دروب الكشف العلمي
سوف أروي في الصفحات التالية تاريخ عدد من الاكتشافات؛ بهدف توضيح أن دروب الكشف العلمي قد تكون ملتوية ومليئة بالتعرجات، وفي الغالب لا يمكن التنبؤ بها. فالكشف العلمي قد يكون انعكاسًا لحدث ما، أو واضحًا يسهل اكتشافه سريعًا، وقد يكون أيضًا ثمرة لصدفة بحتة أو نتيجة للحظة تنوير مفاجئة وما يتبعها من شعور باليقين، وقد ينتج أيضًا عن بعض الأخطاء. لقد أضفتُ أيضًا تاريخًا لعدد من الاكتشافات بدت لي، لسبب أو لآخر، ذات أهمية كبيرة، على الرغم من كونها لا توضح أقوالي. سوف نرى من خلال هذا الكتاب، أن عددًا من الروايات يتشابك ليبين مدى تأثير مجال ما على الآخر.
وعندما يقوم العلماء برواية تاريخ اكتشافاتهم بأنفسهم، يترك لهم حرية الحديث. فلا شيء على الإطلاق يساوي قيمة سماع القصة من مصدرها الأول.
ولقد حاولت، بالقدر المستطاع، في كل مجال من المجالات العلمية، عرض الأحداث بالتسلسل التاريخي للكشف العلمي الأساسي. بيد أن ذلك لم يكن دائمًا ممكنًا لكون بعض الروايات تمتد زمنيًّا وتضع في المشهد عددًا كبيرًا من الأشخاص. فكل رواية يمكن قراءتها منفصلة.
(١) الرياضيات
(١-١) تربيع الدائرة
إذا أردنا الحديث عن مسألة كان يستحيل حلها، فسوف يقول الجميع إنها مسألة تربيع الدائرة. وعلى الرغم من ذلك، فقد جرى التوصل إلى حل لهذه المسألة نحو نهاية القرن التاسع عشر كما سنرى لاحقًا.
ما هو مضمون هذه المسألة؟ المقصود هو إنشاء مربع باستخدام المسطرة والفرجار فقط وتكون مساحته مساوية لمساحة دائرة ما. يصعب معرفة أول من تعرض لهذه المسألة. إلا أن البداية تنسب دائمًا إلى الفيلسوف اليوناني أناكساجوراس الكلازومني (٥٠٠ق.م–٤٢٨ق.م). ومنذ ذلك العصر، أخذت هذه المسألة تجذب انتباه علماء الرياضيات المتخصصين، كما اهتم بها كثيرًا العديدُ من الهواة المغرمين بالرياضيات. وفي الواقع، كما حدث في نظرية «فيرما»، فإن عرض المسألة في غاية البساطة، وقد نتخيل بسهولة أن حلها بسيط أيضًا، وهو ما يخالف الحقيقة في واقع الأمر.
يبدو أن أبقراط (٤٦٠ق.م–٣٧٧ق.م) كان أول من بحث في حل هذه المسألة. فقد كان مهتمًّا بتربيع أشكال هندسية أخرى، لكنه كان يعلم جيدًا أن طريقته ستفشل بالنسبة للدائرة. وقد تعرض علماء يونانيون آخرون لكن أقل شهرة لهذه المسألة أيضًا، إلا أن أرسطو (٣٨٤ق.م–٣٢٢ق.م) لم تعجبه جهودهم.
أما الإسهام التالي، فقد جاء من قبل أرشميدس (٢٨٧ق.م–٢١٢ق.م) في كتابه عن المنحنيات. فقد بين أن مساحة الدائرة تساوي مساحة المثلث المتساوي الأضلاع، الذي تتساوى أضلاعه على الترتيب مع نصف قطر ومحيط الدائرة. إلا أن هذا الإثبات لم يكن حلًّا للمسألة. أما أبولونيوس بيرجا (٢٦٢ق.م–١٨٠ق.م) فقد استخدم، كما سنذكر لاحقًا، بعض المنحنيات من أجل تربيع الدائرة، إلا أننا لا نعرف أي نوع من المنحنيات كان المقصود بذلك. وعلى الرغم من أن هذه المنحنيات لم تكن قادرة على إثبات هذا التربيع، فإن علماء الرياضيات اليونانيين كانوا على قناعة بأن المسألة يستحيل حلها.
لنغادرِ الآن العالم القديم، ولنذهبْ إلى الهند حيث كان علم الرياضيات شديد التقدم، وكذلك في الصين حيث أبدى أحد علماء الرياضيات، ويُدعى ليو هسنج — نجل الفيلسوف ليو هسيو الذي كان على اتصال بالبيت الإمبراطوري لأسرة هان — اهتمامًا بهذه المسألة في حوالي عام ٢٥م. ومن المعروف كذلك، أن العالم العربي كانت له إسهامات عديدة في مجال الرياضيات ومن بينها مسألة تربيع الدائرة التي كانت ضمن مجالات بحوثهم. فلقد حاول الحسن بن الهيثم (٩٦٥–١٠٤٠) إقناع معاصريه أن المسألة قابلة للحل ووعد بتأليف كتاب عن هذا الموضوع. لكن نظرًا لعدم ظهور هذا الكتاب، فمن الواضح أنه أدرك عدم القدرة على التوصل إلى الحل.
إن طريقة نيكولا دي كوسا (١٤٠١–١٤٦٤) الكاردينال الألماني الذي ولد بمدينة «تريف» التي تقع في إقليم ديوسيز بألمانيا، على الرغم من كونها طريقة خاطئة، فإنها تعد أولى المحاولات الجادة في هذا المجال. وترتكز هذه الطريقة على استخدام متوسط المضلعات المدرجة في الدائرة. وقد اكتشف عالم الفلك الألماني ريجيو مونتانوس (١٤٣٦–١٤٧٦) الذي ولد بإقليم كونيسبرج ومؤلف بحث في مجال حساب المثلثات؛ خطأً في طريقة الإثبات.
هناك عدد كبير من علماء الرياضيات في القرن السادس عشر، انكبوا على دراسة هذه المسألة، حتى إن ليوناردو دافينشي (١٤٥٢–١٥١٩) فكر في استخدام عدد من الآلات الحاسبة لحلها.
بيد أن عددًا ممن يُفْنون جزءًا من حياتهم في هذه الأبحاث غير المجدية، التي لا تأتي بثمار سوى الإضرار بثروتهم وفي أغلب الأحيان تشوِّه عقولهم، قد دفعها لاتخاذ قرار رأتْ أنه مناسب لجعلهم يَحيدون عن هذا العمل. فقد خشيت إن استمرت في بحث حلولهم، أن تتهم بتشجيعهم على الانشغال بهذه المسائل وأن تكون متورطة بطريقة أو بأخرى في المآسي التي سيتعرضون لها.
وقد اتخذت «الجمعية الملكية» بلندن القرار نفسه.
ولدهشة إرميت وجميع أعضاء المجتمع الدولي للرياضيات، جاء الحل في عام ١٨٨٢ على يد عالم الرياضيات الألماني كارل لويس فرديناند لينرمان (١٨٥٢–١٩٣٩). وهكذا انتهى الجدل المفتوح الذي أثير منذ أكثر من ألفي عام بإجابة سلبية. وعلى الرغم من ذلك، وحتى هذه الساعة، فهناك بعض الأشخاص الذين لا يزالون يسعون لحل مسألة تربيع الدائرة.
(١-٢) يوريكا
بين الكم الهائل من الاكتشافات الرائعة التي قام بها أرشميدس، يتعين أن نلاحظ هذا الاكتشاف الذي سوف أتحدث عنه، والذي أَثْبتَ من خلاله دقة في التفكير لا يصدقها عقل.
فعندما كان الملك هيرون يحكم مدينة سيراقوسة، أبدى رغبته، بعد أن نجح في جميع حملاته، في إهداء تاج من الذهب لآلهة أحد المعابد. واتفق مع أحد الصاغة على دفع كثير من المال لصناعة التاج، وأعطى له الذهب بالوزن. وقام الصائغ بتسليم التاج في الموعد المحدد، ووجده الملك دقيق الصنع، وعندما وزن التاج وجد أن وزنه يساوي الذهب الذي كان قد أعطاه إياه، إلا أنه عندما تم اختبار الذهب بالتاج، اكتشف أن الصائغ قد اختلس جزءًا من الذهب واستبدله بفضة بمقدار الوزن نفسه.
شعر الملك بالإهانة الشديدة لهذا الغش، ولم يجد سبيلًا لإقناع الصائغ بما قام به من سرقة، فطلب من أرشميدس التفكير في طريقة لإثبات ما وقع من سرقة. وفي يوم من الأيام، وبينما كان أرشميدس منشغلًا بالتفكير في هذه القضية، ذهب ليغتسل، فلاحظ بالصدفة أنه كلما انغمس في الماء، ارتفع منسوب المياه على جانبي المغطس. وقد أدت هذه الملاحظة لاكتشاف السبب فيما كان يبحث عنه، ودون تردد، دفعته الفرحة الغامرة بالخروج من المغطس عاريًا، يجري نحو منزله وهو يصيح باليونانية: يوريكا! يوريكا! (أي وجدتها! وجدتها!) ويقال إنه عقب هذا الاكتشاف الأول، قام بعمل كتلتين من الوزن نفسه للتاج، إحداهما من الفضة والأخرى من الذهب، أسقطهما في إناء مليء بالماء، فوجد أن كتلة الفضة كلما انغمست في الماء، تؤدي إلى خروج كمية من الماء تعادل حجم الكتلة. وبعد ذلك، عندما أخرج الكتلة من الإناء، أعاد مَلْأه بالكمية نفسها التي خرجت منه، بعد أن قاس كميتها بدقة، مما جعله يكتشف أن كمية المياه تعادل كتلة الفضة التي وضعها في الإناء. وبعد هذه التجربة، أسقط أيضًا كتلة الذهب في الإناء نفسه الممتلئ بالماء، وعقب إخراجها، قام بقياس كمية الماء التي خرجت منه، فوجد أن كتلة الذهب لم تؤدِّ إلى خروج الكمية نفسها من الماء وأن الفارق الناقص يعادل الفرق بين حجم كتلة الذهب مقارنة بحجم كتلة الفضة التي كان وزنها يعادل وزن كتلة الذهب. وبعد ذلك أعاد ملء الإناء، وفي هذه المرة، أسقط التاج الذي أدى إلى خروج كمية من الماء أكبر مما أخرجته كتلة الذهب التي كان وزنها يعادل وزن التاج، لكنها أقل من المياه التي أخرجتها كتلة الفضة. وبعد أن قام بالحساب النهائي، بموجب هذه التجارب، اكتشف أن كمية المياه التي أخرجها التاج كانت أكبر مما أخرجته كتلة الذهب، ومن ثم عرف كمية الفضة التي أدخلها الصائغ وخلطها بالذهب، وكشف بوضوح ما سرقه الصائغ من الذهب.
لقد اكتشف أرشميدس كيفية حساب حجم أي مادة أيًّا كان شكلها. وتوصل علم الطبيعة إلى طريقة عامة لحل نوعية من المسائل لم يكن علماء الرياضيات يعرفون حلها حتى ذلك الوقت.
(١-٣) حساب اللامتناهيات الصغرى (التفاضل والتكامل)
وعندما تعرفت على هذه الفروق الهائلة، وعندما رأيت أنه يمكن التعبير عن مخططات المنحنيات بالاستعانة بالحساب الديكارتي، وجدت أن مسألة التربيع أو إيجاد خطوط المماس ليست سوى التفاضل، وأن التربيعات ليست سوى التكامل، بشرط وضع فرضيات للفروق تكون صغيرة وغير قابلة للتقريب. وجدت أيضًا أن الفروق العظمى توجد خارج نطاق الكسور، وبهذه الطريقة يمكن إيجاد خطوط المماس دون بذل العناء في أعداد كسرية وأعداد صحيحة (لا كسرية). هذه هي قصة مصدر منهجي لعلم التفاضل.
وهكذا نرى كيف أنَّ تَوافُقَ الأفكار يمكن أن يكون مثمرًا.
(١-٤) طريقة مونت كارلو
يصعب وضع تعريف محدد لطريقة مونت كارلو؛ لأن هذا المصطلح يشمل طرقًا حسابية متعددة. بيد أن إحدى النقاط المشتركة بين هذه الطرق الحسابية هي استخدام الظواهر العشوائية (أي التي تعتمد على الاختيار العشوائي للأعداد). وبما أن العمليات الحسابية يجب دائمًا أن تتم باستخدام الحاسوب، فإن هذه الظاهرة تتمثل، في أغلب الأحيان، في استخدام أعداد عشوائية تتبع قانون القياس الاحتمالي.
يمكن القول إن طريقة مونت كارلو هي طريقة تتمثل في الاستعاضة عن مسألة حتمية غير قابلة للحل، بمسألة بسيطة لكن ذات طبيعة عشوائية، يتم خلالها الجمع بين وسائط (القيم الثابتة) للمسألة الاحتمالية ووسائط المسألة الحتمية. ويكون حل المسألة الحتمية بطريقة تقريبية باستخدام خصائص الإحصاء الرياضي للمسألة العشوائية. ويعتمد تحديد النتيجة الحاصلة بالطبع على تحديد فرق القياس بين المسألتين.
ولا يتعين الخلط بين طريقة مونت كارلو وأنظمة المحاكاة. فالمقصود بالمحاكاة، بصفة عامة، أنها عملية توليد بسيطة وبحتة لظاهرة ما ذات طبيعة عشوائية (بينما الظاهرة تعد حتمية في طريقة مونت كارلو). فعلى سبيل المثال، تزامن عمل إشارات المرور في المدن هو نوع من المحاكاة؛ لأن تدفقات المركبات في كل شارع له طبيعة عشوائية.
وتستخدم طريقة مونت كارلو بشكل واسع النطاق لحل العديد من المسائل في الرياضيات التطبيقية، ولحل أنظمة المعادلات الخطية وحساب التكاملات المحددة وإدخال المعادلات في المشتقات الجزئية، وكذلك في علم الفيزياء لنقل الجسيمات وعلى وجه الخصوص في معادلات انتقال النيوترونات، وفي الكيمياء لدراسة دخول سائل في بيئة مسامية، وفي علم الفلك لحساب مدة حياة المذنبات، وفي علم الإلكترونيات لقياس طاقة عداد شبه الموصلات.
عُرف جورج لويس لوكليرك، كونت بوفون (١٧٠٧–١٧٨٨) عالميًّا بأعماله في مجال الطبيعة، ويضم كتابه «التاريخ الطبيعي» ستة وثلاثين مجلدًا، إلا أنَّ ما لا نعرفه عنه أنه أصدر أيضًا أعمالًا في علم الرياضيات؛ فقد ترجم عملًا لإسحاق نيوتن (١٦٤٢–١٧٢٧) عن طريقة التفاضل وعمل على إثرائها بكتابة تمهيد مطول، وكتب أيضًا ثلاث مذكرات ناقدة لكتاب أليكسيس كليرو (١٧١٣–١٧٦٥)، الذي كان يدعو فيه لإضافة حد تصحيحي لقانون الجاذبية العام لنيوتن. وأخيرًا، فقد نشر عملًا من ١٧٥ صفحة بعنوان «احتمالات العمر الافتراضي».
التحليل هو الأداة الوحيدة التي استخدمت حتى يومنا هذا في علم الاحتمال من أجل تحديد وضبط نسب اختيار الأعداد العشوائية، وكان يبدو أن علم الهندسة لا يصلح كثيرًا للعمل بمثل هذه الدقة؛ إلا أنه إذا نظرنا إلى الأمر عن قرب، فسيسهل التعرف على أن ظهور مميزات استخدام التحليل في الهندسة جاء بمحض الصدفة، وأن مبدأ العشوائية بتعديلاته وشروطه يعتمد على الاثنين سواء؛ علم الهندسة والتحليل، وللتأكد من ذلك يكفي التنبه إلى أن التجارب العشوائية والمسائل التخمينية لا تسير بشكل طبيعي إلا على نسب الأعداد المنفصلة، فالعقل البشري الذي يألف الأعداد أكثر من قياس المدى الإحصائي قد فضل ذلك دائمًا، وهذه التجارب العشوائية هي الدليل على ذلك؛ لأن قوانينها عبارة عن حسابات تكرارية. وحتى تطبق الهندسة بما تخضع له من قوانين عشوائية، لا يسعنا سوى اختراع تجارب تخمينية ترتكز على قياس المدى وما يحمله من نسب، أو حساب أصغر عدد موجود من هذا النوع من الأعداد. تعد تجربة البلاط والعصي مثالًا يمكن الاستعانة به في هذا المجال: وها هي شروط هذه اللعبة وهي بسيطة للغاية …
في حجرةٍ بلاطُها مقسم إلى مربعات موصولة بخطوط متوازية، أفترض أن نقوم بإلقاء عصي في الهواء ويراهن أحد اللاعبين على أن العصي لن تسقط عبر الخطوط الفاصلة بين البلاط، ويراهن لاعب آخر، على العكس من ذلك، أن العصي ستسقط على بعض من هذه الخطوط، ويقوم بعمل قرعة بين اللاعبين لنرى أيٌّ منهما سيفوز على الآخر. ويمكن أن نقوم بهذه اللعبة على رقعة شطرنج باستخدام إبرة حياكة أو دبوس بلا رأس.
لقد تولدت فكرة ما أطلق عليه فيما بعد بطريقة مونت كارلو بينما كنت ألعب السوليتير، وبالأخص أثناء فترة مرضي. فقد لاحظت أن هذه اللعبة كان من الممكن أن تكون أكثر فائدة في المجال التطبيقي؛ لأنها تتضمن فكرة احتمال إنهاء الفائز للعبة؛ نظرًا لامتلاكه عددًا أكبر من كروت اللعبة، أو القيام بتجارب باستخدام هذا الأسلوب وتسجيل فقط معدل المكسب، بدلًا من محاولة حساب جميع إمكانات الدمج وتركيب الكروت التي تكون متصاعدة أسيًّا في العدد بشكل كبير، حتى إنه لا توجد طريقة لتقديرها إلا في بعض الحالات البسيطة وفي المسائل الأكثر تعقيدًا بعض الشيء، تكون التجربة الواقعية أفضل من دراسة جميع المتتابعات للاحتمالات.
ولقد تراءت لي فكرة إمكانية تطبيق ذلك أيضًا في جميع العمليات التي تفسح المجال للتشعبات، مثل إنتاج وتكاثر النيوترونات في بعض أنواع من المواد التي تحتوي على اليورانيوم أو عناصر أخرى انشطارية. وفي كل خطوة من العملية، تظهر العديد من المشتملات المجددة لمصير النيوترون، فمن الممكن كتابة معادلات التفاضل والتكامل لمتوسطات رياضية، أما حلها أو الحصول على فكرة تقريبية لخصائص الحل، فهذه قضية أخرى.
كانت الفكرة هي تجربة آلاف من هذه الاحتمالات. وفي كل مرحلة يتم الاختيار العشوائي بواسطة عدد عشوائي باحتمال مناسب، لمصير أو لنمط الحدث الذي سيأتي في المؤخرة، بدلًا من النظر في جميع الأفرع. وبعد دراسة تاريخ آلاف فقط من الإمكانات سيتوفر لدينا عينة جديدة وإجابة تقريبية للمسألة.
هذا هو النمط التجريبي نفسه الذي يتبعه عالم الرياضيات. وبدءًا من عام ١٩٤٣، اتسع نطاق تطبيق طريقة مونت كارلو على المسائل الكبيرة، لاسيما بعد تطور الآلات الحاسبة. وكان أوائل المستخدمين لها يرون أنه بتكرار عدد كبير من المرات متسلسلات العمليات القصيرة جدًّا، ربما يمكنهم إيجاد حلول للمسائل المعقدة التي كانت تنقص المتخصصين، دون دراسة مسبقة وبتكلفة قليلة. إلا أن الواقع لم يكن بهذه البساطة والنتائج كانت، في الغالب، بعيدة جدًّا عن الحل نتيجة لعدم كفاية عدد التجارب العشوائية (ليس نادرًا أن تتضمن التجربة عدة ملايين من التجارب العشوائية). ومع بداية عام ١٩٥١، بدأت دراسة مسائل التحديد ودخلت طرق مونت كارلو في مرحلة النضج. فهي ترتكز على قواعد لعلم الإحصاء والاحتمال صلبة. ولا تزال تستخدم حتى هذه الساعة.
(١-٥) الكواتيرنيون
هذه هي الصيغة التي تحتوي على حل المسألة، لكن بالطبع، مثل أي كلام منقوش، تم محوها منذ زمن طويل (وبدلًا منها توجد لوحة تؤرخ للحدث). وعلى الرغم من ذلك، فلا تزال هناك ملاحظة بمحضر مجلس الأكاديمية في ذلك اليوم (١٦ أكتوبر ١٨٤٣) تذكِّر بالحدث؛ إذ إنني طلبت حينئذٍ عرض مقال عن الكواتيرنيون في أول اجتماع عام للدورة الجديدة للأكاديمية وحصلت على التصريح بذلك، وقد تمت هذه القراءة في الثالث عشر من نوفمبر التالي.
وفي عام ١٨٤٤، ظهر كتاب هيرمان جوتير جروسمان (١٨٠٩–١٨٧٧) الذي عرض فيه عملية حسابية باستخدام متجهات الفضاء على عدد مجهول الأبعاد. ويرجع إلى جروسمان الفضل في ابتكار مفهوم «الاستقلال الخطي» وكذلك تعريفات أبعاد «الفضاء الاتجاهي» و«الفضاء الاتجاهي الجزئي». وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا العمل لم يتم تقديره إلا بإعادة اكتشافه من قبل جيوسيبي بيانو (١٨٥٨–١٩٣٢).
(١-٦) الهندسة غير الإقليدية
إن كل نتيجة تفترض وجود مقدمات، هذه المقدمات نفسها، إما أنها بديهية في حد ذاتها ولا تحتاج إلى إثبات، وإما أنها لا يمكن تطبيقها إلا اعتمادًا على مقترحات أخرى، وبما أننا ربما لا يمكننا الاستمرار هكذا إلى اللانهاية، فإن كل علم، ولا سيما علم الهندسة، يجب أن يرتكز على عدد معين من البديهيات التي لا تحتاج إلى برهان. فجميع أبحاث الهندسة بدأت ببيان عن هذه البديهيات.
ومن بين هذه البديهيات، توجد بديهية التوازي لإقليدس التي تنص على أنه: من أي نقطة خارج مستقيم ما يمر مستقيم وحيد يوازي المستقيم المذكور.
كان هذا الاكتشاف ثوريًّا وغير متوقع وغير عادي، وحقق ثورة في عالم الرياضيات إلى درجة أن جاوس لم ينشره على الإطلاق. ففي رسالة موجهة في عام ١٩٢٩ إلى فريدريش بيسيل (١٧٨٤–١٨٤٦) كتب جاوس قائلًا: «إنني أخاف من صراخ الجهلاء.»
إلا أن الأمر كان مختلفًا مع لوباتشفسكي. فنظرًا لوضع نتائج أبحاثه تحت تصرف أكاديمية العلوم في سان بطرسبرج، صرح ميخائيل فاسيلفيتش أوستروجرادسكي (١٨٠١–١٨٦٢) قائلًا: «تُظهر هذه الدراسة، عدم الدقة إلى الحد الذي جعلها، في الجزء الأكبر منها غير مفهومة … «هذا العمل» لا يستحق اهتمام السادة أعضاء الأكاديمية.» وقد نشر أوستروجرادسكي في جريدة «ابن الوطن» مقالات بدون توقيع، قام بكتاباتها صحفي ثوري مشهور، ذكر فيها: «ربما نتساءل لماذا نكتب، لا سيما مثل تلك الخرافات.» وبالرغم من تدخل زملائه، أقيل لوباتشفسكي من منصبه في عام ١٨٤٦ كرئيس لجامعة كازان، ثم تم تجريده بعد عام من لقب أستاذ وجميع المناصب الجامعية الأخرى التي كان يشغلها.
إن مسألة صلاحية تطبيق فرضيات الهندسة بالنسبة للأعداد المتناهية الصغر ترتبط بمسألة المبدأ الوثيق للعلاقات بين دوال المسافات في الفضاء … ويجب إذن؛ إما أن تكون الحقيقة التي ترتكز عليها الهندسة الفراغية مجموعة متنوعة منفصلة، وإما أن يتم البحث عن علاقات دوال المسافات خارج نطاق الهندسة الفراغية؛ أي في قوى الربط التي تعمل عليها.
إن الإجابة عن هذه التساؤلات لا يمكن التوصل إليها إلا انطلاقًا من تصور للظواهر التي تم إثباتها حتى الآن بواسطة التجربة واتخذها نيوتن قاعدة، وكذلك بإضافة جميع التعديلات المتتابعة لهذا التصور التي تفرضها الحقائق التي لم يستطع هذا التصور إيجاد تفسير لها.
فيا لها من رؤية تنبُّئية!
(١-٧) توماس ستايلتج والكسور المستمرة
الكسر المستمر هو كسر يتكون المقام فيه من عدد صحيح زائد كسر. فالمقام في هذا النوع من الكسور الجديدة يكون نفسه عدد صحيح كسر آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية. وللكسور المستمرة قصة يرجع تاريخها إلى البدايات الأولى لعلم الرياضيات، وكانت أهميتها جوهرية في تاريخ هذا العلم. وفهم التفاصيل الرياضية التالية ليس له أهمية كبيرة لإدراك مواقف علماء الرياضيات من الخطوات التجريبية.
أشعر بالسعادة لمعرفة أنك على استعداد جيد للتحول إلى عالم طبيعة من أجل ملاحظة الظواهر في عالم الحساب. عقيدتك هي عقيدتي، فأنا أعتقد أن الأعداد والوظائف التحليلية ليست نتاجًا قطعيًّا لعقلنا، إنني أرى أنها توجد خارج نطاقنا، ولها طابع الضرورة ذاته لأمور الواقع الموضوعي، وإننا نقابلها أو نكتشفها أو ندرسها مثل علماء الفيزياء والكيمياء وعلم الحيوان …
ولا يدعو هذا الموقف من جانب ستايلتج إلى الدهشة، ففي الواقع، لكي يتم تحفيز القدرة على التخيل واكتشاف قاعدة عامة، يتعين عادة رؤية المواد الرياضية التي نتعامل معها. وإحدى الطرق التي يمكن استخدامها للوصول إلى هذا الهدف هي الانخراط في الحسابات الرقمية.
إنني مُتعَب قليلًا ولست مستعدًّا للعمل في هذه اللحظة، وما يزعجني كثيرًا هو تسلط فكرة ما عليَّ، ربما تقودنا إلى تطبيق مهمٍّ للأبحاث التي انتهيت منها بشأن الكسور المستمرة. إن الذكريات الجميلة عن بوانكاريه التي تتعلق بمعادلات التفاضل في الفيزياء الرياضية هي التي وضعتني على هذا الطريق (النشرة الأخيرة لباليرم). منذ زمن طويل كان لديَّ شعور مبهم بأن الكسور المستمرة كان وما زال لها علاقة بهذا الموضوع، وأنها كان يجب أن تتدخل فيه. والآن فإن هذا يبدو لي شديد الاحتمال، وفي الوقت نفسه، لافتًا للنظر. فالمقصود هو ببساطة أننا أنشأنا متسلسلة رياضية. لكن لكي نخرج ذلك إلى النور، ربما يتعين إخضاعها لمزيد من التفكير والدراسة، وهذا ما لا أجد لدي القدرة عليه.
وتوفي ستايلتج عقب ذلك بسبعة أشهر، في الحادي والثلاثين من ديسمبر عام ١٨٩٤ وكان يبلغ من العمر ثمانية وثلاثين عامًا.
على الرغم من ذلك، نستطيع، فيما يخص العمليات الفكرية الخاصة بعلماء الهندسة، أن نذكر هذه الملاحظة البسيطة للغاية، التي ربما يبررها تاريخ العلوم نفسه، وهي أن الملاحظة تحتل مكانًا مهمًّا وتلعب دورًا كبيرًا في هذه العمليات.
والحقيقة أن جميع فروع الرياضيات تثبت هذا التأكيد … (هناك أمثلة لاحقة تثبت ذلك).
إلا أن النتائج السابقة على الرغم من كونها لافتة للنظر وذات أهمية كبيرة، فإنها غير كافية لإعطاء فكرة تامة عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الملاحظة. فعند تحليل العمليات الخاصة ببرهان عدد ما من النظريات، ربما ندرك أهمية ذلك بشكل أفضل، مثلما سأحاول توضيحه بالمثال. وفيما يلي الافتراض الذي اخترتُه: متتالية الأعداد الأولية غير منتهية (أي تلك التي تقبل فقط القسمة على نفسها والعدد الصحيح). نبدأ بالبرهان بفرض أنه يوجد عدد منتهٍ ومحدد. لكن عندما نحصل على الناتج وعند إضافة عدد صحيح، نحصل على عدد جديد أَوليٍّ في الفرضية المسلم بها، ويكون أكبر من الأرقام السابقة، ومن هنا ينتج ضرورة رفض الفرضية لكونها تؤدي إلى نتيجة متناقضة. إن النقطة الأساسية هنا تتمثل بالطبع في تصور هذا الناتج من جميع الأعداد الأولية المسلم بها، التي يتم إضافة عدد صحيح إليها. وسوف نتفق، بسهولة، على أن هذه الملحوظة ليست نتاج التفكير وحده، لكن يجب أن نعترف بأنها ثمرة الملاحظة لأمر في غاية البساطة يتعلق بالقاسم من الأعداد، وهو أمر مكتسب وسبق استخدامه في التفكير ويخدم نقطة الارتكاز التي تصل بنا إلى البرهان.
(١-٨) قياس المجموعات
عندما انتهيت من دراستي في كلية التربية العليا بباريس عام ١٨٩٢، كانت نظرية الدالة التحليلية أحد المجالات العلمية التي ظهرت فيها اكتشافات مهمة وكبيرة في العقود الماضية، لكنها كانت لا تزال تحتاج إلى مزيد من العمل والدراسة. ولقد جذبني هذا المجال، لا سيما دراسة تأثير النقاط المفردة على خصائص الدالة. إن التمثيل الهندسي للمتغير التخيلي الذي ينطلق من نقطة ما في الخريطة كان معروفًا منذ وقت طويل، وكانت المسائل المطروحة تتمثل في شكل هندسي وجبري في آن واحد، وهذا المزيج، في عملية البحث للمناهج الهندسية والجبرية كان يستهويني بشدة. ومن أجل محاولة تقديم فكرة عن طبيعة هذه المسائل التي كانت مطروحة أمامي — حتى لمن لا يألفون التفكير الرياضي — فسوف أقوم بتبسيطها مع الاكتفاء بتصور مجموعات النقاط على خريطة.
لنتخيل مسطرة من الخشب أو المعدن طولها متر نرسم عليها أقسامًا عشرية، وبهذه الطريقة نكون قد رسمنا الديسيمتر والسنتيمتر والملِّيمتر. لكن عمليًّا، لا يمكن على الإطلاق الذهاب إلى أبعد من ذلك، وربما يتعين الاستعانة ببعض الأجهزة الأكثر دقة للتوصل إلى رسم خطوط أكثر تحديدًا يفصل ما بينها أعشار الملِّيمتر. إلا أن عالم الرياضيات لا ينزعج دائمًا من مثل هذه الأمور العملية غير المتوقعة؛ فتعميم طريقة ما استطاع الرياضي القيام بأولى خطواتها، يعد بالنسبة له عملية طبيعية. وهكذا يمكنه في الحقيقة تصور الأشياء دون إمكانية رسمها، فنتخيل بعد إجراء القسمة بالسنتيمترات وبالملِّيمترات وبأعشار الملِّيمترات، أنواعًا من القسمة أكثر دقة بأجزاء من المائة من الملِّيمتر وبأجزاء من الألف من الملِّيمتر … إلخ. فإذا سلمنا بأنه يمكننا الحصول على مجهر له خصائص تكبير لا نهائية، وإذا سلمنا أيضًا بأن المسطرة لها هذه الخصائص التكبيرية الهائلة نفسها، فلن يمنعنا شيء من أن نمتد بالفكر إلى ما لا نهاية في هذه الأنواع من القسمة. لقد سجلنا على المسطرة عددًا لا نهائيًّا من النقاط تمثل كلٌّ منها كسرًا عشريًّا بسيطًا، على سبيل المثال، الكسر ٠٫٣٢٤١٧٣٢ يطابق واحدًا من عشر ملايين من النقاط التي تحدد تقسيم المتر إلى عشر أعشار من الملِّيمتر. وبلغة نظرية المجموعات، نقول إن جميع النقاط مسجلة بشكل مكثف على طول المسطرة المستقيمة. فلا يوجد في الواقع جزء، مهما كان متناهيًا في الصغر على طول المتر، لا توجد عليه هذه النقاط العشرية المضغوطة الواحدة بجانب الأخرى.
على كل جزء من المستقيم، مهما كان صغيرًا، يوجد نقاط عشرية ونقاط غير عشرية. فإذا أردنا من ثم المقارنة بين مجموعة النقاط العشرية وغير العشرية باستخدام الطريقة الطبيعية والتقليدية، التي تتمثل في تقسيم المستقيم إلى مجموعة من الفواصل متناهية في الصغر؛ فلن نحصل على أي نتيجة، فمهما كان صغر الفاصل فسندرك أنه يحتوي على نقاط عشرية وأخرى غير عشرية. إذن، فيما يبدو، من المستحيل تقسيم المستقيم إلى فواصل تتضمن جميع النقاط العشرية وفي الوقت نفسه جميع النقاط غير العشرية.
هذه الاستحالة لم تحدد، فيما يبدو، بشكل صريح من قبلُ، لكن كان مسلَّمًا بها ضمنيًّا من قِبل جميع علماء الرياضيات. إلا أن هؤلاء العلماء، ولأسباب متعددة نابعة من نظرية المجموعة الحديثة لجورج كانتور، وأيضًا نابعة من ملاحظات حساب الاحتمالات، الذي كان يتسم بالغموض بطريقة أو بأخرى، التي سوف نقوم بتحديدها الآن؛ هؤلاء كانوا يعلمون أن جميع النقاط العشرية كان يتعين النظر إليها على أنها نادرة أكثر من النقاط غير العشرية. فإذا قمنا بقرعة على أرقام كسر عشري، وحتى يصبح هذا الكسر رقمًا عشريًّا محددًا، يجب أن تكون جميع الأرقام مساوية للصفر بدءًا من مرتبة معينة، وهذه هي الاحتمالية التي يجب أن ينظر إليها على أنها ضعيفة الاحتمال. ألا توجد إذن وسيلة للتمييز بواسطة تصور فواصل صغيرة بالقدر الكافي لتستطيع أن تضم جميع هذه الأعداد، سواء العشرية أو غير العشرية؟
عند التفكير في هذه المسألة، وبمحاولة استعراض الخطوط نفسها التي يمكن بواسطتها تحديد الأعداد العشرية اللامتناهية على المستقيم، طرأت لي فكرة بسيطة؛ وهي: لو كانت هذه الخطوط دقيقة بالقدر الكافي، فإن عرضها الكامل ربما يمكن تصغيره بقدر كبير بحيث يكون أقل من طول المستقيم. وطبقًا لهذه الشروط، فإن الفرص كبيرة لوجود بعض النقاط على المستقيم ليست مغطاة بهذه الخطوط؛ هذا لأنه ربما يكون أمرًا متناقضًا أن نستطيع تغطية المستقيم بالكامل بهذه الخطوط التي يقل عرضها الإجمالي عن طولها. هذه الفكرة البسيطة وضعت الاكتشاف على الطريق الصحيح، ولم يكن يتبقى سوى القليل من التفكير والاهتمام والصبر للتوصل إلى صياغته.
إذا ما نظرنا مرة أخرى إلى صورة المستقيم الذي يبلغ طوله مترًا والذي تم تقسيمه بالخطوط، وإذا ما حددنا عرضًا يبلغ ملِّيمترًا لكلٍّ مِن هذه التقسيمات من السنتيمترات، فإن مجموع هذه الأقسام المائة التي يبلغ كلٌّ منها سنتيمترًا، سيغطي ١٠ سنتيمترات. وإذا ما حددنا، بعد ذلك، لهذه الأقسام من الملِّيمترات عرضًا يبلغ عشرة ملِّيمترات، فإن مجموع الأقسام سيبلغ أقل من سنتيمتر، ونستطيع الاستمرار هكذا وتنظيم الوضع بحيث يبلغ مجموع الأقسام المحددة بأعشار الملِّيمتر على الأكثر أقل من ملِّيمتر … إلخ. في هذه الظروف، عندما نصل إلى النهاية؛ أي عندما يتم تحديد جميع الأعداد العشرية المنتهية، حتى الأعداد التي لها أرقام عشرية كبيرة، فإن مجموع الخطوط المرسومة سيحتل فقط كسرًا يتساوى في الطول مع طول المستقيم. وقد نتمكن أيضًا من أن نجعل هذا الكسر أقل من أي عدد صغير تم وضعه سابقًا.
وهكذا نصل، بالاختيار الجيد للمسافات بين النقاط، وبتحديد هذه المسافات وفقًا للنقاط العشرية، حتى التي نريد إخضاعها للدراسة؛ إلى تجميع جميع هذه النقاط العشرية في مجموعة من النقاط يبلغ طول ما بينها من مسافات — على سبيل المثال — أقل من ملِّيمتر واحد، بينما تكون هذه النقاط متلاصقة على المستقيم الذي يبلغ طوله مترًا واحدًا. إنها نتيجة في منتهى البساطة، كان يجدر معرفتها منذ وقت طويل، لكنها ظهرت وكأنها اكتشاف جديد وشديد المفارقة.
إلا أن خيالنا الهندسي لا يستطيع بسهولة تمثيل هذه المسافات التي تحتوي على جميع النقاط العشرية والتي مع أنها لا تمثل إلا شريحة صغيرة من المستقيم كله، فإنها تترك الكثير من النقاط التي لا تتضمنها المجموعة بداخلها. وطالما حاول علم الحساب أن يجعلنا نثق في أن الطول الإجمالي لهذه المسافات، نظرًا لكونها متناهية الصغر، يكون من المستحيل أن يتضمن طول المستقيم جميع ما عليه من النقاط، والحدس الهندسي لهذه النتيجة لا يبدو لنا طبيعيًّا.
ولا مجال هنا للتوسع في النتائج التي توصلت إليها هذه الطريقة الجديدة، طريقة تتمثل أساسًا في إنشاء مسافات انطلاقًا من نقاط تخضع للدراسة، بدلًا من البحث عن دراسة توزيع هذه النقاط على مسافات محددة سابقًا وفقًا لقاعدة ثابتة. وسأكتفي بالتذكير بالنتائج التي توصلت إليها هذه الطريقة من أجل دراسة الوظائف التحليلية في بعض المجالات الفريدة، والتذكرة أيضًا بأن كل ما حدث من تطور في نظرية قياس المجموعات ونظرية التكامل المعروفة لعالم الرياضيات ليبيج، يرتبط مباشرة بهذه الطريقة.
عندما ظهر للجميع أن العميد داربو قد نسف ببراعة مذهلة علم الهندسة التفاضلية، أخرج شاب يسمى ليبيج منديلًا مجعدًا من جيبه واعترض قائلًا بأن هذا المنديل كان يكذب أبسط خصائص علم التفاضل لمسألة المساحات التي يمكن تطبيقها على الأسطح؛ لأن هذه الخصائص تصلح فقط للصدريات الواقية الخشنة، للمساحات المنتظمة. لقد استطاع ليبيج أن يقول كل ذلك باستخدام مصطلحات رياضية، ثم نجح في دراسة المساحات للدالة غير المستمرة، إلا أن السلطات العليا في مجال علم الرياضيات في ذلك العصر، حكمت على أفكار ليبيج بأنها بلا قيمة، وسرى الهمس بأن هذه الأفكار ليست رياضة حقيقية. ومع ذلك، فقد كانت هذه السلطات من الحكمة والسماحة بحيث صرحت بنشرها. وهكذا استطاع ليبيج، باستخدام هذه الدوال، أن يقدم لنظرية علم التكامل مرونة وقوة غير عادية كانت مريحة للرياضيين والتقنيين. لقد تحولت المفاهيم التي أدخلها ليبيج إلى قواعد جديدة في التحليل الرياضي. والمثال التالي لا ينفصل عن الموضوع: إن الانزعاج الذي تسببه عدم الأناقة أو الشعور بظلام عرضي، لا يمكن تفسيره دائمًا إلا بتجديد المفاهيم الأساسية والجوهرية. لكن إعادة النظر هذه تستلزم العمل الشاق والجهد الطويل الذي لا تظهر فائدته إلا على المدى الطويل جدًّا ولا يمكن توقعه حتى يمكن تحفيزه.
لقد قام ليبيج بصياغة نظريته لقياس المجموعات في عام ١٩٠١ وفي رسالته التي ناقشها في مدينة نانسي بفرنسا عام ١٩٠٢، قام بتعميم مفهوم علم التكامل الذي كان اكتشافه يرجع إلى عالم الرياضيات ريمان، بهدف إدراج العديد من الدوال اللامتناهية، وقد كان هذا أحد أكثر التطورات أهمية في مجال تحليل الرياضيات الحديثة. وإذا كان الفضل يرجع إلى ليبيج في تقدم مجالات أخرى رياضية، فإنه لم يستمر في العمل على مفهومه لعلم التكامل؛ لأنه كان هو نفسه يخشى التعميمات. ولقد كتب يقول: إن علم الرياضيات بسبب تحديده في إطار النظريات العامة ربما لن يكون إلا شكلًا بلا مضمون، وسوف يكون مصيره الفناء السريع. لكنه كان مخطئًا في هذا الرأي.
(١-٩) خطأ ليبيج
في علم الرياضيات، ربما أكثر من أي علم آخر، من المستحيل تدوين كل شيء تفصيليًّا. لقد قرأنا كثيرًا في الكتب والمقالات البحثية التي تقدِّم نتائجَ جديدة، هذه العبارة: «من الواضح أن البرهان لا يمثل أي مشكلة … أو كذلك نرى بسهولة أن …» وبصفة عامة، أو على الأقل بالنسبة لكبار علماء الرياضيات، فإن هذا الحدس صحيح. إلا أنه يتعين في بعض الأحيان كتابة كثير من الصفحات بالحسابات الدقيقة لندرك أن البرهان كان بالفعل واضحًا وجليًّا! غير أن الخطأ حتمي ووارد وعلماء الرياضيات الذين لا يرتكبون أخطاء على الإطلاق هم أولئك الذين لا ينشرون أبحاثهم أبدًا. فهناك في الواقع كتاب كامل عن أشهر أخطاء علماء الرياضيات.
فقد اشتهر نوربرت فينر (١٨٩٤–١٩٦٤) مؤسس علم السبرانية (أو نظم التحكم) ورائد العديد من المجالات الرياضية، بنشر أعمال غير دقيقة. فقد كان تجسيدًا حيًّا لتأكيد عالم الرياضيات أبرام ساموالفيتش بيزايكوفيتش (١٨٩١–١٩٧٠) أن شهرة علماء الرياضيات ترتكز على عدد من البراهين الخاطئة. على سبيل المثال، إحدى النظريات الأساسية في كتاب فينر عن علم التكامل لفورييه تعتمد على إحدى متتاليات البرهان الاستدلالي، وبرهان إحداها يعتمد على النظرية الأساسية. إننا بهذا الشكل ندور في حلقة مفرغة!
وبهذا الشكل، فإن التحليل لا يمثل في حد ذاته مبدأ التحديد. ولقد كان امتداد عائلة دوال باير واسعًا حتى إنه يصيب بالدوار، كما أن حقل التحليل كان أيضًا أكثر اتساعًا. يا له من حقل واسع!
(١-١٠) طريقة شولسكي
عندما يكون لدينا نتائج قياسات متقاربة ونريد أن نمرر بينها خطًّا مستقيمًا، فعلينا أن نلجأ إلى طريقة المربعات الأقل لكارل فريدريش جاوس (١٧٧٧–١٨٥٥). تقتصر هذه المشكلة — رياضيًّا — على حل نظام متعدد المعادلات الخطية ذات المجهولين (عدد نقاط القياس). فبدلًا من الخط المستقيم، يمكننا محاولة تمرير دالة أكثر تعقيدًا بين نقطتي القياس — معادلة متعددة النتائج على سبيل المثال — بغية التوصل إلى تطابق أفضل. عندئذٍ يكون علينا حل نظام خطي به أكثر من مجهولين. يتعلم جميع طلبة الرياضيات ما يسمى بصيغ كرامر التي تؤدي إلى حل أي نظام خطي. لكن هذه الصيغ لم يكن في مقدورها أن تكون نافعة من الناحية العملية، فهي في الواقع تتطلب عددًا ضخمًا من العمليات لدرجة أن الحاسب الآلي — إذا ما قام بعشرة ملايين عملية في الثانية — قد يستغرق ما يوازي عمر الكون لينهي نظامًا مكونًا من اثنتين وعشرين معادلة!
اخترع شولسكي طريقة جديدة لمعالجة هذا النوع من المشاكل، لكنه لم ينشر بنفسه أيًّا من أعماله، إلا أنه كتب تقريرًا بشأن عمليات التسوية وقياس الارتفاع التي كان يقودها في الجزائر وتونس. في هذا التقرير، وردت طريقة جديدة لحساب تصحيح قامة القياس، وإن كان من الصعب اعتبارها مقدمة لطريقة استخراج المُعاملات.
تخيلَ قائدُ المدفعية شولسكي أثناء أبحاثه حول تصحيح الشبكات المساحية بالقطاع الجغرافي بالجيش — الذي لقي مصرعه في الحرب — طريقة شديدة البراعة لحل المعادلات التي تسمى طبيعية، والناتجة عن تطبيق طريقة المربعات الأقل على معادلات خطية بعدد أقل من عدد المجاهيل. واستخلص منها طريقة عامة لحل المعادلات الخطية.
ويعرف جميع الطلاب الذين كان عليهم دراسة الرياضيات التطبيقية طريقة شولسكي، لكنْ قليل منهم يعرف منشأها وصاحبها.
ومؤخرًا، وُجد بين الأوراق التي أورثتها أسرته إلى كلية الهندسة — حيث كان هو طالبًا — المخطوطة الأصلية التي يعرض فيها شولسكي طريقته بوضوح شديد وبتعبيرات غاية في الحداثة. في ذلك الوقت، كانت الحسابات تتم على آلة حاسبة مكتبية مزودة بمقبض لإدارتها. يؤكد لنا شولسكي أن طريقته تتيح حل نظام ذي عشر معادلات بعشرة مجاهيل بخمسة أرقام محددة في أربع أو خمس ساعات. ووصلنا حاليًّا إلى أن سيكون لدينا أنظمة ذات عشرات الآلاف من المعادلات والمجاهيل، بل وأكثر!
(١-١١) الهندسة الكسيرية
في عام ١٨٨٣، اقترح جورج كانتور (١٨٤٥–١٩١٨) — واضع نظرية المجموعات — التجربة التالية، بأن ننطلق من جزء من خط طولي ١ ونقسمه إلى ثلاثة أقسام متساوية، وننزع الثلث الذي في المنتصف، ثم نقسم الثلثين الباقيين كلًّا منهما إلى ثلاثة أقسام متماثلة وننزع من جديد القسم الواقع في المنتصف، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية، يكون الطول الإجمالي المنزوع مساويًا لواحد؛ أي طول المسافة الأصلية، ومع ذلك يتبقى عدد لا نهائي ولا يُحصى من النقط!
يكون قياس المنحنى مساويًا لواحد؛ لأنه يكفي وجود مقياس واحد (المسافة المقطوعة منذ البداية، على سبيل المثال) لتحديد كلٍّ من هذه النقط. ويكون قياس السطح ٢ لأن كل نقطة يمكن تحديدها بطريقة نظيرية (أي واحدة مرة واحدة) عن طريق إحداثيين. إلا أنه في عام ١٨٩٠، أنشأ الرياضي الإيطالي جيوسيبي بيانو (١٨٥٨–١٩٣٢) منحنًى (قياسه واحد) مارًّا بكل نقاط مربع (قياسه ٢)؛ مما يجعل تعريف المقياس بناءً على عدد من المعايير اللازمة لتحديد كل نقطة غير مُجدٍ.
أي شكل لا يكون قياسه رقمًا صحيحًا يسمى كسرًا.
ويترجم القياس الكسري خواص الشكل ومن ثم يرتكز على مبدأ تشابه الوضع الداخلي الذي يعني أنه عند تكبير قطعة من الشكل نجد شكلًا يشبه الشكل الأصلي. وهي خاصية التشابه الذاتي، التي يمكن ملاحظتها في الطبيعة. فلنأخذ القُنَّبيط على سبيل المثال؛ حيث كل زهرة صغيرة عبارة عن قُنَّبيطة صغيرة تتكون بدورها من عدة أزهار أصغر حجمًا. ولقد لاحظ متسلق الجبال إدوارد ويمبر (١٨٤٠–١٩١١) — أول من صعد قمتي سيرفين والجوراس الكبرى بالإضافة إلى قمم أخرى — أن الأجزاء الصغيرة من الصخرة تشبه الصخرة الكاملة التي تأتي منها.
في عام ١٩١٥، اقترحت أكاديمية العلوم بباريس دراسة التكرار كموضوع لجائزتها الكبرى لعام ١٩١٨. وكتب الفرنسي بيير جوزيف لويس فاتو (١٨٧٨–١٩٢٩) بحثًا طويلًا حول هذه المسألة عام ١٩١٧، لكن لم يكن واضحًا أنه كان ينوي تقديمه. في سبيل الحصول على الجائزة الكبرى، انكب جوليا على العمل وتوصل إلى نتائج مشابهة لفاتو لكن بطريقة مختلفة. وفي نهاية عام ١٩١٧، سلم جوليا عمله للأكاديمية في ظرف مغلق. ومن جانبه، أعلن فاتو عن النتائج التي توصل إليها في مذكرة للأكاديمية في ديسمبر ١٩١٧. فصاغ جوليا خطابًا للمطالبة بأولوية نتائجه. ولذلك، رفض فاتو الدخول في المسابقة، وذهبت الجائزة الكبرى إلى جوليا، بينما أهدت الأكاديمية جائزة أخرى لفاتو تكريمًا لعمله.
في عام ١٩٢٥، عُقدت حلقات دراسية في برلين لدراسة أعمال جوليا، شارك فيها رياضيون مثل ريتشارد داجوبير بروير (١٩٠١–١٩٧٧) وإبرهارد هوبف (١٩٠٢–١٩٨٣) وكيرت فورنر فريدريش ريدميستر (١٨٩٣–١٩٧١). وأعطى إتش كرامر — في مقالة له — أول تجسيد لمجموعة جوليا. وعلى الرغم من شهرة هذه الأعمال في العشرينيات، فإنها راحت طي النسيان حتى أجرى بنوا بي ماندلبرو (مولود ١٩٢٤) — الذي تتلمذ على يد جوليا في كلية الهندسة في الأربعينيات — تجاربه الأساسية على حاسب آلي في نهاية السبعينيات، معطيًا الكسريات التطور والاهتمام الذي نعرفه. فهناك العديد من الظواهر الطبيعية تشابه الكسريات، مثل السحاب والأعاصير، وتساهم أيضًا في إنتاج صورة تلخيصية.
(١-١٢) مشكلة التحليل التوافيقي
سنرى من جديد في هذه القصة كيف أن بعض النتائج التجريبية والأمثلة والحسابات الرقمية قد تكون مصدرًا للإلهام لأكثر النتائج الرياضية نظرية. فيجب أن نشاهد لنفهم ونحفز قدرات التخيل والتحليل.
سأعود لصيف ١٩٠١، حين كنت أقضي مع عائلتي إجازة لمدة ثلاثة أسابيع في الغابة السوداء، وهناك التقيت ملازمًا أول ألمانيًّا، كان الأكثر حيوية من بين المقيمين في النزل العائلي الذي كنا فيه. في أحد الأيام، جلس يلعب معي بالورق، فأخذ ثماني أوراق، ثم قلب الأولى، وأبقى الثانية في اللعبة، وقلب الرابعة وألقى بالثانية، وهكذا حتى انتهت اللعبة. كان قد أعاد الأوراق الثمانية بالترتيب الذي قاله لي في البداية. أردت أن أبلي أحسن منه، في اليوم التالي، أعطيته ثلاث عشرة ورقة، وعرضت أن أعيد الكرة بحسب عدد الأوراق التي يريدها، وهكذا مع باقي الأوراق الاثنتين والخمسين. وبعد ذلك، لم أعد أفكر في الأمر، إلا حينما أريد إعادة لعب الأوراق من وقت لآخر.