مهنة الباحث

كيف يجرى البحث العلمي؟ كيف نتوصل إلى الاكتشافات؟ كيف تأتي الأفكار للباحثين؟ هل الإبداع فطري أم يمكن تنميته وصقله؟ تساؤلات عديدة تطرح دائمًا، لا سيما عندما لا يكون المرء ضالعًا بصورة مباشرة في العمل البحثي. وللرد على هذه التساؤلات، نقول على الفور: إنه لا توجد إجابة محددة؛ لأنه، وببساطة، لا توجد وصفة للبحث أو للاكتشاف أو الاختراع، ولو أن هذه الوصفة موجودة، لما كانت هناك ضرورة من الأساس لوجود باحثين؛ فقد نكتفي بتطبيقٍ أعمى لهذه الوصفة وندير مقبض الآلة أو الحاسوب (فالاثنان سواء) ثم ننتظر النتيجة. لكنني أُومِنُ، بالأحرى: بنجم الحظ، وبالإيحاء، وبالحدس، وبالقياس، وبالاستنباط، وبالدمج والتركيب، وبالتنوير المفاجئ، وربما بالعرابة وعصاها الساحرة، وبالمصادفة، وبالتجربة، وحتى بالخطأ. إنها عوامل تتدخل في جميع الاكتشافات العلمية لكن بنسب متفاوتة، قد تقل أو تزيد، بالطبع في أثناء العمل البحثي الذي يكون دائمًا شاقًّا وعنيفًا، وقد ذهب يهودي مينوهين (١٩١٦–١٩٩٩) لأبعد من ذلك عندما كتب قائلًا: «لا يمكن الوصول إلى الكمال إلا إذا أصبح البحث العلمي نمطًا للحياة.»

بيد أنه يمكن، بالاستناد إلى ما لدينا من شواهد وإثباتات، أن نشرح ما هو الإبداع وكيف تولد الأفكار الجديدة في عقول الباحثين. كذلك يمكن وصف المنهج العلمي للباحثين، وهكذا يمكننا أن نتوصل، شيئًا فشيئًا، بل وربما نفهم تمامًا، أو ندرك على الأقل كيفية بناء المعرفة العلمية، وكيف يتم إعداد ما يطلق عليه فرانسوا جاكوب (ولد في ١٩٢٠) «علم الليل» الذي يختلف عن «علم النهار» ونجده في الأدلة وفي المقالات المنشورة في الدوريات العلمية المتخصصة. وكما قال رابييه — في خطابه الذي ألقاه بجامعة السوربون بمناسبة توزيع جوائز المسابقة العامة عام ١٨٨٦ — «إن أكبر خطأ نرتكبه في حق الاكتشافات العلمية هو فصلها عن مصادرها وعدم النظر إليها إلا من منظور الحقيقة وحدها.» ووفقًا لما ذكره عالم الفلك والرياضيات الفرنسي بيير سيمون لابلاس (١٧٤٩–١٨٢٧) فإن معرفة المنهج الذي أرشد أي رجل عبقري، ليس أقل فائدة من اكتشافاته ذاتها، سواء بالنسبة لتقدم العلوم أو بالنسبة لمجد هذا العالم الشخصي، فهذا المنهج هو دائمًا أكثر العناصر أهمية. أما جوتفريد لايبنتز (١٦٤٦–١٧١٦) فقد كتب قائلًا: «هناك شيء أكثر أهمية من الاكتشافات الجميلة، وهو معرفة المنهج الذي تمت به هذه الاكتشافات.»

يجب عدم فصل هذه الاكتشافات عمن قاموا بها من رجال أو نساء، فعملية فصل العلم عن القائمين عليه تعرضه لخطر التحول إلى علم جاف غير إنساني، أو علم تقني بحت. فيجب ألا نغفل أن هذا العلم جزء من تاريخ البشرية، وأن القائمين عليه، قبل أن يصبحوا علماء، كانوا أطفالًا ومراهقين وطلابًا، وأنهم أسسوا عائلات وكانت لهم اتصالات بزملاء، وواجهوا العديد من المصاعب على جميع المستويات. سوف نرى، من خلال هذا الكتاب، كيف استطاعت الظروف والصدف، في بعض الأحيان، توجيه مستقبلهم المهني وأبحاثهم، بل وحتى حياتهم. إن العلم لم ينشأ من فراغ، بل تم بناؤه، كما سنفهم من الصفحات التالية، خطوة تلو الخطوة. وكل عالم استفاد من أعمال من سبقوه. فطريق الاكتشافات العلمية يتطلب دائمًا اتباع مسار طويل؛ لأن الصعود إلى القمة ليس بالأمر اليسير. والعلم يتقدم بخطًى بطيئة؛ لذا يتعين أن نترك المعارف تتراكم لتنضج، فهي ثمرة عمل العديد ممن أفنوا عمرهم في خدمة العلم، وكل واحد منهم أتى بلبنة ليضعها في هذا الصرح الجماعي، وبين الحين والآخر، يبرز فكر جديد ليخرج عن المألوف ويخطو في هذا المسار بخطًى عملاقة.

لقد حاولتُ قدر المستطاع، من خلال هذا الكتاب، تجميع تاريخ عدد من الاكتشافات والاختراعات العلمية في مجالات كثيرة التنوع، وآمل أن أستطيع بذلك تقديم فكرة عن مسارات مختلفة من الممكن أن تسفر عن نتائج جديدة، سوف نرى، بهذه المناسبة، أن المسارات لا تختلف بين علم وآخر. على سبيل المثال، تعتبر علوم الطبيعة، في بعض الحالات، من العلوم التجريبية أكثر من علوم الرياضيات، بيد أننا سوف نرى أن التجربة تتدخل أيضًا في الرياضيات، سوف نرى أن عمل الباحث يبدأ، بصفة عامة، بمرحلة من التحضير والإعداد، يبحث خلالها جميع أوجه إشكاليته وينغمس في موضوع بحثه. ثم تأتي مرحلة تخمر الفكرة؛ حيث يعمل الفكر وحده بشكل تلقائي انطلاقًا من المعلومات المتراكمة خلال فترة الإعداد، إنها مرحلة هضم واستيعاب عقلي يتم خلالها دمج جميع المعارف المكتسبة سابقًا، حتى تلك التي ربما لا تمت بصلة إلى موضوع البحث. وبعد ذلك تبرز الاستنارة؛ وهي طبقًا لتعريف معجم ليتريه «المعرفة المباغتة التلقائية التي ليس بها مجال للشك مثل تلك التي يمنحنا إياها النظر للضوء وللأشكال الملموسة»، يصاحب هذه الاستنارة، في أغلب الأحيان، اليقين بالتوصل إلى الإجابة الصحيحة. فهذا التنوير الذي قد يحدث في أكثر المواقف غرابة، يبدو أنه يخرج عن نطاق أي منطق وأي تحليل. وهناك العديد من الشواهد التي تشير إلى ذلك. وفيما يبدو أن الإبداع الفني يمر بهذه الخطوات نفسها، فالاستنارة لا تطرأ، بصفة عامة، عند القيام بجهد لحل مشكلة ما؛ لأنه في هذه الحالة يكون المخ في حالة توقف تام، مثلما يحدث عند محاولة البحث عن كلمة ما ولا نجدها؛ ولهذا يكون المخ بحاجة إلى الراحة. فالباحث يجب أن يعرف متى يتوقف عن العمل بعض الوقت، وفي هذه اللحظة تظهر الاستنارة. تتمثل المرحلة الأخيرة من عمل الباحث في التأكد من صحة الحدس؛ إما بواسطة إحدى التجارب، وهذا يكون بالنسبة لعلوم الطبيعة؛ وإما بواسطة الإثبات، ويكون ذلك في علم الرياضيات. بيد أن الأفكار الأكثر غرابة والأكثر بعدًا عن العقلانية قد تنضج في هذه المرحلة، والحقيقة هي أنه في جميع أنواع الاكتشافات يقترب دائمًا — ودون شك — العقلانيُّ من اللاعقلانيِّ.

ويكمن جمال أي اكتشاف، بصفة عامة، في أنه يتسم بالبساطة، مثال على ذلك إثبات علماء الرياضيات اليونانيين القدامى لنظرية الجذر التربيعي أو إثبات فيثاغورس. طالما تحدثنا عن الشعر في الرياضيات، والمقصود بذلك الأفكارُ الأكثر بساطة والتي تكون من ثم الأكثر جمالًا من الناحية الشكلية، والتي تأتي من ثمَّ بأكثر النتائج أهمية، بيد أن بساطة ووضوح بعض الاكتشافات لا يتأكد إلا عند تحققها.

وفي هذا الصدد، ربما نستطيع ذكر العديد من الشواهد لعلماء وفلاسفة حاولوا تحليل مسار الخلق والإبداع العلمي. لكنني فضلت أن أترك للقارئ الفرصة لتكوين فكرة عن هذا المجال بسرد تاريخ بعض الاكتشافات والاختراعات. فإلى جانب الروايات المخصصة لإبراز مسار الاكتشافات، قمت — فقط للتوضيح — بذكر عدد آخر من المغامرات العلمية التي تبرز الخطوات والمسار العلمي، وعلى الرغم من ذلك، يمكننا القول: إن تنمية عمل بحثي وفقًا للمنهج الاستقرائي تتم على ثلاث مراحل: تحليل الحقائق المعلومة، وإعداد نموذج، والتأكد من هذا النموذج. ويتمثل هذا التأكيد، في مجال علوم الطبيعة، في القيام بملاحظات جديدة، وهذا ما تم — على سبيل المثال — بالنسبة لنظرية انحراف الأشعة الضوئية عند مرورها بأجسام سماوية كثيفة. هذا الانحراف تنبأت به نظرية النسبية وتمت ملاحظته عند خسوف الشمس عام ١٩١٩، فإن لم يكن التأكد من النتيجة قاطعًا، يتم تعديل العينة ويتم إعادة التجربة للتأكد من النتيجة من جديد. وفي علوم الرياضيات، تتبع الخطوات نفسها من أجل ملاحظة نتائج جديدة. ففي الواقع، عقب تحليل عدد من النتائج السابقة ودمج الملاحظات الخاصة، يصل الباحث إلى صياغة فكرة ما لأنه على يقين من التوصل إلى نتيجة. فهذا هو النموذج الذي يعمل عليه؛ لذا فهو يحاول أن يصل إلى الإثبات، فإن لم يتوصل إلى ذلك، يتعين عليه إضافة فرضيات جديدة؛ أي تعديل النموذج، ثم يعيد خطوات الإثبات، وتلك هي الطريقة التي يسير بها العمل حتى التوصل إلى النتيجة النهائية، وعندها نصل إلى ما نطلق عليه اسم «النظرية». يعد التحليل الرقمي فرعًا من فروع علم الرياضيات؛ حيث يتم إعداد ودراسة الطرق التي تساعد على حل المسائل رقميًّا (وهو ما يطلق عليه اسم لوغاريتمات) بهدف التوصل إلى حلول رقمية تقريبية للمسائل الرياضية التي لا تستطيع الرياضيات التقليدية حلها، وهذا الحل الرقمي يتم بواسطة الحاسوب، ولوضع لوغاريتم جديد، تُتبع أيضًا الخطوات الاستقرائية ويكون فيها اللوغاريتم هو النموذج الذي يتم إعداده وإثباته فيتخذ شكل تجارب رقمية تجرى بواسطة الحاسوب.

وربما يطول الحديث عن الفرق بين الاكتشاف والاختراع. فالاكتشاف يكون لشيء كان موجودًا من قبل، مثل مكونات البنزين أو الإلكترون، بينما الاختراع يكون لشيء جديد مثل أداة أو آلة أو تقنية أو لقاح جديد، إلا أن الحدود بين الاختراع والاكتشاف غير واضحة المعالم، فهل يمكن القول على نظرية جديدة، مثل نظرية النسبية التي فسرت ظواهر لم يكن لها تفسير آنذاك، بأنها اختراع، بما أنها لم تكن موجودة قبل أن يصوغها أينشتاين، أم أنها اكتشاف؛ لأن الطبيعة كانت خاضعة بالفعل لقوانين هذه النظرية قبل أن يتم تفسيرها؟ لنُنحِّ هذا الجدل جانبًا.

ومثلما توجد أفرع متعددة للعلوم، هناك أيضًا فئات مختلفة من الباحثين. فهناك الباحث القوي المؤثر الذي ما إن ينطلق في عملية البحث، نجده يتبع الطريق الذي رسمه له أستاذه، وهناك من يشُقُّون طرقًا جديدة بالفعل ومبتكرة وذات نطاق واسع، وهناك القادرون على إيجاد حلول لإشكاليات مطروحة، والمبدعون القادرون على خلق أفكار جديدة، وهناك من يستكشف أقطارًا لا تزال بكرًا، ومن يسافرون لاكتشاف قمة جبلية تم رصدها من قِبل آخرين قبلهم، أو ينظمون بعثات استكشافية. وقد ذكر عالم الرياضيات مارك كاك (١٩١٤–١٩٨٤) في سيرته الذاتية:

في مجال العلوم — مثله مثل المجالات الأخرى من الأنشطة البشرية — يوجد نوعان من العباقرة: العباقرة العاديون، والعباقرة السحرة. العبقري العادي هو شخص قد يتساوى معي أو معك، فقط إذا كنا أفضل مما نحن عليه عدة مرات. ولا يوجد أي غموض في طريقته في التفكير أثناء العمل. وفور فهمنا لما يفعل، نتأكد من أننا قادرون نحن أيضًا على القيام بذلك. وهذا الوضع يختلف مع العباقرة السحرة؛ فحتى بعد فهمنا لما يفعلون، تظل الطريقة التي يعملون بها غامضة تمامًا.

إن العباقرة العاديين يجدون تناظرًا بين بعض المفاهيم أو النتائج التجريبية أو النظرية، بينما يرى العباقرة السحرة، كما ذكر عالم الرياضيات البولندي ستيفن باناخ (١٨٩٢–١٩٤٥)، تناظرًا بين الأشياء المتناظرة. العباقرة يمتلكون موهبة الحدس، فهم يتنبئون بوجود كنز مجهول، وهم يعلمون، دون برهان ودون تحليل، ما يتعين عليهم معرفته، ويوجهون أنفسهم تلقائيًّا في الاتجاه المؤدي للاكتشاف المطلوب. هناك أيضًا العقول المنطقية والحدسية. فبعض العلماء يظلون في حالة عزلة وليس لديهم إلا عدد قليل من التلاميذ، بينما يؤسس البعض الآخر مدارس. إن هذه الاختلافات المزاجية بين الباحثين تفرض بالتأكيد شروطًا على نمط عمل كلٍّ منهم. فالبعض تجتذبه النظرية، والبعض الآخر يفضل التركيز على حل مشكلة محددة، وهناك فئة تهتم بتطبيقات الاكتشافات التي تم التوصل إليها، وفئة أخرى لا تهتم بذلك، فهناك دائمًا طريقة ذاتية لمعالجة العلم والحديث عنه، فكل عمل له سِمته الفريدة والذاتية ويحمل دائمًا بصمةَ مَن قام به. فهناك فئات لا حدود لها من الأنماط البشرية في مجال العلوم، مثلما يحدث في مجال الفنون والأدب والرسم، هذه الفئات المتنوعة من الباحثين ومن أنماط العمل تؤدي بإسهاماتها إلى تنمية وتطوير العلم، إلا أنه، على أي حال، توجد نقطة مشتركة بين جميع هذه الفئات من الباحثين في جميع العلوم؛ ألا وهي الولع بالعلم.

ويجب عدم الاعتقاد أيضًا أنه لكي تُجرى اكتشافات علمية، يتعين بالضرورة امتلاك ثقافة موسوعية في مجال من المجالات، فليس كم المعارف هو المحك، بل القدرة الإبداعية وملكة خلق أفكار جديدة، والقدرة على النظر والتعليق الصحيح على كل ما يدور وكل ما يُلاحظ، فالخيال، في هذا الصدد، أهم من المعرفة، فالمطلوب توافره هو شكل مِن أشكال التفكير يختلف عن المستخدم في تسجيل المعرفة، دون امتلاك القدرة على استخدام هذا التفكير بهدف إبراز شيء جديد، ففي الحقيقة، وكما أشار العديد من الباحثين، الرغبة في قراءة كل شيء ومعرفةِ كل شيء حول موضوعٍ ما، ربما تكون ضارة؛ لأن ذلك من شأنه توجيه الفكر نحو طريق بعينه، كما أنها قد تضر بأصالة فكر الباحث، يتعين أيضًا معرفة طريقة طرح تساؤلات جديدة في الوقت المناسب والتمييز بين ما هو مهمٌّ وما هو أقل أهمية.

لقد آثرت — في هذا العمل — الفصل بين تاريخ الاكتشافات العلمية والسيرة الذاتية للباحثين الذين قاموا بهذه الاكتشافات؛ مما يمنح القارئ حرية أكثر في التنقل على سجيَّته بين مختلف أنواع الاكتشافات. وقد قمتُ بذكر تاريخ ميلاد ووفاة الباحثين المذكورين؛ مما يسمح بالعثور على صفحات الويب المطابقة.

وإنني آمل أن تستطيع هذه الصفحات القليلة عن العلوم والسير الذاتية للباحثين كشْفَ النقاب عما يحيط بمسار الاكتشافات العلمية، وربما إثارة الولع بالعلوم، ولم لا؟!

علامةُ النجمة التي تلي اسمَ إحدى الشخصياتِ، تُبيِّن أن سيرته الذاتية مذكورة في فصل «المكتشفون».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤