًا؟! إنه مأمور، ثم هم يقولون إنه مأمور قديم، أي إنه ظل مأمورًا مدة طويلة من الزمان، وهل يُعقل أن يظل مأمورًا مدة طويلة من الزمان ويظل شريفًا؟ لو أنه كذلك لكان قد فُصل منذ زمن بعيد! أو كان على الأقل قد نُقل إلى وظيفة أخرى! ولكن هب يا حضرة العمدة أنه صغير في السن، وأن تلك الأنباء التي وصلت إليك كاذبة، وأنه ما زال طائشًا مجنونًا يعتقد في الشرف ويتمسك بأهداب الفضيلة، إذن فهو متعجرف، ولن يمكن لك يا حضرة العمدة أن تتفاهم معه. وإذن فهو سيقفك، بل لعله يفعل ما هو أدهى، لعله يفصله عن العمل، يا للخراب النازل! يفصله من العمودية تلك الوظيفة التي ظل فيها عشرين عامًا، وأي مصير سيصير إليه؟ وكيف تتزوج دُرية إذن؟ ومن ذلك الذي سيتزوج ابنة عمدة مفصول؟ نعم، إن عنده خمسين فدانًا، ولكن ما خمسون فدانًا بالنسبة للعريس الذي يرجوه لدُرية؟ إنه يريد شابًّا من كبار الأثرياء، ابن أحد الباشوات، فإن تواضع فابن أحد البكوات، وما الذي يدعو مثل هذا الشاب إلى الزواج من ابنة عمدة مفصول، لا يملك من حطام الدنيا إلا خمسين فدانًا لن تزيد؟ ومن أين لها أن تزيد، وقد فُصل صاحبها من العمودية؟! ويل لدُرية من الأيام إذن لو كان المأمور شريفًا!

بل ويل لي أنا حضرة العمدة إذا كان المأمور شريفًا، ماذا أفعل؟ أيُنقل هذا التليفون الذي ظل ببابي عشرين عامًا؟ ألا يدعوني أحد إذن يا حضرة العمدة؟ ومن ذلك الذي سيُعين عمدة بدلًا مني؟ لعلهم ينتخبون ذلك الرجل الخرِف عبد الرحمن السلامي، ذلك القزم القميء، ذلك الرجل النحيل الفقير، نعم فقير، إنه لا يملك غير عشرين فدانًا، ولكنه أغنى فرد في البلدة بعدي. ويل لي إذن، لكن ما لك قد يئست إلى هذا المصير الأسود؟ إنك بعدُ لم ترَ المأمور، آه إن المصيبة هنا أنني لم أرَ المأمور حتى الآن، أكان لا بد أن أكون مريضًا حين دعا المأمور العمدة للاجتماع به؟ أما كنت أستطيع الذهاب؟ وكيف؟! أكنت أريد المأمور أن يراني متوكئًا على عصاي، ضعيفًا لا قوة بي ولا هيبة؟ ماذا كان سيظن حينئذ؟ لقد كان جديرًا إذن أن يظنني ضعيفًا غير حازم، لا أستطيع معالجة الأمور الجلائل التي تتعرض لها العمودية. كان لا يمكن الذهاب، ولكنني أرسلت تلغرافًا. أجل إنني بهذا التلغراف أعلنت إلى المأمور الجديد أنني رجل أحترم اجتماع العُمد، كما أنني غني؛ لأني أرسل تلغرافًا لا خطابًا مع خفير، كما أنني كريم؛ لأنني لم أبخل بثمن التلغراف المطول الذي أرسلته إليه. أجل، لقد كانت فكرة طيبة فكرة التلغراف هذه، وكان أسلوبه أيضًا عظيمًا. هذا الولد ابن الشيخ حسن يكتب كتابة عظيمة، ولدٌ طيبٌ فخري ابن الشيخ حسن هذا. لقد اهتم بالتلغراف اهتمامًا بالغًا، أكانت فكرته أم كانت فكرتي؟ لا إنها فكرتي، نعم هو فكر أولًا ولكني نفذتها، أجل، ألست أنا من أرس التلغراف؟ ألست أنا من دفع أجره؟ ولكن لا، إنه هو الذي دفع الأجر! نعم وهو الذي كتبه، ولكن ولكن ألست أنا على أي حال من وقَّعه؟! ولكن التوقيع لا يصل مع التلغراف! نعم ولكنه كان باسمي … النهاية كانت فكرة عظيمة، أقول في التلغراف، أعني أن فخري يقول باسمي: لمرض فاجأني واضطرني ألا أنال شرف …

وحينئذ يسمع نقير سيارة قادمة من قريب، أي نهار أسود هذا! لقد وصل المأمور ولم يصل المشايخ ولا حتى الخفراء، وما هي إلا لحظات حتى كان المأمور يترجل سيارته ذات الصندوق الضخم الرمادي اللون أمام بيت العمدة، الحمد لله أن المأمور كبير السن.

– أهلًا وسهلًا سعادة البك المأمور.

– أهلًا بك يا عمدة.

– شرفت يا سعادة البك، نورت يا سعادة البك.

– شكرًا يا عمدة.

يا عمدة! من غير «حضرة»، النهاية، اللهم اجعله خيرًا.

– لم تصلنا الإشارة إلا الآن يا سعادة البك، وقد أرسلنا في طلب المشايخ.

– أنتظر إذن.

– أظن أن سعادة البك لم يتناول فطوره بعدُ، الفطور جاهز يا سعادة البك.

– وما لزوم التعب يا حضرة العمدة؟

لقد جاءت «حضرة» أخيرًا، يومنا لبن إن شاء الله. يسارع العمدة بالإجابة: تعب يا سعادة البك؟ تعب؟ فطور سعادتك تعب؟! هذا شرف يا سعادة البك هذا تنازل يا سعادة البك … يا ولد يا عبد الهادي.

ويأتي عبد الهادي مهرولًا.

– نعم يا حضرة العمدة.

– الفطور يا ولد لسعادة المأمور، أَسرِع.

– دقيقة واحدة يا حضرة العمدة دقيقة واحدة.

وينصرف عبد الهادي يتعجل الفطور، ويجلس العمدة إلى المأمور يبالغ في التحية ويمعن في التبجيل، والمأمور يقبل في عظمة متواضعة وفي خجل متكبر، ثم هو يقول وكأنما تذكر شيئًا قد نسيه: آه لقد كنت ناسيًا لقد …

ويسارع العمدة: خير يا سعادة البك؟

– لقد نسيت أن أقول لك: الحمد لله على سلامتك.

– سلمك الله وعافاك يا سعادة البك.

– ممَّ كنت تشكو يا حضرة العمدة؟

– الروماتيزم يا سعادة البك.

– آه، هذا مرض ثقيل؟

– إي والله يا سعادة البك وليس أثقل منه إلا المأمور الذي كان قبل سعادتك.

ويظهر الغضب على وجه المأمور، ويثور بالعمدة ثورة جامحة: ماذا تقول يا عمدة؟ أهذا يليق؟

إذن فقد طارت حضرة مرة أخرى.

– العفو يا سعادة البك، أستغفر الله.

– أهذه هي الطريقة التي تتكلم بها عن رؤسائك؟

– يا سعادة البك، يا …

– ألا تعرف أن المأمور الذي كان قبلي أخي الأكبر؟

ويقول العمدة في نفسه: أنا عارف، إنه نهار أسود.

ثم يسارع إلى المأمور قائلًا: من تقصد سعادتك؟

– محمد علاء الدين.

– ولكن … ولكن يا سعادة البك، أنا أقصد … أنا أقصد الذي كان قبله ذلك الرجل الغاضب دائمًا، فرق كبير بينك وبينه يا سعادة البك، أما أخوك — حماه الله — لقد كان رجلًا بمعنى الكلمة، والله لقد حزنا لنقله حزنًا عظيمًا الله شهيد.

– آه، أنت تقصد عبد السميع بك؟

– آه، هو هذا.

– أعرفه رجل ثقيل.

وينشرح صدر العمدة، ويحمد الله في نفسه، فقد أصبح اليوم لبنًا مرة أخرى، ويقول للمأمور: ثقيل؟! ثقيل فقط يا سعادة البك؟ أعوذ بالله، سعادتك تعرفه إذن؟

– أعرفه، كان رئيسًا عليَّ، أنت محق يا حضرة العمدة.

إذن فقد عادت حضرة، أهلًا بها، ولكن مشكلة جديدة بسبيلها إلى الظهور، اللهم نجنا مما نخاف، ألم يجد صالح الكلب وقتًا للفراخ إلا الآن، طارت حضرة، لا بل طارت الفراخ، يا أخي الفراخ في داهية، المهم الآن هو العمودية، مصيبة لو كان هذا المأمور شريفًا.

ويُقبل صالح في إعجاب شديد بنفسه أن أوفى بعهده وأحضر ما وعد به العمدة من فراخ سمان … وما إن يبلغ صالح مجلس العمدة والمأمور حتى يتخفف من القفص الذي يحمله بأن يضعه في زهو أمام الجالسين …

– الفراخ يا حضرة العمدة.

– أي فراخ يا ولد؟

– الفراخ التي …

ويقاطعه العمدة في سرعة خائفة ملتاعة: اذهب الآن يا صالح، سعادة المأمور هنا، ولن أشتري فراخًا في وجوده.

وينقذ المأمور الموقف في كياسة مرنة وفي دربة واعية: والله فراخ عظيمة فعلًا يا حضرة العمدة.

وكأنما كان العمدة في غمرة من بحر متلاطم، ثم وجد نفسه فجأة على الشاطئ الأمين، فهو يسارع قائلًا لصالح: ضع هذه الفراخ في سيارة البك المأمور يا صالح.

ولكن المأمور يستر الموقف في غضبة واضحة الاصطناع، يتقنها منذ تعود أن يقبل هذه الهدايا: لا، لا يا حضرة العمدة، والله لا يمكن.

– زوجتي طالق إن لم تقبل هذه الهدية.

– يا رجل اتق الله، حرام يا رجل، الأمر لله، الأمر لله.

وبين هذه الأيمان المتبادلة كانت الفراخ قد أخذت مكانها المستقر في السيارة، وكان الفطور قد أُعد، وكانت نفس العمدة قد هدأت بعد اضطراب، فقد رضى الله عنه، وأرسل إليه مأمورًا طيبًا مثل كل مأمور عرفه قبل اليوم، والحمد لله مِن قبلُ ومِن بعد.

دخل العمدة وراء المأمور إلى المنزل، ونبت من مكان خَفي ذلك الشيء كثير الدعاء كثير الحقد «كمال»، بعد أن رأى المسرحية منذ بدئها حتى أُنزل عليها الستار في حجرة الطعام … وسار كمال في طريقه وهو يردد: يا رب أهو كثير ما أطلب؟ مجرد مسدس يا رب، أو ثمنه من أي مكان، مسدس يا رب!

٢

للكُتَّاب في القرية أثر بعيد، فمن بين جدرانه المتهالكة ومن تحت فلَقة الشيخ العنيفة، يخرج إلى الحياة صبيان تعلموا الجهل فأحسنوا تعلمه، فكل ما يعرفون من الثقافة قراءة عاجزة، وكتابة أكثر عجزًا، وهم وإن كانوا قد أخذوا على الشيخ القرآن فحفظوه، إلا أنهم أبدًا لم يفهموه، وما كان لهم أن يفقهوا منه شيئًا، والشيخ نفسه أكثر جهلًا به منهم. ويخرج هؤلاء الصبيان إلى الحياة وينظرون حواليهم فيجدون أنفسهم أكثر ذويهم علمًا وأكثرهم معرفة، فيدخل إلى نفوسهم الغرور، ولا يزال بهذه النفوس حتى يملأها لا يترك فيها مكانًا لتواضع، أو منفذًا لبعض حياء. وللغرور في هذه النفوس أشكال وأوضاع، فمن كان منهم ذا يسار ونعمة يرتكن إلى أب ذي مكان بعض ملحوظ، فغرره إذن متفجر واضح لا يُبقي ولا يذر؛ فهو هو الأستاذ الغني والعالم القدير.

ومن كان منهم غير ذي يسار، ولكنه ذو أصل دارس وغنى تشتت فأصبح فقرًا فبيته دوار وإن كان خاليًا، وأبوه محترم وإن كان فقيرًا، وأمه لا تخرج بالجرة وإنما ترسل أخته. إن كان الفتى كذلك فغروره إذن صمت، واستعلاؤه بُعْد عن سائر الفتيان.

وأما من تخرج في الكُتَّاب فلم يجدْ وراءه أصلًا، ولم يجد أمامه مالًا، فكِبره إذن خبيث، يؤديه اللفظ اللين الناعم يغلف به السم الناقع المتراكم في نفسه، وكبره أيضًا حقد مستعر وكره للعالم كله متمثلًا في قريته، يخص منها ذوي اليسار وذوي الأصل، وذوي المكان وذوي الثقافة.

ولا ينكسر الغرور في واحد من هؤلاء إلا إذا تقدمت به السن أو أتاحت له الحياة أن يكمل تعليمه، فإنه حينئذ يدرك مقدار ما كان يجهل، ويرى من حوله القوم متساوين معه إن لم يكونوا أحسن منه حالًا، فيُصاب غروره برعدة، ثم لا يلبث أن ينقشع عنه.

وقد كان كمال من هذا الصنف الأخير من المتكبرين، وقد رأينا بعض كبره عند العمدة، فما كان تزلفه الحقير إلا كبرًا، فهو يعتقد أنه بألفاظه تلك قد طوى العمدة وضحك منه، وأنه ببعض ألفاظ لا تكلفه شيئًا — فما كانت الكرامة عنده شيئًا — قد بلغ من مال العمدة ما قدر لنفسه أن يبلغ في يومه هذا.

سار كمال فرحًا بنفسه وبذكائه، متحسرًا في الوقت نفسه على هذا الذكاء الذي أبت الدنيا إلا أن تعطله ولا تتيح له مجالًا يسعى فيه، حاقدًا على هذه الدنيا البخيلة، أشد حقده على ذلك العمدة الذي يهدي الفراخ السمان ليضمن لنفسه البقاء في منصبه.

ولم يطل بكمال المسير فسرعان ما التقى بفئة من القرية لا تحس به، إلا أنه هو يعتقد أنها تبغضه وتحقد عليه؛ لأنها تخافه وتخشاه، تلك هي فئة التلاميذ أولاد المدارس.

لقد كان كمال يعتقد أن هذه الفئة تحس بمبلغ علمه وتعرف أنه يزاحمها فيما تعلموه في المدارس، وأنه بذكائه وحده غني عن تلك الكتب التي يحبسون فيها عقولهم، وهم ينفسون عليه هذا الذكاء المتوقد الذي لم يمنعه من الظهور إلا زمن غادر، وفقر مرير.

وهكذا شاء كمال أن يسخر من تلك الفئة المتعالمة، فما إن رآها حتى قصد إليها في استرخاء ساخر، وعلى فمه ابتسامة تعلَّم أن يضعها على فمه منذ رأى شيخ الكُتاب يستعملها إن أراد سخرية، وفي لسانه لفظ تعلم أن يديره منذ اتخذ الاستجداء وسيلة إلى الحياة.

– أطال الله عمركم، وأخذ بيدكم وجعل النجاح نصيبكم.

وشاء أحد التلاميذ أن يتبسط مع كمال: شكرًا يا أبا كمال شكرًا.

ولكن تلميذًا آخر يسرع بالإجابة: ولكن شكرًا هذه لا تنفع يا أبا كمال، والذي ينفع ليس معنا.

ويدرك كمال ما يقصد إليه التلميذ فهو يقول: فهل أنتم مفلسون؟

– يا رب كما خلقتنا.

– فاشرحوا لي آية من القرآن فأكون قد أفدت منكم علمًا ما دمت لم أُفِد مالًا.

– الله! أبا كمال! وهل نحن فارغون لمسامرتك؟

– أنا لا أراكم تعلمون شيئًا؟

– والله إن فراغنا أحب إلينا من أن نشغله بك.

– خذ يا أبا كمال قرشًا وتوكل على الله مع السلامة.

ويأخذ أبو كمال القرش، وقد ازداد إيمانًا أن فئة التلاميذ تخشاه وتبغضه، ولكن لا بأس بها ما دامت تدفعه عنها بالمال مهما يكن قرشًا.

ويمشي كمال ليكمل دورته اليومية، فقد كان يأخذ نفسه بالعمل الكثير ويجرب ذكاءه يوميًّا على كل فئة من فئات القرية، وقد كان لا بد له أن يدور طوال يومه حتى لا يبغته وقت الغداء خاليًا بعيدًا عن الناس. وكان لا بد له أيضًا أن يغشى الجامع ليقيم الصلاة في موعدها مع المصلين، فإن عدم الصلاة في القرية كبيرة من الكبائر التي لا تُغتفر، وهو يحب أن يترضى عقول القوم وأن ينسرب إلى قلوبهم من أي سبيل. وقد كان كمال بعد هذه الواجبات جميعًا يخلو إلى نفسه منذ الأصيل إلى الغروب في مغارة في الجبل لا يعرفها إلا هو.

وقد وجد كمال أن ثمة فسحة من الوقت قبل أن تجب صلاة الظهر، فهو إذن يستطيع أن يعرض لقوم آخرين، إن لم يصب منهم مالًا فهو على الأقل يحتسبها عليهم مرة لم يعطوه فيها، فيضطروا إلى إعطائه في المرة التالية.

وهكذا أخذ كمال يمر على الناس فيجد النفور والازدراء أغلب الأحيان، أو يجد الإعطاء الشحيح بعض الحين، أو لعله يجد — ولكن نادرًا ما يجد — سماحة في البذل، وكرمًا في اللقاء، ومهما يكن اللقاء وعلى أي نوع له، فإن كمالًا ينصرف ونظره إلى السماء داعيًا الله، نعم، الله الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر والبغي ويعظنا لعلنا نتقي. يجرؤ كمال أن يتجه إلى هذا الرحاب ليسأله «مسدس»، أداة القتل والعدوان ووسيلة المنكر والبغي، ولكن من للشرير غير الله؟ سبحانه متجه القلوب جميعًا، حتى كمال.

كل أمله أن يجد هذا المسدس أو يجد ثمنه، فإن لم يتيسر فلتكن بندقية أو مقروطة، والمقروطة بندقية جار عليها الزمن فقُطعت مقدمتها فلا هي بندقية ولا هي مسدس، ولكنها عند القتل تؤدي الغرض كما يؤديان، ثم هي تمتاز عن البندقية في أنها تختفي في الثياب، فلا يراها أحد، وعن المسدس في أنها تحكم التصويب وتبلغ الهدف في وثوق، وصاحب المقروطة فخور بها أشد الفخر، يدعي — لشعوره بنقصها — أنه قطعها خصيصًا حتى يبتعد مرماها، مخالفًا في ذلك كل ما يقول به هواة السلاح وخبراؤه، لا بأس بها أيضًا لكمال، ولكن أين هي؟

وفي «أين هي؟» هذه مشى كمال يفكر، ويُمنِّي نفسه الأمنيات ويوسع للأحلام آفاقها، ويمر بالفقير المعدم فينظر إليه نظرة الأخ في الشقاء، ويعظم في نفسه إذا ما عثر على المقروطة وتحققت الآمال أن يجعل لهذا الفقير نصيبًا من بعض ماله، ثم هو يرجع إلى نفسه يسائلها إن كانت ستسمح يومذاك، فإذا نفسه تجيبه في سرعة متوثبة أنها ستسمح، فيعود إليها يسائلها: من أين لها هذا الخير الذي تصطنعه؟ فلا تعجز نفسه عن الجواب، فما هو الخير الذي يدفعها إلى البذل، إنما هي الحاجة، حاجة؟ أأكون يومئذ في حاجة؟ نعم حاجة إلى الناس وليس إلى المال، إلى الناس! إلى الكثرة الكاثرة من الناس، فإذا سأل نفسه عن نفعها من الناس، وماذا يفيد هو من هؤلاء الذين تريد نفسه أن يضمهم إليه، ويبسط عليهم فضل عطفه وسابغ رحمته؟ حينئذ تضحك منه نفسه الضحكة الصفراء التي عرفها لها منذ امتزجا فاتفقا، ولا تسكت نفس كمال عن الجواب: ألا تعرف ماذا تريد من الناس أيها الغبي؟ ألم ترَ منصور الدفراوي كيف ينظر إليه الناس نظرة احترام وتوقير وهو القاتل السفاك؟ ألا ترى أنهم يمتدحونه ويصفونه بالرجولة والكرم؟!

– وهبي ذلك صحيحًا، ما شأني أنا بمنصور أو مهزوم فيما نحن فيه؟!

– أيها الغبي ألا تعرف أن الناس هم الذين يجعلون المجرم محسنًا، والقاتل كريمًا، وما ذاك إلا لأنه يبذل لهم فنجان قهوة أو لفة جوزة، أو كرسي دخان، فإذا ذكَّرهم واحد منهم أن هذا الذي يمدحونه قاتل وإن كان كريمًا، سارع أكثر الجالسين ينهون ذلك المتحدث قائلين له: ما لنا وما له إذا كان قاتلًا أو غير قاتل؟ المهم أنه كريم رحب اللقاء، مفتوح البيت … ألا ترى أن له بيتًا والقرية جميعها تعرف عنه أنه قاتل، ولكن واحدًا منها لا يذكر عنه شيئًا؟ وكل من في قريتنا هذه أو فيما جاورها إذا دُعي للشهادة في حادثة قتل ارتكبها منصور ذكر في جرأة وثبات أن منصورًا كان يتناول العشاء عنده، وأنه سهر معهم ليلته حتى طلوع الفجر يسمعون القرآن ويتبادلون الحديث.

وحينئذ ينتهز كمال الفرصة ليضحك من نفسه، فيطلقها ضحكة معربدة: أيتها النفس الغريرة أمني تسخرين؟ ألا تنظرين إلى قولك هذا كم هو تافه لا يسنده منطق؟ أظننت الشهادة التي يؤديها الشهود في صالح منصور، مبعثها حب هؤلاء الناس لمنصور؟

– أعرف أيها المتذاكي العبيط، إنه الخوف.

– نعم هو الخوف، ولا شيء غير الخوف.

– أعرف ذلك وما هو عني ببعيد، ولكن منصورًا يتيح لهؤلاء الشهود أن يتخذوا لخوفهم ستارًا من الرجولة، هو الخوف ما يرسلهم يشهدون في صالح منصور، ولكنهم يقنعون أنفسهم أنها الصداقة التي تربطهم بمنصور تحتَّم عليهم أن يُنجُّوه عند الشدة، ويساندوه عند الحاجة، فهم يشهدون الزور، ولكنهم يرضون الصداقة، وهم تصطك أسنانهم خوفًا منه ولكنهم يقولون: إنها تصطك خوفًا عليه.

– وما يهمني أن يقنعوا أنفسهم أو لا يقنعوها، ما داموا سيؤدون ما أريد لهم أن يؤدوه.

– هناك فرق أيها الساذج لو أرضيتهم، أو أرضيت غالبيتهم أصبح لك من بينهم عيون على أنفسهم، وأنت حينئذ تستطيع أن تتشدق في يسر، إنك تسرق ولكن المال مآله إلى الفقراء وليس إليك.

– على أية حال أيتها النفس لا بأس عندي أن أذكر هؤلاء القوم حين يفتحها الكريم ونحصل على …

وحينئذ وجد كمال نفسه وجهًا لوجه أمام الحاج إبراهيم الحسيني شيخ البلدة، فما أسرع ما نفض كمال نفسه من حديث نفسه وفرغ إلى الحاج بكله: صباح الخير يا عم الحاج إبراهيم.

– صباح الخير يا ولد يا كمال.

– إلى أين إن شاء الله؟

– وما شأنك أنت؟

– إن كان الطريق طويلًا أقطعه معك بلساني فأسليك ونتحدث حتى تصل.

– يا حول الله يا ابني، على كل حال قضا أخف من قضا، أنا ذاهب إلى دكان الحاج علي أسمع الراديو، وكان الولد أحمد أبو خليل يريد أن يصحبني إلى هناك ولكني هربت منه، وها أنت ذا تحل محله، قضا أخف من قضا.

– لك حق يا حاج إبراهيم، ربنا رحمك من ثقل أحمد، ثقيل يا حاج إبراهيم، ثقيل.

– ثقلًا لا يوصف يا كمال يا ابني، والعجيبة أنه يقول النكات ويضحك منها، ويعتقد أن خفة ظله لم ترد على بني آدم، وأنا رجل كبير لم أعد أحتمل، مرارتي يا بني لم تعد تحتمل.

– ألم يبع لك الفدان يا عم الحاج؟

– أبدًا مصمم على ألا يبيع هذا الفدان، والفدان يا كمال واقف في وسط أرضي كالعقلة في الزور.

– وكم عرضت عليه؟

– ثمانمائة جنيه.

– وكم يطلب؟

– ألفًا.

– له الحق.

– أما إنك بارد يا ولد يا كمال، الفدان في أرضي إن لم أشتره أنا فلن يشتريه أحد، وأنا مع هذا لا أظلمه وإنما أدفع له ثمانمائة جنيه، بينما لا يساوي الفدان أكثر من سبعمائة، فيستغل فرصة رغبتي فيه ويطلب ألفًا، ألفًا مرة واحدة، وتقول لي أنت له حق، أما أنك بارد مثله.

– يا عم الحاج أنت لم تعرف قصدي أنا أقصد أنه محق في أن يسوق الدلال ما دمت تعرض وتساوم.

– وماذا أعمل؟

– مر، أنت شيخ البلد، أنت والعمدة على درجة واحدة، أرسل فيه بلاغًا إلى المركز، وحين يجره العسكري يترك أربعمائة بدلًا من مائتين.

– أما إنك شيطان يا ولد يا كمال أهذا معقول؟ لا حد الله بيني وبين الفدان …

وينقطع الحديث عند هذا الحد فقد وصل المتحادثان إلى المقصد.

وقد كان دكان الحاج علي أو الحاجعلي — كما ينادونه — منتدى الصفوة المختارة من القرية، يتحلقون فيه حول الراديو ويشاركون ساسة العالم وساسة مصر في تصريف الأمور، وإن لم تكن هذه المشاركة تقف عند منتداهم هذا، إلا أنها تريح أعصابهم وتهدأ لهم خواطرهم، وتجعلهم يعتقدون أنهم أهل تصرف وقوام أمور.

بلغ الحاج إبراهيم وكمال المنتدى، وكان الجالسون هم الحاج علي الطحان، والشيخ رضوان العكلي المعلم الإلزامي وخطيب الجمعة، والشيخ عبد الودود مأذون البلدة الذي يملك فيها عشرة أفدنة كاملة في طريقها دائمًا للزيادة، وقام الجالسون يحيون الحاج إبراهيم، ولكن الشيخ عبد الودود لم يقبل أن يسير الحاج إبراهيم في صحبة كمال فهو يقول: والله طيب يا شيخ البلد، ألم تجد غير كمال ليسايرك؟

وغضب كمال لهذا التجريح من رجل لم يأخذ منه في حياته مليمًا، ولا ينتظر أن يصيب منه في حياته مليمًا، غضب كمال وكان غضبه في محله؛ فهو لا يغضب من أحد إلا إذا كان من غير المحسنين عليه، وممن لا ينتظر أن يحسنوا إليه، وقد كان الشيخ عبد الودود من هؤلاء الذين لم تكن بينهم وبين كمال معاملة، قال كمال: وما له كمال يا عم الشيخ عبد الودود؟! إن كنت لا ترحم اترك رحمة ربنا تنزل.

– ألا تعرف ما له كمال؟ شخص ضائع بلا صنعة!

– سامحك الله يا شيخ عبد الودود.

– لا شأن لك بالله.

– ولماذا؟

– لأن الله يحب العاملين ولا يحب المتسكعين الخاملين.

وكاد النقاش يحتدم، وكاد يصل بالشيخ والفتى إلى ما لا تحمد عواقبه، فلم يجد الحاج إبراهيم بُدًّا من أن يصرف كمالًا فينصرف بعد أن يقول للحاج إبراهيم: والله لأجل خاطرك يا عم الحاج إبراهيم، لأجل خاطرك فقط.

ينصرف كمال، ويقبل الحاج إبراهيم على الجماعة في إقبال على الحديث، وعلى تصريف الأمور السياسية والاقتصادية.

يترك كمال هذا المجمع الكريم من قادة القرية وزعمائها، معزيًا نفسه أن له مجلسًا آخر بين قوم آخرين يعرف لنفسه مكانًا بينهم، ومهما يكن هذا المكان قاصيًا غير كريم إلا أنه — على أية حال — مكان.

٣

في أقصى القرية بيت قائم بذاته لا يحيط به سكن، اختار صاحبه مكانه بعيدًا عن الناس، ولم يكن اختياره هذا عفوًا أو ليفكر في خالق الليل والنهار — كما يطيب له أن يقول — وإنما اختاره خصيصًا ليعصي فيه ومنه خالق الليل والنهار، معصية لا يتوقف شرها على مرتكبها، وإنما هو يبيع المعصية لكل راغب فيها، مدمن لها، متكالب عليها.

يملك هذا البيت هلال النمرود، وفي هذا البيت كان يتاجر في المخدرات، وفي هذا البيت تزوج النمرود من سلمى بعد أن أحبها، وقد بنى لها هذا البيت من المكاسب التي سكبتها عليه تجارته.

وقد ظل النمرود يمارس تجارته في بيته هذا بعد زواجه من سلمى، وظلت أمواله تتكدس وتزيد، ولكنه قابض يده فلا يُخرج منها إلا ما يُبقي له ولزوجه الحياة، وكانت زوجته تحاول جهدها أن تفك يده المغلولة تلك ولكن هيهات، فهو يحافظ على تلك الأموال حتى ينمي تجارته، فقد كانت تجارته تلك حبيبة إلى نفسه؛ فقد أكسبته مالًا وزوجة وبيتًا، بل أكسبته أيضًا اسمًا؛ فإن اسم النمرود الذي أُطلق عليه قد جاءه من تجارته، ومن مهارته في تصريف بضائعه.

لم تستطع سلمى أن تنجب لزوجها بنين أو بنات، فكانت تجارته عنده هي البنين والبنات، فلها وحدها يختزن المال، ولها وحدها يسهر الليالي الطوال ويجوب المخاطر ويغشى الأهوال.

والزوجة قابعة في بيتها فلا مال في يدها ولا ولد لها ولا زوج بجانبها، فسرعان ما زالت عن هلال لهفة الحب الأولى وأصبح لا يرى فيها إلا امرأة عقيمًا لا عمل لها إلا أن تفتح عليه أبواب الخراب.

وهكذا وجدت سلمى نفسها قد فقدت كل شيء، ولم يبقَ لها إلا تركة حواء، امرأة، امرأة عطشى إلى الحياة، مشوقة إلى الولد، مهجورة من الزوج، متجردة عن الحياة، والليل طويل والزوج بعيد، والشباب فوار، والذئاب كثير، والبيت منفرد، فخانت.

خانت سلمى زوجها ولم تجهد نفسها في اختيار الرجل، الذي لا تتم الخيانة إلا به، فالبيت في الليل مقصد زوار، والزوار لهذا البيت لا يحتاجون إلى إغراء، فهم يشترون المخدرات، وهي من تبيع لهم، والحديث بينها وبين المشتري سائر لا شك إلى الطريق. وقد كان المشتري يعرض وكانت البائعة تعرض عن كلامه، ولكنها حينما أرادت أن تخون أقبلت، وأصبح المشتري يعلم — وهو يشتري — أنها تبذل له مع المخدر نفسها، وأصبح وهو يشتري البضاعتَين يدفع الثمن لكليهما جملة، فتأخذ سلمى ثمن بضاعتها وتحفظ لزوجها ثمن بضاعته.

وظل الأمر كذلك حتى عرض لها ضمن المشترين شاب صغير، لم يقف الأمر بينهما عند البيع والشراء، بل أخذ طريقه إلى الإعجاب، فأصبحت تمنحه بضاعتها بغير ثمن، بل لقد منحته أيضًا من بضاعة زوجها دون أن تتقاضاه ثمنها، وإن كانت هي تعطي زوجها ماله كاملًا.

وجدت سلمى في هذا الشاب كل ما كانت تفقده ولا تجده، ووجد هو فيها كل ما كان يؤمل فيه؛ فقد كان الفتى يحب أن تكون له زوجة في المساء إن خلا المساء من العمل، ولا يحب أن تكون له زوجة في الصباح مهما يكن صباحه فارغًا، إلا أن سلمى كانت تريد لنفسها زوجًا دائمًا لا يريم عنها في صباح أو مساء، فهي تطلب إلى هذا الفتى أن يتزوجها فيقول: كيف، وزوجك؟

– وما شأنك؟

– أيطلقك؟

– وهل لا بد له أن يطلقني حتى تتزوجني أنت؟

– إذن فما معنى طلبك هذا؟ ألا أتزوجك أنا في كل ليلة؟

– معناه أن نعيش معًا في الصباح والليل.

– وأين يمكن أن نعيش معًا؟

– في أي مكان.

– نهرب معًا إذن!

– ولم لا؟

– والله …

– أنت متردد.

– لا أرى داعيًا لهذا، فنحن هنا مبسوطون والحمد لله، لا ينقصنا شيء.

– لا ينقصك أنت.

– فما ينقصك أنت؟

– رجل.

– ألا يكفيك رجلان؟

– تقصد نفسك وزوجي؟

– ألسنا رجالًا؟

– أما هو فلا وجود له على الإطلاق، وأما أنت …

– نعم، وأما أنا …؟

– وأما أنت فلا تأتي إلا مع الظلام، ولا أراك إلا في نور المصباح الباهت.

– وفيم تهمك رؤيتي في نور الصباح؟

– أريد أن أملكك جميعًا، أريد كلك، أريد أن أحس بالرجل الوحيد الذي أحببته، أريد نفسي أن تطمئن إلى هذا الركن الذي اخترته لحياتي، أريدك.

– وكيف نصل إلى هذا الأمل وأنت زوجة لرجل آخر؟

– زوجة لوهم مضى وحلم تبدد، لا أراه — حين أراه — إلا وهو يعد نقوده، ويسلم بضاعته، أو يتسلمها.

– ولكنكِ على ذمَّته!

– وما يهمك؟

– أخاف أن يتعقبني.

– أتخاف أنت ولا أخاف أنا؟

– أنت تريدينني جميعًا، وأنا لا أريد منك إلا ما أنال.

– أيكفيكِ هذا مني؟

– وهل هناك أكثر من هذا؟

– نعم هناك.

– ماذا؟

– أموال وفلوس، نهرب معًا، ونتاجر معًا.

– وزوجك؟

– ألا تزال خائفًا؟

– والله مسألة الفلوس هذه …

– ما لها؟

– عظيمة.

– إذن.

– متى نهرب؟

وهربت الزوجة مع بضاعتها جميعًا من مخدرات وآدميين، وعاد الزوج فوجد البيت خاليًا، فخرج يسأل الناس عن زوجته فوجد بلاهة عن الإجابة وخوفًا من الإفصاح، وطالعه من وجوه الرجال إشفاق فيه كبر، ومن وجوه النساء بسمة فيها اعتزاز وفيها ألم، ولكنه التقى بالاحتقار من الرجال والنساء جميعًا، ومن ضجيج البلاهة والخوف والإشفاق والكبر والعزة والاحتقار عرف النمرود الإجابة، ولم يَعُد إلى بيته، بل لم يقم في البلدة جميعًا وإنما تركها من فوره، ولم يعد إلا بعد ثلاثة أشهر وفي يده جريدة تتحدث عن امرأةٍ قتيل لم تُعرف شخصيتها. وراح هو يؤكد أن هذه القتيل هي زوجته، وأما القاتل فقد كان يترك لذكاء سامعه أن يستنتجه.

وهكذا، جعلت هذه الأكذوبة من خزيه فخارًا، ومن خجله تبجحًا، ومن هربه عن القرية إقامة فيها مطمئنة، يحيط به من كل مكان تملُّق راجف واحترام مذعور.

عاد النمرود إلى بيته القائم في أقصى القرية، وجعل منه منتدى لأبناء الليل يجتمعون فيه على غابة تغيب بهم عن الوعي.

وكان العمدة على علم بهذا المنتدى، ولكنه يُغضي عنه عينًا مشغولة بالمأمور والمعاون والرشاوي الصادرة عنه أو الواردة إليه.

وكان منصور الدفراوي كبير مجرمي الناحية هو زعيم المنتدى، يتحلق حوله المعجبون والخائفون من سيرته، والمتملقون الذين يريدون أن يتقنوا فن النفاق ويمرنوا عليه، ولكن هؤلاء جميعًا كانوا يلمون بالجلسة فلا يلبثون إلا قليلًا ثم ينفضُّون عنها، وتخلص الجلسة إلى الأربعة الزعماء؛ منصور الدفراوي، وهلال النمرود، والزهار عبد السيد، ونور الكحلة.

أما منصور فهو القاتل المحترف، وأما هلال فهو الزوج الذي انصرفت عنه زوجته والذي ادعى أنه قتلها، وأما الزهار ونور فنحن في طريقنا إلى الالتقاء بهما.

فالزهار فلاح قديم دخل القرعة العسكرية، ولكنه ما لبث أن قضى فترة الخدمة العسكرية في الحبوس؛ فقد تعوَّد منذ كان فلاحًا أن يسرق المالك ما أمكنه إلى ذلك سبيل. أما اليوم وقد دخل العسكرية فإنه لم يجد مالكًا ليسرقه إلا الحكومة والزملاء، فسرق من كليهما وتعوَّد الحبس، ولم يتعود من العسكرية إلا اللمم؛ فقد تعلم كيف يصيب الهدف، وتعلم كيف يسير في دقة وكيف يميل بالطاقية الصفراء، وكيف يفتح الزر الأول من أزرار الجلباب، وتعلم من العسكرية أنه لن يُمسك بالفأس مرة أخرى، وتعلم من العسكرية العجز الكامل عن أي عمل يمكن أن يُعهد به إليه، اللهم إلا الوقوف في الطابور. ولما كان الزهار لا يجد طابورًا خارج العسكرية، ولما كان لا يجديه نفعًا طاقيته المائلة أو زره المفتوح أو مشيته المنتظمة، فإنه لم يجد عملًا آخر الأمر إلا السرقة التي كانت عنده — قبل العسكرية وأثناءها — هواية، فجعل منها احترافًا وانضم إلى جماعة المخدرات مساعدًا للنمرود في تجارته، وعضوًا في منتداه، ولكن تابعًا وليس متبوعًا ينفذ الأوامر ولا يصدرها.

وقد قامت بينه وبين سعدية أم الخير قصة حب، كان هو الطرف الوحيد فيها، فلم تكن الطاقية المنحرفة ولا الزر المفتوح ولا المشية المنتظمة ولا إجادة التصويب، لم يكن شيء من هذا ليغري سعدية به، ولكنه أصر على حبها فلم تبالِ هي ولا أبوها إصراره، وتزوجت من صالح أبي سعد الله.

وأما نور الكحلة فهو رجل حديث التخرج من سجن المديرية، ولقد سُجن في واحدة من جريمتين إحداهما يرويها هو والأخرى ترويها ملفات القضية القابعة في المحكمة، والتي لا يطلع عليها إلا المعنيون بالأمر، أما التي يرويها هو فهي أنه كان يحب فتاة تسكن في جواره بالبندر، وكانت البنت لعوبًا تحب أن يُعجب الناس بها، وكان هو يرقبها ليل نهار، فحين عرف القوم أنها لا تسير إلا وعينه رقيب عليها، انفضوا عنها وتركوها خشية عيونه الرقيبة وجبروته وعنفه وخشية سطوته وسلطانه؛ فقد كان ساعي الباشا المدير، حتى كان يوم وقعت فيه مشادة بينه وبين ولد تافه يعمل كاتب حسابات في المديرية، فاغتاظ منه الكاتب وأراد أن يفجعه في أعز شيء لديه، فتقدم للجارة يخطبها، فلم يجد نور بدًّا من أن يطلق الرصاص على الكاتب ولكن الرصاصة أخطأته؛ لأن السلاح كان قديمًا، فحُبس نور، تلك هي رواية نور.

وأما الحقيقة فهي أن نورًا كان يعمل ساعيًا بمكتب المدير حقًّا، ولكنه لم يحب فتاة ولم يطلق رصاصًا، وإنما سرق حافظة المدير في أول الشهر وعاش المدير شهرًا يقترض، ولم يتمكن نور من إخفاء الحافظة بعد أن صرف النقود، فقُبض عليه وأُودع السجن، وشُددت العقوبة، لا لأن الحافظة حافظة المدير، ولكن لأنه ساعي المدير، وكان المفروض أن يكون أمينًا على الحافظة لا سارقها.

وعاد نور إلى القرية يعيش على ريع فدان وعشرة قراريط جمع ثمن أغلبها من نفحات القوم في المديرية، تلك التي كانت تُعطى له عن كرم، أو تلك التي كان يختلسها اختلاسًا كلما غفلت عين صاحب مال عن ماله.

تلك هي الجماعة أكاد أكون قد ألممت بها جميعًا لم أترك منها أحدًا، وإن كنت قد تركت شيئًا لم أذكره فما أظنني قد أسقطت جليلًا ولا أغفلت أمرًا ذا بال، وهل كانت تلك اليد الدائرة بالمخدر إلا يدًا تمتد عن كمية من الهمل تنظر إليها الجماعة أو لا تنظر، فهي بقعة في الأرض لا تزيد، فأسرار الجماعة كلها تُدار على مسمع من هذا الشيء، يكادون لهوان شأنه لا يُحسُّون أن معهم خامسًا، فجرائم القتل أو السرقة أو تجارة المخدرات جميعًا تُلقى، ويُخيل لأعضاء المنتدى أنها تُلقى في الأرض، فما كانوا يحسون أن في وسطهم أذنًا تسمع، ألم أقل لك إنهم ما كانوا يُحسون بصاحب الأذن جميعًا؟ فكيف بأذنه؟!

كان ذلك الشيء هو كمالًا، وكان في جلسته تلك يقدم إلى نفسه أمتع ما تتمتع به نفسه، فلم يكن أحب إليه من تلك الجلسة يستمع فيها إلى هؤلاء الجبابرة وهم يروون أفاعيلهم وكيف نجوا منها، ولم يكن كمال غبيًّا كل الغباء؛ فقد كان باستطاعته أن يعرف الكذب من الصدق فيما يقولون، ولكنه كان يطلق إعجابه الضخم بأعمالهم جميعًا ما وقع منها وما لم يقع، وقد كان مديحه شيئًا مفروضًا في الجلسة، ينتظره كل منهم ولا يجيب عليه، وإنما يستقبله في صمت فرحان، ويمضي فيما كان يقول وكأن أحدًا لم يمدح، أو يقاطع، أو يبذل أقصى غايات الجهد ليبلغ بنفاقه إلى أروع الإتقان.

هذه هي الجماعة التي كان ينضم عليها بيت النمرود في كل مساء.

وكان قد مضى على الجماعة عدة أمسيات لم تَشرُف فيها بجلسة الدفراوي في صدرها، وكانت الجماعة تقول فيما بينها إن لديه مأمورية في بلدة ما.

حتى كان ذلك اليوم فإذا هم يتناقلون فيما بينهم أن الفرماوي قد قُتل، فيسأل الكحلة: قُتل؟ من قال؟

– أنا كنت في الزمارنة، كنت أبيع بيعة إلى الطحاوي وعرفت أنه قُتل.

– إذن فالدفراوي نجح في مهمته!

– وهل كنت تشك في هذا؟

فقال الزهار في اعتزاز: يد الدفراوي قاعدة لا تخيب أبدًا.

فقال كمال: تسلم ويسلم صاحبها البطل. قل لي يا زهار، من منكما أمهر في التصويب أنت أم منصور؟

ويقول الزهار: أظن أنني أمهر؛ لأنني تعلمت التصويب على أصوله في العسكرية.

فقال نور: لا بد أن الدفراوي سيأتي الليلة.

فقال النمرود: حتمًا، فهو يجيء إلى هنا بعد كل حادثة.

فقال الزهار: ولكن السلاح الذي يحمله في هذه المرة ليس سلاحًا رخيصًا، وأخشى أن تضطره المحافظة عليه إلى حمله مدة طويلة فيُضبط معه.

فقال النمرود: ومن الذي يضبطه معه؟ الحكومة؟! ما أحب إليها أن تتخلص من الفرماوي، والرجل الذي استأجر الدفراوي رجل يحمي رجاله.

فقال نور: لطيف بك حماه الله رجل قليل المثال، ولكن لماذا غضب على الفرماوي؟ ألم يكن من رجاله؟

فقال النمرود: كان، وكان لطيف بك يترك له ريع خمسة أفدنة، فلما قتَلَ له بهجت الدلموني دخله الغرور وراح يطالب لطيفًا بعشرة أفدنة، وهدده بأنه سيخبر أهل الدلموني، لطيف بك — طبعًا — لم تعجبه الحال، أرسل لصاحبنا دون أن يعلم الفرماوي.

وقبل أن يسأل نور سؤالًا آخر دخل منصور الدفراوي جامد الوجه يغطي مشاعره بكثير من الزهو واللامبالاة، واستقبله الأعضاء بكثير من الإكبار والتحايا، وراح كلٌّ منهم يهنئه بهذا النصر الجديد الذي أحرزه، ولكن الزهار لم ينسَ موضوع السلاح، فهو يسأل الدفراوي: كنت في كل مرة ترمي السلاح في الترعة، ولكن سلاحك في هذه المرة من النوع الغالي.

– والله لم يهن عليّ.

– فماذا فعلت به؟

– وضعته في التلفيعة وخبأته في المقابر.

– وهل قتلت الفرماوي عند الجبانة؟

– والله الرجل كان صيدًا سهلًا، طلبت إليه أن نخرج لنتمشى قليلًا فقال: والله يا منصور لولا أنك أخي ولا أشك فيك أبدًا ما خرجت معك، فقلت له لماذا؟ قال الرجل — يعني لطيفًا بك — في هذه الأيام يكرمني إكرامًا غير معقول، طلبت أن يعطيني عشرة أفدنة فأعطاني خمسة عشر، طلبت جاموسة فأحضر لي جاموستَين، وأنا عارفه، ويُهيأ لي أن المسألة فيها شيء، فقلت له: وماذا فيها؟ ألست رجله وواجب عليه أن يكرمك؟

ودار بيننا الحديث ولم يلتفت إلى الطريق حتى وصلنا إلى الجبانة، فإذا الفرماوي يقول: الله إلى أين يا منصور؟ قلت: إلى هذه. قال: وما معنى مجيئنا للجبانة يا منصور؟ قلت له: كلنا لا بد من مجيئنا إلى الجبانة يا فرماوي، كل إنسان لا بد أن تكون الجبانة آخرته. قال: لا أفهم كلامك. قلت له: أفهمك. وأخرجت المقروطة من تحت الجلباب، حاول أن يمسك بها، كنت أنا قد أطلقت العيارَين في قلبه، أراد أن يقول عملتها يا منصور فلم يكمل «منصور» وودع.

فصاح كمال على الفور وكأنما كان يضع الكلمة على شفتَيه: «سبع يا ابني سبع والله!» وصاح النمرود: «يا سلام يا ولاد لو ذقتم لذة العيار الخارج من ماسورة بندقيتك لقلب عدوك، يا سلام يا ولاد … مريح.»

وحينئذ رأى الزهار حشرة سوداء تمر بجانب حذائه فهم بقتلها، فسارع الدفراوي ينهاه قائلًا: اتق الله يا شيخ، ماذا عملت لك؟ لماذا تقتلها؟ اقذف بها بعيدًا ولا تقتلها.

وتصايح الجالسون إعجابًا بشفقة الزعيم الدفراوي.

ولكن نورًا لا يزال يختزن أسئلة لم يفرغها فعاد يسأل: ولم يسمع أحد انطلاق البندقية؟

فقال منصور: الطلقات كثيرة في هذه الأيام، فالخفراء يحرسون القطن ويطلقون الأعيرة في الهواء لإخافة اللصوص.

فقال الزهار: والله فلوس تُرمى في الهواء، وهل يخاف أولاد الليل من أعيرة الهواء؟!

فقال نور: وأين قضيت ليلة البارحة؟

فقال منصور: قضيتها في دوار عمدة الفرايحة.

فقال النمرود: ونِعم الرجل، لا يمكن أن يعترف بشيء أبدًا، لا بد أنهم سألوه اليوم.

فقال منصور: إنني قضيت اليوم كله معه.

فقال نور: فأُفرج عنك في الحال.

فقال الزهار: إنهم لم يقبضوا عليه.

فقال منصور: بل قبضوا عليَّ.

فسأل النمرود: ولماذا؟

فقال الدفراوي: المباحث سمعت من البلد أنه خرج معي، وحاولت أن أعرف مَن هذا الذي أخبر المباحث فلم أستطع الاهتداء إليه، ولكني وراءه لن أتركه ابن الكلب، عشنا وشفنا الدفراوي يشي به الناس.

فصاح كمال: جاءك الموت يا تارك الصلاة، إنما قل لي يا أبا الرجال، كيف ستصل إلى المقروطة إذا أحببت أن تصل إليها؟

ولم يشأ منصور أن يجيب كمالًا، فقد رأى أنه في هذه اللحظة بالذات أكبر من أن يجيب أي إنسان، فما الخطب إذا كان السائل كمالًا؟ ولكن نورًا أُعجب بسؤال كمال فأعاده على النمرود، فأراد أن يسكت فألح عليه نور بالسؤال، فقال في مزاح قريب كل القرب من الجد: والله يا أولاد الكلب إذا ضاعت المقروطة لألزمن ثلاثتكم بدفع ثمنها. وضحك الجميع في فرح غامر أن منصورًا يمزح، ولكن كمالًا في هذه المرة لم يضحك فقد كان ملهوفًا إلى سماع ما سيقوله منصور، وتكلم منصور أخيرًا: طيب سأقدم تعميرة على حسابي لمن يقول بماذا مَيزتُ مكان المقروطة.

واشتد السرور بالجماعة من هذا التبسط، وراح كل منهم يعرض ذكاءه، ولكن منصورًا قال في آخر الأمر: كلكم حمير، ألم يتذكر واحد منكم أن أختي مدفونة في جبانة الزمارنة، وضعت المقروطة مع أختي، أختي الحديد مع أختي من أمي وأبي.

وانطلقت ضحكة عالية قوية من هذه المقابلة الرائعة التي افتر عنها ثغر البطل، وفي هذه المرة كانت ضحكة كمال أشد قوة وأعلى ضجيجًا من ضحكاتهم جميعًا، إنها تحمل الكثير عن صدره، وإنها تبدأ به عهدًا جديدًا، وإنها أيضًا — ولو أن هذا لم يصبح ذا أهمية كبيرة — تتملق البطل القاتل.

٤

كان الطريق إلى القرية خاليًا لا يسير فيه أحد؛ فقد كانت الساعة الثالثة من عصر يومٍ حار شديد الحرارة، ولم يكن هذا موعد عودة الفلاحين من الحقل ولا ذهابهم إليه، وكأن الشمس قد وعدت الطريق في يومه هذا أن تريحه من دائسيه ساعات طويلة من النهار، فهي ترسل أشعتها القاسية فتفي بوعدها للطريق، إلا أن الطريق لم ينعم طويلًا بهذه الدعة التي هيأتها له الشمس؛ إذ ما لبث أن بدا في أوله شاب طويل القامة يسير في همة توشك أن تصبح لهفة، ولا يلبث هذا الفتى أن يقترب رويدًا، فإذا هو متناسق القسمات، قوي الملامح أبيض الوجه، دقيق الفم، وامض العينَين، إن رأيته وهو يستقبل الأفق ورأيت هذا الطيف من الابتسامة الذي يترقرق على شفتَيه خُيِّلَ إليك أنه فتًى في طريقه إلى هواه، فإن أدركت ذلك فلا تظلم ذكاءك فإنك محق أنه فتى في طريقه إلى هواه.

ليس هذا الفتى غريبًا عليك فقد أطلعتْك عليه حيرة العمدة حين كان ينتظر المأمور الجديد، وحين كان يفكر في تلك البرقية التي أرسل بها إلى المأمور ليعتذر إليه لمرضه من عدم حضوره جمعية العمد، أذكرت الآن الفتى؟ ما أخالك فعلت، إنه فخري ابن الشيخ حسن، فمن فخري؟ ومن الشيخ حسن؟

الشيخ حسن رجل من وجوه القرية قريب إلى العمدة كل القرب؛ فقد جمعتهما ملاعب الطفولة وفلقة الشيخ في الكتاب، ثم صحن الأزهر في القاهرة، ثم عودتهما دون أن ينالا شهادة، ثم جمعتهما من بعدُ الحياة في القرية، فكانا يواجهان الشدائد معًا حتى تنحسر، فإن هي تركت عليهما بعض آثار امتدت يد كل منهما تمسح عن أخيه أثر الشدة حتى تزول، وكانت هذه اليد تمتد بطبيعة لا أثر فيها لكلفة؛ فكأنما هي تذود عن صاحبها — لا عن صديق صاحبها — شرًّا وقع أو يوشك أن يقع، وكلما مرَّ بهما الزمان توثق ما بينهما من ود، وكم حاول ذلك الزمان بالأشرار من أبنائه أن يفسد ما بين الصديقَين، ولكنها صداقة تأبت على الزمان وأشراره، وصمدت لا تلين.

وهكذا عرف الناس الشيخ حسن على أنه الصديق الأول للعمدة، فإن أراد واحد من أهل القرية أن ينال العمدة بشر احتشم أن يفعل على مسمع من الشيخ حسن، فقد تعودوا منه — إذا فعلوا — شدة في الرد وعنفًا في الإجابة.

وكذلك كان الأمر مع العمدة إن حاول محاول أن ينال من الشيخ حسن على مسمع منه، وقد يلين العمدة إن انتقده أحد، وقد يلين الشيخ حسن إن لامه لائم، ولكن واحدًا منهما لا يلين ولا يسكت إن ذُكر الآخر أمامه بنقد أو لوم.

ولم يكن الشيخ حسن في مثل يسر العمدة، ولكنه كان مستور الحال، له في أرضه ما يسد حاجته. وقد كان الشيخ حسن ذكيًّا يعرف أن ماله إذا قُسم بين ولدَيه فهما إلى الفقر، فرأى أن يجعل الأرض من نصيب الأكبر والعِلم من نصيب الأصغر، وبرر هذا التقسيم لنفسه بأنه سينفق على الأصغر مالًا جسيمًا مما تنتجه الأرض، وهو في إنفاقه هذا إنما يعدو على حق الأكبر في النفقة، فهو لذلك سيعوضه عما فاته بأن يجعل رأس المال كله حقًّا مباحًا له بمجرد أن يتم الأصغر تعليمه.

وقد كان صلاح هو الأكبر وفخري هو الأصغر، وكان فخري هو صاحب العلم في تقسيم أبيه، وهكذا وجد فخري نفسه يُقاد إلى المدرسة منذ لا يذكر متى، ومنذ ذلك الحين الذي لا يذكره كان يذهب فخري إلى دوار العمدة مع أبيه حينًا أو مع صحابته أو منفردًا، وكان يلقى هناك جمعًا من الأطفال، وقد اتخذوا من باحة الدوار ملعبًا يسع كل ما يعنُّ لأذهانهم الطفلة من ألعاب، فمن كرة تُضرب باليد، إلى كرة تُلقف، إلى كرة تنتاشها العصيُّ المعقوفة بألوان من الزجر والضرب والإلقاء، إلى جري لا يعرف هدفًا، إلى جري هارب من الإمساك، إلى وضع غمامة على عينَين، إلى غير ذلك من مراح الطفولة والصبا.

ومنذ ذلك الحين الذي لا يذكره عرف فخري دُرية، ومنذ ذلك الحين أحب فخري دُرية، أكان حبًّا ذاك؟ إنه اليوم يعلم أنه الحب، ولكن أكان إذ ذاك حبًّا؟ لم يعد يدري! لقد شب هو عن مدرسة القرية وعن باحة الدوار، فوجد نفسه يحب دُرية حبًّا لم يفجأه، وإنما وجده معه كما وجد معه عينَيه وقلبه، لا يعرف كيف بدأ ولا يذكر متى.

ولكنه يعرف أن هذا الحب عوَّده أن يكون السابق دائمًا، فلم يكن يقبل أن تسمع دُرية عنه أنه تخاذل في ميدان أو سُبق في مضمار، فهو في دراسته أول فصله، وهو في احتفالات القرية خير خطبائها، وهو في أبناء البلدة خيرهم، إن تحدث يجهد كل الجهد أن يقتسر المديح اقتسارًا، ويجهد كل الجهد أن يأخذ هذا المديح طريقه إلى أذن دُرية.

لم يعرف عنه أحد أنه انحدر إلى شر، فإن أحدق به الشباب لينزلق به عرف كيف يمنع كل شائبة أن تلحق باسمه إذا ما ذُكر اسمه عند دُرية.

وقد كانت دُرية تلقاه وقد أحاطت باسمه عندها كل هذه الهالة التي أقامها حول نفسه، فتُذكي حبها له بإكبار، وكان الشباب قد حال بين اجتماعهما منفردَين بعلم من الآباء والأمهات، ولكن هذا الشباب نفسه مهَّد لهما اللقاء المختلس في ستار من الليل ووقار من العفة.

كانا يلتقيان في باحة الدوار نفسها هناك تحت شجرة أظلتهما وأظلت حبهما شابَّين، والليل هاجع والعيون مغمضة إلا أعينهما، والرقيب بمنأًى إلا رقيبًا أقامه في نفسَيهما أمل في الغد والزواج، وماضٍ من الطفولة والملعب يحمل لهما في طواياه أنقى الذكريات.

كان حديثه يدور عن المدرسة ثم عن الكلية، وكان حديثها يدور عن أتراب الباحة من اللاعبين وما صارت إليه أمورهم، فكانت تجد في حديثه الدنيا التي لم تعرف عنها إلا ما تقرؤه فيُخيل إليها أن صاحبها أحاط بكل شيء علمًا، وكان حديثها عنده أعمق من علم كل عالم عرفه أو لم يعرفه.

ثم ينتهي اللقاء بوعد على اللقاء، حتى إذا انتهت الإجازة انتهى اللقاء بوداع تشتبك فيه الأيدي وتتصافح القلوب وتتعانق الأرواح، يفصل بين الجسدَين أمل في الغد والزواج، وماضٍ من الطفولة والملعب يحمل لهما في طواياه أنقى الذكريات.

هكذا كان فخري يقضي أمسيات إجازاته، وهكذا استطاع فخري أن يطارد الزمن في تعليمه، فهو في الطليعة الأولى من الناجحين كل عام، حتى بلغ السنة الثالثة في كلية الحقوق وأدى الامتحان وعاد إلى القرية.

وعاد إلى الأمسيات الحالية في باحة العمدة، إلا أن الحديث من دُرية لم يعد طلقًا كما كان، وإنما تُمسكُه عن الجريان غصة فيه مترددة بين الظهور والاستخفاء، يحيط بها حياء وخوف وإشفاق وهوًى. ولم يكن عقله ليدرك هذه المعاني، ولم يكن عقله بمُطيق أن يصل إلى منابت تلك الغصة، ولكن قلبه أحسها حين كان كلامها يصل إلى قلبه. كان يجد بالحديث حصًى وهو يعرفه صافيًا، ويجد به رواسب ألمٍ وهو يعرفه نقيًّا طلقًا مصطفق المجرى حلو الأرانين.

– دُرية؟

– هه.

– أنت تخفين شيئًا.

– نعم.

– ولم تخفينه؟

– لا بد أن يختفي.

– حتى عني؟

– عنك بالذات.

– لعلني أدركه.

– ما أظن.

– بل إني أدركه.

– لا عليك فلنعد إلى حديثنا.

– ويل للزمان.

– وما فعل الزمان؟

– سرقنا، سرق طفولتك وطفولتي، فما عدنا نحس الأيام وهي تمضي، غفلنا عن الأيام ولم تغفل، أشرفت بك على النضوج وأنا بعدُ لم أنل تلك الورقة التي تؤكد أنني استويت، وأصبحت لك أهلًا.

– لا أفهم ما تقصد إليه.

– ومتى جاء الخاطب؟

– بل لم يخطبني أحد.

– فهناك من يسعى إلى خطبتك.

– ولا ذاك.

– فما الذي تخافين؟

– خوف.

– مم؟

– من الغد.

– وما في الغد؟

– ما أخشاه.

– وما يدعوك للخشية؟

– حديث أبي.

– أبوك! ماذا يقول؟

– يقول …؟

– نعم.

– يقول … يقول أريد يا دُرية أن أزوجك من ابن الحلال، وأريده وافر الغنى، وأريد لك بيتًا، بل قصرًا في القاهرة، ما رأيك يا دُرية؟

– وبماذا تجيبين؟

– بالصمت.

– بالصمت؟!

– وماذا يمكن أن أقول؟!

– لا، أما أنتِ فلا تقولي شيئًا، إنه أنا من سيقول …

– وماذا تقول؟

– غدًا تعرفين.

ويقوم فخري من مجلسه والدموع تتواثب في عينَيه، وتنثني دُرية إلى حجرتها حائرة لا تدري أأصابت أم أخطأت بحديثها.

ويصل فخري إلى منزله فيجد أباه ما زال صاحيًا ويجد أمه وأخاه نائمَين، فينتهز الفرصة السانحة ويجلس إلى أبيه لا ينطق، حتى يسأله الأب: ما لك يا فخري؟

– لي أمل عندك يا أبي.

– فقله.

– أريد أن أخطب.

– وما له، ما أحب إليَّ أن أراك متزوجًا سعيدًا في بيتك، ولكن ألا تنتظر حتى تأخذ الشهادة الكبيرة؟

– ولكن من أريدها لن ينتظر عليها الخُطاب حتى أنال الشهادة، وأنا أريد أن أخطب فقط ثم أتزوج عندما أتم تعلمي.

– والله يا ابني لا أرى مانعًا، ومن هذه الفتاة التي لا ينتظر خُطابها؟

– دُرية بنت العمدة.

– نِعم من اخترت يا بني إنها فعلًا لن تنتظر، الحبيبة بنت الحبيب، نِعم الخيرة يا بني.

– فمتى تخطبها يا أبي؟

– كما تشاء.

– غدًا؟

– غدًا.

– ولكن …؟

– ماذا؟

– ألا يحسن أن تنتظر حتى تظهر النتيجة، وأنقل إلى السنة الرابعة؟

– وهل في نجاحك شك يا فخري؟ إنك من الأوائل دائمًا.

– ولكن يا أبي عندما أكون في السنة الرابعة أكون قريبًا من التخرج، وتكون مناسبة معقولة للخطبة، وأنت تخبر عم الشيخ زيدان بنجاحي.

– والله يا ابني كلام معقول.

– غدًا سأسافر إن شاء الله ولن أعود حتى أعرف النتيجة، وأجيئك بخبر نجاحي إن شاء الله.

– وهو كذلك يا ابني على بركة الله.

ويقوم فخري إلى فراشه فيراح إليه يكاد لا يستقر به من فرح غامر راح يتواثب في حنايا قلبه، يحاول أن ينام فتذود عنه النوم تلك السعادة العنيفة التي انتهت بها ليلته، فيدافع القلق عن عينَيه بما جرى له في ليلته تلك، فلا يزيده ذلك إلا قلقًا، فيُقبل على هذا القلق يكاد يعانقه فرحًا به هو أيضًا، فما عاد يضيق بشيء حتى بتلك العيون المفتحة وخيوط الفجر توشك أن تنسج بردها من الصباح.

ويسافر فخري في أول وسيلة تصل به إلى القاهرة، وتمضي أيام ثم ما يلبث أن يعود إلى هذا الطريق المؤدي إلى قريته فيدوسه بأقدامه، ويكسر بذلك وعد الشمس الذي بذلته للطريق ألا يدوسه أحد في هذا الحر القائظ، ولكن ما لفخري ولهذا الوعد! إنه عائد إلى قريته يحمل في جنبيه أمل حياته ما مضى منها وما هو في مطوي الغيب خبيء.

لقد نجح فخري في الامتحان وهو اليوم عائد لينقل بشراه إلى … إلى من؟

أيميل إلى دُرية فيحتال للقائها بكل سبيل ثم يلقي بين يديها نبأ انتصاره؟ أم يقصد من فوره إلى أبيه فيستنهضه إلى العمدة ليخطب دُرية؟ تكاد الحيرة تقلق الفرح الغامر الذي يتواثب في كيانه جميعًا، ولكن قليلًا ما تلبث هذه الحيرة؛ فقد انتصرت دُرية، وهل يمكن إلا أن تنتصر.

دوار العمدة صامت لا صوت به ولا حركة حوله، فالجميع لاجئون إلى سقف يدرأ القيظ عنهم، انفتل فخري إلى باحة الدوار وأجال نظره في مراح الصبا وملتقى الهوى، فما وجد غير تلك الشجرة التي أظلت الطفولة والشباب، والتي يطل عليها الشباك ذو المصراعَين الخشبيَّين اللذَين يقفلان على أعواد من الحديد الأسود.

يلجأ فخري إلى ملاذه القديم من ظل الشجرة، وينقر الشباك نقرات لا تكاد تنتظم ولا تكاد تبين، وتطل دُرية: من؟ فخري هل جئت؟

– نعم.

– الدنيا نهار، وللناس عيون!

– غبت عنك أيامًا كثيرة، وعندي أخبار لا تعبأ بالدنيا ولا بالنهار ولا بالناس ولا بالعيون.

– خير؟

– نجحت في الامتحان وأصبحت في السنة الرابعة.

– والنبي؟ مبروك، مبروك يا فخري.

– مبروك لا تكفي.

– وماذا تريد؟

– ألا تعرفين معنى نجاحي هذا؟

– معناه أنك أصبحت في السنة الرابعة.

– ومعناه أن أبي سيجيئ إلى أبيك.

– إلى أبي؟

– نعم.

– ولماذا؟

– لماذا؟ ألا تعرفين؟

– أظنني أعرف.

– فما لك لا تطيرين من الفرح؟! ما لك لا تكسرين هذا الحديد الذي يحول بيننا؟! أراك واقفة لا تزالين، دُرية ما لك مطرقة؟!

– أخاف يا فخري!

– مم؟

– إن أبي يحلم أحلامًا كبيرة لا أريدها أن تتحقق، ولكن أخشى أن يرفض اليوم ما نهفو إليه وينقطع ما بيننا، وأفقد حتى الأمل الذي أحيا به.

– أبوك يرفض طلب أبي! ألا تعرفين ما بينهما من صداقة؟

– أعرف ولكن أخشى.

– فدعي الخشية الآن وافرحي معي.

– أرجو أن أفرح.

– فافرحي.

– الله لنا يا فخري!

– يا شيخة لقد أفسدت فرحتي بتفكيرك.

– أنت محق يا فخري؛ فالتفكير — على أي لون له — يفسد الأفراح، ولكن لا عليك، اذهب أنت الآن إلى أبيك، ولندعُ الله أن يحقق آمالنا.

– إن الله أرحم من أن يفرق بيننا.

– قادر على كل شيء يا فخري.

– طيب أشوفك في المساء إن شاء الله.

– إن شاء الله.

ويمضي فخري إلى أبيه، وقد تطامنت فرحته بعض الشيء، يفكر في دُرية وفي صداقة أبيه لأبيها، وفي نجاحه، وفي مديح الناس له وفي المستقبل الذي ينتظره، وفي حبه لدُرية وحبها له، فإذا أراد عقله أن يجمح به إلى قلة ماله رد عقله في عنف عن هذا التفكير السخيف، وما المال أمام الصداقة والمديح والمستقبل والحب؟

٥

قام كمال من جلسته في بيت النمرود، وقد أحس أن الله أجاب سُؤْله وحقق رجاءه، ومنَّ عليه أخيرًا بما كان منتهى آماله؛ فقد عرف في هذه الليلة أين يحصل على سلاح، وهو يعرف منذ أمد بعيد كيف يستعمل هذا السلاح، ويعرف كل خطوة سيخطوها منذ أن يستعمله، وأراد كمال أن يحتفل بمستقبله الذي رسمه في ظل السلاح الجديد، وإن له لمراسم خاصة لاحتفالاته، تعوَّد أن يُقيم هذه المراسم كلما حصل على مبلغ كبير سكبه عليه فرح ثري، أو غفلة من صاحب مال مكنته أن يسرق هذا المال.

وكان احتفاله هذا مقصورًا على نفسه، يشاركه فيه جزء آخر من الهمل يسعى في القرية ضالًّا بلا هدًى ولا مأوًى إلا الاستجداء والإلحاف في الاستجداء.

كانت «وطنية»، وذلك هو اسمها، هي صديقة كمال، نشأت من المجهول وتسير إلى المجهول، لا يعنيها من طريقها إلا أن تسير، ولا يعني أحدًا من أمرها أن تسير أو لا تسير، فهي بنت المجهول، أبوها الليل الدامس وأمها شجرة على الطريق، عثرت بها قابلة القرية في ليلة حالكة السواد، ولولا أن وطنية كانت تصرخ ما أحست بها القابلة في ليلتها تلك، ولولا أن القابلة كانت عائدة من ميلاد شرعي متعسر ما عاشت وطنية، وكانت البلاد في ذلك الحين واقعة تحت موجة من موجات الوطنية التي يثيرها الزعماء، فرأت القابلة أن تسمي اللقيطة وطنية. وأصبحت وطنية في القرية أكثر شهرة من الوطنية ذاتها؛ فإن القرية لا تجد في كل يوم حادثًا مثل هذا يوسع لها مجالات الحديث والتخمين والاستنكار، والتعوذ بالله من الشيطان، واستغفار الله للجاني والجانية، وطلب الستر على العباد الصالحين وغير الصالحين، ولكن إجماع القرية كان منعقدًا على أن وطنية من قرية أخرى؛ إذ لا يعقل أن تحمل فتاة من القرية دون أن ترى القرية حملها، وفتيات القرية غاديات رائحات على الملأ لا يتخفَّين.

وهكذا ظهرت وطنية في القرية من ثنايا قصة خزي وعار، وأكد الناس أنها غريبة من القرية، فأصبحت تجمع إلى ذل العار انكسار الغريب، وفي وسط هذه الأمواج المتزاحمة من الهوان شبَّت وطنية تضارع بقبح وجهها قبح مكانتها في القرية، وكأنما رفضت الطبيعة أن تهب لها شيئًا تتعزى به؛ فهي عجفاء بلا قوام على الإطلاق، ينتهي جسمها من أعلى بكمية من الشعر الأسود القوي يتأبى على كل منديل يحاول أن يلم شعثه، تعقبه إلى أسفل جبهة ضيقة، فعينان صغيرتان تحيط بهما مرتفعات ضخمة، لا بد لك أن تنعم فيها النظر حتى تتبين خلالها أنف وطنية الأفطس، وما إن تتبينه حتى تقف حائرًا كل الحيرة، باحثًا عن المكان الذي يمكن أن يدخل منه الهواء أو يخرج إلى ومن جسم وطنية. ثم ما تلبث أن تفيق من هذه الحيرة حين يروعك فمها، فإنك حينئذ ستدرك أن هذا الفم لا يمكن أن يمنع الهواء داخلًا أو خارجًا، فهو من السعة بحيث يحتاج إلى قوة عنيفة لتمسك به مقفلًا يذود الهواء او أي شيء أن يدخل أو يخرج منه، فإن استطعت أن تحول عينَيك عن الفم وتنحدر بهما إلى أسفل الوجه، وجدت ذقنًا يحاول جاهدًا أن يخفي ما اتسع من الفم، فهو صغير جميل، يفضي إلى رقبة معتدلة، وإن كانت — من شدة هزل وطنية — تكاد تحسبها امتدادًا لجسمها، أو تكاد تحسب جسمها امتدادًا لتلك الرقبة.

تلك كانت وطنية التي شبت في بيت قابلة القرية، وقد كانت القابلة ترى في عطفها على وطنية أمرًا يزيد من عطف القرية عليها، ويجعل لها العذر إذا هي طلبت الجدوى أن تطالب بحق اللقيطة التي تقوم على تربيتها، وكانت لا تعدم بين الأثرياء من يمد لها يدًا سخية، وهكذا أصبحت وطنية — وهي النقمة على نفسها — نعمة على القابلة التي تقوم بشأنها.

ولكن الطبيعة أبت أن تبقي لوطنية هذا الملجأ الذي كانت تتوارى فيه من خزيها وغربتها؛ فقد ماتت القابلة ولم تترك وراءها شيئًا، فقد شاءت — غفر الله لها — أن تحج، فأخذت كل مال مدخر لديها، وباعت كل ما عندها من حلي، وسافرت للحج وأعجبها الحجاز فماتت هناك، وخلفت بالقرية بيتًا متداعيًا ليس فيه إلا وطنية.

ولم تكن وطنية قد أخذت عن القابلة صناعتها؛ فإنها حين بلغت السن التي يمكنها فيها أن تتعلم شيئًا كانت القابلة قد بلغت السن التي لا يمكنها فيها أن تعلم شيئًا، فقد كانت — رحمها الله — في سنينها الأخيرة راعشة اليدين بطيئة الحركة، حتى لقد انفضت عنها المشرفات على الولادة، ولم تبقَ لها إلا العوائد التي كانت تستجديها من الأغنياء.

وهكذا أصبحت وطنية وحيدة لا معين لها ولا عائل، إلا يد تمتد وفم يستجدي.

وعلى هذا الطريق من الاستجداء اتصلت أسباب وطنية بكمال.

فكمال لا يجد حانيًا عليه إلا وطنية، ووطنية لم تجد رجلًا إلا كمالًا، فاتصلت الحاجات وتعارف الشريدان، وأصبحت مراسم الاحتفال عند كمال أن يقضي لدى وطنية ليلة يصيب فيها طعامًا يشتريه هو وتطبخه هي، ثم يبيت عندها ليلة ويخرج قبل الفجر، فلا يحس أحد الطبخ أو المبيت.

وهكذا خرج كمال من بيت النمرود وقد حزم أمره على أن يحتفل الليلة بمستقبله الباسم.

كان الوقت صيفًا والفلاحون في الصيف يسمرون إلى عميق الليل، فخرج كمال قاصدًا إلى منزل عبد العزيز الجزار فوجده يدخل منزله بعد أن قضى سهرته مع إخوانه، فاشترى منه رطلَين من لحم الذبيحة التي ذبحها في نهاره هذا، وكان عبد العزيز قد تعود أن يبيعه رطلًا بين حين وآخر فلم يدهش كثيرًا لزيادة الكمية، ولم يدهش مطلقًا أنه جاء للشراء في هذا الوقت المتأخر من الليل، فقد تعود أن يبيعه — كلما باعه — في مثل هذا الموعد، ووضع كمال اللحم في جيبه، وذهب إلى جنينة العمدة، فوجد عبد الله حارس الجنينة مشعلًا نارًا يصنع عليها قهوة، فاشترى منه بطاطس وطماطم وكل ما لا بد من شرائه للاحتفال، وقصد بحمله تحت ستار الليل إلى بيت القابلة سابقًا وبيت وطنية حاليًا، وطرق الباب.

– من؟

– افتحي يا بنت الكلب.

وفتحت وطنية الباب هنيهة تسرب فيها كمال إلى داخل المنزل، ثم أقفلت الباب وراحت تنظر إلى ما يحمله كمال.

– خير، أين كنت طول هذه المدة؟

– وما شأنك أنت؟ انظري أحضرت لك اليوم رطلَين لحمة من أحسن صنف.

– رطلَين يا ابن الكلب؟ لا بد أنك قتلت قتيلًا!

– لا، لم أقتل بعد.

– وهل ستقتل؟

– والله، الله أعلم.

– ماذا تعني؟

– ما لك أنت بما أعني وما لا أعني؟ هيا اطبخي لنا هذا الطعام فإني أريدها ليلة نذكرها طول العمر.

– ولماذا نذكرها؟

–؛ لأننا غدًا سنصبح أغنياء.

– أغنياء! من؟ أنت؟

– نعم أنا.

– أنت يا ابن الضائعة؟

– اخرسي يا بنت.

– أنت … أغنياء … ولماذا؟ وهل عمي الغنى حتى يجيئك أنت؟ ألم يَعُد يجد أحدًا إلا أنت؟

– وما لي أنا يا بنت؟ والله إني مجهول في بلد الكلاب هذه، ولكن لا بأس غدًا تعرفني البلدة وتعرف قيمتي.

– وما قيمتك؟ أنا والله أعرف قيمتك كل المعرفة، ضائع ابن ضائع، لا خير فيك ولا منك.

– غدًا حين ترين المال في يدي تعرفين قيمتي.

– والله يا ابن الملاعين لو جاء المال إلى يدك ما نظرت إليَّ ولا عرفتني.

– لماذا يا وطنية؟

– يا ابني أنا بنت حرام، أتظن كلامك ينطلي عليَّ؟!

أنا أعلم أني لستُ جميلة، وأنك لا تأتيني إلا لأنك لا تجد غيري.

– لا والله يا وطنية، الله أعلم.

– فلماذا لا تتزوجني؟

– ولم لا؟ نتزوج إن شاء الله.

– يا أخي هيه … النهاية.

وهكذا اتصل الحديث بين الشريدَين على هذا النسق الأعلى من الحب … ماذا؟ أتظنني ساخرًا؟! لا وحقك.

فما كان الحب عندهما إلا هذا السباب الذي سمعت، وإن كان كمال يجاري وطنية في السباب على غير حب، إلا أن سبابها هي كان حبًّا دافقًا عارمًا حب من لا تجد لها بين الناس إلا فتاها هذا، فهو عندها الأب والأخ والأم والصديقة والصديق.

انتهت وطنية من طبخ الطعام وأكلا، ثم انطفأ السراج على اثنَين، أما وطنية فمتوجسة شرًّا مما هددها به كمال من ذلك الغنى الطارئ عليه، معتقدة في عميق نفسها أن المال سيكون نهاية صلتها بكمال، وفي هذه النهاية نهايتها هي، وأما كمال فيحلم بذلك الغد القريب حين يمسك بالمقروطة، ويسعى بها إلى المجد الذي أعد لنفسه مراتبه ومراقيه.

٦

صحا العمدة من غفوة القيلولة وصلى فرض العصر، وخرج إلى شرفة الدار ينتظر رفاق سمره الذين تعودوا أن يقصدوا إليه من قبل المغرب، ويقيموا لديه حتى موعد العشاء ثم ينصرفوا.

أقام العمدة وحيدًا في يومه هذا بضع لحظات، ما لبث أن أقبل بعدها الحاج إبراهيم الحسيني شيخ البلدة، والشيخ رضوان خطيب الجامع، والحاج علي صاحب الراديو الذي يجتمعون عليه كل مساء منذ أن يتركوا العمدة حتى تنتهي الإذاعة من برامجها.

وقال العمدة: مرحبًا … ولكن أين الشيخ عبد الودود؟ أتراه ذهب اليوم في طلاق أم زواج؟

فأجاب الحاج علي: بل ذهب إلى طلاق في عزبة النمايلة.

وقال العمدة: عظيم إنه يفرح بالطلاق أكثر من فرحه بالزواج؛ فهو يقول إنه حين يطلق المرأة من زوجها يأخذ أجرًا للطلاق، ثم يزوج الرجل المطلق من امرأة ويأخذ أجرًا، ويزوج المرأة المطلقة من رجل آخر ويأخذ أجرًا، فيكسب من جراء الطلاق الواحد ثلاثة أجور بينما لا يكسب من الزواج إلا أجرًا واحدًا.

فيضحك الضيوف الثلاثة من بُعدِ نظر الشيخ عبد الودود، ويبدأ الحاج إبراهيم حديثًا آخر فيقول: ما رأيك يا حضرة العمدة في الولد أحمد أبي قطران الذي يأبى إلا السوء دائمًا؟!

– ما له يا حاج إبراهيم ماذا عمل؟!

– عمله أسود!

فقال الحاج علي: يعني ما دام يرفض أن يبيع لك الفدان يكون عمله أسود.

– لا والله يا حاجعلي، إنما الولد لئيم وينتهز الفرص، وطبعه شين والعياذ بالله.

فقال العمدة: قل لي ماذا فعل؟

فسارع الشيخ رضوان قائلًا: قل لحضرة العمدة يا حاج إبراهيم، قل له حتى يعرف أن الولد الذي يحميه لا يستحق الحماية.

فقال الحاج علي: سبحان الله يا شيخ رضوان، أتنقلب على الوليد بهذه السرعة؟! أكل هذا؛ لأنه قال إن الحديث الذي قلته في الخطبة غير صحيح؟!

فصاح الشيخ رضوان غاضبًا: هذا لا يليق يا حاجعلي أنا أغضب من جاهل كهذا؟ ومن أين له أن يعرف صحيح الحديث من غير الصحيح؟! لا يا حاجعلي، لا يا رجل قل وغيِّر.

فقال الحاج علي: لا والله لا أغير أبدًا، فأحمد أبو خليل محق، والحديث لم يقله النبي.

ويسأل العمدة: أي حديث؟

فقال الحاج علي: نعم إنك أنت من يفتينا يا حضرة العمدة أتعقل يا حضرة العمدة أن النبي، النبي محمد الذي هدانا إلى الصراط المستقيم، والذي جعل النظافة من الإيمان، هذا النبي يقول: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فغطسوه، ففي أحد جناحَيه داء وفي الآخر دواء.

وارتبك العمدة حينئذ وحاول أن يجيب، ولكن الشيخ رضوان سارع قائلًا: إن هذا الحديث وارد في صحيح البخاري.

فقال العمدة: البخاري لا يكذب يا حاجعلي.

فقال الحاج علي: لعل البخاري لا يكذب، ولكن قد يكذب غيره.

فصاح الشيخ رضوان: أتقصد أنني الكذاب يا حاجعلي؟! منك لله يا شيخ.

فقال العمدة محاولًا تهدئة الشيخ رضوان: لا تكن عجولًا يا شيخ رضوان، فالحاج علي لم يقصد إلى هذا …

وقال الحاج علي مبتسمًا وقد أحس أنه أفرط على الشيخ رضوان: لا والله يا شيخ رضوان، أنا لا أقصد أنك كذاب — لا قدر الله — ولعلك قرأت الحديث في كتاب غير البخاري، نقل الحديث ونسبه كذبًا إلى البخاري.

وهنا صاح الحاج إبراهيم: ما هذا يا رجل؟ أتكلم عن أحمد الكلب فتقطعون كلامي وتتشاجرون؟

فقال الحاج علي في مزاح قريب إلى الجد: أما آن لك أن تنتهي عن أحمد يا حاج إبراهيم؟ الجميع يعرف أنه مختلف معك على الفدان الواقع في وسط أرضك.

فقال الحاج إبراهيم محتدًّا: اسمع يا حاج علي امرأتي طالق ثلاثًا يا شيخ، إن أنا اشتريت هذا الفدان في الحال أو الاستقبال، أو إن أنا جعلت أحدًا من أبنائي يشتريه ودفعت ثمنه سرًّا … ما رأيك؟

فبُهت الحاج على هنيهة ثم قال: لماذا يا حاج إبراهيم؟ لقد كنت أمزح معك يا رجل.

فقال الحاج إبراهيم: لا يا سيدي، أنا رجل عشت عمري شريفًا، عُيِّنت شيخًا للبلد وكلكم تعرفون أن يدي لم يصلها مليم عن طريق غير شريف.

واحمر وجه العمدة، وواصل الحاج إبراهيم حديثه: نعم إني أريد شراء هذا الفدان … وأستطيع أن أكتب البلاغ، تلو البلاغ؛ لأشكو أحمد أبو خليل وأقلق منامه وأجعله لا يبيت ليلة مطمئًنا، وأستطيع أن أحبس عنه المياه فلا يراها إلا في دموع عينيه، أستطيع يا حاجعلي، ولكني لم أفعل؛ لأني شريف، ولكنني أيضًا لا أستطيع أن أسكت عن الحرام وأغفل على الزور وأستر على الإجرام، حتى أمنع الناس أن يتهموني بالتحيز ضد أحمد، أرض أحمد حرام عليَّ وعلى أولادي في حياتي حرمتها على نفسي لأقول الحق وسأقوله …

فقال الحاج علي في خجل: لماذا كل هذا يا حاج إبراهيم؟ لماذا كل هذا؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.

وحينئذ قال العمدة: يا سلام يا حاج إبراهيم، لو لم تكن سريع الغضب إلى هذا الحد لكملت محاسنك، إلا أن الحلو لا يكمل، قل لنا ماذا فعل أحمد أبو خليل؟

فقال الحاج إبراهيم: يريد أن يتزوج سعدية أم الخير.

فقال العمدة: ولكن سعدية متزوجة!

فسارع الشيخ رضوان قائلًا: وهذه هي البلوى!

فعاد العمدة يقول: إنها متزوجة من صالح أبي سعد الله، وكانت غاضبة ورجعتها إليه.

فقال الحاج علي في ابتسامة خبيثة: نعم، نعرف يا حضرة العمدة، ربنا يعمر بيتك.

فقال الحاج إبراهيم: ولكن كيف تستقر المرأة في بيت زوجها إذا كان وراءها إبليس يوسوس لها كل ساعة؟ صالح رجل فقير لا يملك إلا الخرقة التي يلبسها ويكد طول يومه ليعيش في ستر، والولد أحمد يملك فدانَين وعشرين قيراطًا، ويظل يومه رائحًا غاديًا أمام منزل صالح مرتديًا الجلباب الحريري، ويا أرض انهدي ما عليك قدي، البنت جاهلة وعقلها صغير، فهي اليوم في بيت أبيها، وقد صممت على الطلاق من صالح، قصدني صالح وشكا لي الحال وقال: إنه لا يملك ما يصلحها به.

فتساءل العمدة في عجب: لا يملك ماذا؟

فقال الحاج إبراهيم في شيء من التحدي: ما يصلحها به يا حضرة العمدة، فما العمل؟!

فقال العمدة: سبحان الله يا حاج إبراهيم وماذا تريدنا أن نفعل؟ امرأة تكره زوجها! فكيف يصلح العيش بينهما؟ هل المعاشرة تدوم بالغصب؟

فقال الحاج إبراهيم: سبحان الله يا حضرة العمدة وماذا يفعل صالح؟ وما ذنبه إذا كان فقيرًا؟ وهل تزوجته على أنه صاحب مائة فدان، ثم اتضح لها أنه لا يملك شيئًا؟ إنه صالح، صالح نفسه الذي تزوجته لم يتغير.

ثم دس في لهجته رنة عميقة وهو يقول: هو نفسه صالح الذي قبلت أن تصلحه أنت عليها يا حضرة العمدة، فهل يطلقها الآن؛ لأنه لا يملك ما يصلحها به؟

أحس العمدة تلك الرنة التي دسها الحاج إبراهيم، وعرف أنه يقصد إلى تلك الفراخ التي كان مصيرها سيارة المأمور، ولكن العمدة يغضي عن كل هذا الغمز ويقول: طيب يا حاج إبراهيم، سنرسل الآن إلى أحمد أبي خليل ونرى إن كان يقصد إلى إثارة سعدية على زوجها، أو أنها مجرد صدفة.

فقال الحاج إبراهيم: أي صدفة يا حضرة العمدة؟ إنه يرسل إليها الرسل في كل يوم.

وقال العمدة: سنرى يا حاج إبراهيم، سنرى.

ثم صاح مناديًا: يا عبد الجليل، يا عبد الجليل!

وقبل أن يأتي عبد الجليل يصعد إلى الشرفة الشيخ حسن وابنه فخري فيرحب بهما العمدة، ثم يأتي عبد الجليل فيطلب إليه العمدة أن يرسل خفيرًا إلى أحمد أبي خليل ليحضره، وينصرف عبد الجليل ويعود العمدة إلى الشيخ حسن: مرحبًا أبا فخري، تأخرت الليلة عن موعدك، لعل المانع خير إن شاء الله؟!

فيجيب الشيخ حسن في فرحة غامرة: خير وأي خير! فخري عاد بالسلامة اليوم، وقد نجح في الامتحان ونُقل إلى السنة الرابعة.

ويصيح العمدة: الحمد لله، مبروك يا فخري، مبروك يا بني يا ولد، هات الشربات حلاوة نجاح فخري.

ويقول فخري في تلعثم: شكرًا يا عمي، بارك الله فيك يا عمي.

ويقول الشيخ حسن: أطال الله بقاءك يا شيخ زيدان، وأدام المودة بيننا، وبارك لك في دُرية وأبقاها.

وراح الجالسون جميعًا يباركون لفخري نجاحه، وبدأ الحاج علي يسأله في القانون ويناقشه فيه، فانتهز الشيخ حسن الفرصة وقال للعمدة: والله يا شيخ زيدان أريدك في كلمتَين على انفراد.

وقال العمدة: تحت أمرك يا شيخ حسن، بإذنكم يا جماعة.

وأجابت أصوات متباينة: «تفضل»، ودخل الشيخ حسن وراء العمدة إلى الدوار، حتى إذا استقر بهما المجلس، قال الشيخ حسن: الصداقة التي بيننا غنية عن الذكر …

فقال العمدة: معلوم.

فقال الشيخ حسن: وقد عشتُ طول عمري آمل أن أجعل من هذه الصداقة قرابة بيننا.

وفهم العمدة ما يهدف إليه الشيخ حسن فسارع يقول: والله يا شيخ حسن إن الصداقة التي بيننا أقوى من كل قرابة.

وكاد الشيخ حسن يفهم أن العمدة غير متحمس لما سيعرضه عليه، ولكنه قال: ولكني أتمنى أن تقوى هذه الصداقة بيننا برباط شرعي، اسمع يا شيخ زيدان: أنا أطلب القربى منك، أريد دُرية لابني فخري، فما رأيك؟

فقال العمدة متلجلجًا: ولكن فخري … فخري أليس صغيرًا وابنتي دُرية أيضًا صغيرة.

فقال الشيخ حسن: والله لو كنت قلت عن فخري إنه صغير وسكت لناقشتك، أما قولك عن دُرية إنها صغيرة، فمعنى هذا أنك ترفض يدي التي أمدها إليك يا حضرة العمدة.

فقال العمدة: اسمع يا شيخ حسن، ما مصير صداقتنا إذا أنا رفضت فخري؟ أتراك تزعل؟

فقال الشيخ حسن: أكون كاذبًا لو قلت إنني لن أزعل، سبحان الله يا حضرة العمدة … بالطبع أزعل يا أخي.

فقال العمدة: صبرك يا شيخ حسن، المسألة مستقبل بنتي، وأنت تعلم ما أصنعه لأجعل لها ثروة تغري بها ابن الحلال، أريد لها شابًّا من الأغنياء يسعدها في حياتها، فخري شاب عظيم، ولكنك يا شيخ حسن لا تستطيع أن تُمدَّه هو ودُرية بما يهيئ لهما ما أرجوه لدُرية … إنك تفكر في ابنك أيُغضبك أن أفكر في ابنتي؟

فقال الشيخ حسن: أنت حر في أن تفكر في ابنتك كما تشاء، ولكني أنا أيضًا حر في أن أغضب يا شيخ زيدان، لقد علقت بالصداقة أملًا لا تحتمله الصداقة، فلا بأس، ولو أنني بكلمة لا بأس هذه أقتل ثلاثين عامًا من سنى حياتي، ولا بأس أيضًا فإنني لا أملك غيرها كلمة. سلام عليكم يا حضرة العمدة.

وخرج الشيخ من الغرفة إلى الشرفة في خطوات سريعة غاضبة، وعبر الجالسين وهو يقول: سلام عليكم يا رجال، هلم يا فخري.

وقام فخري لا تكاد رجلاه تحملانه؛ فقد أدرك المعنى الذي تحمله خطوات أبيه السريعة وانصرافه المبكر، ولكنه لا يريد أن يصدق هذا الإدراك الذي لا يحتاج إلى كثير ذكاء.

وقال الحاج علي: الله، إلى أين يا شيخ حسن؟ ألا تشرب شربات ابنك؟

فيقول الشيخ حسن وقد ابتعد عن الدوار: لا عليك يا حاجعلي، اشربه أنت، هنيئًا إن شاء الله.

ويغوص الشيخ حسن في تيه القرية، وبعد حين يخرج العمدة، ولولا غبش المغيب وقلة الضوء لتبينوا في عيني العمدة احمرارًا ما عهدوه قط، ولتبينوا أيضًا آثار دموع فاضت على وجه العمدة، فأضفت حيث فاضت لألاءً وبريقًا يتألقان على جانبَي وجه الشيخ الذي علاه غبار السنين.

وقال الشيخ رضوان للعمدة: ما للشيخ حسن، خرج وكأنه غاضب؟!

فقال العمدة في صوت عميق: لا أبدًا، وإنما كلفته بأمر ذهب يقضيه لي.

قال العمدة جملته وكأنما كان قد حفظها عن ظهر قلب، ورددها كثيرًا في داخله قبل أن يقولها للقوم، وأدرك الجالسون أن العمدة لا يريد أن يفضي بشيء مما كان بينه وبين الشيخ حسن، وإن كان الشيخ رضوان يأبى أن يصمت فهو يقول: لقد رفض حتى أن ينتظر شربات ابنه!

وقبل أن يجيب العمدة يكون أحمد أبو خليل قد جاء فيلقي السلام، ولا يجيبه العمدة وإنما هو يجابهه قائلًا: ألم تجد غير سعدية المتزوجة لتحاول الزواج بها أيها الضائع؟

ويقول أحمد وقد ألقى على وجهه غشاءً من البلاهة: أنا يا حضرة العمدة؟ سامحك الله يا حاج إبراهيم، إن كان هذا لأجل الفدان فخذه بلا ثمن.

فيقول الحاج إبراهيم: يا ابني حد الله بيني وبين فدانك هذا، وإن كان فدانًا في الجنة، أجب العمدة عما سألك عنه.

فقال أحمد: أنا يا حضرة العمدة لا أصلح للزواج.

فيقول العمدة ساخطًا: لعن الله الزواج وسني الزواج، اسمع يا ولد، أقسم بالله العلي العظيم، إن سمعت أنك ذهبت إلى الحارة التي فيها سعدية لأقطعن أسبابك بالقرية جميعًا.

أتسمع؟

ويرتجف أحمد من هول الوعيد، ويقول في خشية: أمرك يا حضرة العمدة.

ويطرده العمدة فينصرف، ويدهش القوم جميعًا فإن المقدمات لم تكن مؤدية لهذه النتائج، ولو دروا ما كان بين العمدة وبين الشيخ حسن لعرفوا أنها ثورة لم تجد طريقًا لها إلا أحمد، ولو كان صالح قد حل محل أحمد لباتت سعدية طالقًا في ليلتها تلك.

وقال الحاج إبراهيم: وماذا يفعل صالح مع زوجته؟ إنه لا يملك ما يصلحها به يا حضرة العمدة.

وكان العمدة في هذه اللحظة قد يئس من أي خير يأتيه على يد صالح بعد أن عرف من الحاج إبراهيم ضيق يده، كما أنه كان في هذه اللحظة عَزوفًا كل العزوف عن المال والرشوة، فقد شق عليه مصرع هذه الصداقة الطويلة، وقد أدرك أن الخنجر الذي صُرعت به هذه الصداقة لم يكن إلا المال الذي تكدس عنده، والذي نفر عن صاحبه الشيخ حسن، وهكذا ألمت به لحظة روحانية قلما تواتيه، فقال للحاج إبراهيم: اسمع يا حاج، اذهب إلى سعدية الساعة، وقل لها: إن العمدة يهددها إن لم تبت ليلتها في بيت زوجها، فإنه سيفعل بها الأفاعيل، وقل لها أيضًا إنه لا يريد أن يسمع بغضبها مرة أخرى. ألم يعد لنا عمل إلا هي وزوجها؟

ويقوم الثلاثة داعين للعمدة.

ويقوم العمدة إلى بيته وتلقاه زوجته في بشاشة وابنته في تنظُّر، ولكنهما ما إن تريا وجهه حتى تصبحا كلتاهما حزينتَين، فأما الزوجة فلأن زوجها حزين، وأما الابنة فلأنها تدرك ما كان.

وتسأل الزوجة: ما لك يا شيخ زيدان؟ كفى الله الشر.

ويقول الشيخ زيدان: جاءني الشيخ حسن اليوم يخطب دُرية بنتي لابنه فخري فرفضت، فمشى غاضبًا.

وقالت دُرية دون أن تحس: لماذا يا أبي؟

وفزع الأب من السؤال.

– لماذا؟! وأنت التي تسألين لماذا …؟ ألا تعرفين لماذا؟

وتثوب دُرية إلى نفسها قائلة: أقصد لماذا أغضبته يا أبي؟

ويقنع الأب نفسه بأن هذا هو ما قصدت إليه الابنة.

وتقول الأم: فخري طيب وابن حلال ولكنه فقير.

ويقول العمدة: وهذا هو ما قلناه.

وتقوم دُرية إلى غرفتها، وتفتح شباكها ذا السور الحديدي وتطل على الباحة والذكريات، والماضي الذي كان قريبًا فأصبح بعيدًا، والشجرة التي أظلت وصار ظلها لهيبًا، والليل الذي كان نجوى فأصبح شقاءً …

لماذا يا أبي؟!

٧

الشيخ عبد الودود، مأذون بلدة السلام، رجل طويل القامة عريض المنكبين، ليس بالسمين المفرط ولا هو بالهزيل الذي تأخذه العين، جامد الوجه، إن رأيته خُيِّل إليك أن العاطفة لم تمر على وجهه في يوم من الأيام، يضحك إن ضحك بفمه، يوسعه حسبما يقتضي سبب الضحك، فإن اضطره الأمر إلى القهقهة خرجت من حلقه، ولكنه أبدًا لا يضحك من قلبه، وإن حزن الشيخ عبد الودود فهو لا يحتاج إلى أي تعبير جديد يضفيه على سحنته؛ فهي عبوس لا تحتاج إلى علامات أخرى لتكون حزينة.

والشيخ عبد الودود رجل نقي السريرة، سريع إلى تصديق ما يسمعه، تسهل مخادعته، فإن ألقيت إليه مثلًا أن إنجلترا قد احتلت لندن أسرع يقول لك: «سبحان الله! أهكذا؟ ومتى كان هذا؟» فإذا أنت لم تبتسم وظللت تروي عليه كيف أن إنجلترا خدعت لندن وأوهمتها أنها تساعدها، ثم احتلتها ولم تقبل أن تتركها أبدًا، راح يحوقل ويستعيذ بالله من الشيطان، وإذا أنت قلت له إن الإنجليز قد تدخلوا في الأمر، وإنهم الآن يحاولون أن يعقدوا صلحًا بين إنجلترا ولندن قال لك: «والله يُشكر الإنجليز.» وهكذا تستطيع أن تصل به إلى تصديق أية خرافة تلقيها عليه، على شرط ألا تضحك وأنت تلقي هذه الخرافة. وهو يعلم في نفسه هذه الطيبة؛ ولذلك فهو حريص كل الحرص إن أنت حاولت أو حاول غيرك أن يتحدث معه في أمر ينتهي به أن يخرج بعض المال من حزامه، نعم حزامه وليس حافظته. إنك لا تحتاج إلى كثير ذكاء لتخدع الشيخ عبد الودود، فلتروِ عليه ما شاء خيالك من خرافات فسيصدقها، ولكنك — مهما يكن ذكاؤك — لن تستطيع أن تنال من الشيخ عبد الودود قرشًا واحدًا، وإن كان هذا القرش ذاهبًا إلى أمر فيه خير للشيخ عبد الودود نفسه، فإن هذا الخير مهما يعظم أمره أقل شأنًا وأهون خطرًا من إخراج قرش كان قد استقر غير مفزع، وهدأ غير قلق في أموال الشيخ عبد الودود.

والشيخ عبد الودود — كما قد عرفت — يملك عشرة أفدنة يزرعها لحسابه الخاص، لا يؤجر منها قيراطًا ولا يزارع في سهم منها أحدًا، وإنما هو الذي يزرع، ويكتري لها العمال بعد أن ينزل بأجورهم إلى أقل حضيض يمكن أن تنزل إليه، والشيخ عبد الودود — كما تعرف — مأذون البلدة، وتلك مهنة ذات خطر وربح، والبلدة — كما لا تعرف — عدة بلدان، فإن للقرى عندنا ضواحي كثيرة تتبع البلدة الأصيلة في الحكم والمأذونية. وهكذا كان الشيخ عبد الودود ذا موارد ضخمة تنسكب عليه من الحب والكره، والعجيب أن هذه العواطف التي كانت سبب نعمته لا تعرف سبيلًا إلى قلبه أبدًا، فقد كان لا يعرف الحب لغير المال، ولا يعرف الكره لغير إخراج هذا المال. المهم أن الشيخ عبد الودود كان يستقبل هذه الأموال جميعها مع ما تخرجه الأرض من محصول، ثم يخرج لبيته ما يقيم الأود أو يكاد، ويحتفظ بباقي المبالغ جميعها حتى تتم ثمن فدان فيشتريه.

وقد آن لنا الآن أن نروي قصة الحزام الذي عرضنا له في أول هذا الحديث؛ فقد كان الشيخ عبد الودود يضع هذه الأموال في حزام خاص يربطه حول بطنه ويلصقه به ما أمكن، حتى يحسه دائمًا، وحتى يظل واثقًا من بقائه حيث هو، وحتى لا تبتعد هذه الأموال عن جسمه، وهل كانت إلا جزءًا من جسمه؟ وقد صار هذا الحزام مشهورًا في القرية والقرى المجاورة، شهرة الشيخ نفسه. لقد كان الشيخ عبد الودود حريصًا كل الحرص على إلصاق هذه الأموال بكيانه، لا يفصلها عنه إلا ذلك الجلد الذي صُنع منه الحزام والذي لا يملك حيلة فيه، فلو كان مستطيعًا أن يضع المال على نفسه بغير حائل من الحزام لفعل. وقد يرفع الشيخ عبد الودود الحزام عن نفسه مرة في الشهر أو مرتَين حتى يستحم، ولكنه — إن فعل ذلك — فهو إنما يفعله والحزام منه بمرصد، فإنه إن سمح بأن يفارق الحزام جسمه فهو لا يسمح مطلقًا بأن يفارق عينَيه.

ومع هذا الخوف الراعد الذي يتملك الشيخ عبد الودود على أمواله، نجد الشيخ في عامة حياته شجاعًا يخوض الليل الأسود والطريق المقفر بلا صديق ولا رفيق ولا حارس، وإن يكن هذا الخوض في سبيل القرش الذي يكسبه من عقود الزواج والطلاق، إلا أنها — على أية حال — شجاعة تُحمد له. وقد بدأ هذه الشجاعة منذ عُين مأذونًا، وقد قام برحلاته الأولى، وهو لا يكاد يقيم خطواته من فرائص ترتعد به وهلع يهز فؤاده هزًّا، ثم تعوَّد الطرق المظلمة والليالي الحالكة، فأصبحت العادة شجاعة، وأصبح يقطع الطريق إلى أعمال البلدة وقراها المجاورة وحيدًا بلا صديق ولا رفيق ولا حارس.

ولا يحسبن أحد أن هذه الأعمال قريبة من قرية السلام؛ فإنها قد تبعد عنها كثيرًا، والطرق إليها وعرة لا تحيط بها إلا الحقول خلت من زارعيها بلا دُور فيها ولا أناس، وقد لا تخلو من العفاريت التي خلقها الوهم في كثير من مناطق هذه الطرق.

ولكن الشيخ عبد الودود كان يقطع هذه المخاوف جميعها ليعقد زواجًا أو يقرر طلاقًا، وحول وسطه الأموال تكدست مئات ومئات، وفي هذه الليلة خرج الشيخ عبد الودود من قرية السلام بعد صلاة المغرب مباشرةً، قاصدًا إلى عزبة النمايلة الواقعة في نطاق دائرة السلام إدارة ومأذونية، وكان خروجه هذا بناءً على دعوة وافته قُبيل العصر تطلب إليه أن يذهب إليها ليطلق اثنَين كان قد زوَّجهما منذ خمس سنوات، وكانت له فلسفته في الطلاق تلك التي رواها العمدة لزواره، ولكن العمدة نسي أن يذكر العيب الوحيد في الطلاق؛ ذلك أن الشيخ عبد الودود يخرج من الطلاق غالبًا دون أن يتناول العشاء الذي يُتاح له في الزواج دائمًا. ثم إن أجره في الطلاق معلوم لا يزيد مليمًا عما قدرته له الحكومة، والفلاحون أعلم الناس بما تقدره الحكومة في مثل هذه الأمور، أما في الزواج فقد كان الشيخ عبد الودود يطمع إلى جانب العشاء أن يأخذ ما يزيد على أجره المعلوم.

خرج الشيخ من قريته قاصدًا إلى الرجل الذي سيصب في حافظته، ومن ثم في حزامه خمسة وعشرين قرشًا ثمنًا له على تطليق زوجته، وأخذ الشيخ يفكر في زهادة المبلغ الذي يتقاضاه إزاء هذا المعروف الكبير الذي سيؤديه لذلك الرجل؛ إنه سيخلصه من زوجته التي آذته ونكدت عيشته، ثم لا يصيب من بعد إلا هذه الصبابة الضئيلة من المال، ولم يكن الشيخ يعلم — ولا يعنيه أن يعلم — إن كانت المرأة هي التي آذت الرجل المطلق أو أن الرجل هو الذي آذاها، وإنما كل همه ذلك المبلغ الذي سيجري إلى جيبه.

وبلغ الشيخ منزل الطلاق وراح يقول للزوج: «إن أبغض الحلال عند الله الطلاق.» وراح يقول: «تمهل واصبر وفكر، وسأعود إليك غدًا.» وهو في صميم نفسه يتمنى ألا يطيع الرجل نصائحه التي كان يلقيها إلقاءً يجري به لسانه في موات، فلا تبلغ شفتَيه حتى تصبح غمغمة غير مبينة يكاد السامعون — لولا سابق العلم بها — ألا يفهموا منها شيئًا.

ويصر الرجل على الطلاق كما قدر الشيخ عبد الودود، ويأخذ الشيخ الخمسة والعشرين قرشًا ويترك البيت بلا عشاء — كما قدر أيضًا — ويأخذ سبيله إلى قرية السلام.

الليل أسود والطريق طويل مقفر، ولكن الشيخ عبد الودود يسير يفكر في هذا المبلغ الجديد الذي أضافه إلى ثروته، والذي لم يأخذ طريقه بعد إلى الحزام؛ فقد تعود ألا يضيف إلى الحزام دخله الجديد إلا في البيت، وراح الشيخ يحسب وما كان محتاجًا لحساب، ولكنه يلتذ التفكير في المبلغ الذي يرتفع كل لحظة في حزامه. راح يحسب: لقد كان معه سبعمائة وخمسة وعشرون جنيهًا وخمسة وعشرون قرشًا، والآن حين يصل إلى البيت، سيصبح بالحزام سبعمائة وخمسة عشر …

– قف.

– صوت انبعث من الليل واضحًا جليًّا، ولكن الشيخ لا يصدق أذنَيه ويهم بالمسير بعد أن توقف هنيهة، ولكن الصوت يعود مرة أخرى!

– أقول قف!

ويقف الشيخ؛ لأنه أصبح لا يستطيع المسير، وفي همهمة لا يفهمها هو يقول: من؟

– عفريت.

– عفريت؟

– نعم.

– بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ …

ويصل إلى قفا الشيخ حديد صلب بارد، ويزداد التصاق الحديد بقفا الشيخ فيحس عينَي بندقية ملتصقة بشدة إلى قفاه كما يلتصق الحزام بجسمه، ويرتفع صوت الشيخ: الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا …

ويأمر الصوت الممسك بالبندقية في صوت خفيض حازم: اخرس.

– حاضر.

– هات.

– ماذا؟

– نقودك.

ويغمغم الشيخ قائلًا: ليلة سوداء عفريت أم لص؟

– وما لك أنت؟

– إنه مالي والله العظيم.

– إذن هاته.

– كان العفريت أرحم.

– أسرع.

وتومض في رأس الشيخ فكرة رائعة، لم لا يعطي هذا الرجل حافظته التي لا تحمل غير خمسة وعشرين قرشًا وثلاثة قروش كانت فيها قبل أن يخرج من البيت؟ والرجل لن يعرف من أمر الحزام شيئًا فتصبح المصيبة هينة، وأين ثمانية وعشرون قرشًا من سبعمائة و… وقبل أن يكمل الشيخ تفكيره يصيح به حامل البندقية وقد أصبح في مواجهته: أسرع.

ونظر الشيخ مليًّا في اللص الذي يهدده فلم يتبين منه في غبش المساء غير وجه يحيط به اللثام من جميع نواحيه، وقد حمل بندقية قصيرة مقروطة ووضع فوهتها في صدر الشيخ، وعاد اللثام يقول: أسرع.

وأخرج الشيخ حافظته وهو يقول في تظاهر بالحزن: تفضل!

ويأخذ اللثام الحافظة ويمد يده مرة أخرى: أسرع.

– ماذا؟

– هات.

– ماذا؟

– الحزام.

– ألماذا؟

– الحزام

– أي حزام؟

ويمد اللثام يده إلى بطن الشيخ عبد الودود، ويضع يده من فوق الجلباب على الحزام.

– هذا الحزام.

– يا ابني اتق الله.

ويدفع اللثام المقروطة في صدر الشيخ وهو يقول: أَسرِع وإلا قتلتك، أَسرِع.

– يا أخي حرام، حرام، خذ نصف ما به.

– هات الحزام، هات الحزام، قلت لك.

ومد اللثام يده إلى جلباب الشيخ عبد الودود وجذبه منه جذبة قوية، شقت الجلباب عن قميص أبيض أصبح هو الحائل الوحيد بين الحزام وبين يد الرجل.

– هات الحزام.

وتمالك الشيخ عبد الودود نفسه بعض الشيء وهو يقول: والله يا بني أنا لا أستطيع أن أعطيك الحزام بيدي، فخذه أنت إن شئت.

– فارفع هذا القميص.

– لا أستطيع يا ابني يدي لا تقوى.

ويمزق صاحب اللثام القميص أيضًا، ويفك أربطة الحزام فيخلص إليه، فيدفع الشيخ بعيدًا عنه ويصيح في وجهه: امضِ، اذهب الآن.

– أذهب؟

– أسرع.

يقولها ويطلق عيارًا في الهواء فينكفئ الشيخ من الرعب، ولكن قدم صاحب اللثام تعاجله بركلة فيقوم مهرولًا طريقه إلى البلدة، ينكفئ فيحس قدم اللص التي ركلته فيقوم ثم ينكفئ، ويقوم حتى يدخل البلدة ذاهلًا هلعًا ينكفئ، لا يسمع حتى تلك الأعيرة التي تعالت متكاثرة بعد العيار الذي أُطلق لإخافته؛ فقد ظنَّ الحراس أن هذا العيار قد أُطلق لإيقاظهم، فراحوا يظهرون مقدار يقظتهم بأعيرة عالية الصوت تجاوب صداها في وسيع الفضاء.

٨

رجع المشايخ الثلاثة من عند العمدة وقد أذهلتهم في ليلتهم تلك أمور كثيرة؛ عجبوا أول ما عجبوا من الحاج إبراهيم وغضبه، وقد تعودوا أن يمزحوا معه في شأن هذا الفدان وتعود هو مزاحهم، وكان يقبله؛ لأنه لا يمس حقيقة نفسه، فقد كان يدري أن يده لم تمتد يومًا لغير الحق، وقد كان يحسب إخوانه يدركون أنه لن يرضى لنفسه إلا هذا الحق الذي ألزم به نفسه، ولكنه حين رأى مزاحهم يُلقى في مواطن الجد، اتخذ هذا الموقف الحازم وألزمهم حدًّا يقفون عنده. وعجبوا من إقبال الشيخ حسن الضاحك المستبشر، ثم انصرافه الغاضب العجلان. ثم عجبوا من ثورة العمدة بأحمد أبي خليل، وميله إلى صالح بعد أن عرف فقر صالح وعثر يده، ومع تمام علمه بغنى أحمد وكرمه إذا اقتضى الأمر كرمًا، وراحوا يتساءلون في أنفسهم أهي غمزات الحاج إبراهيم حركت في العمدة بقية عفة، أم أن العمدة غاضب الشيخ حسن فضاق صدره وأفرغ غضبه على أحمد. أيًّا كان الأمر فقد مشى ثلاثتهم صامتين يدير كل منهم الأمور في رأسه ولا يبين عنها.

وعلا ضجيج المساء من حولهم فازداد صمتهم، فليس لأمسيات الصيف في الريف سكون، فثمة الكلاب النابحة تتناوب النباح كأنها موكلة بالسكون ألا يسكن، فإن مرَّت هُنيهة لم يُجبْ فيها كلب كلبًا علا نقيق الضفادع وتصاعد من كل أقطار الأرض، فيخيل إليك أنها تعيش في البيوت والطرق والحقول وكل مكان، ولا تقتصر سكناها على الترع ومواطن الماء، وقد يطيب لها من حين إلى حين أن تقطع ضوضاءها طفرة واحدة، ومن ثم تتبين صوتًا منفردًا كان يخالط أصواتها فيكونان معًا نغمًا واحدًا تعوده أبناء القرى ويضيق به زوارها، إن صمتت الضفادع صات هذا الصفير وحده، فهو صفير تسلخت نغماته ودقت، فما فيه من حلاوة الصفير شيء: إنها الصراصير تشارك في العدوان العنيف على سكون القرى.

وكان المشايخ الثلاثة غارقين في صمتهم تصل إليهم هذه الأصوات، فلا يحسون من أمرها شيئًا، فهي توافيهم مع غروب الشمس، فهم قد عُوِّدُوها كما عُوِّدُوا أن تغرب الشمس فيحل المساء، ولكن صوت طلق ناري اندفع إلى آذانهم غير بعيد وغير قريب أيضًا، ثم تبعه طلق ثانٍ فثالث فرابع، فتضاحك الحاج علي، وقد انتوى أن يقطع صمتهم الذي طال به الأمد: يا أخي أولاد الكلب هؤلاء لا يكفون عن إطلاق النار في الهواء، فإن هاجمهم لص ولوا الفرار، أتراهم يحرسون القطن من الهواء الذي يصوبون إليه أعيرتهم؟! والله صدق من قال:

وإذا ما خلا الجبان بأرض
طلب الطعن وحده والنزالا

فقال الشيخ رضوان: يا أخي أنت لا يسلم أحد منك أبدًا، هل أنت مسحوب من لسانك يا أخي؟ وماذا فعل بك هؤلاء الخفراء أيضًا؟ إنهم ينبهون بعضهم بعضًا حتى إذا جاء اللص …

فقاطعه الحاج علي قائلًا: يفرون جماعة.

– يا رجل حرام عليك، أنت حاج!

– وما دخل الحج بهذا؟! أكنت حججت حتى لا أقول الحق؟

– أي حق؟

– حقك عليَّ.

– وأنا ما لي حقي أو حقك، أتراك فرغت من الخفراء وتريد أن تستدير إليَّ؟

– لا والله، ولكني أعرف أنك تحمل لي بعض الغضب في نفسك منذ النقاش الذي دار بيننا عند العمدة، وأنا غلطان.

– النهاية يا حاجعلي.

– لا تكن غضوبًا، أنا غلطان، أنا غلطان لك وللحاج إبراهيم.

وحينئذ أجاب الحاج إبراهيم في شيء من عدم المبالاة: يا سيدي العفو، لا غلط ولا يحزنون.

فقال الحاج علي وقد لطف من صوته بعض الشيء: والله ما كنت أعلم أنك ستغضب كل هذا الغضب؛ فقد تعوَّدتُ أن أمازحك بشأن هذا الفدان.

فقال الحاج إبراهيم: المزاح شيء والجد شيء، النهاية سأترككم هنا لأذهب إلى البنت سعدية وآخذها إلى بيت زوجها.

فقال الحاج علي: وستأتي بعد هذا إلى الدكان؟

فقال الحاج إبراهيم: سأرى.

فأقسم الحاج علي عليه أن يأتي، وراح يكرر له الاعتذار بعد الاعتذار حتى لان جانبه ووعده أن يلحق بهما، ثم تركهما وحاد إلى طريقه، وأكملا هما طريقهما إلى الدكان، وما كادا يجلسان به حتى أقبل إليهما أحمد أبو خليل، وما إن رآه الشيخ رضوان حتى همَّ بالقيام فإذا أحمد ينكب على يده يقبلها.

– لماذا يا عم الشيخ رضوان؟ ماذا فعلت لك حتى تغضب عليَّ كل هذا الغضب؟

فلوى الشيخ رضوان رأسه عن محدثه، وقال الحاج علي: كيف تسأل؟ ألا تعرف؟

فقال أحمد: ليس بيني وبين عمي الشيخ رضوان شيء إلا إذا كان غاضبًا؛ لأني سألته عن صحة حديث لم أكن متأكدًا منه، ثم تأكدت أنه صحيح وارد في صحيح البخاري، فهل حرم السؤال يا عم الشيخ رضوان؟

فقال الشيخ رضوان في خيلاء أن وضح علمه بعد أن كان الحاج علي ينكره عليه وقال: يا بني ما لك وللعلم؟!

فقال الحاج علي: أوجدت الحديث في البخاري؟

فقال أحمد: أي نعم.

فقال الحاج علي: ونعم يا ابني بالعلم.

فقال أحمد: وهل يستغني أحد عن العلم يا عم الشيخ رضوان؟

فقال الشيخ رضوان: النهاية، غفر الله لك.

وسأل أحمد الحاج علي: فأين عمي الحاج إبراهيم؟

فقال الحاج علي في مزاح قريب من الجد: ابعد عنه لم تعد بينكما صلة منذ اليوم، لقد أقسم طلاقًا ثلاثًا ألا يشتري منك فدانك مهما يكن ثمنه.

فنتر أحمد يده وقال في استهتار: يا عمي صلِّ على النبي، غدًا يجد ألف شيخ وشيخ يؤكدون أن يمينه غير محرجة ولم تقع، وأن لا بأس عليه أن يشتري الفدان ما شاء له الشراء.

وهنا صاح الشيخ رضوان في غضب: أي مشايخ تعني يا ولد؟

فعاد صوت أحمد إلى سابق جده: أستغفر الله يا عمي الشيخ رضوان، إنما أقصد المشايخ أصحاب المصالح الذين يبيعون ذمتهم لمصالحهم مثل الشيخ عبد الودود وأمثاله.

وهدأ الشيخ رضوان وضحك لأحمد، لكن الحاج علي قال: لا ولله ما أظن الحاج إبراهيم إلا صادقًا في يمينه وفي نيته.

فقال أحمد: والله ما صادق إلا أنت يا عمي الحاجعلي، إنما أنت رجل نقي السريرة صافي النفس، النهاية ما الذي أثار عليَّ العمدة هذه الثورة …؟! أكل هذا من أجل الحاج إبراهيم؟ أتراه جازت عليه حيلة اليمين بالطلاق فاعتقد أن الحاج إبراهيم صادق فيما ذهب إليه من أنني أغازل سعدية.

فقال الحاج علي: والله أنا أرى في الأمر سرًّا، وخاصةً بعد أن صارحه الحاج إبراهيم بأن صالحًا لا يملك شيئًا، فغضبه كان وهو يائس من صالح كل اليأس.

وقال الشيخ رضوان: والله العمدة رجل طيب وابن حلال، وقد رأى أن الاعتداء على الحرمات أمر لا يجوز.

فقال أحمد: الله يشهد ما اعتديت أبدًا.

وقال الحاج علي: إنه رجل طيب فعلًا، ولكن أسعاره غالية جدًّا.

فقال الشيخ رضوان: يا رجل اتقِ الله، أغلب العُمد على هذه الحال.

فقال أحمد: والله لقد كنت مستعدًّا له استعدادًا ضخمًا، ولكنه قطع رزقه بيده.

فقال الشيخ رضوان: ولماذا كان استعدادك؟ لا بد أنك كنت تنوي شيئًا.

فقال الحاج علي: ارحم الولد يا شيخ رضوان، فقد أعد لك هدية عظيمة.

فقال الشيخ رضوان: إني أقول الحق وأمري لله، العمدة كان محقًّا الليلة.

فنظر أحمد إلى الحاج علي مستنجدًا، فقال الحاج علي: أكل هذا؛ لأنه أوصى بك لتبقى معلمًا في القرية؟ قل لي بذمتك كم دفعت له من أجل هذه التوصية؟

فقال الشيخ رضوان: لا شيء، وأقسم بالله العظيم، بل إنه …

وقطع الشيخ رضوان جملته في حين أكملها الحاج علي: نعم، نعم، بل إنه زاد مرتبك كخطيب للجامع، وما عليه أن فعل، عشرة أفدنة موقوفة على الجامع يأخذ ريعها جميعه ولا يدفع إلا أجرك …

فقال الشيخ رضوان: يا رجل اتقِ الله.

فقال الحاج علي لأحمد: وأين هديتي يا سي أحمد؟

فقال أحمد: تحت الأمر والإذن يا عمي الحاجعلي.

فقال الشيخ رضوان بصوت فيه دلال: أي هدية يا ولد؟

فقال أحمد وقد أحس أن مطلبه في يده: هدية على ذوقك يا عمي الشيخ رضوان قطعة حرير قفطان لا مثيل لها …

فقال الشيخ رضوان مسرعًا: هديتك مقبولة يا أبا خليل والله إنك رجل طيب وابن حلال يا سي أحمد.

فقال أحمد وقد غمره الفرح: أنت الخير والبركة يا شيخ رضوان وما هذه الهدية؟! الهدية الحقيقية ستراها عندما يتم المطلوب بإذن الله.

فضحك الشيخ رضوان وقال من خلال قهقهته: وما هو المطلوب يا تُرى؟

فقال أحمد في صوت أسيف جاد: هل يرضيك يا عم الشيخ رضوان أن تعاشر زوجة زوجها وهي تكرهه أشد الكره؟ وهل يرضيك ويرضي الله أن تعاشر زوجة زوجها وهو لا يقدم لها ما يقوم ببيته؟ وإنما يلقي في يدها بضعة قروش ضئيلة في كل موسم ولا يحضر لها ما يكفيها من الذرة، ويأمرها أن تعمل طول يومها إن لم يكن في جمع القطن فهو يأمرها بأن تخبز للناس خبزهم لقاء بضعة أرغفة، فتظل — وهي الفتاة في ربيع العمر — بين الدور والحقول مشردة، ولو كانت تحب زوجها لهان الخطب، ولكنها تكرهه يا عم الشيخ رضوان ولا تطيق أن تراه … ارحمها يا عم الشيخ رضوان، ارحمها لله.

فقال الشيخ رضوان: وماذا يمكن أن أفعل يا أحمد؟

فقال الحاج علي: لا حول ولا قوة إلا بالله يا شيخ رضوان، إننا نحن من نفعل، وما فائدة صداقتنا للعمدة إن لم نستطع أن نقوم بمسألة صغيرة مثل هذه؟

فقال الشيخ رضوان: النهاية يا بني، ربنا معنا.

فقال أحمد: أطال الله عمرك يا عم الشيخ رضوان وبارك …

وقبل أن يتم جملته دخل إلى الدكان الحاج إبراهيم الحسيني، وما إن يرى أحمد حتى تعود إلى وجهه تلك الغمامة التي خرج بها من عند العمدة، ويلقي الحاج إبراهيم تحية ما إن سمعها الثلاثة حتى أدركوا ما بنفس الحاج من ضيق، ولم يسكت الحاج عند ذاك بل هو يقول: ماذا؟ ألم تجدا إلا هذا الولد لتسامراه؟

وقبل أن يجيب أحد سارع أحمد قائلًا: ماذا فعلت لك يا عم الحاج إبراهيم؟ إن كان عن الفدان …

فقاطعه الحاج إبراهيم قائلًا: ألم يخبرك صديقاك أنني أقسمت يمين طلاق ألا أشتري هذا الفدان مطلقًا؟

– ومع ذلك أنا تحت أمرك، أنا والفدان وكل ما أملك، ولكن لماذا أنت غاضب عليَّ؟

– يا ابني أنا أغضب على كل إنسان لا يراعي الله في أعماله.

– وأنا ماذا فعلت لك؟

– فعلت ما فعلت والسلام.

– والله يا عم الحاج إبراهيم إنك لو عرفتني على حقيقتي لوجدتني كما تحبُّ؛ فأنا كريم ويدي مفتوحة، وخدام الأصدقاء ولا أبخل مطلقًا.

– يا بني الكريم كريم على نفسه.

– وعلى أصدقائه أيضًا يا عم الحاج إبراهيم.

– لا يهمني يا بني كرمك أو بخلك.

وهنا قال الحاج علي: ماذا يا أحمد؟ أتظن أن الحاج إبراهيم يهمه كرمك؟

فقال أحمد: لا والله، فإني أعرف الحاج إبراهيم منذ أنا طفل صغير، ولكن بودي أن يقبل الهدية التي أعددتها له.

فقال الحاج إبراهيم في غضب حاول جهده أن يكبته: أنت يا ولد تحاول رشوتي.

– حد الله بيني وبين ذلك يا عم الحاج إبراهيم، وإنما أقدم إليك هدية صداقة وصلح بيننا.

فقال الحاج إبراهيم وغضبه مكبوت ما زال: اسمع يا حاجعلي، لقد ألححت عليَّ أن أحضر إليك وقد جئت حتى لا تغضب، ولكن إن كنت قد جئت بي لأُهان في مجلسك، ولأُرمى بأنني لص يرشوني مثل هذا الغلام، فاسمح لي أن أقوم.

وقبل أن يجيب الحاج علي سارع أحمد قائلًا: لا تغضب يا عم الحاج إبراهيم فإني أنا الذي سأنصرف، ولكن الذي أعرفه أن الهدية تُسمى رشوة إذا كان مقدمها يريد أمرًا عند من يقدمها إليه، ولكنني لا أريد منك شيئًا.

– لعلك لا تريد شيئًا، ولكنك تريدني أن أغض عيني عنك ولا أرفعهما، وكيف يمكنني أن أرفعهما وقد خفضتهما بهديتك، لا يا بني، أنا رجل كبير وأخلاقي تكونت، ولم يعد في الإمكان تغييرها، لا يا بني لا، أغناني الله عن هداياك.

– أمرك يا عم الحاج إبراهيم، أمرك، سلام عليكم.

وقبل أن يخرج أحمد من الباب تدخل إلى الجمع امرأة عرفها الجميع، فتصايحوا بين ترحيب وعجب أن تقصد إليهم زوج الشيخ عبد الودود وما تعودوا أن يروها في غير دارها، وقد اتخذت من الثياب ما تواضعت النسوة على ارتدائه إن هن أزمعن أن يلتقين بالرجال أو يخرجن إلى الطريق، فهم لم يروها إلا في ثيابها السوداء مسدلة عليها حتى أخمص قدميها وقد ألقت على رأسها خمارًا، أما الآن فهي تطالعهم وقد ارتدت جلبابًا ملونًا فاقع الحمرة نبتت فيه ورود خضراء، واتخذت على رأسها منديلًا قلق المكان؛ فقد كان وجهها أصغر من أن يسع هذا الذعر الذي أُلقي عليه، فامتد هذا الذعر إلى منديلها، بل إلى جلبابها المنتفض.

– أدركوني.

– خير يا أم إسماعيل؟

– الشيخ عبد الودود.

– ما له؟

– لا أدري.

– ماذا تعنين؟

– كنت أنتظره فإذا هو يدفع الباب، ثم ينكفئ على وجهه وهو يقول: سرقني، ضربني، المقروطة، الحزام، سبعمائة وخمسة وعشرون جنيهًا وخمسة وعشرون قرشًا والمحفظة وثمانية وعشرون قرشًا، سرقني … فَرُحتُ أربته وأحاول أن أهدئ من ثائرته، ولكن الذي تملكه يأبى أن يزول عنه، ثم قال فجأة: اذهبي إلى دكان الحاجعلي واطلبي إلى الحاج علي والشيخ رضوان والحاج إبراهيم أن يأتوا إليَّ.

فقال الحاج إبراهيم: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، هلم يا رجال.

فقال أحمد أبو خليل: هلم.

فقال الحاج إبراهيم: وأنت إلى أين؟

– معكم.

– لا إن الرجل لم يطلبك وما أظن الزيارة مناسبة في مثل هذه الحال سنذهب نحن الذين طُلبنا.

– أمرك.

وخرج القوم من الدكان، وساروا طريقهم بعد أن أقفل الحاج علي أبواب دكانه.

وما إن بلغوا بيت الشيخ عبد الودود حتى تقدمتهم زوجه إلى مكان زوجها، وهناك التقوا بالرجل … لم يبق منه إلا ذعر وألم.

وقص عليهم الشيخ عبد الودود ما كان من أمره وأمر اللص في كلمات لا تكاد تكتمل وهي تخرج، وإنما هو يقف في منتصف الكلمات وقد بدا عليه أنه يريد أن يلقي بحمله إلى أي إنسان، ولكنه بعد أن يفرغ من القصة ويضع يده على موضع الحزام يحس بحمله كاملًا لم ينقص بل لعله زاد!

ولم يصبر الحاج إبراهيم بعد أن فرغت القصة، بل هو يقوم إلى العمدة يوقظه، ولا تلبث البلدة أن تصبح كلها في يقظة كاملة؛ فجميعهم مشغول ولا شغل، وإنما هم يروون ما سمعوه ويزيدون عليه ما امتد بهم الخيال، ولم يأتِ وكيل النيابة حتى أصبح المبلغ المسروق من الشيخ عبد الودود سبعة آلاف جنيه، وأصبح الشيخ عبد الودود بلا يد بعد أن قطعها اللص، وبلا عقل بعد أن سلبت النقود عقله، وهي ترحل عنه إلى اللص الذي هاجمه.

وجاء وكيل النيابة ومعه مأمور المركز؛ فقد كان قطع الطريق أمرًا تهتز له أركان الأمن، وبدأ وكيل النيابة التحقيق بينما بدأ المأمور مساوماته مع العمدة عما سيقدم للعشاء وللفطور، فإن التحقيق سيطول إلى الصباح.

وانتهى التحقيق بقيد السرقة مع كل الظروف المشددة التي لازمتها، من ظرف الليل إلى استخدام السلاح إلى غير ذلك، كل ذلك قُيِّد ضد مجهول.

وبهذا القيد بدأت في القرية فترة جديدة من الزمان لم ترَها في ماضي أيامها، ولم تفكر في يوم ما أنها ستلتقي بها على طريق الحياة.

٩

كان الليل قد خيم على القرية، فلا يقطع ظلامه إلا نار تَحلَّقَ حولها القوم يُعدُّون فيها جذوة الفحم التي لا تصلح الجوزة إلا بها، وقد يعدو على ظلام الليل بصيص من ضوء المصباح يتسلل من شباك إحدى الدور، فيمر بالظلام يكاد الظلام لا يحسه من فرط الضعف الذي يعانيه.

مر كمال بهذا الظلام وبهذه الخيوط المتهافتة من بصيص المصابيح، يعبر كل شيء إلى ظاهر البلدة حيث يربض بيت النمرود، وكان قد انقطع عنه أيامًا كثيرة فرغ فيها إلى المقروطة يستثمرها، فتدر عليه المال الوفير، حتى إذا استولى الرعب على القرية والقرى المجاورة أحس أنه قد آن له أن يقطع إجرامه بعض الشيء حتى يعود إلى الناس بعض اطمئنانهم، فيعود إليهم هو في غفوة من هذا الاطمئنان، فينال ما تصبو إليه نفسه؛ خطة كان قد رسمها منذ أمد بعيد فهو ينفذها لا يحيد عنها قيد شعرة.

فإنه حين أصاب مبلغ الشيخ عبد الودود لم يكتفِ به، بل إنه في الليلة التالية مباشرةً، هاجم عبد الرحمن أفندي السلامي الرجل الذي ينافس العمدة على المنصب، والذي يملك في القرية عشرين فدانًا، والذي لا يحمل في جيبه أقل من مائتَي جنيه ويودع البنك مئات أخرى، وقد كان يحمل هذه الجنيهات ليباهي بها الناس كلما اجتمع حوله الناس، فما كان له شيء يباهي به إلا هذه الأموال.

وكان كمال قد عرف أنه قد ذهب إلى القاهرة وأنه سيعود إلى القرية عند المساء، وكان يعلم أنه يقطع الطريق وحده من المحطة إلى القرية، والطريق من المحطة إلى القرية محفوف من أحد جانبَيه برمال الصحراء وتلالها.

وكان هناك تل يعرفه كمال، ومن وراء هذا التل خرج كمال وقطع الطريق على عبد الرحمن، فأصاب منه في ذلك اليوم المائتي جنيه التي تعوَّد أن يضعها في جيبه، وأصاب منه جنيهَين وقروشًا هي بقية جنيهات خمسة، انتهبت الخمر وتذكرة القطار منها ثلاثة جنيهات إلا قليلًا.

وهكذا وقعت الحادثة الثانية في موعد لم تنتظر القرية أن تقع فيه، فما عُوِّدوا أن تقع حادثتان على شخصَين في القرية في ليلتَين متتاليتَين.

وقُيِّدت الحادثة ضد مجهول!

وفي الليلة الثالثة كان الخواجة استاورو تاجر القطن خارجًا من القرية في طريقه إلى القطار الأخير، وكان الليل أسود، ولكن الخواجة كان مطمئنًا؛ لأن خفيرًا نظاميًّا من قِبَل العمدة كان يرافقه، ولكن الخفير النظامي كان أكثر جبنًا من الخواجة حين وضعت المقروطة في ظهره، وحين طلب كمال من الخواجة أن يعطيه ما يحمل من المال، وتسلم كمال المال وأمر الخواجة وحارسه أن يعودا أدراجهما إلى القرية، وأطلق خلفهما عيارًا جعل الأعيرة تنطلق من الخفراء، وجعل سكان السلام يطمئنون إلى أن الأعين من حولهم يقظة مفتحة، تحيطهم بالأمن الراصد وبالسلاح القاتل لكل من يحاول أن يعدو عليهم، وما عرفوا أن هذا العيار إنما كان إعلانًا عن جريمة ثالثة تقع في الليلة الثالثة.

… ما عرفوا ذاك إلا حين عاد الخواجة استاورو مع الخفير، وقد أخذ الهلع بمجامع الخفير، بينما راح الخواجة استاورو يهدئ من روعه، فما كان يحمل غير خمسين جنيهًا وهي أقل من أن يفقد رجل مثل الخفير حياته من أجلها؛ فقد كان يوشك من الخوف أن يموت.

كان كمال قد أعد الخطة بدقة، ومَن ذلك الذي يظن أن قرية واحدة يعتدى على ثلاثة منها في ثلاث ليالٍ متوالية؟

وقُيِّدت الحادثة ضد مجهول!

وهل كان كمال إلا مجهولًا؟ ومن ذلك الذي يظن أن كمالًا يستطيع أن يعتدي، وهو من عاش عمره مرعى للاعتداء، ومواطنًا للهوان، وصوتًا أجوف يُشيِّع ميتًا أو يزف عروسًا؟ وفي هذا المجهل، وفي هذه الزاوية المتوارية عن الأعين، وفي هذه الغمرة من حقارة الشأن، كان كمال قد أعد الخطة وانتفع بكل شيء، حتى بهذا الاحتقار الذي كان يتمتع به؛ فقد كان يتوارى في هذا الاحتقار بعد كل جريمة، فلا يفكر أحد فيه، وتُقيَّد الحادثة ضد مجهول، فقد كان جبابرة الليل في القرية في مكانهم عند كل حادثة، وكان الجميع يرونهم حين تأتي إليهم أنباء الحوادث، فيجدونهم مذهولين معهم، ولا مجال لشكٍّ في صدق ذهولهم فقد كانوا معهم.

وإن خطر لواحد ممن كان يراهم ومعهم كمال أن يسأل عن كمال أين هو؟ انبعث أحدهم قائلًا في صوت من يضيق بالإجابة على تافه الأمور في وقت لا يتفق مع هذه التفاهة: «إنه مريض، لقد أوصل إلينا وطنية تخبرنا بذلك منذ أيام …»

ألم أقل لك إنه كان قد أعد الخطة فأحكم إعدادها؟ لم يغفل عن صغيرة منها منذ ذلك اليوم الذي أمل فيه أن يستولى على سلاح.

انتظر كمال بعد هذه الحادثة الثالثة يومَين آخرَين لم يخرج من بيته أبدًا، وهو حتى في أيام الجرائم الثلاث كان لا يترك بيته، إلا ريثما يتم جريمته ثم يعود.

وقد رأى أنه يكفي للمرض خمسة أيام، ورأى أنه لا بد له أن يرى الدفراوي والنمرود ونورًا والزهار؛ فإن له معهم شأنًا في ليلتهم تلك، أي شأن!

مشى كمال يفكر فيما كان من أمره وفيما سيكون منه، ولكن هينمة أقل ارتفاعًا من ضجة الكلام وأعلى خفوتًا من الهمس قطعت عليه تفكيره.

نظر كمال إلى مبعث تلك الهينمة فرأى موكبًا صغيرًا يسعى في الطريق مارًّا بين أكوام السماد، وما لبث أن تبينه على ضوء نار بلغها، فاتضح له عن دُرية تسير إلى جانب فاطمة، وقد تقدمهم خفير نظامي يشرع البندقية إلى الفضاء، ووقف كمال دون أن يعرف سببًا لوقوفه هذا، أو لعله وقف دون أن يعلن إلى نفسه السبب الحقيقي الذي من أجله وقف، واقترب الموكب الثلاثي الصغير.

– مساء الخير يا ستي دُرية.

– مساء الخير يا كمال.

ومشى كمال خلف الركب دون أن تعلن نفسه إلى نفسه السبب الحقيقي الذي من أجله مشى.

– خير يا ستي دُرية، الدنيا ليل ولا قمر، وأوشك الجو أن يكون باردًا، والحالة خطرة في هذه الأيام، فإلى أين؟

– والله سأذهب إلى عمك الشيخ عبد الودود لأطمئن عليه، ثم إلى عبد الرحمن أفندي السلامي، ثم إلى عبد المنعم الخفير فقد سمعت اليوم أن حالته خطرة.

– أطال الله عمرك يا ستي دُرية، وتعودين بعد ذلك إلى البيت؟

فترددت دُرية قبل أن تجيب: نعم.

ولما رأت فاطمة تردد دُرية وإلحاح كمال، تدخلت في الأمر حازمة: الله! ماذا جرى يا ولد؟ أهي محاكمة؟ امشِ، اذهب إلى حالك ما لك أنت وما لخروجنا أو عودتنا؟ جاءتك داهية، امشِ!

وقال كمال وهو يبتسم ابتسامة العظيم الذي يتغاضى عن تطاول الأطفال جهلوا قدره: حاضر، حاضر، يا ست فاطمة، أنا ذاهب، ولكن فقط قولي لحضرة العمدة ألا يأمن على الست دُرية بخفير واحد، اطلبي إليه أن يرسل معها خفيرَين أو ثلاثة، فقد ثبت أن الخفير الواحد عندما يلتقي باللص يصبح عادةً أضعف من الشخص المسروق، أليس كذلك يا عم فتحي؟

وانتفض الخفير فتحي غاضبًا، والتفت إلى كمال الذي كان قد ولى الركب ظهره عائدًا إلى سبيله الأول، قال فتحي: امشِ يلعن أبوك ابن كلب، ألم يبقَ إلا أنت يا ابن الضائعة لتتهكَّمَ على أسيادك، يا تائه، يا ابن الكلب، يا طبال، مصائب!

بلغ كمال بيت النمرود ولم يلتفت إلى النيران التي تحلق بها القوم، ولم يعنه ذلك البصيص الذي يحاول عاجزًا أن يغزو الظلام، فما كان يهتم بالضياء أبدًا، كان يعرف طريقه بلا حاجة إلى هداية. بلغ كمال مجلس الإخوان فلاقوه بترحيب يختلط بكثير من التواضع؛ فقد تشوَّقُوا إلى صياحته المنافقة وإلى مجلسه منهم على الأرض حين هم على الأريكة يُعد لهم الجوزة، فيدخنونها دون أن يُعانوا من إعدادها، تشوقوا إلى هذا جميعه، وأحبوا وعلى رأسهم الدفراوي أن يُظهروا له أنهم متواضعون يَحنون على مَن كان مثله، فرحبوا به، ولكنهم لم ينسوا مكانه منهم ومكانهم منه، فكان ترحيبهم غارقًا في التواضع الذي أحبوا أن يأخذوا به أنفسهم في لحظتهم تلك، قال الدفراوي: والله لك مكان يا أبا كمال.

وقال الزهار: يدي تحرقت من الفحم يا ابن الكلب، اقعد، اقعد ورص.

وقعد كمال، وراح جبابرة الليل يصلون من حديثهم ما قطعه دخول كمال، قال منصور: مصيبة والله العظيم يا أولاد، قرية فيها منصور الدفراوي يُعتدى على ثلاثة منها على ثلاث ليالٍ متتالية، ماذا حصل في الدنيا؟

ويقول الكحلة: والمصيبة الأدهى أننا — ونحن أولاد الليل — لا نعرف من الفاعل.

ويقول النمرود: أتظنه سيقفز من السماء؟ لا بد أننا نعرفه.

ويقول الكحلة: طبعًا لا بد أننا نعرفه، وهل في المديرية رجل لا نعرفه؟

ويقول منصور: لا، وخاصةً أنه يبدو عليه أنه ثابت وذكي، وولد يلعب بالبيضة والحجر، وفاهم الشغل.

ويقول الزهار: والله يا منصور لا بد لنا أن نبحث عن هذا الرجل حتى نعرفه، فإنه سيكون ذا نفع كبير لنا.

ويقول منصور: والله يا ابني لو انضم إلينا لاستطعنا أن نقيم الناحية على رِجل.

كانت الجوزة تدور بيد كمال، وهو صامت لا ينطق بكلمة، وما عوده القوم صموتًا، ولكن جميعهم كان مشغولًا بأنباء هذه الحوادث لا يلتفت أحد منهم من أمر كمال إلا إلى هذه الغابة التي يمدها إليه، فيشهق منها بضعة أنفاس، ثم يميل بها إلى الذي يليه.

قال الكحلة: إي والله يا بني، وخاصةً إذا علمته أنت كيف يُعمل سلاحه وكيف يضرب به، وأنت الرجل ذو اليد القاعدة التي لا تخيب أبدًا.

وبدأ كمال يتكلم لأول مرة: اسمعوا.

فقال النمرود: سمعت الرعد يا كمال، قل ماذا تريد!

فقال كمال: اسمعوا ولا تهذروا، فقد عشت معكم السنين الطوال لم أرَ منكم إلا الهذر … أنت يا منصور تقتل، تقتل النفس التي حرم الله قتلها، وتنال من أجل هذا ثمنًا بخسًا، لا بأس أن تقتل، ولكن لا بد أن تنال الثمن وتُحسن تقديره. أعرف ماذا ستقول، أنت ترى أن زملاءك ممن يُستأجرون للقتل يقبضون نفس المبلغ الذي تقبضه أنت، ولكن من قال إن القاتل ذا اليد القاعدة ينفع إلا في الاستئجار للقتل؟ إنك تستطيع أن تثير الرعب في الناحية فتنال ما تريد، وأنت يا نمرود، ماذا؟ ألا تستطيع أن تعمل في غير المخدرات؟ ألا تلف بالبلاد وتعرف الصفقات، ومن يملك كثيرًا فيعطي من عنده القليل، لماذا لا تستفيد من دورانك ومعلوماتك فيستفيد منها الجميع؟ وأنت يا زهار منذ تركت العسكرية لا تحسن شيئًا، إلا أن تميل بالطاقية وتفتح الزر الأعلى من الجلباب، فإن استأجرك أحدهم لتحرس شيئا أو لتقف خلف أنفار فيها وإلا فإنك لا تسرق إلا توافه الأشياء، وجعلت أكثر اعتمادك على استخدام النمرود لك في تصريف بضائعه، فعشت على نفقته فرحًا؛ لأنك تجد ما تأكل، وهو فرح؛ لأنه أصبح ذا مستخدمين ومساعدين، وأنت ذكي؛ لأنك لا تسرق الرجل الذي استأجرك للحراسة وإن كنت تسرق جاره، وذكاؤك يا مسكين لا يعود عليك بغير النفع الضئيل، وأنت جريء؛ لأنك تسرق في وضح النهار وتعتمد على الضوء في سرقاتك، وتقول لمن يتهمك: إنك لا يمكن أن تسرق في الضوء. جرأة وذكاء ولكن بلا فائدة، ولو أنك استعملت جرأتك وذكاءك في السرقات الكبرى لكنت ذا نفع كبير، وأنت يا نور دخلت السجن وخرجت ثم لم تنتفع من دخولك وخروجك، وقد كنت في المديرية تعرف الكثيرين، والعمدة منذ ذلك الحين يكنُّ لك بعض الاحترام، ولكنك تكتفي بالجلوس معنا معتمدًا بعد ذلك على فدان وعشرة قراريط لا تجني منها غير يسير مال، ثم أنت معتمد بعد ذلك على الجلوس معنا، تروي عن أحداث الليل التي تدعي أنك شهدتها وما شهدت منها شيئًا، خسارة كان يمكن أن تشهد لو أنك عملت ولم تتكلم، وسعيت ولم تتشدق.

ثم سكت كمال فإذا القوم وقد فغرت أفواههم من الدهش، وحملقت عيونهم في كمال يسمعون منه عجيبة لم ينتظروا أن يسمعوها يومًا، وتزداد العجيبة غرابة أن تصدر عن كمال الذي لم يروا لسانه يتحرك في فمه إلا بمدحهم والمبالغة في هذا المديح.

وقطع منصور هذا الصمت في دهشة لا تزايله: يا ابن الكلب ومن أين تعلمت كل هذا؟

– تعلمته من الرجل الذي أخذ من الشيخ عبد الودود سبعمائة وخمسة وعشرين جنيهًا وثلاثة وخمسين قرشًا، ومن عبد الرحمن السلامي مائتَي جنيه وجنيهَين وأربعة وسبعين قرشًا، ومن الخواجة استاورو خمسين جنيهًا وخمسة وخمسين قرشًا.

فقال منصور في دهشة أقرب إلى الفزع: ولد! من أين عرفت حقيقة هذه المبالغ؟

– ألم أقل لك أنني كنت مع من أخذها.

– ومن هو؟

– لا أقول لكم حتى أبلغكم رسالته كلها.

– وما هي؟

– لا أقولها لكم حتى تقسموا على المصحف.

– نقسم.

– على ماذا؟

– نقسم على ما يريد.

– إنه يريدكم أن تقسموا على أن تكونوا معه رجلًا واحدًا تأتمرون بأمره، لا يرتفع صوت أمام صوته، وقوله أمر، وإشارته تنفيذ، ماذا تقولون؟

وتراجع الدفراوي، ثم نظر إلى إخوانه متسائلًا، فرد إليه إخوانه نظرته بنظرات أكثر حيرة، وإن كانت تحمل أيضًا رجاءً إليه أن يقبل ما يُعرض عليه، ولكن الدفراوي يسأل كمالًا: وماذا نفيد من هذا؟

– عزًّا لا تحلمون بمثله، ومالًا لا تبلغ إليه أوهامكم مهما يشتط بكم الوهم، فأنت يا زهار ستتزوج سعدية أم الخير التي طالما تمنيت زواجها، فلن يكون زواجها من صالح أو سعي أحمد أبي خليل حائلًا بينك وبين الزواج منها، ولن تحتاج بعد اليوم إلى أن تكون أجيرًا أو عاملًا بسيطًا في توزيع تجارة النمرود، وأنت يا دفراوي لن تَقتُل بعد اليوم إلا في سبيل الجماعة التي تعمل معها، وستحميك من كل شيء، وأنت يا نمرود ستتسع تجارتك فتصبح كبير تجار مصر كلها، وأنت يا نور لن تحتاج بعد اليوم لريع فدانك الحقير، سيجري المال في يدك، فلا تدري أين تنفقه، ماذا تقولون؟

وينظر الدفراوي ثانيةً إلى القوم ويسألهم: ماذا تقولون يا رجال؟

وصمت الرجال بأفواههم وقالت عيونهم: «نقبل.» ولكن الزهار قال: الأمر إليك، فأنت كبيرنا.

وعاد منصور يسأل كمالًا: ومن هو صاحبك؟

– لا أذكر اسمه حتى تقبلوا.

– أخشى أن يكون خائبًا فيضيعنا.

ويقول كمال في ابتسامة هازئة: أمن أخذ هذه الأموال خائب؟ ماذا جمعت أنت في حياتك كلها؟ ما أظنك بلغت ما أخذه هو في ليلة!

– أجُننت يا ولد؟ لقد لعبت بالفلوس لعبًا، إني أكسب القرش من …

ويقاطعه كمال ساخرًا: من فم الأسد، سمعت هذا الكلام كثيرًا كم في جيبك الآن؟ كم في منزلك؟

ويُبهت منصور ويتلجلج، ثم يقول لمن حوله محاولُا أن يغطي خزيه: ماذا تقولون يا رجال؟

ويقول الكحلة: ما تقول أنت؟

ويقول منصور: وماذا لو قبلنا، فإن لم تعجبنا الحال قتلنا الرئيس؟

ويقول كمال: على مهلك، فإنك ستقسم على المصحف أن تخلص له كل الإخلاص.

– آه صحيح!

– ثم إنه ليس ساذجًا، وهو يتغذى بك قبل أن تتعشى به، وهو يعرف أسراركم جميعًا لا يغيب عنه سر واحد منها، ورقة صغيرة إلى المأمور تُعدم أنت ويُحبس إخوان الصفا.

ويقول منصور لمن حوله في تردد مذعور: هيه يا رجال؟

ويقول النمرود: نقبل يا منصور، وإذا لم يعجبنا الحال نفضها.

ويقول منصور كمن جمع أمره أخيرًا: الأمر لله نقبل، مَن صاحبك؟

– القسم.

ويقوم النمرود إلى داخل المنزل فيحضر المصحف، ويسأل منصور: نقسم أن نطيع من يا كمال؟

– تقسمون أن تطيعوا الذي أخذ أموال الشيخ عبد الودود وعبد الرحمن السلامي والخواجة، وأن تُخلصوا له، وألا تخرجوا عليه مهما تكن الأحوال.

وأقسم الجماعة على المصحفِ القسمَ الذي أراده لهم كمال، وما إن أتموه حتى التفت منصور إلى كمال يسأل في لهفة: من هو إذن؟

ولكن كمالًا لا يريح ثائره بل هو يقول: اسمعوا أولًا ما ينوي أن يفعله لكم، إنه سيشتري لكلٍّ منكم حصانًا وبندقية ومسدسًا، إلا أنه يقول …

– هيه ماذا يقول؟

– يقول إن في هذه البلدة فقراء كثيرين، وهو يريد أن يفرض إتاوة على الأغنياء ويعطي منها للفقراء.

– وماذا سنفيد نحن؟

– تفيدون أنكم ستطبقون الأفواه حواليكم، فلا تنطق إلا بحمدكم، وتقومون بأعمالكم في الظهر الأحمر، فلا يشهد عليكم أحد، ثم إنكم لن تعطوا هؤلاء الفقراء إلا ربع أو خُمس ما تنالون.

ويقول النمرود: وماذا سننال؟

– ستنالون جنيهًا عن كل قنطار قطن يخرج من هذه البلدة، وستنالون خمسين قرشًا عن كل إردب حَب تنتجه الأرض، وستنالون خمسة جنيهات عن كل فدان يُباع، تنالونها من البائع؛ لأنه أصبح وفي يده مال، وتنالونها من المشتري؛ لأنه يملك ما يشتري به، وستنالون جنيهًا في العام عن كل جاموسة أو بقرة لتحفظوها لصاحبها فلا تُسرق منه، وهذا جميعه غير ما ستحصلون عليه من الماشية من البلدان الأخرى فتبيعونها أو تردونها بالحلوان، وغير الاستفادة من الطرق الخالية التي لا يحرسها أحد، ألا يكفيكم من هذا جميعه أربعة أخماسه، وتهبون للفقراء خُمسه، فيظل القوم حولكم صامتين لا يكشف أحد من أمركم شيئًا؟

وقال منصور وقد جف حلقه، وبلغت به الدهشة أقصاها: يا ابن الكلب من صاحبك؟ من صاحبك؟ أشهد أنه رجل وابن رجل، وأشهد أنه سيدي وتاج راسي، من هو حتى أقبل حذاءه وأضع رأسي تحته من هو؟

ورفع كمال الجلباب عن حزام الشيخ عبد الودود، وفك أربطته في تؤدة ثم رماه أمامهم فارغًا فذُهل القوم، ولكن كمالًا لم يبالِ ذهولهم، بل هو يضع يده في جيب صداره فيخرج حافظة الخواجة يلقيها أمامهم، ثم يضع يده في جيب جلبابه فيخرج حافظة عبد الرحمن فيلقيها أمامهم، كل هذا في بطء شديد، بينما راح الرجال الأربعة يقلبون الأشياء ويتعرفون عليها واحدة واحدة؛ فهذه أوراق عبد الرحمن، وهذه أوراق مكتوبة بغير اللغة العربية فهي للخواجة، وفي ذهول مخدر لا يكاد يبين يتصايح أربعتهم صيحات تهم بالارتفاع، فيمسك بها الذهول والفزع والحشيش.

– مَن؟ أنت؟

ويقول كمال في صوت هادئ حازم لم يسمعه القوم من قبل صادرًا عن كمال، ولم يسمعه القوم من بعد صادرًا إلا عن كمال: نعم أنا.

١٠

لم يكن تردد دُرية حين سألها كمال إن كانت ستذهب إلى البيت بعد زيارتها وليد دهشة من السؤال، وإنما كان وليد حذر في الإجابة؛ فقد كانت تُضمر في نفسها زيارة أخرى لم تطلع عليها غير فاطمة، فقد كانت دُرية تنوي أن تزور بيت الشيخ حسن لترى وقع رفض أبيها.

وفُوجئ فتحي بدُرية وهي تطلب إليه أن يتقدم إلى بيت الشيخ حسن الذي كانت تعرفه كل المعرفة، والذي طالما قصدت إليه في ستار من الليل، تجلس إلى الست أم صلاح، وقد كانت دُرية تظهر الحب كل الحب للست أم صلاح، وجعلت من هذا الحب المصطنع ستارًا أسدلته على حبها الحقيقي، فكانت ترحب بأم صلاح كلما ألمت بهم في زيارة، وكانت تظهر لأمها شوقها إلى أم صلاح كلما تأخرت هذه عن الزيارة.

وهكذا لم ترَ بأسًا أن تزورها الليلة، فما كان مفروضًا أن تعرف بما كان بين الرجلَين، وما كان مفروضًا أن تقطع أم صلاح فلا تزورها لمجرد أن أباها رفض ابنه، ولكنها مع كل هذا التبرير الذي اصطنعته لنفسها أوعَزَت لفاطمة أن تكتم خبر هذه الزيارة، وأن تطلب إلى فتحي أيضًا أن يكتمها.

كانت دُرية تعلم أن فخري لم يقم في القرية بعدما كان من أبيها، وأنه رحل إلى القاهرة في الباكر من الصباح التالي؛ فهو لم يسمع من أمر الجرائم التي تمت شيئًا، وهكذا كانت تعلم أنها في زيارتها تلك لن تلقاه، ولكنها أرادت أن تقوم بهذه الزيارة عسى الأمل ألا ينقطع عند آل الشيخ حسن، وعساهم يكررون الطلب إذا ما سنحت سانحة ليتكرر هذا الطلب.

– مساء الخير يا خالتي أم صلاح.

– أهلًا مساء الخير يا حبيبتي، خطوة عزيزة، مرحبًا بالحبيبة بنت الحبيب.

– أكثر الله خيرك يا خالتي أم صلاح، كنت في البلدة فلم أرضَ أن أمر ببيتك دون أن أزورك.

– مرحبًا يا حبيبتي، شرفت! يا فاطمة.

– نعم يا ستي أم صلاح؟

– عندك البن في الطاق، اعملي لنا فنجان قهوة الله يسترك، أنت عارفة مكان الحاجات.

– من عيني يا ست أم صلاح.

وتقوم فاطمة إلى القهوة، وتعود أم صلاح إلى ضيفتها: أظنك كنت تزورين المساكين الذي اعتدى عليهم قاطع الطريق.

– إي والله يا خالتي مساكين، حالهم يبكي.

– لا أعلم والله أين كانت هذه المصائب مختبئة لنا يا بنتي؟

– إي والله يا خالتي.

– والمصيبة أن المصائب كلها جاءت متلاحقة، عمك الشيخ حسن مريض منذ كان عند أبيك، خرج مريضًا من عندكم، ولم يخرج من البيت حتى الآن.

– ألف سلامة له.

– والله زعل من أبيك جدًّا يا دُرية.

– ما له يا خالتي؟ كفى الله الشر.

– والله يا بنتي لا أعرف، حمى — بعيد عنك — أم برد لا أدري، لا يكلم أحدًا ولا يأكل شيئًا منذ جاء من عندكم، وزاد عليه المرض عندما سافر فخري.

– كل شيء يهون يا خالتي إن شاء الله.

– عرف بالحوادث التي جرت، وحاول أن يقوم فلم يستطع القيام، حتى لقد جاء الخواجة استاورو قبل أن يُسطى عليه فلم يستطع أن يلقاه، وقال إنه سيعود إلينا في اليوم التالي، ولكن اللص هاجمه في الطريق فلم يعد بعدها إلى البلد أبدًا.

– وبعدُ يا خالتي؟

– لا بعدُ ولا قبلُ، هي مصيبة وحطت علينا، والأمر لله، حتى الذين باعوا قطنهم للخواجة استاورو وقبضوا منه عرابين قطنهم لم يأتِهم أحد ليتسلم القطن، وقد سمعوا أن الخواجة لن يعود إلى بلدة السلام مرة أخرى، وقد قصده أحمد أبو خليل يطلب إليه أن يأتي ليتسلم قطنه فقال له: إنه لن يعود إلى البلدة أبدًا، وإنه لا يريد العرابين التي دفعها.

– وبعدُ يا خالتي؟

– القطن عندنا كالقتيل لا يجد من يشتريه، وقد ذهب أخوك صلاح اليوم إلى المديرية ليبحث عمن يشتريه، ولم يعد حتى الآن.

– إن شاء الله يجد المشتري يا خالتي.

– والله يا بنتي لا أظن، التجار خائفون من القرية، والتجارة يا بنتي أمان، النهاية … كيف حالك أنت؟

– الحمد لله يا خالتي.

وعادت فاطمة بالقهوة، فراح ثلاثتهنَّ يشربنها على حديث فاطمة التي انتهزت فرصة الصمت من السيدتين، فقالت: ألم ترَيْ وطنية اليوم يا ستي أم صلاح؟

– لا والله يا بنتي، لها أيام لم تأتِ.

– هناك … إنها اليوم في أحسن حال — على الأقل في شكلها — إلا أنها مع كل ما هي فيه من نعيم غاضبة ساخطة كأنما مات لها عزيز.

– خير؟ ما الذي جد عليها؟

– جد عليها؟ جلباب إن رأيته قلت فستانًا أحمر حلو، وعصبت رأسها بمنديل جديد، والعجيب أن شعرها خاضع للمنديل الجديد ولا أدري بماذا أخضعته، لا بد أنها اشترت له زيتًا غاليًا.

فقالت أم صلاح: عجيبة! ألا تكون هي قاطعة الطريق ونحن لا ندري؟

وضحك النسوة الثلاث ضحكًا عاليًا، قطعه عليهم سعال الشيخ حسن صادرًا من مقعده بأعلى المنزل ينادي زوجته: يا فضيلة.

– نعم يا شيخ حسن.

– فنجان قهوة وحياة والدك.

– حالًا يا سي الشيخ.

وقبل أن تستأذن فاطمة لعمل القهوة، استأذنت دُرية لتنصرف قالت أم صلاح: ولم؟ اقعدي قليلًا سأعود إليك حالًا.

– لا، تأخر بنا الوقت وأخشى أن يدخل أبي فلا يجدني، وهو في هذه الأيام غاضب ضيق النفس لا يطيق الدنيا، مُسِّيت بالخير يا خالتي.

– مُسِّيت بالخير يا حبيبتي، بلغي سلامي للست الحاجة، وإن شاء الله أجيء إليها عندما يغادر عمك الشيخ حسن الفراش.

– سأبلغها يا خالتي.

وَحَيَّت فاطمة أم صلاح وانصرفت تتبع سيدتها إلى الخارج، حيث وجدتا فتحي واقفًا ينتظر خروجهما، وسار الركب عائدًا إلى بيت العمدة، مارًّا بالنيران والأنوار الخافتة والرجال المتحلقين، ولكن دُرية لم تحفل شيئًا مما مرَّت به؛ فقد هاجت لها الزيارة ذكريات قديمة وجديدة لازمتها حتى أسلمتها إلى أمها المتسائلة عن التأخير، فراحت دُرية تقص عليها ما لقيته في البيوت المنكوبة، وراحت الأم تسمع في عجب حزين.

وحين خلت دُرية بحجرتها وأعادت ما كان من أم صلاح وترحيبها، أدركت أن أم فخري لم تقطع الأمل؛ فهي تعرف عن الست فضيلة ذكاءً متوقدًا، وهي تعرف أنها ما كانت لترحب بها هذا الترحيب إلا لأنها تضمر في دخيلة نفسها أن تعود إلى المحاولة، وقد تمكن هذا التفكير من دُرية حين تذكرت وعد أم صلاح بزيارة أمها، وهي تدري أن أم صلاح ما كانت لتزور الأم إن كانت قد قطعت الأمل في هذا الزواج الذي تصبو إليه نفوس كثيرة، وهي تدري أن أم صلاح ما طلبت إليها أن تبلغ والدتها بهذه الزيارة إلا لتشير لدُرية نفسها من طرف خفي أنها غير غاضبة، وأنها ما زالت تأمل أن يتم هذا الزواج، فما كانت أم صلاح لتغبى أن زيارة دُرية إنما تمت في خفاء عن والدَيها.

وبهذه الآمال التي أحيتها دُرية في نفسها استسلمت إلى نوم منصور، وأغمت عينَيها على أحلام وردية لا شأن لها ولا صلة بهذا السواد الحالك الذي يحيط بقرية السلام، وبعمدة قرية السلام.

١١

فرغ العمدة من صلاة العصر وخرج إلى مجلسه من شرفة الدوار ينتظر رفاقه، وإن كان في هذه الأيام لا يطيق أن يرى أحدًا، فالمركز يطلبه دائمًا وهو حائر لا يدري ماذا يفعل، والمأمور لم تُجْدِ معه الهدايا والتزلف، فإن الجرائم التي ارْتُكِبت كانت أكبر من كل الهدايا مهما تعظم، ومن أي تزلف مهما يبلغ، حتى لقد هدده المأمور بالوقف إن هو لم يقبض على الفاعل، وطلب إليه أن يكون على صلة دائمة به ليبلغه كل إشاعة تُرَوَّج، فلعل لإشاعة منها امتدادًا للحقيقة.

ولم يطل الانتظار المنفرد بالعمدة فقد قدم إليه نور الكحلة وما كان يتوقعه، ولكنه فرح بلقياه فهو يعرف عنه أنه خريج سجون ويعرف المجرمين، وداخل العمدة أمل أن يجد عند نور ما يضيء له بصيصًا مهما يكن خافتًا يهديه في هذا الظلام الحالك، وقال في نفسه: إن لم يرشدني إلى الفاعل فلعله يرشدني إلى اسم أقدمه إلى المأمور فيلهيه عني بعض الحين، وهكذا وجد نور نفسه فجأة محل ترحيب لم يكن ينتظره.

– أهلًا وسهلًا كيف حالك يا نور، أين أنت يا أخي؟ من زمن طويل لم أرَك.

– تحت أمرك يا حضرة العمدة تشوقت إليك والله فقلت أزورك.

– والله جئت في وقتك يا نور.

– تحت أمرك يا حضرة العمدة.

– يا أخي المصائب تتلاحق على البلدة ولا أجد أحدًا منكم يساعدني، لا، لم أكن أنتظر هذا منكم يا نور.

– نحن خُدامك يا حضرة العمدة ماذا نفعل؟ أنت تعرف طبعًا أننا لا شأن لنا بهذه الأعمال.

– سبحان الله يا أخي! وهل قلت إن لكم شأنًا؟ إنني أعرف خطواتكم جميعًا، وطالما سكتُّ عما يفعله منصور والنمرود والولد الزهار أيضًا، وكنت أقول ما داموا يبتعدون عن البلدة فليفعلوا ما شاءوا.

– والله يا حضرة العمدة إن هذه الجرائم لم ندرِ بها إلا بعد وقوعها.

– أعرف، ولكني كنت أنتظر منكم أن تبحثوا معي عن الفاعل وتدلوني إليه، أيرضيكم أن يصبح عمدة بلدكم ضحكة في أفواه العمد؟!

– لا قدر الله يا حضرة العمدة.

– لقد قدر فعلًا، وأنا من أسكت عنكم، وأعرف أن النمرود يبيع الحشيش ويساعده في ذلك الزهار ولم أتكلم، بينما أستطيع أن أبلغ عنهما، وأعرف أن منصورًا قتل الفرماوي، وأعرف كل من قتلهم منصور ومع ذلك لم أتكلم.

– إنهم يا حضرة العمدة يدعون لك دائمًا ويعرفون أنك تكرمهم، وهم في انتظار الإشارة منك.

– ألم تسمعوا شيئًا عن الفاعل في هذه الجرائم؟

– يا حضرة العمدة هذه المصيبة جاءت من الخارج، رجال لطيف بك غاضبون، وأصبحوا يخشونه بعد مقتل الفرماوي، وهو يعرف تخوفهم هذا، فأصبح لا يعطيهم ما كان يعطيهم، فأظن أن واحدًا منهم أو بعضهم خرج إلى الطرقات المظلمة ليعوض ما أكله عليه لطيف بك.

– يا أخي قل كلامًا غير هذا، ومن أين يعرفون بخروج الشيخ عبد الودود، وبمجيء الخواجة استاورو إلى البلدة، وبسفر السلامي وعودته؟ لا يا عم، شرع الله عند غيرك إنه واحد من أهل السلام.

– والله يا حضرة العمدة أنت أدرى ولكن هذا ما بلغنا، ورجال لطيف لا تخفى عليهم خافية، وأولاد الحرام كثير.

– جائز، ولكن لا أظن، على أي حال يا نور لك عندي جائزة كبيرة إن أنت عرفت الفاعل وأرشدت إليه.

– ربنا معنا يا حضرة العمدة.

وقبل أن يجيب العمدة صعد إلى الشرفة الشيخ رضوان والحاج علي، ورحب العمدة بالرجلَين، وبدأ الحاج علي الحديث: أسمعت يا حضرة العمدة الإشاعة التي ملأت البلد اليوم؟

– هيه.

– يقولون إن رجال …

– لطيف بك؟

– نعم، أبلغك هذا؟

– والله نور هو الذي قال لي الآن.

– الإشاعة في البلد كلها يا حضرة العمدة.

– كلام فارغ، المجرم من البلد ولكن من هو، لا أعرف، مجرم جديد لا نعرفه …

وقال الشيخ رضوان: سنريحك من حديث الجرائم قليلًا بحديث فارغ؟

– خير؟

– لا والله إنه ليس خيرًا ولكنه أهون من هذه الجرائم، إنه تسلية على كل حال.

– ماذا؟

– سعدية أم الخير …

– وصالح ثانيةً.

– يا حضرة العمدة، العيشة لا تمكن بينهما، لا تمكن أبدًا.

– لماذا؟

فقال الحاج علي: غضبت منه ثانية.

– قل عاشرة.

فضحك الجميع من نكتة العمدة، وتابع الحاج علي حديثه: وذهبت إلى دارها، وأظنها ستجيئ إليك الآن.

– عظيم لم يبقَ أمامنا إلا سعدية وصالح نقيم لهما عمودية ثانيةً خاصة بهما، عظيم، عظيم!

وقبل أن يكمل العمدة سخطه يصعد صالح إلى الشرفة …

– السلام عليكم يا حضرة العمدة.

ويجد العمدة مصدر سخطه أمامه، فيقول في سخرية مريرة وفي ضيق بلغ مداه: عليكم السلام يا سيدي ورحمة الله وبركاته، نعم!

– البنت سعدية.

– ما لها؟

– تركتني وذهبت.

– في ستين داهية، اسمع يا بني اقترب هنا، خذ …

ويضع العمدة يده في جيب صداره ويخرج حافظته ويخرج منها جنيهَين، ويكمل حديثه: خذ يا صالح جنيهَين ثمن الفراخ وأنت حر مع زوجتك، تطلقها تطلقك، تقيم معك تتركك، المهم أن تتركني أنت يا بني، ارحمني يا أخي!

– يا حضرة العمدة وهل طلبت منك ثمن الفراخ؟

– من غير طلب يا بني، يا بني ابعد عني، اعمل لي هذا المعروف يا بني.

– وإلى من أذهب يا حضرة العمدة، إنها …

وقبل أن يكمل صالح حديثه تصعد سعدية إلى الشرفة وترتمي على قدمي العمدة.

– خلصني يا حضرة العمدة، أنا خادمتك، ليس لي في الدنيا غيرك يا حضرة العمدة، أنت الذي رميتني وأمرتني أن أصالحه، أرجوك يا حضرة العمدة، أبوس رجلك يا حضرة العمدة.

ونتر العمدة قدميه مبتعدًا بهما عن سعدية، وهو يقول: عظيم، تمت، ماذا أفعل الآن يا سي صالح؟!

فقال الحاج علي كمن يحاول تهدئة الحال: قل لي يا صالح أترى يا ابني العيشة بينكما ممكنة؟

– وماذا أفعل يا عم الحاجعلي؟

– طلقها يا بني.

ويقول الشيخ رضوان: نعم طلقها يا أخي.

وتترقرق العبرات في عيني صالح فتمسك بها رجولة، ويهم بأن يقول «أحبها» فترد رجولته الكلمة عن لسانه وتطلقه يقول: تكلفت في زواجها فوق ما أطيق، ولا أملك ما أتزوج به ثانيةً يا عم الحاجعلي.

ويقول الحاج علي في صوت يكاد يكون ساخرًا: يا أخي اعتبرها تجارة بارت.

ويقول صالح في صوت مختنق بالعبرات، والمشاعر المختلفة بين الحب والكرم، والإقبال والنفور، والعزة والذلة، ازدحمت جميعها وأبت رجولته أن تبين عنها: ومن أين لي بمتأخر الصداق يا عم الحاجعلي؟

وتصيح سعدية: لا أريده، أبرأتك من الحق والمستحق، ولا أريد منك شيئًا، فقط … طلقني.

– أهكذا يا سعدية وتهون العشرة؟

– تهون.

– الأمر لله، عندما يسترد الشيخ عبد الودود صحته أطلقك.

وينبري الشيخ رضوان قائلًا: وما الحاجة إلى الشيخ عبد الودود؟ قل لها: طلقتك ثلاثًا طلاقًا بائنًا لا رجعة فيه، تصبح طالقًا، وأوراق الشيخ عبد الودود تسجل الطلاق فيما بعد.

ويقول صالح في تماسك كتماسك الزجاج المتحطم أوشك أن ينهار: أهذا ما تريدين يا سعدية؟

وتقول سعدية في جمود مشيحة بوجهها عنه: نعم.

فأنت طالق يا سعدية ثلاثًا، طلاقًا بائنًا لا رجعة فيه.

ويتنهد صالح تنهيدة عميقة وهو ينصرف عن مجلس العمدة قائلًا: حسبي الله ونعم الوكيل … حسبي الله ونعم الوكيل.

وتنفجر سعدية باكية بكاءً عالي النشيج، وتنصرف عن العمدة لا يدري القوم إن كانت قد انصرفت راضية أم آلمة، ويصمت القوم فترة من الزمان ما أحسوا أطالت أم قصرت، فكأنما شاهدوا مصرع شباب أمام أعينهم، ثم يقطع العمدة الصمت قائلًا: لعلنا نرتاح بعد ذلك من سعدية وصالح.

وما إن يتم العمدة جملته حتى يبدو الشيخ حسن متوكئًا على ابنه صلاح وقد بدا أثر المرض على كل جارحة فيه، وراح يئن وهو يصعد درج السلم في أناة هزيلة، وما إن يراه العمدة حتى يقف فيقف الجميع.

– مرحبًا، مرحبًا، أهلًا أخي، والله العشرة لا تهون، لا تهون أبدًا.

ويتقدم العمدة إلى السلم فيأخذ مكان صلاح، ويجعل من نفسه تكأة للشيخ حسن، ويسير حتى يبلغ به مجلسًا إلى جواره، فيُقعِده ويقعد إلى جانبه ويعود القوم إلى أماكنهم، ويتابع العمدة ترحيبه: أهلًا، أهلًا، ألف سلامة ما لك؟! والله ما سمعت أنك مريض.

ويكون الشيخ حسن قد استجمع بعض قواه التي أنهكها المشي وصعود السلم.

– مريض منذ تركتك والله، وما إن سمعت بالحوادث حتى قمت أريد أن أجيء إليك فهدني المرض، وماذا ستفعل؟

– أهذا ما جاء بك؟

– طبعًا وهل كنت تنتظر غير هذا؟! البلد في شدة وأنت عمدتها إن لم نقف معك جميعًا فعلى البلد السلام.

– والله الشدائد حلوة، والله أخ.

– طبعًا وهل يمنعني عنك شيء وأنت في شدة؟ ماذا سنفعل؟ ابني صلاح أمامك مره أن يفعل ما تريد ما دام المرض يقعدني أنا، وقد أرسلت اليوم خطابًا إلى فخري ليجيء، اجعل منهما خفراء، اشترِ لهما السلاح، وعين لهما ما يفعلان، أموالي تحت أمرك، صلاح باع القطن وسيأتي التاجر ليتسلمه غدًا، وقد دفع العربون مائة جنيه، خذها ها هي ذي، اشترِ بها سلاحًا للقرية، وسأحضر لك بقية ثمن القطن بعد تسلمه، أم ماذا ستفعل؟

وترقرقت الدموع في عينَي العمدة وهو يرى صداقة عمره ماثلة أمامه لم يمنعها الخصام ولم تردها المغاضبة، فأقبل صديق العمر أخو الصبا والشباب والكهولة يقدم أولاده وماله، ضعف جسمه فقدم ما يغلو عن جسمه، قدم امتداد حياته، قدم آماله في المستقبل وما بعد الحياة، قدم ولدَيه وما لديه من مال، بل وما يرتقبه من مال أيضًا، ويقول العمدة وعبراته على وجنتَيه سائلة لا يردُّها؛ فهي عبرات يشرفه أن تسيل: بارك الله فيك يا حسن، لا شيء، لن أفعل شيئًا أكثر مما فعلت أنت، وماذا يمكن أن أفعل أكثر مما فعلت أنت؟

ووجم القوم يُعجبون من هذا الذي يرون وتضاءل كل منهم أمام نفسه.

وأمام هذه الشواهق العالية من الرجولة راح كل منهم يجد تعليلًا فيه شيء من الدناءة لما يقوم به الشيخ حسن، لعله أن يعيد لنفسه سابق كبرها بعد أن أحست مقدار بُعدها عن الرجولة الحق، فالحاج علي يقول في نفسه: «إنه تظاهر، إنه يعلم أن العمدة لن يأخذ المائة جنيه، ولن يُجيش الجيوش ولن يشتري السلاح.» والشيخ رضوان يقول: «لا بد أنه يريد أن يقترض من العمدة مثل المائة الجنيه مائة أخرى ليعطيها لابنه الذي يتعلم في العاصمة.» أما نور فقد كان الأمر عنده أخطر من هذا وأجلُّ؛ لقد رأى عصابته مهددة بهذا الشيخ الخرف الذي يريد أن يقضي عليها وهي في مهدها، وكان الأمر عنده خطيرًا أيضًا؛ لأنه علم أن قطن الشيخ حسن سيُسلم غدًا، ولا بد لهم أن يبدءوا عملهم به فيصيبوا بهذا هدفَين برمية واحدة؛ فهم أولًا سيبدءون عملهم الأساسي في فرض الإتاوات وسيبدءونه مع رجل من وجوه القرية، وهم أيضًا سيُسكتون ذلك الصوت الذي يبدو عاليًا. ويهم نور بالقيام ولكنه يرى أن يلبث قليلًا حتى لا يفطن القوم إليه ويذكروا قيامه هذا عندما يتم ما يزمعه، والظنين كثير الوساوس، يفيق الجمع من وجمتهم، وقد أعد كل منهم جملة نفاق يلقي بها عند قدمَي الشيخ حسن، ولكن العمدة يقول: أبقِ عليك المائة جنيه الآن، فإن احتجت إليها طلبتها.

ويقول الشيخ حسن: ماذا؟ أتظنني جئت أعرض كلامًا؟

– لا والصداقة التي بيننا، لا والله الذي لا إله إلا هو، ولكن عندي فضلة مال وما أظنني أحتاج إلى شيء الآن، فإن احتجت قلت.

– ولماذا تقوم بالأمر وحدك؟

– لا والله لن أقوم به وحدي، ولكني لا أستطيع شراء السلاح قبل أن أستأذن المأمور وأطلب الترخيص، حتى إذا عزمت على الشراء طلبت منك ما تريد أن تدفع، وعلى كل حال احفظ هذا المبلغ ولا تصرفه حتى نجمع رأينا على أمر.

– وهو كذلك، هذا المبلغ وأضعافه تحت أمرك، السلام عليكم.

ولكن الشيخ رضوان يسارع قائلًا: والله إنك رجل ونِعم الرجل، بارك الله لك في مالك وأولادك يا شيخ.

ويصيح الشيخ حسن غاضبًا: لا، لا يا شيخ رضوان، الواجب لا يجوز المديح عليه، وإني رجل أَمْرٍ لا يحتاج إلى تقرير، كلنا عند الشدة رجال يا رجل.

ويهم بالقيام ثانيةً فيسمع صوت نفير سيارة قادمًا من قريب، فيمتقع وجه العمدة وهو يقول: المأمور.

ويمكث الشيخ حسن في مكانه لا يبارحه بعد أن يرى امتقاع العمدة، وتتفتح أفواه الجالسين صموتًا حتى تأتي السيارة، فيتبين العمدة أنها ليست سيارة المأمور، ولكن الخوف لا يزايله إذ لعله أن يكون المأمور قادمًا في سيارة أخرى، وما تلبث السيارة أن تقف ويخرج منها رجل في الحلقة الخامسة من عمره جامد الوجه غليظ الجسم كثير الزينة والحلي، كلهم يعرفه وكلهم يخشاه، وكلهم يداريه وكلهم يكرهه، وينزل من خلفه ثلاثة رجال مدججون بالسلاح، ويصيح العمدة وقد أصبح عند باب السيارة: مرحبًا لطيف بك، أهلًا وسهلًا، خطوة عزيزة، شرفت يا سعادة البك.

ويتقدم القوم يصافحون لطيفًا ما عدا الشيخ حسن الذي ظل مكانه، حتى اقترب منه لطيف بك فوقف له في إجهاد: أهلًا سعادة البك، لا تؤاخذني فالمرض أقعدني.

ويجيب لطيف بك في محاولة بليدة للرقة: سلامتك يا شيخ حسن.

ويعود القوم إلى مجالسهم، ويأخذ لطيف بك مكان العمدة، ويبدأ الحديث فور جلوسه: سمعت بما حدث عندكم فقلت لا بد أن أزورك، إنني مستعد لكل شيء.

– أطال الله عمرك يا سعادة البك، والله لا ندري من أين جاءتنا هذه المصائب.

– غريبة! أنا نفسي تعجبت جدًّا، وتممت على الأولاد فعرفت أنهم جميعًا كانوا بعيدين عن أمكنة الحوادث، وسمعت اليوم أن في البلد هنا إشاعة عن رجالي، فاستعلمت ثانية فتأكد لدي أنهم لا شأن لهم بهذه الحوادث، والأولاد عندي كلهم عيون بعضهم على بعض، فلا يمكن أن يفعل أحد منهم شيئًا ولا أعرف به، وأنا لا أرضى أن أصيب بلدة مجاورة لي بشر، خاصة وأنا أرجو منها الخير في الانتخابات، وإني — وإن كنت سقطت في الانتخابات الماضية — إلا أني لا أنسى أنكم بلدة مجاورة.

ويقول واحد ممن جاءوا معه: والله إن سعادة البك دائمًا يأمرنا ألا نتعرض لأحد من هذا البلد بشرٍّ أبدًا.

ويقول لطيف بك: أليس كذلك؟ وعلى كل حال أنا سأظل وراء هذا المجرم حتى أعرفه.

وتختلط أصوات القوم بالدعاء للبك، ويميل الشيخ رضوان على الحاج علي هامسًا في صوت خفيض: هل اقتربت الانتخابات؟

– أظن ذلك.

وجاءت القهوة فراح القوم يحتسونها بين دعاء للبك، وبين شكوى إليه من وقف الحال بعد أن نفر التجار عن القرية، وبين أمل في المستقبل بعد أن باع الشيخ حسن قطنه إلى تاجر في المديرية، والبك يستمع، يعلق أحيانًا أو يرتجه الجهل بفاعل هذه الحوادث فيصمت، ولم يكن البك لبقًا في الحديث ولا بذي علم في غيره، وإنما هو غني فاجر جعل في العصابة التي أنشأها غناه عن كل ما عداها؛ فهو بإجرامها قوي، وبأسلحة فتيانها عالم، ألم يتيحوا له بأسلحتهم أن يتكلم فيصمت الجميع، وأن يشير فتُسمع مشورته، وأن يلجأ إليه المتملقون، يسألونه النصح فينصح، نصحه أمر لا محيد عنه، فهو في هذه الناحية عزيز وإن كان ذليلًا، وهو فيها عالم وإن كان أقل من جاهل.

ولم يثبت البك أقدامه في أعماق الطين، ولم ترسخ دعائمه في أغوار العفن عن قلة كفاية ولا عن لعب وهزل، وإنما هو قاتل سفاك، ثبتت أقدامه بقتل من يجرؤ على معارضته، ووطد دعائمه بالقضاء على كل مَن تطاوَلَ يومًا فقال الله أكبر على الظالم والعاتي، والقتل طبيعة في النفس الشريرة والحياء ستار رقيق، ولا فرق بين الشريف والقاتل إلا ستار الحياء الرقيق هذا، فإن سقط هذا الستار وظهرت الطبيعة العارية، فليس ثمة حد لما تفعله النفس الخبيثة، فالقتل أهون شرورها. لقد كان البك يتخذ من هذا القتل أداة افتخار واعتزاز، بل إن البك لا يخجل أن يصطنع منطقًا للقتل، فإن عجز عن اصطناعه اصطنعه المنافقون من حوله، وقبله هو وردده حتى اقتنع به وحاول أن يُقنع به الآخرين. ومِن هؤلاء الآخرين من يقتنع لأنه لا يملك إلا أن يقتنع، ومنهم من يصمت؛ لأنه لا يملك أن يتكلم، ومنهم من يخشاه البك — فإن لكل سيد سيدًا — فلا يقتنع ولا يهتم البك إن اقتنع هذا الذي يعلوه منزلة أو لم يقتنع، فإنه حتى هذا الرجل الذي يخشاه البك مهما يكن مكانه منه لا يستطيع أن يصده عن طريق سار فيه فأمعن. وما دام هذا السيد الذي يخشاه البك قد قبل أن تكون ثمة صلة بينه وبين هذا البك المجرم، فإنه هو أيضًا يصبح ولا قيمة لرأيه، وحسب البك منه أن يستعين به إن اقتضاه أمر أن يستعين به، وأن يستعين هو بالبك إن اقتضاه أمر أن يستعين به، ومهما يكن هذا الأمر هينًا، ومهما يكن شريفًا، إلا أنه — وقد استعان به — فإنه يصبح أمامه أقل من أن يملي عليه رأيًا، والبك لا يعدم فضيلة؛ فهو يخلص أشد الإخلاص لأصدقائه على ألا ينالوا منه، وإلا انقلب عليهم.

هكذا كان البك بعيدًا كل البُعد عن الشرفاء؛ لأنهم هم لا يحبون أن يقتربوا منه، وقريبًا كل القُرب من أولئك الكبار الذين يوسعون له في مجلسهم ويسمحون له أن يقول على مسمع منهم فيغوص أمامهم في الوحل فيحقروه ولا ينتشلوه، فهم إنما يصطنعونه لأنفسهم، ويكتفون بإلقاء دعابة مازحة تعليقًا على حادث قتل قام به ويروي أمره عليهم، فإن أراد أن يسوق إليهم منطقه هذا الذي اصطنعه أو الذي اصْطُنع له، رفضوا الموافقة عليه بدعابة أخرى، وأقنعوا أنفسهم أنهم قاموا بواجبهم، وما أكثر ما تخادع نفسها النفس.

وقد يجد البك من يردُّه عن غيه ردًّا عنيفًا ولكنه لا يرتد؛ فقد شاء الله الرءوف بعباده أن يوجد بالناحية المجاورة أنور بك صدقي، وهو رجل يحب الحق فلا يعدوه، وقد ناصب لطيفًا العداء وحاول أن يرده باللفظ فلم يرتد، فراح يحاربه بكل سلاح إلا سلاح الجريمة، وكل سلاح بطيء أمام الجريمة، والسلاح المشهور أقل مضاءً من السلاح المتستر بالليل الأسود من الضمير المريض، وقد كانت أسلحة لطيف جميعها مستورة، وكانت أسلحة أنور جميعها مشهورة، فيرتكب لطيف الجريمة بالليل ويبلغ أنور النيابة في الصباح.

وهكذا كان يستطيع لطيف دائمًا أن يأتي جرائمه، ولم يستطع أنور أبدًا أن يثبت عليه جريمة، وإن استطاع أن يجعل اسمه في كل مكان شريف سبة وعارًا. وقد استطاع أنور أن ينجح في الانتخابات، ولقد نال من قرية السلام نفسها أغلب أصواتها، ولم يستطع لطيف أن يقتل من خرج عليه في الانتخابات؛ لأنهم كانوا أكثر من أن يقتلهم جميعًا، ولأنه كان يأمل منهم خيرًا في الانتخابات التالية، ولكن هذا لم يمنعه أن يصيب الأعيان الذين ناصبوه العداء في إصرار عنيف، والذين دعوا ضده في غير بلادهم، فهو يسرق بهائمهم ويحرق زراعاتهم ويهددهم بالقتل إن أمعنوا.

ولم يستطع أنور أن يفعل شيئًا إزاءه إلا أن يعوض هؤلاء بماله عما أصابهم في سبيله، وكان يبلغ الأمر إلى السلطات وهو واثق أن لا سبيل لهذه السلطات على المجرم الأصيل.

وهكذا لم يستطع أنور إلا أن يحدَّ من إجرام لطيف دون أن يصل إلى وقفه، ولم يستطع لطيف أن يقتل أنور؛ فقد كان يعلم أن عائلته الكبيرة لن تسكت عنه إن هو فعل.

كان منطق لطيف أن الرجل الحقيقي هو الرجل الذي ينفع ويضر، وأنه لا خير في رجل ينفع فقط ولا يضر أبدًا كأنور، وبهذه الفلسفة البسيطة سمح البك لنفسه أن يشارك الله في خلقه، ويقتل ويسمي ذلك ضررًا، ويجزي ويسمي ذلك نفعًا.

والبك وإن يكن شحيحًا إلا أنه كريم لصحبه الكبار، يبذل لهم الهدايا، وكريم أيضًا لصحبه المجرمين، يوسع لهم أسباب العيش، إلا أنهم إذا طمحوا إلى أكثر مما يعطيهم هيأ لهم مصيرًا كذلك الذي هيأه لكبيرهم الفرماوي على يد منصور الدفراوي.

ولا يجهل البك مجرمًا في الناحية أو صديقًا لمجرم أو متعلقًا بالإجرام أو هاويًا له، فهو ملجؤهم؛ يختار لهم المحامين ويمدهم بالقرض — دون العطاء — ويصطفي منهم لنفسه الأشداء الغلاظ.

هكذا كان لطيف بك لا يجهل أحد من الجالسين إليه في دوار العمدة شيئًا من أمره.

ولقد اتفق جميعهم على احتقاره في دخيلة أنفسهم، واختلفوا في أسباب طي هذا الاحتقار لا يجاوز دخيلة النفس؛ فمنهم من ينافقه عن طبيعة للنفاق، ومنهم من لا يخاشنه؛ لأنه لا فائدة تُرجى من مخاشنته، ومنهم من لا يعنيه أن يصانعه أو يخاشنه فهو يتخذ منه موقفًا لا مباليًا، فإن حياه أجاب، وإن أقبل قام، وإن غاب غاب فلا سؤال ولا ود.

جميعهم كان يحتقره شأنه في ذلك شأن عارفيه جميعًا، جميعهم إلا نورًا فهو وحده الذي يكن له الاحترام ويبديه، وما له لا يفعل؟ ولطيف بك في نظره المثل الأعلى الذي يُحتذى، والرجل الذي يحمي الرجال، والإله الذي يجزي فجزاؤه بعض مال، أو يعاقبه فعقابه الموت.

كان القوم لا يزالون يشربون القهوة حتى أقبل الحاج إبراهيم فألقى سلامًا دون أن يصافح أحدًا، واتخذ لنفسه كرسيًّا قصيًّا عن مجلس البك وقريبًا من سلم الشرفة، وعاد البك يفتح موضوع السرقات مرة أخرى مع الحاج إبراهيم: ما رأيك يا حاج إبراهيم في هذه الحوادث؟

فقال الحاج إبراهيم في بعض حدة: رأيي يا سعادة البك أنه لو كانت الناحية نظيفة من المجرمين، ولو كان المجرم يلقى عقابه الذي وضعه له القانون لا يستره عن العدالة أحد، لما وقعت هذه الحوادث.

واستقبل البك هذه الملاحظة العنيفة في صمت ولم يعلق عليها؛ فهو يعلم أن الحاج إبراهيم لا ينطق بغير الحق، وهو يغضي عما يقول؛ لأنه يحتاج إلى عائلته الكبيرة في الانتخابات، ولأنه يعلم أيضًا أن الحاج إبراهيم يقول له الحق في وجهه ثم لا يصنع بعدها شيئًا، اللهم إلا الامتناع عن انتخابه.

ولم يكن ذلك في نظر البك سببًا كافيًا للقتل؛ فقد كان لا يقتل إلا خارجًا عنيفًا في خروجه، أو خارجًا عليه من ذوي الإجرام.

ونظر العمدة إلى الحاج إبراهيم نظرة فيها بعض لوم، ولكنه لا يبالي ذلك منه، بل يقول له: طلقت سعدية من صالح؟

ويقول العمدة متعجبًا: لا إله إلا الله يا حاج إبراهيم، أهذا وقته؟

– الحق يُقال في كل الأوقات يا شيخ زيدان، طلقت سعدية من صالح؛ لأنه فقير. كره الله هذا والمؤمنون، كره الله هذا والمؤمنون.

– لا إله إلا الله يا حاج إبراهيم.

– لا إله إلا الله دائمًا وفي كل وقت يا شيخ زيدان، هو عون المظلوم على الظالم. سلام عليكم.

ويقوم الحاج إبراهيم وينصرف وقد أخذت القوم رجفة من ذكر الله، وكانوا قد انتهوا من شرب القهوة، فقام البك لينصرف، وركب السيارة يحف به على الجانبين رجلان، ويجلس الرجل الثالث في مقدمة السيارة، وقبل أن تتحرك السيارة ينادي الرجل الجالس في المقدمة نورًا: يا نور.

– نعم يا أبا سريع.

– أريدك في كلمة وحياة والدك.

ويسرع نور إلى أبي سريع، ولكن أبا سريع لا يتكلم فيدرك نور أنه إنما يريده في سر، فيدخل رأسه في السيارة ويضع أذنه على فم أبي سريع، ويهمس هذا في أذنه: البك يريد الدفراوي أن يأتي إليه غدًا.

ويجيب نور في سرعة لا يسبقها ريث تفكير: حاضر.

ويُخرج نور رأسه وتشرق على وجهه ابتسامة، فقدا بدا أمام الجميع موضع سر من البك أو من أحد رجال البك، وتشرق على وجهه ابتسامة أخرى؛ لأنه يعرف لماذا يريد البك الدفراوي، فقد كان يحزن البك أن تتم في المديرية كلها عملية كهذه العمليات التي تمت دون أن يعلم بها من قبل، أو يعلم على الأقل فيما بعد من الذي ارتكبها. ولم يكن هذا الحب الجارف للعلم نتيجة حب استطلاع، بل كان نتيجة حب البك للحياة، فإن أي مجرم لا يعرفه قد يقتله مأجورًا على ذلك أو متفضلًا، ولم يكن البك يحب أن يُقتل.

نعم كان نور مشرقًا حين بارحهم البك، فقد كان يظن أن الواقفين يجلون فيه أنه موضع سر البك المجرم، ولو كشف عن نفوسهم لأذهله الذي يجده بها من كره له وللبك جميعًا، ولأذهله أيضًا احتقارهم إياه، واحتقارهم المضاعف أضعافًا كثيرة — بقدر فرق درجة الإجرام بينهما — للبك نفسه، ولم يكن نور يظن أن لطيفًا يمكن أن يكون محل احتقار من أحد.

كان الموعد قد حل لانتهاء الجلسة، فقد جاء موعد العشاء، استأذنوا من العمدة جميعًا وانصرفوا، وانفتل العمدة إلى منزله.

•••

ذهب الحاج علي والشيخ رضوان صامتَين إلى دكان الحاج علي فوجدا أحمد أبا خليل ينتظرهما، فابتدرهما قائلًا: مرحبًا، مرحبًا، يدك أقبلها يا عم الشيخ رضوان.

فيقبلها ويلتفت إلى الحاج علي: يدك أقبلها يا عم الحاجعلي؟

فيقبلها أيضًا، ولكن الشيخَين غير راضيَين؛ فقد ارتجف قلبهما من حديث الحاج إبراهيم، ولم يجد الحاج علي مفرًّا لنفسه من ضميره إلا أن يقول لأحمد: يا بني ألم تجد وسيلة لترضي بها الحاج إبراهيم؟

ويَرْبَدُّ وجه الفتى وتعلوه الحسرة.

– ماذا أفعل له؟ ماذا أفعل؟ قصدت إليه حين علمت بطلاق سعدية أرجوه أن يشتري الفدان الذي كان يريد شراءه، وكنت قد اتفقت مع محجوب على أن يشتري منه عشرين قيراطًا، وقلت في نفسي: الفرق بين الثمنَين يكون مهر سعدية، ولكن الحاج إبراهيم رفض أن يشتري الفدان وطردني.

فقال الشيخ رضوان في ضيق: أرخص له الثمن.

– أرخصته حتى بلغ ستمائة جنيه، فأقسم لا يشتريه، بل أقسم … بل أقسم ألا يقبله هبة، فتركته.

فقال الحاج علي: لا حول ولا قوة إلا بالله.

وقال الشيخ رضوان: لا حول ولا قوة إلا بالله.

•••

وقصد الشيخ حسن مع ابنه صلاح إلى منزله ودلفا إليه فوجدا فضيلة تصلي العشاء، ووجدا بجانبها الموقد والعيش وما تحتاج إليه القهوة، فتركاها تنهي صلاتها، ودخلا مخزن القطن، فوجدا الأنفار يعبئون القطن على ضوء المصباح، فحياهم الشيخ حسن، وخلع صلاح جلبابه واستعد ليأخذ مكانه مع الأنفار وهو يقول: «كان الله في العون يا رجال.» وما لبث أن غاص في كيس وعلقه إلى سقف المخزن وهو يقول: «عَلَيَّ بالمدد يا رجال، هاتوا القطن لأريكم كيف يكون الكبس.»

فتركهم الشيخ حسن وخرج إلى زوجه فوجدها قد انتهت من صلاتها، فحياها ثم طلب إليها أن تحمل الموقد والعشاء وتلحق به إلى المقعد ريثما يصلي هو فرض العشاء، فأومأت له أنها ستفعل، فقد كانت لا تزال تسبح بعد الصلاة.

•••

أما نور فقد انطلق إلى بيت النمرود يحمل في ليلته أنباءً ضخامًا؛ فقد كان سفيرهم إلى بيت العمدة ليتسمع الأخبار فتسمع وتزود منها ما لا تطيق جعبته أن تحمل، وراح يقطع طريقه لا يدري بأي أخباره يبدأ وبأيها ينتهي، وراح يصور في ذهنه كيف سيطلق أخباره من عقالها الذي طال عليه الأمد من طول الطريق وانفراده فيه.

وبلغ نور منزل النمرود ودخله فوجد الجمع كما توقع أن يجدهم، الزهار على الأرض يعد الجوزة ويديرها، وكمال في الصدر على الأريكة يحف به التبجيل والتوقير، ويحف به أيضًا النمرود والدفراوي.

١٢

فرغ الشيخ حسن من تناول عشائه وقهوته وراح يُكمل سمره مع زوجته، وراحت هي تعلق على حديثه بما يرضيه، فما تعودت أن تلقي إلى سمعه إلا ما يرضيه، وأحس الشيخ بعض برودة في الحجرة فقال لزوجته: بالله يا فضيلة اقفلي الشباك، فإني أحس بعض برودة.

وقامت فضيلة إلى الشباك فأقفلته، وراحا يتحدثان مرة أخرى، ولم يطل بهما الحديث إذ ما لبث حجر أن اقتحم عليهما الغرفة محطمًا الزجاج في سبيله إليهما، واستقر الحجر أمام الشيخ حسن، فسارعت فضيلة إلى الشباك وهي تسب الأطفال الأشقياء الذين لم ينالوا من آبائهم الكلاب حظ تربية، وفتحت فضيلة الشباك وراحت تدور بعينَيها في الظلام فلم ترَ أحدًا، ولكنها أطالت الوقفة والسباب منتظرة أن يأمرها الشيخ حسن بالعودة إلى مكانها، ولكن الشيخ حسن كان مشغولًا بأمر جليل.

أمسك الشيخ حسن بالحجر الذي استقر أمامه وأراد أن يعطيه إلى زوجه المشغولة بالسباب لتلقيه إلى الشارع، ولكن يده لامست شيئًا غريبًا معلقًا بالحجر تبينه، فإذا هو ورقة مطوية، نشرها فإذا هي خطاب موجه إليه:

عرفنا أن قطنك سيُسلم غدًا إلى التاجر، ولكننا نوينا أن نأخذ من الأغنياء لنعطي الفقراء واليتامى والمساكين وأبناء السبيل؛ فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ؛ ولذلك فإننا سنأخذ منك عشرين جنيهًا عن كل قنطار جنيهًا واحدًا، وسنصرفها في أوجه البر، فإن قبلت فأرسل المبلغ مع ابنك صلاح إلى طريق محطة السكة الحديد فيظل سائرًا فيه، وسيجد أحدنا ليرشده إلى الخُص الذي نجلس فيه الآن، واعلم أنك مراقب من الآن حتى يحضر صلاح بالفلوس، فإن حاول أن يأتي بأحد معه فسيُقتل هو ومن معه، وإياك وعدم الدفع؛ لأنك ستحزن حزنًا شديدًا، وقد أنذرناك وأنت من الآن المسئول وحدك عما سيحدث لك.

جماعة الخير

قرأ الشيخ حسن الورقة ثم أعاد قراءتها ثم أعاد، وفضيلة لا تزال بالشباك تشتم من قذف بالحجر، فوضع الشيخ حسن الورقة في جيبه وتوكأ على الأثاث حتى بلغ الشباك، وراح ينظر مع فضيلة التي التفتت إليه قائلة: لا أحد، لا أدري أين ذهب ابن الكلب.

فلم يجب الشيخ حسن وإنما راح يتوكأ مرة أخرى على الأثاث حتى بلغ باب الحجرة، وفتحه ونادى: «يا صلاح.» ولكن صوته لم يبلغ أذن ابنه فسألته زوجته: «تريده في شيء يا شيخ حسن؟»

فقال لها: «نعم، ناديه.» فنادت فضيلة من عند السلم بصوت جهير: «يا صلاح.» وسرعان ما جاء الجواب: «نعم يا أم.» فقالت: «كلم أباك.» وجاء صلاح إلى حيث يبلغ أذنه حديث أبيه: «نعم يا أبي؟» فقال الشيخ حسن: «اخرج إلى الشارع ودُرْ حول المنزل وانظر إن كان أحد واقفًا، وأسرع.» وراح صلاح يصدع بالأمر ذاهلًا فهو لم يسمع الزجاج وهو يتحطم، فالأمر غريب بالنسبة إليه، ولكنه لا يسعه إلا أن يطيع أباه، وسرعان ما عاد صلاح يقول: «لا أحد يا أبي.» فقال الشيخ حسن: «أحكم رتاج الباب وعد إلى عملك.» فقال صلاح: «أمرك يا أبي.» وعاد الشيخ حسن يقول: «أما زال أمامكم عمل كثير؟» فقال صلاح: «لا يا أبي، فقد أوشكنا أن ننتهي.» فقال الشيخ حسن: «فإذا انتهيتم وخرج الأنفار فأحكم الرتاج بعدهم.» فقال صلاح وهو لا يزال ذاهلًا: «أمرك يا أبي.» وانصرف صلاح عاجبًا من أوامر أبيه هذه المتلاحقة؛ فهو قد تعود أن يُحكِم رتاج الباب ولكنه لم يتعوَّد أن يطلب إليه أبوه ذلك، كما لم يتعود أن يطلب أبوه أن يدور حول المنزل ليرى إن كان أحد واقفًا، ولكنه أقنع نفسه أخيرًا بأن أباه يحتاط في هذه الأيام التي شاعت فيها الحوادث، وإن كان هذا الرأي لم يقنعه كل الإقناع فهو يعرف أباه ثبتًا لا يَخِفُّ فؤاده، ولكنه لم يجد غير هذا الرأي فقَبلَتْه نفسه في مضض وحيرة.

وعاد الشيخ حسن إلى غرفته فوجد عينَي زوجته حائرتَين في وجهه، تكاد تسأله العينان قبل اللسان: خير يا شيخ حسن؟ أكل هذا من أجل حجر ألقاه طفل؟

وغمغم الشيخ حسن متفكرًا: لعب عيال.

فقالت الزوجة وهي حائرة لا تزال: طبعًا يا شيخ حسن لعب عيال، فلماذا هذا جميعه؟

وغمغم الشيخ حسن مرة أخرى: لا شيء، مجرد احتياط لا أكثر، هلمِّي إلى النوم يا فضيلة.

وقصد الشيخ حسن إلى السرير الأسود القائم على أعمدته الأربعة في ركن الحجرة، وخلع عمامته وأعطاها فضيلة التي وضعتها على المنضدة، ثم خلع الشيخ جوربه في بطء ذاهل، وألقى بنفسه إلى السرير غير حائر؛ فهو لم يفكر لحظة في أن يجيب جماعة الخير إلى مطلبهم؛ فما تعود التهديد، وما كان ليقبل أن يكون فريسة سهلة، وقد رأى أنه إن قبل فستتمادى جماعة الخير في فرض إتاواتها، فيعم الخراب القرية، ولكنه مع ذلك لم يعدم هاجسًا في نفسه أن هذه الجماعة قد تصيبه بسوء، وإن كان لا يدري أي سوء يمكن أن تصيبه به، ولعله يردُّ هذا الهاجس عن نفسه بأنهم لن يَجرُءوا، فلئن ينتهز لص من الليل غفلة ويهاجم بعض نفر في الطريق، فما يعني هذا أن يجترئ هذا اللص فيفرض الإتاوة على وجوه القرية وأعيانها. وهكذا راح الشيخ حسن في فراشه بينما راحت زوجته في سبات بعيد، وما لبث الشيخ حسن أن راح يتمتم في صوت ثابت: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ صدق الله العظيم.

وراح الشيخ يردد هاتَين الآيتَين حتى أسلمتاه إلى نوم هادئ عميق.

•••

جلست جماعة الخير في الخُص الذي أقاموه في الصحراء قريبًا من الطريق الواقعة بين البلدة ومحطة السكة الحديد، وقد تحلق جميعهم حول كمال يبذلون له الإعجاب بخطته، وهل تخيلوا يومًا أنهم سيقيمون لكل عملية خُصًّا يتسلمون فيه ما قد فرضوه على ضحيتهم، ثم يهدمونه ويزيلون أثره ليقيموا مثله في مكان آخر، فيضيع أثرهم في عرض الصحراء ولا يعرف لجماعتهم مستقر؟ وهل فكر أحدهم إلا كمالًا في أن يترك الحجرة التي كانوا يجلسون بها في بيت النمرود مضاءة مقفلة بالمفتاح، حتى يظن العابرون بالمنزل والجيران أن أهل الحجرة جالسون بها لم يغادروها؟ لا، إن أحدًا لم يفكر بهذه العبقرية إلا كمال.

وقد اتخذ كمال من مغارته المركز الرئيسي للجماعة، لقد كانت تلك المغارة مهبط وحيه، فيها انقطع عن الناس ليفرغ إلى الشيطان فيضع تلك الخطة التي ينفذها اليوم، وهكذا وجد أفراد الجماعة الجديدة رياسة حازمة تأتلفهم وتضع لهم الخطط قويمة قوية، ووجد كلٌّ منهم لنفسه بندقية على أحدث طراز ومسدسًا بساقية، كما هيأ كمال لكلٍّ منهم حصانًا جعل مستقره في مغارة الوحي.

وهكذا استقام الأمر لكمال، فهو يغدق عليهم من كرمه، وهو يهددهم بأسرارهم، وهو يروعهم بخططه المُحكمة، وهو من قبل قد جعلهم يقسمون له يمين الولاء على المصحف، وبين الإكرام والتهديد، والوعد والوعيد، تلين نفوس وتقبل ما لم تكن تقبله، فقبل العتاة الأربعة أن يكونوا أتباعًا لكمال بعد أن كانوا يأنفون أن يكون كمال تابعهم.

قال الدفراوي: ما للزهار تأخر؟

فقال نور: إنه ينتظر صلاحًا على الطريق.

وقال النمرود: ولكن الانتظار طال، أخشى أن يكون الزهار قد وقع في مكروه.

فأجاب الدفراوي: أي مكروه يمكن أن يقع فيه؟ لقد أعد له أبو كمال كل خطوة يخطوها حتى يصل بالمال إلى هنا.

وراح نور يقول: إن عملية الزهار عملية عيال.

وعندئذ فقط تكلم رأس الحكمة كمال: أحب أيها الإخوان أن نتعود ألا نحقر أي عمل يقوم به فرد منا، فكل أعمالنا مكملة لبعضها البعض، لولا عملية الزهار — وهي عملية كبيرة — لما أُتيح لنا أن نبدأ أعمالنا كلها.

فقال النمرود: نعم يا أبا كمال أنت محق، وعملية الزهار عملية مهمة فعلًا يا نور، إنه سيرمي الحجر ثم يسارع بالاختفاء، ثم هو سيقف لينتظر صلاحًا، وأنتم تعرفون أن الشيخ حسن صلب الرأي لا يقبل ما يُفرض عليه بسهولة، فقد يرسل مع صلاح من يقبض علينا.

فقال نور: نعم، ولكن ألم نتفق حينئذ أن يطلق الزهار عليهم بندقيته؟

فقال النمرود: الزهار فرد واحد، ومهما يكن ماهرًا في التصويب فإنه إن جاءته جماعة لا بد أن تتغلب عليه، فهي عملية ليست يسيرة كما تتصور.

فقال الدفراوي: الشهادة لله أيها الإخوان، العملية التي نقوم بها كبيرة، وما كان يصلح لها إلا نحن.

وهكذا جرى الحديث بين الجماعة، وقد اتخذ كمال منه موقفًا متعاليًا فلا يشارك فيه بغير ملحوظة يبذلها ليضع القواعد ويؤسس العُمد.

لم يطل بالقوم هذا الحديث إذ سرعان ما أقبل إليهم الزهار، فما إن رأوه حتى وضع كل منهم لثامًا حول وجهه فلا يبين، ولكنهم سرعان ما أدركوا سخافة ما فعلوا حين تبينوا أن الزهار لا يضع اللثام، فصاح كمال: ويحك أين لثامك؟

فقال الزهار: لم اللثام يا أبا كمال؟ إن أحدًا لم يأتِ بعدُ، ولكن …

فقال كمال في عنف: فماذا جئت تفعل هنا؟ ألا يجوز أن يأتي الآن سي صلاح … صلاح فلا يجدك ويعود؟

ولكن الزهار قال: تريث يا أبا كمال هل قلت لوطنية أن تأتي إليك بالعشاء؟

فقال كمال: نعم، أمن أجل هذا تركت مكانك؟ أين هي؟

– أمرتها أن تنتظر حتى أعود إليها، بنت الكلب هزئت مني، أردت أن أضع اللثام حين رأيتها قادمة فإذا هي تقول: «مبروك البرقع يا زهار.» فأردت أن …

فقال كمال مبتسمًا: اذهب يا زهار إلى مكانك وأرسل وطنية، ولا تضيع الوقت.

وخرج الزهار، والتفت الدفراوي إلى كمال يسأله في تمحل محاولًا أن يفتح لنفسه طريقًا للمزاح مع الزعيم: خير يا أبا كمال، هل نحن اليوم مدعوون إلى العشاء عندك؟

فقال كمال في جد ورضى: العشاء على حسابي في كل يوم نقوم فيه بعملية.

– يا زين الرجال يا أبا كمال.

وأقبلت وطنية بعدَ حينٍ بالعشاء، وما إن دخلت حتى قالت: مساء الخير يا جماعة.

فإذا كمال يقول لها في حزم: اخرسي يا بنت، جماعة في عينك قليلة الأدب.

– لماذا يا سي كمال؟ أكل هذا؛ لأني قلت يا جماعة؟ ألستم جماعة الخير أم ظننتني — لا قدر الله — أقصد الجماعة التي يقصدها الفلاحون حين يتكلمون عن نسائهم؟

وأدرك كمال أن الإطالة في الحديث قد تؤدي به إلى موقف لا ترضاه الزعامة، فأقصر عن النقاش وسأل وطنية: ماذا أحضرت لنا؟

– أوامر سعادتك كلها يا كمال بك: فراخ وحمام ولحم وأرز، وسعادتك قلت إنك لا تريد خضارًا؛ لأن نفسك ملته أيام الفقر.

فقال كمال مُسارعًا: طيب، طيب، اقعدي كلي معنا.

– لا، أكثر الله خيرك، قد تركت نصيبي في البيت وسأتعشى وحدي …

فأسرع كمال يقول محاولًا أن ينقذ دماء الزعامة التي أوشكت هيبتها أن تنهار أمام الرعية: طيب، مع السلامة.

وخرجت وطنية، وأراد الدفراوي أن يغير الحديث، فقد أدرك أن اللهجة التي كانت تتحدث بها وطنية لم ترُق كمالًا.

قال الدفراوي وهو يأكل نصيبه من العشاء: هيه يا أبا كمال هل أنت آتٍ معي غدًا إلى لطيف بك؟

فقال كمال: نعم، فإن دعوته لك لم تكن إلا نتيجة طبيعية للخطة التي دبرتها.

فتساءل الثلاثة في لهفة: كيف؟

– ألم أطلب إليكم أن تشيعوا أن أفراد عصابة لطيف بك هي التي قامت بهذه الحوادث؟

ولم يبالِ كمال ثلاثتهم وهم يقولون: «آه» مذهولة، بل راح يكمل حديثه: لقد أردت أن يسمع لطيف بك بهذه الإشاعة فيرسل إليك يا دفراوي.

وسأل الدفراوي: وماذا تريد منه؟

قال كمال: إنه غدًا سيسألك عمن قام بهذه الأعمال.

فقال الدفراوي: طبعًا.

فقال كمال: إنه ركن يمكن الاعتماد عليه، وكل ما أريده أن تقوم بيننا صداقة، فإنني أخشى أن يقضي علينا إن لم نصادقه.

فقال النمرود: يحميك الله من العوادي يا أبا كمال، نذهب إليه غدًا بعد المغرب إن شاء الله.

وقال كمال في هدوء: أنا لا أخشى أحدًا إلا أنور بك.

فقال الدفراوي: أنور، الله يخرب بيته، إنه سيقف لنا كالعَقلة في الزور، ووالله لولا عائلته لقتلته من زمن بعيد.

فقال كمال في حزم: اسمع يا نمرود، عليك أن تذهب غدًا إلى «الرحايمة» وتعرف إن كان أنور في العزبة أم في مصر.

فقال النمرود: أنا لا أعرف أحدًا هناك، فقد حرم عليهم أنور أن يدخنوا الحشيش، فقطع عيشي من هناك، الله يقطع …

وقال الدفراوي مقاطعًا: الشهادة لله، أهل الناحية يحبونه كل الحب.

فقال نور: والشهادة لله أنه رجل يُحَب، كان إذا أتى إلى المديرية همَّ من بها جميعًا إلى استقباله وتقديم الاحترام له، وأشهد أنه كان يعطي نفحات طيبة. أما لطيف بك فمع أنه كان يعطي نفحات طيبة هو أيضًا إلا أنه لا أدري لماذا …

فقاطعه كمال في حزم: اذهب أنت يا نور، واعرف لنا أين أنور الآن.

– حاضر، سأذهب حين تكونون أنتم عند لطيف بك.

وراحت جماعة الخير تدير الحديث بينها، كل همها أن تقطع الوقت حتى يأتي لها المال المنتظر، أو حتى يلوح الصباح، فقد كان لهم مع هذا الصباح شأن إن هو سبق العشرين جنيهًا المفروضة على الشيخ حسن، وطال الحديث، وتناوب نور والنمرود والدفراوي القيام إلى الزهار في موقفه ليروا إن كان أحد قدم أم لا، وكان الجواب دائمًا لا.

واقترب الفجر فأذنت الديكة والظلام لا يزال يلف الكون، وجاء الزهاء يائسًا، فنظرت الجماعة إلى كمال، وأنعم هو فيهم النظر واحدًا بعد الآخر حتى إذا التقت نظرته بمنصور، وقفت عنده جامدة، وفهم منصور تلك النظرة فقام واقفًا وخرج دون أن يقول شيئًا.

وقامت بقية الجماعة تزيل آثارها من الخُص وأهالوا الرمال على بقايا طعامهم ونيرانهم، ثم هدموا الخُص وتقاسموا قصباته يحمل كل منهم بعضًا منها، ورحلوا عن مكانهم ملثمين جميعًا بعد أن ألقوا نظرة أخيرة على المكان، أرادوا بها أن يتأكدوا أن الرمال لن تشي بهم أو تبوح.

١٣

استيقظ الشيخ حسن من نومه مع الفجر فوجد زوجه قد سبقته إلى اليقظة، ووجد بالبيت ضجيجًا وحركة، فسأل زوجته فأخبرته أنهم الأنفار الذين اتفق معهم صلاح أن يأتوا ليحملوا القطن إلى سيارة التاجر، فابتدر الشيخ حسن وضوءه وصلى الفجر، وقد أحس أن المرض قد بدأ يزول عنه، وما إن انتهى من صلاته حتى سأل زوجه: وهل أخرجت لهم الفطور؟

– نعم، ولكن صلاحًا لم يأتِ حتى الآن وأخشى أن تأتي السيارة قبل مجيئه؟

– لم يأتِ؟! وأين ذهب؟

– ذهب إلى الحقل ليحضر بعض أطراف من أعواد الذرة لتأكلها البهائم.

– كان عليه ألا يذهب اليوم حتى يسلم القطن.

– إنه يذهب كل يوم ويعود في الفجر، وقد حسب أنه يستطيع أن يذهب ويعود قبل أن تأتي السيارة.

فقال الشيخ حسن وقد داخله بعض التوجس: لا حول ولا قوة إلا بالله، ما ضر لو كان انتظر اليوم إلى أن ينصرف التاجر؟

ثم قصد إلى الشباك فنظر منه فلم يرَ ابنه قادمًا، ولكنه رأى بباب بيته رجالًا كثيرين، فسأل زوجته: بالباب أحمد أبو خليل والشيخ رضوان والحاج علي ونور الكحلة، وكثير غيرهم، ماذا جاء بهم في باكر الصباح؟

فقالت الزوجة متنهدة: لقد جاءوا ليبيعوا قطنهم إلى التاجر كما بعت، فقد أصبحوا …

وقبل أن تكمل فضيلة جملتها جاء من بعيد صوت نفير سيارة، ثم ما لبث الشيخ أن تبينها تقترب من بيته عالية الضجيج كثيرة الجلبة.

وما إن وقفت السيارة بباب البيت حتى تحلَّقَ القوم الواقفون بها، ورأى الشيخ حسن من مكانه التاجر وهو يدافع عن القوم المتحلقين ليتمكن من النزول من السيارة، حتى إذا استوت أقدامه على الأرض سار بهم إلى المصطبة وجلس إليها وقعد القوم حوله على الأرض، بينما راح الحمالان القادمان مع السيارة يعاونان أنفار الشيخ حسن في وضع القطن بالسيارة.

وتوكأ الشيخ حسن على عصاه حتى نزل إلى القوم فحياهم، وقام التاجر مُرحبًا بالشيخ حسن، ثم ما لبث أن أخرج من جيبه لفافة كبيرة من الأوراق الخطيرة الشأن وقال للشيخ حسن: مبارك يا عم الشيخ حسن.

– بارك الله فيك يا أبا عليوة، مباركة صفقتك إن شاء الله، وإن كنت قد أنقصت الثمن عن السوق خمسة جنيهات في القنطار، النهاية مباركة والسلام. ذهب صلاح ليحضر طعام البهائم وتأخر فقلت أنزل إليك نشرب القهوة معًا.

– أهلًا وسهلًا ثمن القطن ستمائة جنيه، أخذت مائة فيكون الباقي لك خمسمائة جنيه.

وعدَّ أبو عليوة خمس ورقات أعطاها للشيخ حسن، أخذها هذا ووضعها في حافظته بينما راح الواقفون يباركون له وللتاجر، ثم راح كل منهم يكلم التاجر عما لديه من قطن، وسرعان ما انعقدت الصفقات بعد أن بخس التاجر أثمان القطن، منتهزًا فرصة انفراده بالقرية لخوف التجار الآخرين منها، وراحت أوراق خضراء كثيرة تنشر وتطوى، وراحت ألفاظ التبريك تتناثر على الشفاه، وكان قطن الشيخ حسن قد استقر على السيارة، فقام التاجر وقد وعد أن يعود في اليوم التالي ليتسلم الأقطان الأخرى ويسلم أثمانها.

انصرفت السيارة بحملها، وظل القوم حول الشيخ حسن يتحدثون، وهو عنهم لاهٍ قد ازداد توجسه، فهو ناظر إلى الطريق لا يريم، حتى إذا لحظ الجماعة انصرافه عنهم هموا بالانصراف، إلا أن واحدًا منهم يسأل الشيخ حسن: ما لك يا عم الشيخ حسن؟

– تأخر الولد.

– من؟

– صلاح.

– لا تخف، لا بد أن عائقًا عاقه.

– لا يمكن، ما كان شيء يعوقه عن تسليم القطن، اللهم إلا …

– يا رجل وحد الله، وعلى كل حال سأذهب إلى حقلك لأرسله إليك.

– لا تتعب نفسك، فالأنفار الذين كانوا يحملون القطن مازالوا هنا ينتظرونه ليعطيهم أجورهم، فهو من يعلم مقدارها.

ونادى الشيخ حسن: يا سيد.

– نعم يا عم الشيخ حسن.

– وحياة والدك اذهب إلى الحقل، وانظر ما الذي أخر صلاحًا حتى الآن.

– حاضر.

وانصرف سيد وراح القوم يتحدثون مرة أخرى، ولكن الشيخ حسن لا يزال منصرفًا عن حديثهم حتى يسأله الحاج علي: ما لك يا شيخ حسن؟ ألأنَّ ابنك قد تأخر بعض الوقت تخاف كل هذا الخوف؟ لا يا رجل، لم نعهدك هكذا، أم تراها هذه الحوادث أخافتك إلى هذا الحد؟!

– اسكت يا حاج علي أنت لا تعرف شيئًا.

– لا أعرف ماذا يا شيخ حسن؟! لا أعرف ماذا؟ هل هناك شيء؟

– لا شيء يا حاج علي، لا شيء، سليمة إن شاء الله.

– قل لنا يا شيخ حسن، هل هناك شيء لا نعرفه؟

وقبل أن يجيب الشيخ حسن، يتعالى صياح من أقصى الطريق: الحقونا يا هوه، الحقونا يا ناس، ابنك يا شيخ حسن … ابنك …

وينسى الشيخ حسن المرض وينسى عصاه، ويُلقي بجسمه إلى الطريق لا يعي شيئًا إلا هذا الهول الذي يناديه من أقصى الطريق: «ابنك يا شيخ حسن …» وينتفض صوت الشيخ وهو يقول: «ما له ابني؟ ما له؟ قل ما له؟ ما له ابني؟ ماذا جرى له؟»

ويأتيه الصوت من قريب يحمل إليه الفاجعة: «ابنك قُتل يا شيخ حسن، قُتل …» وينهدُّ الشيخ حسن إلى الأرض ذاهلًا: «قتلتُه … قتلتُ ابني، حسبي الله ونعم الوكيل.»

ويرتفع الصراخ من أعلى المنزل تُطلقه الأم الثكلى، ثم ما تلبَث أن تندفع من الباب في ثياب البيت فيتحلق حولها الشباب ويأخذون بها إلى داخل المنزل مبهورة عالية الصراخ، تدافعهم عن نفسها تريد أن تذهب إلى الحقل لترى ابنها الصريع، وما تلبث النسوة من الجارات أن يَقدُمن إليها، فيأخذن مكان الشبان الذين يخرجون إلى الحقل بعد أن أخذوا معهم ملاءة يلفون بها الفتى القتيل. ويحيط القوم بالشيخ، فيحملونه إلى المصطبة وهو لا يزال يقول ذاهلًا: «قتلتُه … قتلتُ ابني.» ويسأل الحاج علي: «وما ذنبك أنت يا شيخ حسن؟ ما ذنبك أنت؟»

ويقول الشيخ حسن وهو ذاهل لا يزال: «كبر عليَّ ألا يُهددني المجرمون فأبيت أن أدفع لهم ما يطلبون. لم أكن أظن أنهم سيقتلون. حسبتهم لصوصًا، ولم أحسب أنهم قتلة. حسبي الله ونعم الوكيل.»

نظر الحاج عَلِي إلى من حوله في أسف شديد متوهمًا أن الشيخ قد أصبح مدخول العقل، ولكن توهمه لم يمنعه أن يسأل الشيخ حسن: «ماذا تقول يا شيخ حسن؟» وثاب الشيخ حسن إلى نفسه بعض الشيء حين رأى النظرات الحائرة من حوله تكاد تتهمه بالجنون.

ولو كان الشيخ في تمام وعيه، ولو أنعم النظر في عينَي نور لرأى فيهما وفيهما وحدهما أنهما غير حائرتَين، بل إنهما جامدتان تحملقان إلى الرجل في تشوُّف العارف بالأمر لا يحدسه، ولكن من أين للشيخ المهيض وعي؟ ومن أين له أن ينعم النظر؟ لقد كان قصاراه أن يثوب إلى نفسه بعض الشيء في زحمة هذه الحيرة التي أشاعها في الواقفين، وكان قصاراه أن يدرك أنهم لا يعرفون من أمر خطاب الأمس شيئًا، وفي نظرات غائرة يخرج الشيخ حسن الخطاب من جيبه ويعطيه الحاج علي، ويقرؤه الرجل ثم يخطفه منه من يليه، ويروح الخطاب يلف في الأيدي بين أعين جازعة حيرى ينظر كل منهم إلى المستقبل الذي ينتظره، وتزداد الأيدي الخاطفة أو الأعين الهالعة؛ فليس بين الجمع إلا من أخذته الرعدة إلا نورًا هو وحده الذي كان ثابت الجأش راسخ الفؤاد، وقد وصل الخطاب إلى يده وتظاهر بقراءته بينما كانت عيناه تدوران فيمن حوله، يريد أن ينتهز منهم غفلة ليضع الخطاب في جيبه، ولكن هيهات، فقد كانت العيون كلها على الخطاب، وما لبثت يد أن اختطفت الخطاب من يده قبل أن يفكر في الوسيلة التي يخفيه بها، وأخذت الرعدة طريقها ثانيةً إلى القلوب بعد أن كانت قد توقفت عن سيرها قليلًا عند نور، حتى الفقراء الذين لا يملكون شيئًا والذين عرفوا أن بالخطاب بشيرًا لهم بالغنى، حتى هؤلاء لم يملكوا في هول الموقف إلا أن يرتعدوا مع الراعدين، وما هي إلا بعض الساعة حتى عاد الشباب بالجثة، وحتى علا في أجواء قرية السلام صوت الطبلة رتيبًا ضخمًا عاليًا، تقرعها يد ثبتة واعية هي يد كمال.

١٤

وقُيِّدت الحادثة ضد مجهول؛ فما كشف الخطاب عن شيء للنيابة، فما كان أحد ليعرف خط كمال، وما كان أحد ليفكر في كمال ليستكتبه.

لم يكشف الخطاب عن شيء للنيابة، ولكنه كشف لمُلَّاك قرية السلام الطريق الذي لا بد لهم أن ينهجوه؛ لقد عرفوا أنهم لا بد لهم أن يدفعوا الإتاوة التي تُفرض عليهم، وعرفوا أنهم إلى الموت إن فكر واحد منهم أن يشي بالخطابات التي ترد إليهم مع الليل.

وحاول الشبيبة المثقفون في القرية أن يثنوا القوم عن طاعة الأوامر، ولكن هيهات لهم أن يصلوا بشجاعة ألفاظهم إلى القلوب الراعدة بين أضلاع القوم المساكين، وراح التاجر أبو عليوة يخرج كل يوم بأقطان من القرية، فتعرف القرية أن الإتاوات قد دُفعت مساء أمس عن كل قنطار خرجت به سيارة التاجر صباح اليوم.

وقد كان يصاحب كل سيارة خارجة حركة نشاط من المثقفين، ولكنه نشاط يبلغ مصيره دائمًا إلى الفشل.

وكان فخري قد جاء إلى القرية تلبيةً لأمر أبيه، واستقبلته الفاجعة في بيته، فراح يبذل كل جهده أن يصل إلى خيط يهديه، ولكن من أين له والفرائص من حوله ترتعد، والألسن لا تملك أن تتحرك خفية في أفواهها؟

لقد كان أمر أفراد العصابة مجهولًا، وفي ستار الجهل بهم كانوا يعرفون ما يدور بالقرية جميعًا، فإذا القرية وقد غشيها الذعر الراجف، تلتقي الأعين حسرى كليلة، ويدور الحديث — كل حديث — فلا يلبث أن ينتهي إلى صمت مفاجئ، ويُطرِق المتحدثون، فقد كان كل حديث يؤدي بهم إلى الرزء الذي انحط على القرية، والذي لا يستطيعون أن يصفوه؛ فقد ملأهم الخوف أن يصفوه.

الشك والريبة والمهانة والخوف، يحذر الأخ أخاه والأب ابنه والابن أباه. النسوة ذاهلات حيارى. لقد رأين رجالهن ضعافًا خانعين فانعدمت الثقة في نفوسهن، فما أصبحن يثقن بأحد ولا بشيء.

العمدة جازعٌ، تزداد نفسه ذلة أمام نفسه، رائح كل يوم غادٍ إلى المركز ومنه، لا يدري ماذا يقول … أيقول إنه دفع الإتاوة هو أيضًا، وإنه لا يدري إلى من دفعها؟ أيقول إنه وهو العمدة قد تلقى الرسالة مثل من تلقاها؟ وإنه خرج من باب الحريم في دواره وذهب في بهيم الليل إلى خُص في عرض الصحراء، ودفع إتاوة إلى قوم ملثمين لا يبين منهم شيء في ذلك الضوء المتهافت الذي اصطنعوه في خُصهم؟

ماذا يقول العمدة وماذا يفعل إلا عبرة تنحدر من عينَيه كلما ذكر وقفته من جماعة الخير وهم جلوس، ودفعه لهم المال يكاد يرى السخرية به في أعينهم الخبيثة، بل في أيديهم التي امتدت إلى ماله، والتي كانت مغطاة هي أيضًا بالقفازات القطنية؟ ماذا يقول العمدة وماذا يفعل؟

وأنفذ كمال وعده إلى الفقراء، فقد كانت تهبط عليهم صبابة من المال من حين إلى حين، وكم فرحوا حين وافتهم الدفعات الأولى، ثم كم حزنوا بعد حين.

لم يكن هؤلاء الفقراء إلا الأجراء الذين يعملون بالأجرة في حقول الملاك الصغار، وقد كان شأنهم في هذا الموسم أن يستأجروا ليبذروا البرسيم تحت الذرة، ولكن الملاك لم يستأجروا واحدًا منهم ولم يبذروا البرسيم، بل إنهم لم يفكروا في قطع الذرة وتهيئتها للبيع، وكيف لهم أن يفعلوا وهم لا يدرون ماذا يحمل لهم الغد؟! أتعيش بهائمهم لتأكل البرسيم؟ أيُباع الذرة إذا قُطع؟ لا يعرفون، فهم لا يستأجرون أحدًا، وبحسبهم ما معهم من ثمن القطن يعيشون به وتعيش به بهائمهم أيضًا، حتى يَقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا.

الفقراء أيضًا في حال من السخط الشديد، فما كانت الأموال المفاجئة لتغنيهم عن الأجر المنتظم …

مجلسان في القرية لم ينقطع فيهما الحديث فجأة، ولم تلتقِ فيهما العيون حسرى كليلة؛ المجلس الأول هو مجلس كمال، وقد كان يأخذ فيه مكانه من الأرض صدر الليل، حتى إذا انتثر الناس وانفضوا إلى بيوتهم وخلا بهم المجلس، ارتقى كمال مكانه على الأريكة، أما الأرض فهي لأي واحد منهم غيره، وقد تنبهوا بعد الليلة الأولى أن يتركوا بهذه الحجرة الزهار أو النمرود إذا خرجوا هم إلى عملية لهم، حتى يبيع ذلك المتروك من المخدرات إلى من يقصد إلى بيت النمرود في أغوار الليل. وقد أمر كمال أن يكون البيع دائمًا خارج البيت حتى لا يكتشف المشتري خلو الحجرة منهم عندما تخلو. على أنهم لا يلبثون بعيدًا عن الغرفة إلا ريثما يتم تسليم المبلغ المفروض، ويذهبون إلى المغارة يودعونها أسلحتهم، ثم هم ينقبلون إلى حجرة النمرود فرادى.

وأما المجلس الآخر الذي اتصل فيه الحديث فهو مجلس الحاج علي، الذي تخلى عنه الحاج إبراهيم ليحل محله أحمد أبو خليل الذي لم يدفع بعد مؤخر الرشوة إلى الشيخ رضوان، وقد اتصل الحديث بينهم؛ لأنهم كانوا يمتدحون ما تقوم به جماعة الخير ويذيعون هذا الحديث ويروجونه؛ فقد كان النفاق في دمهم لا يطيقون عنه محيدًا. وقد كانوا جميعًا أضيق ما يكونون بجماعة الخير؛ فقد دفعوا هم أيضًا — ما عدا أحمد — الإتاوة المفروضة عليهم، ثم ارتأوا أن يذيعوا بين الناس أنهم دفعوها حبًّا في الخير، واقتناعًا بالفكرة التي تسعى إليها جماعة الخير. يحاولون بذلك أن يدافعوا عن كرامتهم التي هتكها الإجبار، وتبعهم في قولهم بعض القوم ليظهروا أمام نسائهم أنهم أشداء وإن كانوا قد دفعوا الإتاوة، وأنهم كرماء يطيب لهم أن يمدوا للفقير عونًا.

كان هؤلاء قلة على أية حال، وكانوا إذا خلوا بأنفسهم صارحتهم أنفسهم بحقيقة أمرهم فأصمتوها خشية أن يطلع أحد على خبيء نفوسهم أو خشية أن تنم عليهم نفوسهم. نعم، لقد كان أبناء قرية السلام يخشون من أنفسِهم أن تشي بهم أنفسُهم.

أمر كمال ألا يغالي أفراد الجماعة في إظهار مالِهم الذي كسبوه من أعمالهم؛ فقد كان يخشى أن يدل ثراء المظهر على ما تدرؤه الأخصاص والمغارة والظلام عن العيون. ولكن أملًا كان يتردد في نفس الزهار أراد اليوم تحقيقه. إنه الأمل الذي بثه كمال إلى نفسه حين كان يجتذبهم إلى إنشاء الجماعة: سعدية.

استأذن الزهار كمالًا أن يحقق أمله اليوم؛ فليس أصلح من اليوم يحقق أمله، فالزوج قد طلق والمنافس لا يطيق أن يطاوله بالمال، والطريق معدٌّ ولم يبقَ إلا السير فيه. أذن له كمال وأعد له ما يقول عن أسباب غناه، فحفظه ومضى شأنه إلى سعدية التي أقامت ببيت أبيها حتى يبيع أحمد قطنه، وحتى يبيع أيضًا بعضًا من قراريطه ويهيئ لها العيش الذي تصبو إليه، وكان أبو سعدية قد مات بعد أن زوجها إلى صالح، وكانت أمها ضعيفة لا تملك من أمر ابنتها شيئًا، فأصبح أمر سعدية كله بيدها.

– كيف أنت يا سعدية؟

– أهلًا زهار، يا ترى أنظيف في زيارتك أم تحمل معك تهمة من التي توزعها؟

– لا نظيف والحمد لله. سمعت يا سعدية أنك ستتزوجين من الولد أحمد؟!

– وما لزوم ولد هذه؟

– إذن فأنت ستتزوجين منه؟!

– وما له؟ هل في الزواج عيب؟!

– لا عيب به إن كنت تختارين من يليق بك.

– وما له أحمد؟

– من أجل الفدانَين؟!

– فدانَين وعشرين قيراطًا هل تملكها أنت؟!

– لا أملك أرضًا، ولكني أملك مالًا.

– أتسمي هذه القروش التي تنحتها مالًا؟

– مري أنفذ، وعند الامتحان يُكرم المرءُ أو يهان.

– من أين لك؟ لو كنت أكثر جرأة مما أعرفه عنك لقلت إنك من جماعة الخير.

– يا ليتني كنت، يا ليت.

– والله لو دخلتها لخربت.

– يا ستي ما لنا وما لهم؟ أجيبي فيما أسألك.

– أجبني أنت أولًا: من أين لك المال؟

– شاركت النمرود، أذهب أنا إلى البلاد ويقيم هو هنا، وقد أفاد هذا التجارةَ؛ لأن المخبرين لا يعرفونني، فاستطعت أن أبيع صفقة كبيرة.

ورأت سعدية أن كلام الزهار معقول، وهي تعلم أن التجارة التي يعمل بها تدر الربح الوفير، وهي ترى أن أحمد يطاولها، وإن كانت أعذاره في المطاولة واضحة لا ريب فيها … وهكذا رأت ألا تقطع الأمل من نفس الزهار فتضمن زيجة على أية حال، فإن لم تتم الزيجة بمن تحبه، فلتكن زيجة بمن يحبها، فقالت في اهتمام: والله طيب يا زهار فأنت تكسب كثيرًا الآن.

– أكثر مما تحلمين به، وأضعاف ما سيأتيك به أحمد، وإنك تعلمين أنني أحبك قبل أن تتزوجي من صالح. لقد أحببتك وطلبت الزواج بك قبل صالح وأحمد، لماذا لم يَطلُب أحمد الزواج بك قبل صالح؟

– أتتجاهل؟ ألا تعلم أنه كان حينذاك فقيرًا لا يملك شيئًا؛ فقد كان أبوه لا يزال يحيا، وكان — كما تعلم — بخيلًا، فلم يرضَ أن يعطيه ما يتزوج به.

– ولكنني كنت أحبك أكثر من أي إنسان في الدنيا، ألا تعلمين ذلك؟

– أعلم يا زهار، ولكن أحمد ماذا أقول له؟

– لا تقولي شيئًا، أما ترين أنه حتى الآن لم يتزوجك؟

– معذور والله، وأعلم عذره.

– وما عذره؟

– أراد أن يبيع بعض قراريط من أرضه فلم يستطع، فإنه منذ أخذت جماعة الخير الإتاوة عن الفدان الذي باعه عبد الحميد إلى عبد الجليل شيخ الخفراء، والبيع والشراء قد انقطعا من البلد تمامًا، وقد حاول أن يبيع فدانًا في السر إلى الحاج إبراهيم، وتعهد أن يقوم هو بالزراعة إلى أن يكشف ربنا الغمة … الغمة، حتى لا تعرف الجماعة أنه باع شيئًا، ولكن الحاج إبراهيم كان قد أقسم يمين طلاق ألا يشتري منه، وعرض عليه الفدان بأربعمائة جنيه فلم يقبل الحاج أن يشتري.

– هيه ولماذا لم يبع القطن؟

– والله، الله أعلم!

– ولماذا لم يبعه إلى أبي عليوة، لقد سمعت أنه قبض منه العربون.

– الله، ولد يا زهار، ستجعلني أقول لك كل أسرار الرجل؟!

– يا ستي وهل بيننا سر؟

– لقد جعلني أقسم ألا أبوح بهذا السر.

– وهل إذا قلته لي تحنثين بيمينك؟ أنا نفسك يا سعدية، ألم تعرفي هذا بعد؟

– عارفة يا زهار.

وصمتت بعض الحين، ولكنه أبى عليها الصمت.

– هيه … ماذا سيفعل أحمد؟

– أخاف يا زهار أن تقول لأحد.

– يا سعدية اتقي الله، أنا أذيع سرًّا لك؟!

– لقد أقسم أحمد على المصحف ألا يعطي جماعة الخير إتاوة على قطنه.

– عجيبة وما الداعي؟ أهو الرجل الوحيد بالقرية؟ لقد باع أغلب الأعيان أقطانهم ودفعوا الإتاوة، أهو أشجع من العمدة أم من الحاج علي أم من نور الكحلة؟

– أراد أن يثبت أنه أشجع منهم جميعًا.

– عجيبة ولماذا أراد أن يثبت هذا؟!

– كان يتكلم معي وجرى الحديث عن الجماعة، فقال: إن البلد ليس فيه رجال وإنهم جميعًا نسوان. فقلت له: وماذا فعلت أنت؟ وعيرته بأنه يمدحهم في دكان الحاجعلي، فأخذته الحمية، وأقسم ألا يعطي الجماعة إتاوة، وأن يبيع القطن برغم الجماعة … الجماعة.

– هيه والله رجل، وماذا سيفعل؟

– احذر يا زهار أن تبوح بهذا الحديث لأحد؛ إنها حياة رجل وأنت المسئول عنها.

– أتشكين يا سعدية؟ إذن فلا تقولي السر.

– سأقوله، ولكن اقسم أولًا ألا تبوح به لأحد.

– وحياتك.

فابتسمت سعدية وتابعت حديثها: ذهب اليوم إلى المديرية ليتفق مع أبي عليوة على أن يسلمه القطن في المديرية بعد غد صباحًا، وسيذهب إلى النمايلة ويستأجر منها جملَين حتى لا يعرف أحد هنا ما ينوي أن يفعله، وسينقل القطن في مساء الغد دون أن يحس به أحد.

– ولكن ألن تعرف الجماعة أنه باع قطنه في الصباح؟

– إنه هو من سيحمل القطن ويخرج به في المساء، ثم يقفل المخزن، فلا يعرف أحد أنه سلم القطن.

– ومن أين عرف أن النمايلة ليس فيها عيون للجماعة؟

– لن يخبر أصحاب الجِمال بما ينوي أن يفعله، وإنما سيطلب إليهم أن يسلموه الجِمال ليردها إليهم في اليوم التالي لنقل القطن، وسيضاعف لهم الأجر.

– والله لئيم. النهاية أنا سأغنيك عن قطنه وقراريطه وكل ماله، ما قولك؟

– أشوف يا زهار. أمهلني أسبوعًا أفكر فيه.

– وهو كذلك يا سعدية. سيكون أطول أسبوع في حياتي. أتركك بخير يا سعدية.

– وأنت من أهل الخير يا زهار.

•••

لم يكن الزهار صاحب القلب الوحيد الذي يتصل أمله بجماعة الخير، وإنما كان هناك قلب آخر اتصل أمله بهذه الجماعة، أو هو في الحقيقة أمل ظل يراود صاحبه وخشي حين تألفت الجماعة ألا يتحقق. ذلك الأمل الذي ظل يتردد في قلب وطنية السنين الطوال: أن تتزوج من كمال، والذي ضعف بعض الشيء حين أنبأها كمال أنه صائر إلى الغنى، والذي ازداد ضعفًا حين أهدى إليها كمال الجلباب الأحمر والمنديل، والذي لا يزال يضعف كلما رأت الأموال تتدفق في يد كمال. وكلما ازداد ضعف الأمل ازداد تشبث صاحبه به، وفي غمرة هذا التشبث قصدت وطنية إلى كمال في بيته شأنها كل يوم منذ تألفت الجماعة، إلا أنها اليوم وفي هذه الغمرة قد انتوت أن تطالبه بأن ينفذ ما وعدها به يومًا.

– صباح الخير يا كمال.

– صباح الخير يا وطنية.

– هل ستخرج الآن؟

– لا، ما الأخبار في البلدة؟

– كما هي، يدعو لك بعضهم من لسانه ويدعو عليك جميعهم من قلبه.

فينتفض كمال جازعًا: أعرفوني؟

– لا، وكيف لهم أن يعرفوك وأنت أمامهم كما أنت: تلبس أثواب المسكنة، حتى إذا خلا بجماعتك مجلسك خلعت الستار وارتددت إلى طبيعتك، تدبر القتل والخوف والجزع وإصابة أموال الناس بالباطل؟

– فكيف يدعون لي أو عليَّ؟

– يقولون جماعة الخير، ألست الجماعة؟

– أعوذ بالله، أبهذا تصبحينني؟

– إن لم أقل أنا لك الحق فلن يقوله أحد.

– ومن قال لك إني أريد الحق منك أو من غيرك، وعلى كل حال لماذا يدعون عليَّ من قلوبهم؟

– ألم تحرم عليهم أن يبيعوا أقطانهم إلا بالإتاوة، وفرضت على بهائمهم الإتاوات، وفرضت الإتاوة أيضًا على بيع الأطيان؟

– كل من يملك أقطانًا وبهائم وأطيانًا غني، والفقراء أكثر من الأغنياء.

– من قال لكَ ذلك؟ من قال إن كل من يملك بهيمة أو قطنًا أو أرضًا غني؟ ومن قال إن هؤلاء كثرة؟ ليس في قريتنا إلا قلة نادرة لا تملك شيئًا، وحتى هذه القلة غير راضية عنك؛ فالأجراء أصبحوا لا يُستأجرون، وأصحاب الأرض جميعًا وقف حالهم، ثم هم يقولون إنك فرضت الإتاوات لتأخذ معظمها لك وتعطيهم منها الفتات الذي لا يغني … لا يغني أبدًا بعد أن وقف عنهم الخير الذي كان يأتيهم ممن يستأجرونهم.

– والله أصبحتِ فصيحة، ولكن كلامك فارغ، فإن كل من يعمل خيرًا في هذه الدنيا لا بد أن يجد من ينتقده، ولا بد أن يجد الناس وسيلة ليجلعوا هذا الخير الذي يقوم به صادرًا عن غرض في نفسه غير الخير؛ ولذلك يجب أن يعمل الإنسان الخير ولا يهتم بالناس.

– حِكم، والله حِكم، ولكنها للأسف صادرة عن ضال، أتدعي أن السرقة خير؟ عجيبة! يا كمال ارجع؛ فإني والله أخشى عليك إن لم ترجع.

– وما لكِ أنت رجعت أم لم أرجع؟

– ما لي أنا يا كمال؟ ما لي أنا؟ أنسيت كل شيء يا كمال؟

– كلامك يثير الغضب والخوف يا وطنية.

– من خوفي عليك يا كمال، ألا تعلم يا ابن الكلب أنه ليس لي في الدنيا غيرك؟

– أما آن لك أن تنتهي عن الشتيمة، لم أصبح كمالًا الذي كنت تعرفين.

– نعم أنت محق، لم تصبح كمالًا الذي كنت أعرف، وأين أنا منك الآن؟ أنت لص يملأ الدنيا ذعرًا وأنا وطنية ما أزال.

– لا، أنا لا أقصد هذا، ولكن لسانك تعود شتمي، وأنا الآن محترم أمام الجماعة إلا منك.

– وطبعًا احترام الجماعة لك يمنعك أن تنفذ وعدك.

– وعدي … أي وعد تقصدين؟

– ذلك الوعد الذي كان الفقر يمنعك من تحقيقه، ألا تذكره؟ ألا تذكر يا ابن اﻟ… نسيت؟ فأنت تمنعني من لذتي الوحيدة في الحياة، تمنعني من شتيمتك.

– أي وعد؟ ذكريني.

– والله لا أذكرك به أبدًا، إن كنت لا تذكره فلا جعله الله يتم.

– آه! تقصدين الزواج؟ وهل هذا يحتاج إلى تذكير يا وطنية؟ وهل لي غيرك؟

– نعم، نعم، اشتغل عليَّ أنا الأخرى، اشتغل، كأني فرد من جماعة الخير، يا كمال طالما قلت إني بنت حرام، وهذا اللف لا ينطلي عليَّ، فأنا أعلم أن لك غيري، ولكن نجوم السماء أقرب إليك منها، وأنا أعلم أنك تصانعني؛ لأني أعرف أسرارك جميعًا ولأنك تحتاج لي. ولكن اسمع يا كمال، سأتظاهر بأنني أصدقك؛ لأني لا أملك إلا هذا التظاهر، ولكن لا بد لك أن تصنع لي سببًا مقنعًا يجعل تأجيل زواجك مني معقولًا.

– إن هذا لا يحتاج إلى صنعة، أخشى إن أنا تزوجتك أن تتجه إلينا عيون الناس ويتساءلون: من أين لكمال أو وطنية بالمال؟ ولكن قولي لي، من هي غيرك هذه التي تجدينها أبعد عني من نجوم السماء؟

– كمال! ألا تعرفها؟!

– من تقصدين؟

– ستك دُرية.

ويسكت كمال لحظة ذاهلًا ثم يقول: عجيبة!

– وما العجيبة؟

– أن تفكري هذا التفكير.

– أهكذا، لعلي مخطئة، سأنتظر يا كمال، سأنتظر يا ابن اﻟ…

وقبل أن تكمل وطنية وصْف أبي كمال يطرق الباب فتفتحه وطنية ليدخل الزهار، الذي ما يلبث أن يقص على كمال ذلك الخبر الذي خرج به من مغامرته الغرامية، ويقول كمال في صوت حازم وهو يتهيأ للقيام: ادعُ أفراد الجماعة، سنجتمع في بيت النمرود.

١٥

الفجر يطلع على قرية السلام بطيئًا شاحبًا حين صحا العمدة من نومه ينادي الخادمة أن تحضر إليه ماء الوضوء، وما كاد يفعل حتى سمع صوتًا من دون الشباك عاليًا أنكره أول أمره ثم ما لبث أن تبينه، إنه كمال وإن كان صوته قد اكتسى قوة، وزايله وهن واستعطاف: أطال الله عمرك يا حضرة العمدة.

– أهلًا كمال، أترى الوقت وقتك يا كمال؟

– إنه وقتي يا حضرة العمدة، لم أتقدم عنه ولم أتأخر.

– خير؟ ماذا تحمل إلينا من أخبار؟ من زمان لم أرَك.

– أخباري كلها تعرفها، أصبحت لا أصيب قوت يومي.

– لماذا؟ ألم تقدم لك فاطمة الفطور؟

– لا، ليس هذا ما أقصد إليه، وإنما انقطعت الأفراح، وقد كنت أُصيب منها ما يقيم الأود أيامًا قد تصل إلى شهر.

– الله معنا يا كمال.

– يا حضرة العمدة …

– هيه ماذا تريد؟

– إلى أين أنت ذاهب اليوم؟

– وما شأنك؟

– مجرد سؤال فقط.

– ذاهب إلى المركز، وهل أصبح لي عمل في هذه الأيام إلا المركز أروح إليه وأغدو؟

– آه …

– ماذا تريد أن تقول يا كمال؟

– لا شيء.

– أحس في صوتك رنة من يريد أن يقول شيئًا، قله.

– سمعت أن أنور بك قد جاء من أوربا مساء أمس، ألا تذهب إليه؟

– وماذا أفعل له؟

– تهنئه بسلامة الوصول، وتسأله أن يبحث لنا عن حل لمشكلتنا هذه.

– وماذا بيده أن يفعل يا بني؟ ما أظنه إلا سيعلم بمصيبتنا، ولكن ماذا يفعل؟

– يقيم الدنيا ويقعدها.

– الدنيا قائمة قاعدة من غير أنور بك، وأنور بك رجل حنبلي لا يقبل إلا العمل القانوني والقانون لا يسعف اليوم، وإنما الذي يسعفنا العمل الحاسم العاجل، ماذا نفعل بالقانون أمام السلاح يا بني؟ إن هؤلاء المجرمين الذين سُلِّطوا علينا يعلمون أن القوة هي القانون. لقد كان لطيف خليقًا أن ينفعنا اليوم، ولكنه اكتفى بزيارتي ولم أطلب إليه يومذاك شيئًا، معتمدًا على أن المأمور سيسمح لي بترخيص بعض الأسلحة ولكن المأمور رفض.

فسأل كمال وعلى فمه شبح ابتسامة: ولماذا لم تذهب إلى لطيف ثانية؟

– ذهبت …

– فماذا عمل لك؟

– قال، قال كلامًا ولم يعمل شيئًا: «أنا تحت أمرك، سأكلم المأمور وأبلغ الداخلية.» ومعنى هذا أن أذهب أنا في داهية ويبقى المجرمون، وحين قلت له إني أريد رجاله لأحمي بهم القرية، قال: إن رجاله لا يعملون لغيره.

وازدادت الابتسامة اتساعًا على فم كمال فقد عرف كل ما كان يريد أن يعرف: العمدة لا يريد أن يلجأ إلى الداخلية، فهو لن يذهب لأنور بك؛ لأن هذا لن يفعل شيئًا إلا الالتجاء إلى الداخلية، وبهذا الخوف نفسه امتنع المأمور عن الاتصال بالداخلية. والعمدة والمأمور كلاهما يرجوان من أعماق أنفسهما أن يظل أنور بك جاهلًا أمر جماعة الخير بعض الوقت حتى لا يعلم الرؤساء بالخيبة التي يعانيان منها، أما ما قاله لطيف بك فهو لا يعدو تنفيذ الاتفاق الذي تم بينهما، حين دعا منصورًا فرافقه إليه كمال.

وقد كان لطيف خليقًا أن يجيب أي رجاء للعمدة الذي يريد أن يصطنعه للانتخاب القادم، أن يكون هذا الرجاء حربًا على قوم ضمهم هو إلى رحابه، أي رجاء إلا هذا! فقد كانت حياته أغلى من الانتخاب، ولا يحب أن يؤلب المجرمين على حياته.

وما كان كمال يريد إلا معرفة هذه الأمور وقد عرفها، فقد شغله مجيء أنور بك، وخشي أن يقصد إليه العمدة فيُضيِّق عليه الخناق، وقد كان كمال يخشى أن يضيق عليه الخناق وهو — بعد — لم يثبت دعائمه، ولم يرسها على العُمد التي يبتغيها لها.

دارت بذهن كمال هذه الأمور وهو يستأذن العمدة أن يدخل إلى الدوار ليصيب فطوره، وليصيب أيضًا ذلك الشيء الذي ما زال يهفو إليه: نظرة من دُرية.

•••

أقبل المساء على القرية فأوى القوم جميعهم إلى البيوت يذودون عن أنفسهم ذلك الجو القاتل الذي شاع في القرية، والتقت أعين الأزواج والأولاد على نور المصباح المتهافت، فأحست القلوب في أضلاعها رجفة، هي هزة الخوف من الغد المجهول، فما يعلم أحد بماذا يطلع عليهم الصباح، وهي هزة الحب اغتلى في أفئدتهم، الحب للحياة التي يحيونها، لا يريدون أن يفارقوها مهما تلاقهم بهذا العنت الذي تلاقيهم به، والحب حب الزوجات لأزواجهن وحب الأزواج لزوجاتهم، وحب الأبناء لوالديهم وحب الوالدين لأبنائهم، يبلغ أقصاه في فورة الأحداث الراعدة حواليهم، والحب حب الجميع لله الكبير أملهم الذي لا أمل لهم غيره، وملاذهم الذي لا ملاذ لهم إلا هو. ومن خلال هذه الخيوط الناعمة القوية من الحب، ومن خلال هذه النظرات الصامتة العميقة، يستمد القوم بعض طمأنينة، تسكن إليها نفوسهم المضطربة بعض السكون. بعض سكون يستطيع أن يصحبهم إلى نوم، وإن يكن نومًا مفزعًا ينتظر النذير أو ينتظر الكارثة.

فإن مررت ثمة بالقرية فلا نيران ولا سمر، ولا جماعات تتحلق ولا أفراد تروح أو تغدو، إنما هم الخفراء في جلابيبهم علقوا على أكتافهم بنادقهم لا يستعملونها، فقد استعاضوا عن الأعيرة في الهواء بكحة يسعلونها يسلمها خفير إلى خفير، حتى الضفادع والصراصير، حتى الكلاب النابحة أحست بما أصاب الناس، فهي في صمت مطبق، فإن صات أحدها لم يجد جوابًا فيعود إلى صمته. إن مررت — لا قدر الله لك أن تمر — لتشوقت إلى هذا الضجيج الذي كانت الضفادع والصراصير والكلاب تثيره في القرية ولتمنيت — وإن كنت تكره أصواتها — أن تعود الضفادع إلى النقيق والصراصير إلى الصفير والكلاب إلى النباح، ولرأيت في أمنيتك هذه أملًا ضخمًا ترجو أن يتحقق، وإن أصاب السمع منك بما لا تحب، نعم، وإن …

حتى الضياء الخافت الذي كان يتسرب من البيوت قد أُقفِلت دونه ألواح غليظة من ضلف النوافذ، فهو ثمة حبيس مع الناس لا يرى إلى القرية ولا يشتهي أن يراها.

ليس في القرية صوت وليس في القرية نار وليس في القرية نور، ولكن ضياء في السماء يأبى أن يترك القرية في سوادها الصامت الحزين، فثمة قُمَيْر صبي يطل على القرية بشعاعات تغشاها، فهي في زرقة من الضياء، فإن مررت — لا قدر الله لك أن تمر — لأمكنك أن ترى طريقك وأن ترى أيضًا رفيق طريقك.

في هذا المساء الأزرق، وفي هذا السكون الهاجع، خرج أحمد أبو خليل متسللًا متشحًا بالسواد من حظيرة بهائمه، يسحب من خلفه جملَين وقد حمل على كلٍّ منهما كيسَين من القطن، وسار بهما وجهته إلى المدينة يريد أن يبلغها في الصباح.

وفي هذا المساء نفسه كان فتحي خفير العمدة ينتظر العمدة ومعه حماره عند القطار، تنفيذًا لأوامره التي أرسلها في قطار الظهيرة الذي كانوا ينتظرونه فيه، تلك الأوامر التي تفيد أن المأمور قد أخره وأنه قادم في آخر قطار يصل إلى محطة بلدتهم.

والذي يريد أن يخرج من القرية قاصدًا إلى المدينة لا بد له أن يمر أولًا بطريق زراعي تحف به الحقول من الجانبَين، وقد كانت الحقول في تلك الآونة مغطاة بالذرة لم يزلها أصحابها عن الأرض.

والذي يريد أن يقصد من المحطة إلى القرية لا بد له أن يمر بطريق تحده الصحراء من جانب، والطرف الآخر من حقول الذرة نفسها التي تحف بطريق القرية من جانب آخر.

كان أحمد إذن مترجلًا في طريقه إلى المدينة ووراءه الجملان، وكان العمدة راكبًا الحمار في طريقه إلى القرية ووراءه فتحي.

وفجأة في بهيم الليل سمع العمدة عيارًا ناريًّا ينفجر من قريب، فانتفض العمدة عن حماره وانتفض الحمار من تحت العمدة، وجرى فتحي إلى الذرة يختبئ بها، وأسرع العمدة يجر الحمار مهرولًا إلى أعواد الذرة يرجوها أن تحميه، ومن قريب سمع العمدة حفيف ثوب وأقدام تقترب، ثم ما لبث صاحب الجلباب والأقدام أن مر قريبًا من العمدة وفتحي والحمار، وقد كتم جميعهم أنفاسهم حتى عبرهم المجهول. قد أجابت الذرة رجاء العمدة فحمته من الأعين، وخرج صاحب الجلباب من الذرة إلى الطريق يحمل بندقيته في يده متهيئًا لإطلاقها عند أول بادرة، ويتلفت يمنة ويسرة فيراه العمدة من مخبئه، ويراه فتحي ويعرفانه ويخترق الدفراوي الطريق إلى الصحراء، وما هي إلا لحظات حتى تغيبه الصحراء في جوفها، ويصحو العمدة من ذهوله المذعور: فتحي؟

– ﻧ… ﻧ… ﻧﻌ… ﻧﻌ… نعم يا حضرة العمدة.

– أين بندقيتك؟

– ﻣ… ﻣ… معي.

– وماذا تفعل بها؟

– إنها … إنها لا تصلح … ينطلق منها العيار مرة، وينحبس فيها مرات، خشيت أن أستعملها فينتبه إلينا الدﻓ… الرجل، فيقتلنا يا حضرة العمدة.

كان العمدة قد ألقى سؤاله وسار مخترقًا الذرة إلى طريق القرية ساحبًا وراءه الحمار، ساعيًا خلفهما فتحي يلقي باعتذاره الطويل هذا، ولم يبالِ العمدة من جواب فتحي شيئًا، فهو يعلم أنه هو أيضًا كان عند الواقعة لا يملك من الشجاعة ما يأمر به فتحي أن يضرب. سار العمدة يهرول في الذرة لاهث الأنفاس حتى بلغ الطريق، فراح ينظر حواليه، فرأى عن يساره الجملَين عائدَين طريقهما إلى القرية يحملان القطن، فلم يحفل أمرهما، وراح يجيل النظر مرة أخرى، فرأى منه عن قريب جثة ملقاة، سارع إليها وركع عند وجه صاحبها ثم رفع رأسه إلى فتحي.

استدعِ الناس يا فتحي ليحملوا جثة أحمد أبي خليل، واطلب إلى عبد الهادي أن يبلغ النيابة، وحذارِ يا فتحي، حذارِ أن تخبر أحدًا أن الدفراوي هو القاتل، حذارِ وإلا قتلتك.

– وهل تراني أجرؤ على القول يا حضرة العمدة؟ وهل تراني أجرؤ؟!

•••

بلغ الدفراوي المغارة وما إن دخلها حتى عاجله الزهار: هيه يا منصور!

– تم المطلوب.

فقال الزهار في فرحة غامرة: سبع يا بني والله سبع.

وقطع عليه كمال اندفاعه: اهجع يا زهار أترانا هازلين؟ هل رآك أحد يا منصور؟

– لا.

– هل أنت متأكد؟

– كل التأكيد.

– فهيا إذن إلى بيت النمرود، هلم يا جما… هلم يا رجال.

وخرجت جماعة الخير من مخبئها، وقصدت إلى بيت النمرود دائرة حول القرية غير متخذة إليها الطريق الزراعي، حتى إذا بلغوا حدود القرية من عند طريق المحطة اخترقوا الذرة إلى بيت النمرود رأسًا، وظل الدفراوي ونور والزهار في الذرة، وخرج كمال منها إلى بيت النمرود. طرق الباب طرقة عرفها النمرود الذي كان ينتظرهم هناك، وما لبث الباب أن فُتح ودخل كمال، ثم تسلل الثلاثة الآخرون الواحد بعد الآخر.

وأخذ كمال مكانه من الأريكة، وسرعان ما اشتعلت النيران وأُديرت الجوزة، ولكن قليلًا ما تدور، فقد كان اليوم مليئًا بالترقب، يريد كل منهم أن يهجع إلى منزله، فما يلبث كمال أن يقول: سأقوم للنوم، ألا تقومون أنتم أيضًا؟

– إي والله لقد وجب النوم …

وانفضوا عن مجلسهم واتخذ كل منهم وجهته إلى بيته.

دخل الدفراوي منزله وهمّ أن يخلع ملابسه، ولكنه يسمع خارج بيته ضجيجًا عاليًا فلا يحفله، ظانًّا أن القوم يلغطون بحادث الليلة، ولكن الضجيج يقترب فيوشك أن يوليه اهتمامًا، ويتسمع فيسمع اسمه، فيسارع بفتح الباب يريد الهرب ولكن لات حين مهرب، لقد كان الضجيج قد بلغ باب بيته وأحاط به الجنود وخفراء القرية.

١٦

سارت سيارة المأمور بالدفراوي تحمله إلى السجن متهمًا بتهمة القتل، منكرًا لهذه التهمة مبالغًا في الإنكار، ولكن إنكاره لم يمنع العمدة أن يفرح لهذا النصر الضخم الذي أصابه، فإن الحوادث التي وقعت في تلك الفترة البغيضة من الإرهاب لا بد أن تنتهي اليوم، بل إن العمدة كبير الأمل أن يعرف أيضًا جماعة الخير فردًا فردًا، فهو يعتمد على المأمور أن يحمل الدفراوي على الاعتراف.

وبهذا الفرح والأمل، وفي تفكير عميق، وقف العمدة يقيم صلاة الفجر الحاضر، فقد استمر التحقيق إلى الصباح، وانتهى العمدة من صلاته في شرفة الدوار وانفتل إلى بيته، فاستقبلته زوجته التي ظلت ساهرة تنتظره وتجيب أوامره التي يرسل بها إليها.

– هيه، خير يا شيخ زيدان؟

– خير إن شاء الله، انكشفت الغمة والحمد لله.

– الحمد لله على كل شيء، هل اعترف منصور؟

– لا لم يعترف، ولكن كيف له أن ينجو وقد شاهدته بعيني أنا وفتحي، وأثبتنا هذا في محضر النيابة؟

– وهل عثروا على السلاح؟

– هذه هي المشكلة! لقد فتشنا بيته وبيت صاحبه النمرود ولكنا لم نجد شيئًا، وأرجح أن الولد له صديق في الصحراء أودع عنده البندقية.

– فانتبه أنت لنفسك يا شيخ زيدان.

– لقد خلصنا منهم يا شيخة، فما أعتقد إلا أن هذا كان زعيمهم، وما أظن أن تقوم لهم قائمة بعده أبدًا.

– ومن أدراك يا شيخ زيدان؟! إنني لم أرَ في حياتي عصابة كافرة مثل تلك، فبحق دُرية يا شيخ وبحقي إلا ما احتطت لنفسك.

– توكلي على الله يا حاجة، توكلي على الله، لقد ثبت كلامي في المحضر، ولن تنفعهم إصابتي في شيء.

– ومن يدري؟ هؤلاء قوم لا يعرف أحد نواياهم!

– توكلي على الله، هلم إلى النوم، فإني أحس جسمي لا يكاد يستقيم، وأيقظيني عند الضحى لنمشي في جنازة أحمد، الله يرحمه.

•••

صحا العمدة قُبيل الضحى، فوجد القوم ينتظرونه بالخارج ليباركوا له هذا النصر الذي أحرزه، وليصحبوه في تشييع الجنازة، قال الحاج علي: الحمد لله يا حضرة العمدة غمة وانزاحت.

– الحمد لله يا حاج علي، ولو أنك كنت كثير المديح لهذه الغمة.

– يا حضرة العمدة داروا سفهاءكم، وماذا كان يمكن أن أفعل يا حضرة العمدة؟ كنت أخشى على نفسي وعلى قوتي. داروا سفهاءكم يا حضرة العمدة.

فصاح الشيخ رضوان في غضب تعود أن يفتعله حتى ليبدو صادرًا من صميم فؤاده: دعِ الحديث جانبًا يا حاج علي، فما أظن النبي يحض على النفاق، كنت تستطيع أن تسكت على الأقل.

وقبل أن ينطق العمدة كان الحاج علي قد شذره بنظرة دهشة عاجبة: لا حول ولا قوة إلا بالله يا شيخ رضوان، عجيبة.

وقبل أن يجيب الشيخ رضوان سارع العمدة قائلًا: إي والله عجيبة يا شيخ رضوان.

– أي عجيبة يا حضرة العمدة؟ أي عجيبة؟

– عجيبة؛ لأنك كنت أكثر مديحًا للجماعة من الحاج علي نفسه.

– أعوذ بالله يا حضرة العمدة، أنا؟!

فقال الحاج علي وهو محملق في الشيخ لا يزال: عجيبة!

وقال العمدة: نعم أنت.

– أنا يا حضرة العمدة! أنا الرجل المصلي الذي أخاف الله وأتقي غضبه! أنا أمدح هؤلاء القتلة السفاكين اللصوص قاطعي الطريق؟! أنا كنت أمدح فقط أنهم يقدمون للفقراء المعونة … كنت أذم القتل والسرقة وأمدح الكرم ومعونة الفقراء.

– سبحان الله يا شيخ رضوان، ألم تكن تدرك أن إعطاء الفقراء كان لتملقهم ولتجد الجماعة مبررًا أمام القرية لارتكاب ما ارتكبته؟

– لا والله يا حضرة العمدة، لم أكن منتبهًا لهذا.

فقال الحاج علي وهو محملق لا يزال: عجيبة!

وقبل أن يتكلم أحد صعد إلى الشرفة الشيخ عبد الودود منهوك القوى بادي الهزال شاحب الوجه مأخوذًا، ترك عليه الحادث آثار هلع لا يزايله، فقام إليه العمدة: مرحبًا بك يا شيخ عبد الودود، الحمد لله على سلامتك.

– سلمت اليوم فقط يا حضرة العمدة. علمتُ اليوم بما كان فأحسستُ روحي تعود إلى جسدي هونًا، فقمت إليك أبارك لك بهذا النصر.

وقدم الشيخ حسن مع ابنه فخري، وكان الشيخ حسن يبدو وكأنه قفز من الحياة سنين عدة، واستقبل العمدة الشيخ حسن وابنه وفي عينَيه حب لهما عميق، وما كادا يجلسان حتى طلب العمدة إلى فخري أن ينتقل إلى جانبه وهمس في أذنه: فخري، أنا أريدك في حديث خطير قد يغير مستقبلك، ولكن لا بد لك أن تقبله.

– وما هو يا حضرة العمدة؟

– لا ليس الآن، ولكن عندما يحين الوقت، سآتي إليك أنا في القاهرة وأخبرك به.

– أمرك يا حضرة العمدة …

– ولكن لا تخبر أحدًا، لا تخبر أحدًا على الإطلاق، اكتم هذا الحديث حتى عن أبيك … فإن سألك فيم كان حديثي؟ فقل له إنني كنت أريدك أن تحضر معي عند المحامين الذين سأوكلهم ليترافعوا عن والدة أحمد أبي خليل وإخوته.

– أمرك يا حضرة العمدة، وإن كنت أنا الآخر أريدك في شيء خطير، ولكن ليس الآن على أية حال.

ولما رأى الشيخ حسن أن الهمس قد طال بين فخري والعمدة كان يدرك أن العمدة يحادث فخري في أمر دُرية، ولكنه استبعد هذا الظن، فما كان يعتقد أن العمدة يحادث الفتى دونه في هذا الشأن، كما كان يرى أن الوقت غير مناسب، ولكنه لم يتعمق الفكر في هذا الشأن، فقد كان يعلم أن ابنه سيخبره عن تفاصيل الحديث. قال الشيخ حسن: أظن أن الوقت قد حان يا شيخ زيدان.

فقال الشيخ رضوان: نعم أظن، فها هي ذي طبلة كمال تعلو مرة ثانية.

وقام الجميع إلى الجنازة يشيعونها يتقدمهم العمدة والشيخ حسن، تعانقت أذرعهما واعتمد كل منهما على صاحبه.

•••

أقبل المساء على قرية السلام، وانتظر القُمير بعض الحين ثم حبا إلى السماء واهنًا، يرى بعضهم وهنه من الصغر فساقاه ما زالتا غضتَين، ويرى بعض آخر وهنه من الشيخوخة ومن طول ما جاب السماوات منذ خُلقت السماوات، ويراه بعض آخر واهنًا لا يدركون لماذا ولا يفكرون، ويراه الباقون طالعًا في السماء فلا يرون وهنه، وإنما كل شأنهم منه أن يطلع فينظروا إليه أو لا ينظروا، فما يعنيهم في شيء.

إلا أن قرية السلام لم تفكر في شيء من هذا، فقد ذهب الرجال إلى مأتم أحمد متفرقين وعادوا جماعات، ثم تفرقوا ثانيةً إلى بيوتهم، فأقفلوا أبوابها على أنفسهم بالقصور الذاتي، فمع أن الطمأنينة قد عاودتهم شيئًا، إلا أنهم لا يزالون يقفلون الأبواب ويحكمون الرتاج ويذودون الضياء عن القرية بألواح الضلف الغليظة التي يضعونها على نوافذهم.

وحينئذ طلبت دُرية إلى أمها أن تخرج لتعزي والدة أحمد أبي خليل في مصابها، وقد كانت الأم تريد أن ترافقها، ولكن سهر الأمس وكبر السن قعدا بها في ليلتها تلك، فهي تقول لابنتها: أتظنين أن الرجال قد انفضوا عن المأتم الآن؟

– أظن ذلك، فهم في هذه الأيام يبكرون في النوم.

– أخاف أن تذهبي وهم لا يزالون هناك فيغضب أبوك.

– إذا رأيت الرجال لا يزالون قاعدين عدت.

– حسنًا فاذهبي إذن، ولكن لا تتأخري، خذي معك فاطمة وعبد الهادي الخفير.

– أمرك يا أم.

وخرجت دُرية في موكبها الصغير قاصدة بيت أحمد أبي خليل، واخترق الموكب الظلام الأزرق والسكون المطبق الذي تعانيه القرية، إلى أن بلغ جرن القرية حيث اتخذ كل فلاح مكانًا يضع فيه روث بهائمه في شكل كومة ليجعل منه سمادًا لأرضه، وتتقارب هذه الأكوام حتى لا يسمح الطريق بينها لغير راجل واحد أن يمر، ولا حارس ثمة على هذه الأكوام، فكل فلاح يعرف كومه ولا يعدو أحد منهم على الآخر.

كان على الموكب أن يخترق هذه الأكوام إلى بيت أحمد، فتقدم عبد الهادي وتبعته دُرية ففاطمة، وما إن توسط هذا الطابور أكوام السماد حتى تواثب على ثلاثتهم ثلاثة شخوص ملثمين بينما وقف رابع يرقبهم، ويضع كل من الثلاثة إحدى يديه على أفواه كل من عبد الهادي ودُرية وفاطمة، ويضعون في جنب كل منهم مسدسًا، وتتم العملية في ومضة عين، ثم يقول الشخص الرقيب وهو مُلثم: كلمة واحدة أو صوت تنطلق هذه المسدسات جميعًا، هيا تحركوا معنا. سترتفع الأيدي عن أفواهكم، فحذارِ أن يُسمع لكم صوت.

ويسير الجمع اثنان يتبعان اثنين آخرين، وفي آخر الطابور المزدوج يسير كمال.

ويخترق الموكب الطريق الزراعي المحفوف بالذرة، ويبلغ الطريق الرئيسي الذي يتفرع إلى طريقَين أحدهما إلى المدينة والآخر إلى المحطة، فيميلون إلى طريق المحطة، ثم ما يلبثون أن يعبروا الطريق إلى الصحراء، وما هي إلا خطوات قليلة، حتى يبلغوا كثيبًا ضخمًا من الرمال يدورون حوله فيطالعهم كوخ كبير، ويقف كمال على بابه ويقول لعبد الهادي وفاطمة: اذهبا أنتما إلى العمدة وقولا له إن ابنته لن ترجع إليه حتى يغير أقواله التي قالها في المحضر، فإما أن يُبرَّأَ منصور أو تموت الابنة.

وتشهق فاطمة، فيعود كمال إلى الحديث وقد غير اللثام صوته: اخرسي، اذهبي واحذري أن يصدر عنك صوت أو كلمة حتى تُبلِّغي العمدة، احذري وإلا فأنت تَعرفين ما يُمكن أن نفعله … هيا.

وتجر فاطمة عبد الهادي ويسيران طريقهما إلى العودة، بينما يدخل كمال إلى الخُص فيخرج منه حصانه فيركب ويضع دُرية أمامه ويركب الآخرون خيولهم وتركض بهم الخيل إلى المغارة.

يدخل كمال ودُرية إلى المغارة المظلمة فيضيء مصباحًا، ويكبل دُرية بالحبال ويضع على فمها منديلًا، ويخرج إلى إخوانه فيسأله الزهار: هيه، أننام جميعًا هنا؟

– هل جُننت؟! أما كفانا أننا لم نذهب إلى المأتم اليوم؟ لا بد لكم أن تظهروا في القرية الليلة وتناموا في بيوتكم.

فيقول الكحلة: ومن يحرسها إذن؟

فيقول كمال: أنا أحرسها، فإن أحدًا لن يبحث عني، اذهبوا أنتم وأبقوا على المسدسات معكم حتى مساء الغد، وتعالَ أنت يا نور في الصباح لتتولى حراستها وأحضر لنا معك بعض الطعام.

– لماذا؟ ألم تحضر وطنية طعامًا؟

– لا لم أطلب إليها أن تفعل؛ لأني لم أخبرها بعملية الليلة.

– وهو كذلك، السلام عليكم.

ويمضي القوم بعد أن يودعوا المغارة خيولهم التي استخدموها لأول مرة، والتي ملأهم الزهو باستخدامها، ولولا أن كمالًا خشي أن تعيقهم دُرية في المسير فيبطئوا ويلحق بهم أهل القرية لما استخدموا الخيل في ليلتهم تلك، فقد كانت معدَّة للعمليات خارج القرية لا داخلها.

مضى القوم، وجلس كمال على باب المغارة يفكر في أمره وأمر دُرية ويتيح بجلوسه لدُرية أن تسترد أنفاسها اللاهثة ونفسها الجازعة، لقد طالما تمنى أن يخلو إلى دُرية، ولكنه لم يتمنَّ أن تكون الخلوة ناتجة عن اختطاف، وقاصدة إلى تهديد …

قام كمال فدخل المغارة ملثمًا — لا يزال — فأزال عن فم دُرية المنديل، ثم ابتعد عنها قليلًا واتخذ لنفسه مجلسًا أمامها وينظر إليها كمال طويلًا ثم ما تلبث أن تنحدر من عينَيه دمعتان أحست عيناه بهما حارتَين، فهما لم تعرفا هذه الدموع، فمنذ كان طفلًا لا يذكر متى دمع أو بكى، وكفكف كمال دمعة خفية ثم قال لدُرية: لا تخافي.

– أنا غير خائفة، أنا مؤمنة، وما في علم الله كائن.

– ونعم بالله …

وانقطع الحديث حينًا، ثم قال كمال بعد أن استجمع نفسه: من أنا؟

– قاتل.

– سامحكِ الله.

– اطلب إليه أن يسامحك أنت.

– علام؟

– ألا تعرف؟ على كل ما جنيت، على النفوس التي قتلتها والقلوب التي أرعبتها. اطلب إليه أن يسامحك — على الأقل — من أجل ما تفعله الآن بأبي المسكين حين يعلم أنني رهينة عند سفاك.

– هذا عملي، أقتل الفرد في سبيل الجماعة.

– أيها السفاك، وهل الجماعة إلا أفراد؟!

– لكلٍّ رأيه.

– بل إن كل إنسان يشكل منطقه على هواه حتى القاتل اللص السفاك، حتى أنت تخلق لنفسك منطقًا.

– لم تجيبي.

– علامَ؟

– من أنا؟

– لقد أجبت، قاتل لص.

– فما اسمي؟

– أيًّا يكون اسمك، فإنه لن يستر اسمك الحقيقي: قاتل لص.

– بل إن لي اسمًا ولي معك بالذات تاريخ طويل.

– معي أنا؟!

– نعم، منذ أنت طفلة صغيرة وأنا صبي كبير.

– فأنت من البلد؟

– منذ كنت تلعبين مع أترابك فأقف منكم بمرصد، أناولك الكرة إن ذهبت بعيدًا، وأقيم لكم ما تشاءون أن أقيم لتلعبوا به وتلهوا.

– من أنت؟

– أنا ذلك الذي كنت أكبر جماعتكم، لا أشارككم اللعب، وإنما أخدم لكم كل لعبة تقومون بها.

– من؟

– أنا.

ويرفع كمال اللثام عن وجهه فتغوص دُرية في أعماق صمت ذاهل حيران، لم تقل غير كلمة واحدة: «كمال!» ذاهلة مفزعة، غير واثقة مترددة، تنعم النظر واهمة أنها في حلم بغيض، ويقول كمال: نعم كمال.

– لماذا؟ لماذا فعلت بنا هذا؟!

– لم أقصد إليكم. إنها فكرة قديمة حان موعدها فنفذتها.

– لماذا يا كمال؟!

– كنت أبحث عن مكان لي في البلدة فلا أجد، وكنت أطيل النظر إلى نفسي في المرآة فقد كنت أحس أن أحدًا لا يراني مطلقًا، فكنت أعزي نفسي بأن أرى أنا نفسي. كنت لا شيء في قريتكم وأردت أن أصبح شيئًا، كنت قطعة من الهمل لا تَلقى حتى الإهمال، فقد كنت أقل من أن يهملني القوم. أعددت الخطة فأصبحت على ما ترين.

– ويحك! لقد كنت كما وصفت، وأقسم لقد صرت إلى شر مما كنت. ويلك! لقد أعددت الخطة لتنحدر إلى حضيض كنت بالنسبة إليه في القمة. ماذا فعلت بنفسك يا كمال؟

– صرت سيدًا.

– على عصابة.

– أصبحت آمُرُ فيُؤتمر بأمري.

– لأن بيدك سلاحًا.

– أصبحت غنيًّا.

– لأنك لص.

– أحس نفسي قويًّا.

– لقد كنت أقوى.

– وفيم كانت قوتي؟

– في هدوء ضميرك.

– لم يكن لي ضمير، وليس لي اليوم، أنا لم أعرفه يومًا فآسَ عليه.

– أيها المسكين، تحاول أن تهرب من الأيام، لن تستطيع.

– لقد استطعت.

– بل لن تستطيع.

– سترين.

– لا حول ولا قوة إلا بالله.

ويرتجف كمال وكأنه يسمع الحوقلة لأول مرة، ثم يرين عليهما صمت طويل تقطعه دُرية: ولماذا اختطفتني؟ أمن أجل منصور؟

ويتردد كمال قبل أن يقول: نعم.

– ولماذا كشفت لي عن نفسك؟

– لأني أعلم أنك لن تشي بي، ولأني لا أنوي أن أضايق العمدة بعد اليوم، وسأقول للجماعة أنك عرفتني، فأقسمت ألا تبوحي بسري إلا إذا أسأت إلى أبيك، وبهذا أبعدهم عنه.

– إذن فأنت لا تنوي أن تتوب؟!

– أتوب عن ماذا؟ أنا لن أضايق أباك فقط ومن أجلك. لقد أصررت على أن آخذ منه الإتاوة حتى أخيف الآخرين، أما بعد اليوم فلن يصيبه مني شر أبدًا، وعلى كل حال فأنت قد عرفتني ولم تعرفي من معي، وقد يصيبون أباك بشر إن أنت أفشيت سري.

فلماذا لم ترسل إلى أبي تهدده بأن تقتله أو تقتلني، أو بأن تحرق زراعته أو بيته بدلًا من اختطافي؟!

– الوقت يخيفني، أخاف ألا يستطيع منصور احتمال السجن فيشي بنا جميعًا.

– آه!

ويعود الاثنان إلى الصمت ثانيةً، ثم يقول كمال: هذا ما أقنعت به زملائي، أما الحقيقة … الحقيقة أنني رغبت في أن أجلس منك هذه الجلسة وأن أقول لك …

– حذارِ.

– أتحرمينني حتى من قولها؟!

– وأي فائدة تجنيها من قولها؟

– أنت هنا معي ونحن وحدنا إن لم أقلها لك الآن فمتى؟

– لن تقولها أبدًا، ولن أسمعها … لن أسمعها حتى وإن قلتها.

ويقف كمال وهو يقول يائسًا مستخذيًا: أنت محقة، أنت محقة يا ستي دُرية، تصبحين بخير.

ويخرج كمال إلى باب المغارة فيجلس إلى الأرض، وقد التف بعباءته وألقى بنظره إلى الأفق البعيد.

ومع الفجر يأتي نور ليأخذ مكان كمال، فيمضي كمال إلى بيته فيجد وطنية تنتظره …

– أين كنت؟

– وما شأنك؟

– اختطفت دُرية.

ومن أدراك؟

– عرفت.

– وماذا تريدنني أن أفعل؟ أسكت حتى يذكر الدفراوي أسماءنا ونذهب في الحديد؟

– أمن أجل هذا اختطفتها؟

– هل جُننتِ؟ إن لم يكن من أجل هذا فلماذا؟

– حب قديم كان يائسًا، ولعل أملًا يداعبك فيه اليوم؟

– يا شيخة وحياة والدك أهذا وقته؟!

– فمتى الوقت؟ طبعًا وأين أنا الآن وقد قضيت ليلة معها في المغارة؟

– اسمعي يا وطنية أنا يا ابنتي — مهما أفعل — لن أزيد عن كمال الذي عرفته. كمال الذي كان حتى أمس تأمر خادمتها أن تقدم له فضلة طعام الخدم. كمال الذي ظل طول عمره خادمًا عندهم أو مستجديًا على بابهم، أفهمت؟ أفهمت؟

وفهمت وطنية تمامًا فهمت أن كمالًا عرف هذا جميعه من ليلة أمس، وفهمت أن كمالًا حين واجه دُرية منفردًا في المغارة هو السيد الآمر وهي المطيعة المنفذة، لم يستطع كمال إلا أن يجد نفسه كمال المستجدي، وإلا أن يجد دُرية السيدة الآمرة. لم يستطع كمال وهو في مأمن من الوحدة، وفي عزوة من السلاح إلا أن يكون كمالًا الطبال في القرية أمام دُرية بنت العمدة. فهمت وطنية هذا فقد كانت تجيد الفهم، فهي تقول لكمال: وماذا تنوي أن تفعل بها؟

– والله لا أدري الأمر الآن بيد العمدة.

– أتقتلها؟!

وهب كمال جازعًا: أقتلها!

– فماذا تنوي أن تفعل؟

– لا أدري.

١٧

تلقَّى العمدة النبأ من فاطمة وعبد الهادي، فألقى به في بحران من الاضطراب والذهول والحيرة والجزع والثورة: ابنته في يد العصابة وأقواله في المحضر، لا سبيل له إلى ابنته ولا سبيل له إلى المحضر، ماذا يفعل؟ وتصيح به زوجته: أسرع … أسرع إلى المركز وغيِّرْ أقوالك.

ولا يجيب العمدة وقد اختلط صوت زوجته في ذهنه بخوالج قلبه، فما يدري أهو صوتها أم صوت من أعماقه؟ فما يلبث أن يغمغم وكأنما يحادث نفسه: ومن يصدقني؟ لقد ثبتت أقوالي وانتهى الأمر، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعُون.

وتعود الزوجة إلى الإلحاح، ويظل هو ساهمًا مطرقًا يقلب الأمر على كل وجه له. إنه لو قبل أن يطيع زوجته ويجعل من نفسه كاذبًا متعلقًا بخيط واهن من الأمل فمن لفتحي الخفير، ومن لهذه القرية التي عرفت جميعها منه ومن فتحي أنهما رأيا منصورًا وتعرفاه، ومن لهذه الأقوام التي جاءت تهنئه في الصباح؟ من لدُرية الآن في مكانها مع السفاكين؟ إنا لله وإنا إليه راجعون، طريق واحد الذي أمامه … طريق واحد ليس غيره.

وظل العمدة إلى الصباح يهذي صامتًا وزوجته إلى جانبه تهذي في ضجيج حائر، كلاهما لا يدري من أمر نفسه شيئًا. لا يتكلم العمدة — إن تكلم — إلا بقول واحد: طريق واحد ليس لي غيره.

ويطلع الفجر فيصليه العمدة، فيثوب إلى نفسه شيء من ثبات يكفيه ليطلع إلى الناس وليذهب إلى هذا الطريق الذي لا يعرف غيره.

قصد العمدة إلى لطيف بك، فقد كان يعلم أنه يحتاج إليه اليوم؛ لأن الانتخاب أصبح على الأبواب، وقد كان يعلم أنه لن يقيله من تلك الكارثة النازلة به إلا لطيف بك، يقصد إليه رغم أنه لم يكن مواليًا له في الانتخابات، وإن يكن لطيف قد أعفاه مما يوقعه بمن ناصبوه العداء في الانتخاب، فما كان ذلك منه إلا عن أمل في المستقبل، وعن ثقة أن هذا العمدة بالذات، وهو في جوار بلدته، لا بد أن يلجأ إليه في يوم، وكان لطيف قد أزمع في نفسه أن يحميه إذا لجأ إليه، فقد كانت بلدة السلام بلدة يخطب ودها عند الانتخاب.

بلغ العمدة دار لطيف بك في باكر الصباح فوجده يقظانًا.

– وقعت من السماء، فتلقَّني.

– أتلقاك بروحي يا حضرة العمدة، خير.

– بنتي، بنتي الوحيدة اختطفتها العصابة، وأرسلت تهددني بقتلها إن أنا لم أبلغ النيابة أن ما ذكرته عن الدفراوي كان كذبًا، وأنني لم أره.

وفكر لطيف هنيهة ثم قال للعمدة: اذهب أنت إلى البلد وغدًا ستكون ابنتك عندك، كنت مسافرًا الآن، ولكنني سأؤجل سفري للمساء حتى أنهي هذه المسألة.

وراح العمدة يدعو للطيف بك، وخرج من عنده ليس في نفسه أمل إلا هذا الذي ألقاه إليه ملجؤه الأخير في ثقة واطمئنان.

وما إن خرج العمدة حتى نادى لطيف أحد رجاله وقال له: عند المغرب تذهب إلى بيت النمرود وتقول له: إن البك يريد كمالًا أن يأتي إليه الليلة قبل الساعة الثامنة مساءً؛ لأني مسافر بعد ذلك لأحضر قضية الغد في مصر.

– حاضر.

•••

همَّ كمال بالخروج من منزله قاصدًا إلى المغارة، وإذا بالنمرود والزهار يدخلان ليبلغاه أن البك يطلبه.

– لا بد أنه يريدنا من أجل دُرية.

– نعم لا بد.

– هلم لنراه.

– أنذهب جميعنا؟

– نعم، ثم نعود إلى المغارة لنأخذ مكان نور، وحذارِ أن يتكلم أحد منكم أمام لطيف، دعوا الكلام لي وحدي، فقد أصبح الأمر بالغ الخطورة.

ويمضي جميعهم إلى البك فيجدونه منفردًا في حجرته، ويستقبلهم مرحبًا: أهلًا أبا كمال، أهلًا بالرجال. كنت مسافرًا الآن فانتظرت حتى تأتوا.

ويجيب كمال: أهلًا بك يا سعادة البك، أطال الله عمرك وأبقاك.

– ماذا فعلت من أجل منصور؟ أريد أن أوكل عنه أحسن المحامين.

– والله يا سعادة البك شهادة العمدة سيئة للغاية، وأخشى ألا يستطيع المحامي أن يفعل شيئًا.

– إذن فصحيح ما سمعته عن خطف بنت العمدة؟

– وماذا نفعل يا سعادة البك؟ منصور أخونا ومن لا يحمي أخاه فليس رجلًا.

– ولكن العمدة رجل مسكين.

– أصابه سكين، وما له لم يكن مسكينًا في الانتخابات وأمام النيابة؟

– على كل حال يا أبا كمال أنت رجل، ونِعم الرجل.

– أبقاك الله يا بك، وأطال عمرك.

– الانتخابات قادمة قريبًا، وأنا أريدك أن تساعدني فيها.

– تحت أمرك جميعنا يا بك.

– لن أطلب منك إلا مسألة بسيطة.

– مر.

– بلدة السلام.

– نعطي الأوامر يا بك أن تَنتخبك جميعها.

– لا هذا غير ممكن؛ فإننا لن نستطيع أن نهدد بلدة بأجمعها في الانتخابات، وخاصةً أنتم لم تكشفوا عن أنفسكم في القرية، وقد جعلتم فكرتكم أمام القرية أن تأخذوا من الأغنياء لتعطوا الفقراء، فما شأن هذا بالانتخابات؟

– فماذا نفعل؟ نحن خدامك.

– الطريقة المثلى أن نسترضي العمدة.

– وكيف؟!

– نرد له ابنته عن طريقي.

– ومنصور؟

– أكبر محامي في مصر سيترافع عنه.

– يا بك شهادة العمدة لا تنفع معها مرافعة.

– هذا شأن المحامين.

– ومن يدري ماذا سيحدث لنا من هنا حتى يوم المحاكمة؟

– ماذا سيحدث؟

– ألا يجوز أن يشتد الضغط على منصور فيذكر أسماءنا؟

– منصور رجل، ولا يمكن أن يسيء لإخوانه.

– يا بك السجن صعب لا يرحم.

– أنا واثق من منصور.

– يا بك لا نستطيع.

– أتخالفني؟

– العفو يا بك، ولكنها مسألة حياة أو موت لنا جميعًا.

– أنسيت أن العمدة طلب إليَّ أن أعطيه رجالًا من رجالي ليحاربكم فرفضت، رفضت له طلبًا يهم البلدة كلها، أما طلبه الخاص بابنته فإني أرجو أن تمكنني من الوفاء به. إنه لجأ إليَّ ولا يرضيك أن أخيب لاجئًا إليَّ.

– حياتنا يا سعادة … حياتي وحياة إخواني هؤلاء.

– على كل حال هذا شأنك، ولكن اعتبر صداقتنا منتهية إن أنت لم تصنع لي هذا المعروف الصغير.

– يا بك نحن خدامك، لا نخرج عنك أبدًا إلا في هذه المسألة.

– أنتم أحرار، ولكل منا أن يفعل ما بدا له.

– نحن خدامك يا بك، نستأذن.

– مع السلامة.

ويقوم كمال فيقوم النمرود والزهار، ويخرجون بعد أن يلقوا السلام في أدب جم، وفي جمود يعرفه لطيف منذ تعود مصاحبة أمثالهم.

وما إن يبتعد ثلاثتهم عن دار لطيف حتى يدعو لطيف إليه سليمان النطل كبير رجاله بعد موت الفرماوي، فيقول له: تذهب أنت وعباس وفهمي الليلة إلى قرية السلام وتأخذون إليها الطريق الذي يدور حول بلدة الفرايحة. اركبوا السيارة الجيب وأخفوها قبل بلدة السلام، وانتظروا الثلاثة الذين خرجوا الآن من عندي. اقتلوهم الثلاثة الليلة، فإن طلع عليهم الصباح وهم أحياء فلا تروني وجوهكم؛ لأنهم إن عاشوا فيسقتلونني، أتفهم؟ وحذارِ أن تسير وراءهم في الطريق التي ذهبوا منها فتقتلوهم في حدود بلدنا، انتظروهم عند بلدهم واقتلوهم. أنا مسافر الآن إلى مصر، أقرأ في جرائد الصباح عن مقتل الثلاثة أتفهم؟

هل يفهم سليمان إلا هذا؟!

•••

خلا كمال والزهار والنمرود بالطريق، وكانوا يسيرون في طريق يحفه من جانب مصرف جاف ليس في جوفه إلا أوشال ماء وكثير طين، ومن الجانب الآخر حقول لطيف وقد رُفعت عنها الذرة، وذهب كمال فنظر في المصرف خشية أن يكون فيه أحد جالسًا، ونفض المكان جميعه بعينه ثم قال لرفيقَيه: ميلا بنا نجلس في جرف هذا المصرف لأحدثكم في أمر خطير.

وجلس ثلاثتهم على جرف المصرف، وقد ألقى رفيقا كمال إليه بآذانهما المصغية.

– لقد عملت منذ أول يوم تكونت فيه الجماعة على أن أكسب ود لطيف، فهو لا يعلم بأمر جماعة مثلنا تتكون قريبًا منه إلا حاول أن يضمها إليه أو يقضي عليها.

فقال النمرود: نعم هذا صحيح.

فقال كمال: أما هذا الذي طلب إلينا أن نعمله الليلة فهو الفناء الأكيد لنا جميعًا … فلولا أن منصورًا انتظر في السجن حتى المحاكمة لأفشى سرنا، وخاصةً إذا عرف أننا اختطفنا بنت العمدة ورجعناها دون أن يغير العمدة شهادته.

فقال الزهار: نعم أنت محق ولو كنت طاوعته لقلنا نحن لا.

فقال كمال: فاعلموا إذن أننا إذا لم نقتل لطيفًا فإنه سيقتلنا لا محالة، فأنتم تعلمون أن أمثالنا في هذه الناحية إما أن يكونوا أصدقاءه أو يكونوا في القبور.

فجزع النمرود قائلًا: نقتل لطيفًا؟

وقال كمال في ثبات: وأي فرق بين لطيف وصلاح وأحمد؟! الرصاصة التي قتلت صلاحًا أو أحمد تستطيع أن تقتل لطيفًا، إنه الوحيد الذي يعرف أشخاصنا، وقد تركناه غاضبًا، فإن لم نقتله فمصيرنا إلى القتل على يدَيه أو القتل على يدي الحكومة التي سيشي بنا عندها.

فقال النمرود: ولكن الدفراوي هو الذي قتل صلاحًا وأحمد، ومن لنا الآن بالدفراوي؟

فقال كمال: معنا من هو أمهر من الدفراوي.

وفهم الزهار أنه يقصد إليه، وخُيل للنمرود أنه المقصود، وتذكر في تلك الآونة هذه الإشاعة التي كان قد أطلقها من أنه قتل زوجته الهاربة.

ويسأل النمرود في تردد: من …؟ من تقصد؟

ويكون الزهار سارحًا في هذا الأمر الذي يوشك أن يُلقى إليه، فهو لم يقتل قبل اليوم وإن كان قد تمنى أن تُتاح له الفرصة. نعم إنه أمهر في إصابة الهدف من الدفراوي، ولكن الدفراوي مُرِّن على قتل الناس، أما هو …

ويسمع الزهار كمالًا وهو يقول في صوت مليء بالثقة: الزهار يا أخي، الزهار الذي تعلم إصابة الهدف في العسكرية، ومعنا مسدسات لا تخيب أبدًا.

ويقول النمرود: ما رأيك يا زهار؟!

ويقول الزهار في وجمة وتفكير: أمركم، كما ترون.

ويقول كمال: نستلقي هنا على بطوننا، فإذا جاءت سيارة لطيف فعليك يا زهار أن تصوب إلى الزجاج الخلفي للسيارة، فأمامه تمامًا سيكون رأس لطيف، فهو يجلس في الوسط، أما أنا وأنت يا نمرود فسنضرب في جوانب السيارة لنقتل من معه، وسنكون نحن مختفين بينما سيكون جميعهم ظاهرين لنا …

– أمرك.

وما هي إلا دقائق حتى ظهر نور السيارة قادمًا من بعيد، فينام ثلاثتهم على بطونهم وقد أخفاهم جرف المصرف عن نور السيارة وعبرتهم السيارة، ولكن لم تكد حتى انطلق مسدس الزهار فأصاب الزجاج حيث أراد كمال، وانطلق مسدسا كمال والنمرود فأصاب كمال جانب السيارة من أعلى وأصاب النمرود عجلة السيارة فنامت.

وحاول السائق أن يزيد سرعة السيارة ولكن السيارة قفزت منه قفزة ثم توقف محركها، ففتحت أبواب السيارة جميعًا ونزل منها أربعة أنفار أما السائق، ومن كان خلفه فقد نزلا إلى ناحية الحقل فتسترا بالسيارة، وظلا يتدحرجان نائمين حتى بلغا الحقل، فغاصا في جدول من الماء يفصل بين الحقل والطريق. أما من كان إلى جانب السائق ومن كان خلفه فقد تدحرجا من السيارة إلى ناحية الكمين، وحاولا أن يدخلا تحت السيارة فلم تتسع لهما فتدحرجا في سرعة مجنونة إلى جرف المصرف، وراح كمال يطلق عليهما الرصاص وهما في طريقهما إلى المصرف فلم يصبهما، بينما راح النمرود والزهار يصوبان نحو السيارة حيث أمرهما كمال أن يصوبا، وقد أصبحت أيديهما الضاربة منفصلة كل الانفصال عن عقليهما، فكل ما يدريان من أمر نفسيهما أنهما أُمرا أن يضربا مواضع معينة من السيارة فهما يصوبان إلى حيث أُمرا بغير تفكير، وفي إصرار ذاهل مجنون.

أصبح رجلا لطيف في الجرف مع الكمين، فصوب إليهما كمال مسدسه، ولكن الاضطراب كان قد أخذ يسيطر عليه، وصوب الرجلان بندقيتهما اللتين كانتا معلقتين على كتفيهما إلى الكمين، وما هي إلا طلقات قلائل حتى كان الكمين كله في الطين قتيلًا: كمال والزهار والنمرود.

١٨

أشرق الصباح على قرية السلام، وتهيأ العمدة يريد الذهاب إلى لطيف، فإذا بالأنباء تأتيه لقد أُصيب لطيف ومات الزهار والنمرود وكمال، كمال الطبال؟! نعم كمال الطبال!

إذن فتلك هي العصابة، فأين ابنتي؟ لم يكن الأمر محتاجًا لكبير ذكاء، لم يبقَ من منتدى بيت النمرود إلا نور يقصدون إلى بيته فيجدونه خاليًا، فيهمون أن يتركوه فإذا نور قادم ليبحث عن رفاقه الذين أخلفوا معه موعدهم وتركوه جائعًا هو وحبيسته، ويراه القوم قادمًا من وراء القرية من خلال أعواد الذرة، فيمسكون به ويتداعى الرجل، وتعود دُرية إلى بيت أبيها.

•••

لم يكن فخري قد ترك القرية منذ قدم إليها، فقد شغلته الحوادث أن يتركها، وقد آن له الأوان أن يعود إلى دراسته، ولكن عليه رسالة لا بد أن يبلغها العمدة قبل أن يبرح القرية. هي رسالة أجمع عليها المثقفون في القرية ولم يجدوا غير فخري ليؤديها عنهم. هي أمله وأملهم، وما كان ليمضي عن القرية قبل أن يحقق أمله وأمل إخوانه.

ذهب فخري إلى العمدة فوجد الدوار مزدحمًا يغص بالمهنئين بعودة دُرية، وبعودة السلام إلى قرية السلام.

ويميل فخري إلى أذن أبيه: أبي، هلا استأذنت لنا العمدة أن نخلوا إليه بضع لحظات؟

ويقول الشيخ حسن في ابتسامة تكاد تشرق، لولا ما في القلب من حرقة على موت ابنه الأكبر: نعم يا ابني أظن الوقت مناسبًا.

– مناسب تمامًا يا أبي، افعل لا عدمتك.

ويميل الشيخ حسن على أذن العمدة فيقوم ويقوم من ورائه فخري والشيخ حسن، ويفهم إخوان فخري ما بسبيله أن يُقال في هذه الخلوة، ويحاول آخرون أن يخلقوا في أذهانهم أسبابًا أخرى، ويحسد كل منهم نفسه على ذكائه المتوقد واستنتاجه الصائب.

وفي الغرفة التي شهدت رفض العمدة لطلب الشيخ حسن يقول العمدة بعد أن استقر بهم المجلس: نعم يا فخري، هي لك، هي لك يا ابني دون أن تطلب.

ولكن فخري يقول كلامًا آخر يذهل له أبوه، فما كان هذا ما توقعه، ويذهل له العمدة أيضًا يقول فخري: أبقاك الله وأبقاها لك يا حضرة العمدة، ولكن ليس هذا ما أردتك فيه.

– ففيم إذن يا ابني؟

– لقد خرجت القرية من غمرة قاتلة فقدنا فيها أرواحًا عزيزة علينا، وفقدنا فيها كرامة هي أغلى عندنا من الأرواح، وفقدنا أموالًا هي أهون ما فقدنا يا حضرة العمدة. أنت وحدك المسئول عن كل هذا. نريد منك نحن أهل قرية السلام أن تقسم يمينًا على المصحف أمام الله: أن يكون الحق شأنك منذ اليوم، فلا ظلم، ولا ميل، ولا رشوة …

سمع العمدة هذا الكلام فارتسمت على وجهه ابتسامة حلوة، وصاح الشيخ حسن: اخرس يا ولد … أمثل هذا يُقا…

فقاطعه العمدة في لطف: نعم يا شيخ حسن، بل لا يُقال إلا هذا، اسمع يا فخري بماذا همست في أذنك آخر يوم كنت فيه هنا؟

فتلجلج فخري بعض الشيء، فقال العمدة: قل …

فقال فخري: قلت لي إنك تريدني في أمر جليل قد يغير حياتي جميعها.

فازداد ذهول الشيخ حسن، وقال العمدة: هذا ما أردتك فيه يا ابني …

– ماذا؟

– أنا لن أقسم على شيء يا فخري، ولن أكون العمدة بعد اليوم أبدًا. أنا مسافر إلى مصر، وسأجعل الحاج إبراهيم الحسيني نائب عمدة بدلًا مني حتى يتولى الأمر العمدة الذي اخترته، والذي سيحكم البلدة بما يرضي الله، فيقيم فيها العدل، ويمنع عنها الكارثة، ويهيئ لها الخير. سيكون الحاج إبراهيم نائبًا عن العمدة الجديد الذي اخترته، حتى يتم العمدة تعليمه، فقد اخترته من ذوي التعليم العالي.

فقال فخري وهو لا يصدق ما يسمع، يكاد يعرف من يعينه العمدة ولكن لا يستطيع الوثوق: من؟ من ذلك العمدة؟

– أنت، أنت يا فخري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤