دروب الكشف العلمي

سوف أروي في الصفحات التالية تاريخ عدد من الاكتشافات؛ بهدف توضيح أن دروب الكشف العلمي قد تكون ملتوية ومليئة بالتعرجات، وفي الغالب لا يمكن التنبؤ بها. فالكشف العلمي قد يكون انعكاسًا لحدث ما، أو واضحًا يسهل اكتشافه سريعًا، وقد يكون أيضًا ثمرة لصدفة بحتة أو نتيجة للحظة تنوير مفاجئة وما يتبعها من شعور باليقين، وقد ينتج أيضًا عن بعض الأخطاء. لقد أضفتُ أيضًا تاريخًا لعدد من الاكتشافات بدت لي، لسبب أو لآخر، ذات أهمية كبيرة، على الرغم من كونها لا توضح أقوالي. سوف نرى من خلال هذا الكتاب، أن عددًا من الروايات يتشابك ليبين مدى تأثير مجال ما على الآخر.

وعندما يقوم العلماء برواية تاريخ اكتشافاتهم بأنفسهم، يترك لهم حرية الحديث. فلا شيء على الإطلاق يساوي قيمة سماع القصة من مصدرها الأول.

كما أضفت، في الروايات التالية، بطريقة مباشرة، بعض بيانات عن السيرة الذاتية لبعض العلماء. وإلى جانب ذلك قمت في الفصل الثالث بإدراج سيرة ذاتية موجزة لأهم المكتشفين. وللاستدلال على العلماء المدرجة أسماؤهم في ذلك الفصل، أضفتُ علامة النجمة () بعد الاسم.

ولقد حاولت، بالقدر المستطاع، في كل مجال من المجالات العلمية، عرض الأحداث بالتسلسل التاريخي للكشف العلمي الأساسي. بيد أن ذلك لم يكن دائمًا ممكنًا لكون بعض الروايات تمتد زمنيًّا وتضع في المشهد عددًا كبيرًا من الأشخاص. فكل رواية يمكن قراءتها منفصلة.

(١) الرياضيات

(١-١) تربيع الدائرة

إذا أردنا الحديث عن مسألة كان يستحيل حلها، فسوف يقول الجميع إنها مسألة تربيع الدائرة. وعلى الرغم من ذلك، فقد جرى التوصل إلى حل لهذه المسألة نحو نهاية القرن التاسع عشر كما سنرى لاحقًا.

ما هو مضمون هذه المسألة؟ المقصود هو إنشاء مربع باستخدام المسطرة والفرجار فقط وتكون مساحته مساوية لمساحة دائرة ما. يصعب معرفة أول من تعرض لهذه المسألة. إلا أن البداية تنسب دائمًا إلى الفيلسوف اليوناني أناكساجوراس الكلازومني (٥٠٠ق.م–٤٢٨ق.م). ومنذ ذلك العصر، أخذت هذه المسألة تجذب انتباه علماء الرياضيات المتخصصين، كما اهتم بها كثيرًا العديدُ من الهواة المغرمين بالرياضيات. وفي الواقع، كما حدث في نظرية «فيرما»، فإن عرض المسألة في غاية البساطة، وقد نتخيل بسهولة أن حلها بسيط أيضًا، وهو ما يخالف الحقيقة في واقع الأمر.

ربما يتعين الاستعانة بكتاب كامل لذكر كم الإسهامات الخاطئة وتلك التي مهدت الطريق لحل هذه المسألة. لن أذكر إلا عددًا منها دون الدخول في تفاصيل تقنية. هذه المسألة تتعلق، بالطبع، بحساب العدد وهو حاصل قسمة محيط الدائرة على قطرها.

يبدو أن أبقراط (٤٦٠ق.م–٣٧٧ق.م) كان أول من بحث في حل هذه المسألة. فقد كان مهتمًّا بتربيع أشكال هندسية أخرى، لكنه كان يعلم جيدًا أن طريقته ستفشل بالنسبة للدائرة. وقد تعرض علماء يونانيون آخرون لكن أقل شهرة لهذه المسألة أيضًا، إلا أن أرسطو (٣٨٤ق.م–٣٢٢ق.م) لم تعجبه جهودهم.

أما الإسهام التالي، فقد جاء من قبل أرشميدس (٢٨٧ق.م–٢١٢ق.م) في كتابه عن المنحنيات. فقد بين أن مساحة الدائرة تساوي مساحة المثلث المتساوي الأضلاع، الذي تتساوى أضلاعه على الترتيب مع نصف قطر ومحيط الدائرة. إلا أن هذا الإثبات لم يكن حلًّا للمسألة. أما أبولونيوس بيرجا (٢٦٢ق.م–١٨٠ق.م) فقد استخدم، كما سنذكر لاحقًا، بعض المنحنيات من أجل تربيع الدائرة، إلا أننا لا نعرف أي نوع من المنحنيات كان المقصود بذلك. وعلى الرغم من أن هذه المنحنيات لم تكن قادرة على إثبات هذا التربيع، فإن علماء الرياضيات اليونانيين كانوا على قناعة بأن المسألة يستحيل حلها.

لنغادرِ الآن العالم القديم، ولنذهبْ إلى الهند حيث كان علم الرياضيات شديد التقدم، وكذلك في الصين حيث أبدى أحد علماء الرياضيات، ويُدعى ليو هسنج — نجل الفيلسوف ليو هسيو الذي كان على اتصال بالبيت الإمبراطوري لأسرة هان — اهتمامًا بهذه المسألة في حوالي عام ٢٥م. ومن المعروف كذلك، أن العالم العربي كانت له إسهامات عديدة في مجال الرياضيات ومن بينها مسألة تربيع الدائرة التي كانت ضمن مجالات بحوثهم. فلقد حاول الحسن بن الهيثم (٩٦٥–١٠٤٠) إقناع معاصريه أن المسألة قابلة للحل ووعد بتأليف كتاب عن هذا الموضوع. لكن نظرًا لعدم ظهور هذا الكتاب، فمن الواضح أنه أدرك عدم القدرة على التوصل إلى الحل.

وفي عام ١٠٥٠، نشر فرانكو دي لييج بحثًا عن تربيع الدائرة قام فيه بدراسة ثلاث طرق قديمة ترتكز على فرضية أن تساوي ، أو ، أو 4. ثم قدم رسمه باستخدام أي . وعلى الرغم من أن هذا العمل له أهمية تاريخية كبيرة، فإنه يبين بالأحرى مدى ارتباط التفكير والمنطق الرياضي في ذلك العصر بمثيله في العصر اليوناني القديم.

إن طريقة نيكولا دي كوسا (١٤٠١–١٤٦٤) الكاردينال الألماني الذي ولد بمدينة «تريف» التي تقع في إقليم ديوسيز بألمانيا، على الرغم من كونها طريقة خاطئة، فإنها تعد أولى المحاولات الجادة في هذا المجال. وترتكز هذه الطريقة على استخدام متوسط المضلعات المدرجة في الدائرة. وقد اكتشف عالم الفلك الألماني ريجيو مونتانوس (١٤٣٦–١٤٧٦) الذي ولد بإقليم كونيسبرج ومؤلف بحث في مجال حساب المثلثات؛ خطأً في طريقة الإثبات.

هناك عدد كبير من علماء الرياضيات في القرن السادس عشر، انكبوا على دراسة هذه المسألة، حتى إن ليوناردو دافينشي (١٤٥٢–١٥١٩) فكر في استخدام عدد من الآلات الحاسبة لحلها.

لقد ساعدت نشأة علم التفاضل والتكامل في زيادة اهتمام علماء الرياضيات بهذه المسألة. قدم جريجوار دي سان فانسان (١٥٨٤–١٦٦٧) في كتابه المنشور عام ١٦٤٧، برهانًا خاطئًا للمسألة. ثم جاء دور جيمس جريجوري (١٦٣٨–١٦٧٥) للدخول والبحث في هذه المسألة. فقد كان يريد استخدام أفكاره التي كان قد طورها حول تلاقي المتتالية غير المنتهية من أجل محاولة إثبات عدم إمكانية تربيع الدائرة. فلقد كان يريد إثبات أن العدد (ط) لا يمكن أن يكون جذرًا لدالة كثيرة الحدود ذات أكثر من معامل؛ أي إن العدد (ط) عدد متسامٍ (يسمى عددًا متساميًا كل عدد حقيقي أو عقدي لا يكون حلًّا لأي معادلة حدودية). وهذه تعد خطوة جوهرية نحو الحل؛ نظرًا لأن استخدام هذه الخاصية سوف يقودنا إلى حل المسألة. ومن جانبه، فقد كان كريستيان هوجنس (١٦٢٩–١٦٩٥) يعتقد أن عدد جبريٌّ؛ أي جذر لدالة كثيرة الحدود.
إلا أن يوهان هاينرش لامبرت (١٧٢٨–١٧٧٧) خطا خطوة ثانية في هذا المجال عندما أثبت في عام (١٧٦١) أن العدد عدد لا كسري؛ أي لا يمكن أن يأتي على هيئة كسر. إلا أن هذا الإثبات لم يكن حلًّا لمسألة تربيع الدائرة. لقد ظهر، في ذلك العصر، الكثير من الحلول الخاطئة التي قُدمت إلى أكاديمية العلوم، مما دفعها إلى اتخاذ قرار في عام (١٧٧٥) بعدم بحث أيٍّ منها. وقد كان لموضوع «تثليث الزاوية» و«الحركة الأبدية» المصير نفسه. وقد كتب كوندورس بشأن قرار أكاديمية العلوم قائلًا:

بيد أن عددًا ممن يُفْنون جزءًا من حياتهم في هذه الأبحاث غير المجدية، التي لا تأتي بثمار سوى الإضرار بثروتهم وفي أغلب الأحيان تشوِّه عقولهم، قد دفعها لاتخاذ قرار رأتْ أنه مناسب لجعلهم يَحيدون عن هذا العمل. فقد خشيت إن استمرت في بحث حلولهم، أن تتهم بتشجيعهم على الانشغال بهذه المسائل وأن تكون متورطة بطريقة أو بأخرى في المآسي التي سيتعرضون لها.

وقد اتخذت «الجمعية الملكية» بلندن القرار نفسه.

وفي عام ١٨٧٣، نجح تشارلز إرميت (١٨٢٢–١٩٠١) في إثبات تسامي العدد أو «أيلر» الذي يعد قاعدة للُّوغاريتم الطبيعي. ولهذا الغرض، استخدم نوعًا من التعميم للكسور المستمرة. كان هذا البرهان مثمرًا، غير أن بعض نقاطه كانت غامضة. لكنه كان يعلم أن تناوله للمسألة ربما يمكن تطبيقه على العدد . وفي هذا الصدد، كتب كارل فيلهلم بورتسارد (١٨١٧–١٨٨٠) قائلًا:
لن أغامر مطلقًا في البحث عن إثبات تسامي العدد . فليسعَ آخرون في الشروع في ذلك. لكن صدقني، يا صديقي العزيز، لن يكون عليهم سوى بذل القليل من الجهود.

ولدهشة إرميت وجميع أعضاء المجتمع الدولي للرياضيات، جاء الحل في عام ١٨٨٢ على يد عالم الرياضيات الألماني كارل لويس فرديناند لينرمان (١٨٥٢–١٩٣٩). وهكذا انتهى الجدل المفتوح الذي أثير منذ أكثر من ألفي عام بإجابة سلبية. وعلى الرغم من ذلك، وحتى هذه الساعة، فهناك بعض الأشخاص الذين لا يزالون يسعون لحل مسألة تربيع الدائرة.

(١-٢) يوريكا

الجميع يعرف قصة حمام أرشميدس (٢٨٧ق.م–٢١٢ق.م)، لكنني أرى من الأفضل روايتها مرة أخرى، وسأترك الحديث لماركوس فيتروفيوس بوليو الملقب بفيتروفيو، وهو مهندس معماري روماني قال في كتابه الشهير باسم «الفن المعماري»:

بين الكم الهائل من الاكتشافات الرائعة التي قام بها أرشميدس، يتعين أن نلاحظ هذا الاكتشاف الذي سوف أتحدث عنه، والذي أَثْبتَ من خلاله دقة في التفكير لا يصدقها عقل.

فعندما كان الملك هيرون يحكم مدينة سيراقوسة، أبدى رغبته، بعد أن نجح في جميع حملاته، في إهداء تاج من الذهب لآلهة أحد المعابد. واتفق مع أحد الصاغة على دفع كثير من المال لصناعة التاج، وأعطى له الذهب بالوزن. وقام الصائغ بتسليم التاج في الموعد المحدد، ووجده الملك دقيق الصنع، وعندما وزن التاج وجد أن وزنه يساوي الذهب الذي كان قد أعطاه إياه، إلا أنه عندما تم اختبار الذهب بالتاج، اكتشف أن الصائغ قد اختلس جزءًا من الذهب واستبدله بفضة بمقدار الوزن نفسه.

شعر الملك بالإهانة الشديدة لهذا الغش، ولم يجد سبيلًا لإقناع الصائغ بما قام به من سرقة، فطلب من أرشميدس التفكير في طريقة لإثبات ما وقع من سرقة. وفي يوم من الأيام، وبينما كان أرشميدس منشغلًا بالتفكير في هذه القضية، ذهب ليغتسل، فلاحظ بالصدفة أنه كلما انغمس في الماء، ارتفع منسوب المياه على جانبي المغطس. وقد أدت هذه الملاحظة لاكتشاف السبب فيما كان يبحث عنه، ودون تردد، دفعته الفرحة الغامرة بالخروج من المغطس عاريًا، يجري نحو منزله وهو يصيح باليونانية: يوريكا! يوريكا! (أي وجدتها! وجدتها!) ويقال إنه عقب هذا الاكتشاف الأول، قام بعمل كتلتين من الوزن نفسه للتاج، إحداهما من الفضة والأخرى من الذهب، أسقطهما في إناء مليء بالماء، فوجد أن كتلة الفضة كلما انغمست في الماء، تؤدي إلى خروج كمية من الماء تعادل حجم الكتلة. وبعد ذلك، عندما أخرج الكتلة من الإناء، أعاد مَلْأه بالكمية نفسها التي خرجت منه، بعد أن قاس كميتها بدقة، مما جعله يكتشف أن كمية المياه تعادل كتلة الفضة التي وضعها في الإناء. وبعد هذه التجربة، أسقط أيضًا كتلة الذهب في الإناء نفسه الممتلئ بالماء، وعقب إخراجها، قام بقياس كمية الماء التي خرجت منه، فوجد أن كتلة الذهب لم تؤدِّ إلى خروج الكمية نفسها من الماء وأن الفارق الناقص يعادل الفرق بين حجم كتلة الذهب مقارنة بحجم كتلة الفضة التي كان وزنها يعادل وزن كتلة الذهب. وبعد ذلك أعاد ملء الإناء، وفي هذه المرة، أسقط التاج الذي أدى إلى خروج كمية من الماء أكبر مما أخرجته كتلة الذهب التي كان وزنها يعادل وزن التاج، لكنها أقل من المياه التي أخرجتها كتلة الفضة. وبعد أن قام بالحساب النهائي، بموجب هذه التجارب، اكتشف أن كمية المياه التي أخرجها التاج كانت أكبر مما أخرجته كتلة الذهب، ومن ثم عرف كمية الفضة التي أدخلها الصائغ وخلطها بالذهب، وكشف بوضوح ما سرقه الصائغ من الذهب.

لقد اكتشف أرشميدس كيفية حساب حجم أي مادة أيًّا كان شكلها. وتوصل علم الطبيعة إلى طريقة عامة لحل نوعية من المسائل لم يكن علماء الرياضيات يعرفون حلها حتى ذلك الوقت.

(١-٣) حساب اللامتناهيات الصغرى (التفاضل والتكامل)

يشترك كلٌّ من إسحاق نيوتن (١٦٤٢–١٧٢٧) وجوتفريد فيلهلم لايبنتز (١٦٤٦–١٧١٦) في اكتشاف علم حساب اللامتناهيات الصغرى. وقد روى جيوم دي لوبيتال (١٦٦١–١٧٠٤) في مراسلاته كيف تم هذا الاكتشاف:
كنت أستمتع، منذ وقت طويل، بالبحث عن مجموع متتاليات الأعداد، واستعنت في ذلك بالفروق طبقًا لنظرية معروفة تنص على أنه في المتتالية التنازلية اللانهائية، يكون الحد الأول يساوي مجموع كل الفروق. وكان ذلك ما أوصلني إلى ما أسميته «المثلث التوافقي»، الذي يخالف المثلث الحسابي لباسكال؛ لأن باسكال كان أثبت طريقة الحصول على مجموع أعداد تخيلية تنتج بالبحث عن مجموع الأعداد ومجموع الحدود الناتجة عن متتاليات طبيعية متوافقة. أما أنا، فكنت أرى أن كسور الأعداد التخيلية هي الفروق وفروق فروق حدود المتتاليات الطبيعية المتوافقة. وبهذه الطريقة يمكن الحصول على مجموع متتاليات الكسور التخيلية مثل:
و

وعندما تعرفت على هذه الفروق الهائلة، وعندما رأيت أنه يمكن التعبير عن مخططات المنحنيات بالاستعانة بالحساب الديكارتي، وجدت أن مسألة التربيع أو إيجاد خطوط المماس ليست سوى التفاضل، وأن التربيعات ليست سوى التكامل، بشرط وضع فرضيات للفروق تكون صغيرة وغير قابلة للتقريب. وجدت أيضًا أن الفروق العظمى توجد خارج نطاق الكسور، وبهذه الطريقة يمكن إيجاد خطوط المماس دون بذل العناء في أعداد كسرية وأعداد صحيحة (لا كسرية). هذه هي قصة مصدر منهجي لعلم التفاضل.

أما بالنسبة لنيوتن، فقد استرشد بطريقة القياس الميكانيكية:
تكامل متغير الدالة هو الاسم الذي أطلقه على تلك الأعداد المتزايدة أو المتناقصة بطريقة تدريجية أو غير محددة، والتي أرمز لها أما فيما يتعلق بالسرعة التي تتلقاها هذه المتغيرات من الحركة المولدة (السرعة هي التي أسميتها مشتقات) فسوف أعبر عنها بحروف منقوطة وهي .

وهكذا نرى كيف أنَّ تَوافُقَ الأفكار يمكن أن يكون مثمرًا.

(١-٤) طريقة مونت كارلو

يصعب وضع تعريف محدد لطريقة مونت كارلو؛ لأن هذا المصطلح يشمل طرقًا حسابية متعددة. بيد أن إحدى النقاط المشتركة بين هذه الطرق الحسابية هي استخدام الظواهر العشوائية (أي التي تعتمد على الاختيار العشوائي للأعداد). وبما أن العمليات الحسابية يجب دائمًا أن تتم باستخدام الحاسوب، فإن هذه الظاهرة تتمثل، في أغلب الأحيان، في استخدام أعداد عشوائية تتبع قانون القياس الاحتمالي.

يمكن القول إن طريقة مونت كارلو هي طريقة تتمثل في الاستعاضة عن مسألة حتمية غير قابلة للحل، بمسألة بسيطة لكن ذات طبيعة عشوائية، يتم خلالها الجمع بين وسائط (القيم الثابتة) للمسألة الاحتمالية ووسائط المسألة الحتمية. ويكون حل المسألة الحتمية بطريقة تقريبية باستخدام خصائص الإحصاء الرياضي للمسألة العشوائية. ويعتمد تحديد النتيجة الحاصلة بالطبع على تحديد فرق القياس بين المسألتين.

ولا يتعين الخلط بين طريقة مونت كارلو وأنظمة المحاكاة. فالمقصود بالمحاكاة، بصفة عامة، أنها عملية توليد بسيطة وبحتة لظاهرة ما ذات طبيعة عشوائية (بينما الظاهرة تعد حتمية في طريقة مونت كارلو). فعلى سبيل المثال، تزامن عمل إشارات المرور في المدن هو نوع من المحاكاة؛ لأن تدفقات المركبات في كل شارع له طبيعة عشوائية.

وتستخدم طريقة مونت كارلو بشكل واسع النطاق لحل العديد من المسائل في الرياضيات التطبيقية، ولحل أنظمة المعادلات الخطية وحساب التكاملات المحددة وإدخال المعادلات في المشتقات الجزئية، وكذلك في علم الفيزياء لنقل الجسيمات وعلى وجه الخصوص في معادلات انتقال النيوترونات، وفي الكيمياء لدراسة دخول سائل في بيئة مسامية، وفي علم الفلك لحساب مدة حياة المذنبات، وفي علم الإلكترونيات لقياس طاقة عداد شبه الموصلات.

ويبدو، تاريخيًّا، أن أول ظهور لطريقة مونت كارلو كان طريقة «بوفون»، وكان الهدف منها هو تحديد قيمة العدد بإسقاط إبرة بطريقة عشوائية على شبكة من المتوازيات متساوية الأبعاد، على أن تكون النسبة بين عدد المرات التي قطعت فيها الإبرة إحدى هذه المتوازيات إلى العدد الكلي للتجربة تعادل قيمة . وكان «بوفون» يعتبر أن ذلك مجرد لعبة وليست مسألة رياضية. ومثلما كان السيد جوردان في مسرحية موليير «البورجوازي النبيل» يكتب نثرًا دون أن يدري، فقد كان بوفون يستخدم طريقة مونت كارلو دون وعي. ولهذا السبب لم يعترف به كمخترع لهذه الطريقة. ومع ذلك، سوف أقص عليكم هذه الرواية:

عُرف جورج لويس لوكليرك، كونت بوفون (١٧٠٧–١٧٨٨) عالميًّا بأعماله في مجال الطبيعة، ويضم كتابه «التاريخ الطبيعي» ستة وثلاثين مجلدًا، إلا أنَّ ما لا نعرفه عنه أنه أصدر أيضًا أعمالًا في علم الرياضيات؛ فقد ترجم عملًا لإسحاق نيوتن (١٦٤٢–١٧٢٧) عن طريقة التفاضل وعمل على إثرائها بكتابة تمهيد مطول، وكتب أيضًا ثلاث مذكرات ناقدة لكتاب أليكسيس كليرو (١٧١٣–١٧٦٥)، الذي كان يدعو فيه لإضافة حد تصحيحي لقانون الجاذبية العام لنيوتن. وأخيرًا، فقد نشر عملًا من ١٧٥ صفحة بعنوان «احتمالات العمر الافتراضي».

أما لعبة الإبرة فقد اقترحها في كتاب آخر بعنوان «بحث عن الحساب المعنوي» نشر عام ١٧٧٧، وتفترض إلقاء إبرة مرات عديدة على أرضية من الخشب مكونة من شرائح متوازية، ثم نقوم بحساب عدد المرات التي سقطت فيها الإبرة بين شريحتين، فقد كتب يقول:

التحليل هو الأداة الوحيدة التي استخدمت حتى يومنا هذا في علم الاحتمال من أجل تحديد وضبط نسب اختيار الأعداد العشوائية، وكان يبدو أن علم الهندسة لا يصلح كثيرًا للعمل بمثل هذه الدقة؛ إلا أنه إذا نظرنا إلى الأمر عن قرب، فسيسهل التعرف على أن ظهور مميزات استخدام التحليل في الهندسة جاء بمحض الصدفة، وأن مبدأ العشوائية بتعديلاته وشروطه يعتمد على الاثنين سواء؛ علم الهندسة والتحليل، وللتأكد من ذلك يكفي التنبه إلى أن التجارب العشوائية والمسائل التخمينية لا تسير بشكل طبيعي إلا على نسب الأعداد المنفصلة، فالعقل البشري الذي يألف الأعداد أكثر من قياس المدى الإحصائي قد فضل ذلك دائمًا، وهذه التجارب العشوائية هي الدليل على ذلك؛ لأن قوانينها عبارة عن حسابات تكرارية. وحتى تطبق الهندسة بما تخضع له من قوانين عشوائية، لا يسعنا سوى اختراع تجارب تخمينية ترتكز على قياس المدى وما يحمله من نسب، أو حساب أصغر عدد موجود من هذا النوع من الأعداد. تعد تجربة البلاط والعصي مثالًا يمكن الاستعانة به في هذا المجال: وها هي شروط هذه اللعبة وهي بسيطة للغاية …

في حجرةٍ بلاطُها مقسم إلى مربعات موصولة بخطوط متوازية، أفترض أن نقوم بإلقاء عصي في الهواء ويراهن أحد اللاعبين على أن العصي لن تسقط عبر الخطوط الفاصلة بين البلاط، ويراهن لاعب آخر، على العكس من ذلك، أن العصي ستسقط على بعض من هذه الخطوط، ويقوم بعمل قرعة بين اللاعبين لنرى أيٌّ منهما سيفوز على الآخر. ويمكن أن نقوم بهذه اللعبة على رقعة شطرنج باستخدام إبرة حياكة أو دبوس بلا رأس.

فلكي تقطع الإبرة الخطوط الفاصلة بين البلاط، يتعين من ثم تقدير الاحتمال. كما يمكننا إثبات ذلك رياضيًّا، فنجد أن هذا الاحتمال يساوي . فحساب قيمة يعد مسألة حتمية. فقد استبدل هذا الحساب بالقياس الاحتمالي الذي يعمل على حساب متوسط خصائصه الإحصائية. فإذا كان طول الإبرة ، وإذا كانت المسافة بين الشريحتين الخشبيتين هي ، وكانت بالطبع أصغر من ؛ فإن احتمال أن تقطع الإبرة الفاصل بين شرائح الخشب يساوي ولقد قام بوفون بإثبات هندسي لهذه النتيجة. هناك إثبات آخر شديد البساطة قدمه إيميل بوريل (١٨٧١–١٩٥٦)، يبدأ بملاحظة أن متوسط عدد نقط تقاطع الإبرة بشكل ما للفواصل الخشبية يتناسب مع طول للإبرة ويتناسب عكسيًّا مع عرض للألواح الخشبية. هذا العدد يتم التعبير عنه بالنسبة ؛ حيث قيمة ثابتة يجب تحديدها. لنأخذ إبرة مستديرة قطرها وطولها . فأيًّا ما كانت الطريقة التي ستسقط بها، فستقطع دائمًا لمرتين الفاصل الخشبي، وهكذا يكون . ونستنتج من ذلك أن . وفي النهاية يكون الاحتمال إذن .
ولكي نحصل على القيمة الصحيحة ﻟ ، يتعين القيام بعدد لا محدود من الرميات. إلا أنه كلما ازداد عدد الرميات، كلما اقتربنا من قيمة باحتمالية جيدة. وهكذا، في عام ١٨٥٠، قام عالم الرياضيات والفلك السويسري يوهان رودولف وولف (١٨١٦–١٨٩٣) ﺑ ٥٠٠٠ رمية بنسبة ، ووجد ٢٥٣٢ قاطعًا؛ ومن ثم يكون وتبين بعملية حسابية أنه للحصول على قيمة محددة تبلغ ١ / ١٠٠٠ باحتمال ٩٥٪، يتعين القيام بحوالي تسعة ملايين رمية.
ولم تتطور طرق مونت كارلو إلا نحو نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان اسم مونت كارلو يشير في الأصل إلى الملف السري لعملية أوفرلورد (غزو قوات الحلفاء لنورماندي في السادس من يونيو عام ١٩٤٤). وكانت هذه الطرق تستخدم في البداية من قبل عالم الطبيعة إنريكو فيرمي (١٩٠١–١٩٥٤)، وعلماء الرياضيات: ستانيسلو أولام (١٩٠٩–١٩٨٤) ونيكولاس قسطنطين متروبوليس (١٩١٥–١٩٩٩) ومارك كاك (١٩١٤–١٩٨٤)، وبصفة خاصة جون فون نيومان (١٩٠٣–١٩٥٧)، الذي كان يبحث في حساب القيم الذاتية المرتبطة بمعادلة شرودنجر وحل مسائل انتشار الجسيمات، وكما سنرى، كان أولام المخترع الأساسي لهذه الطريقة، فبينما كان يقيم في المشفى بعض الوقت، أجرى تجارب من هذا النوع.
ستانيسلو أولام عالم رياضي من أصل بولندي، هاجر إلى الولايات المتحدة قبل الحرب العالمية الثانية وشارك في «لوس آلاموس» في إعداد القنبلة الذرية. وهو يعد — إلى جانب ما قدمه من أعمال ذات أهمية كبيرة في مجال الرياضيات — المخترع الحقيقي لما يسمى بطريقة مونت كارلو. فلنقرأ ما قاله عن هذا الموضوع:

لقد تولدت فكرة ما أطلق عليه فيما بعد بطريقة مونت كارلو بينما كنت ألعب السوليتير، وبالأخص أثناء فترة مرضي. فقد لاحظت أن هذه اللعبة كان من الممكن أن تكون أكثر فائدة في المجال التطبيقي؛ لأنها تتضمن فكرة احتمال إنهاء الفائز للعبة؛ نظرًا لامتلاكه عددًا أكبر من كروت اللعبة، أو القيام بتجارب باستخدام هذا الأسلوب وتسجيل فقط معدل المكسب، بدلًا من محاولة حساب جميع إمكانات الدمج وتركيب الكروت التي تكون متصاعدة أسيًّا في العدد بشكل كبير، حتى إنه لا توجد طريقة لتقديرها إلا في بعض الحالات البسيطة وفي المسائل الأكثر تعقيدًا بعض الشيء، تكون التجربة الواقعية أفضل من دراسة جميع المتتابعات للاحتمالات.

ولقد تراءت لي فكرة إمكانية تطبيق ذلك أيضًا في جميع العمليات التي تفسح المجال للتشعبات، مثل إنتاج وتكاثر النيوترونات في بعض أنواع من المواد التي تحتوي على اليورانيوم أو عناصر أخرى انشطارية. وفي كل خطوة من العملية، تظهر العديد من المشتملات المجددة لمصير النيوترون، فمن الممكن كتابة معادلات التفاضل والتكامل لمتوسطات رياضية، أما حلها أو الحصول على فكرة تقريبية لخصائص الحل، فهذه قضية أخرى.

كانت الفكرة هي تجربة آلاف من هذه الاحتمالات. وفي كل مرحلة يتم الاختيار العشوائي بواسطة عدد عشوائي باحتمال مناسب، لمصير أو لنمط الحدث الذي سيأتي في المؤخرة، بدلًا من النظر في جميع الأفرع. وبعد دراسة تاريخ آلاف فقط من الإمكانات سيتوفر لدينا عينة جديدة وإجابة تقريبية للمسألة.

هذا هو النمط التجريبي نفسه الذي يتبعه عالم الرياضيات. وبدءًا من عام ١٩٤٣، اتسع نطاق تطبيق طريقة مونت كارلو على المسائل الكبيرة، لاسيما بعد تطور الآلات الحاسبة. وكان أوائل المستخدمين لها يرون أنه بتكرار عدد كبير من المرات متسلسلات العمليات القصيرة جدًّا، ربما يمكنهم إيجاد حلول للمسائل المعقدة التي كانت تنقص المتخصصين، دون دراسة مسبقة وبتكلفة قليلة. إلا أن الواقع لم يكن بهذه البساطة والنتائج كانت، في الغالب، بعيدة جدًّا عن الحل نتيجة لعدم كفاية عدد التجارب العشوائية (ليس نادرًا أن تتضمن التجربة عدة ملايين من التجارب العشوائية). ومع بداية عام ١٩٥١، بدأت دراسة مسائل التحديد ودخلت طرق مونت كارلو في مرحلة النضج. فهي ترتكز على قواعد لعلم الإحصاء والاحتمال صلبة. ولا تزال تستخدم حتى هذه الساعة.

(١-٥) الكواتيرنيون

العدد المركب يتكون من ازدواج مجموعتين من الأعداد: المجموعة الأولى وهي الجزء الحقيقي، والمجموعة وهي الجزء التخيلي. ويتم كتابة العدد كالآتي: . حيث ، هذه الأعداد تم إدخالها بواسطة عالم الرياضيات الإيطالي رافييل بومبللي (١٥٢٦–١٥٧٢)، ويمكن تمثيل العدد كنقطة في خريطة كنقطة في إحداثي س والنقطة في إحداثي ص، وهكذا يكون للعدد المركب تمثيل هندسي على اعتبار أنه متجه يصل بين نقطة البداية حتى النقطة في الخريطة في فضاء ثنائي الأبعاد، ويرجع الفضل في هذا الإثبات إلى جون واليس في عام ١٦٨٥ (١٦١٦–١٧٠٣)، إلا أنه لم يكن يعرف كيف يمثل العمليات الحسابية على الأعداد المركبة هندسيًّا. ولهذا، فبعد قيام هنري كون (١٦٩٠–١٧٦٩) بتجربة أولى في عام ١٧٥٦، تعين الانتظار حتى عام ١٧٩٨ لحين ظهور أعمال كاسبار واسل عالم الرياضيات الدنماركي (١٧٤٥–١٨١٨)، وعلى وجه الخصوص أعمال عالم الرياضيات السويسري جان روبرت أرجان (١٧٦٨–١٨٢٢)، الذي نشر في عام ١٨٠٦ بحثًا عن طريقة تمثيل الأعداد التخيلية في الإنشاءات الهندسية. غير أن هذه الأعمال مرت مرور الكرام دون أن يلتفت إليها أحد. ولم يتم الاعتراف بالأرقام العقدية إلا عند ظهور أعمال كارل فريدريش جاوس (١٧٧٧–١٨٥٥)، ولا سيما أعمال أوجستين لويس كوشي (١٧٨٩–١٨٥٧).
بيد أنه يمكن الاعتراف بوجود الأعداد المركبة دون اللجوء إلى هذا التفسير الهندسي. ففي عام ١٨٣٧، قدم ويليام روان هاملتون (١٨٠٥–١٨٦٥) تفسيرًا للأعداد المركبة على أنها مكونة من أزواج من الأعداد الحقيقية التي تقوم عليها العمليات الحسابية العادية مثل الجمع والضرب. كان هاملتون يريد التوسع في هذه النتائج إلى متجهات الفضاء ثلاثي الأبعاد، وكان يبحث للتوصل لحساب جبري يمكن تفسيره في هذا الفضاء. يتعين إذن دراسة ثلاث مجموعات من الأعداد بدلًا من مجموعتين. لكن بجرد للخصائص التي يتعين على المجموعات الثلاث التحقق منها، لاحظ أنه يجب دراسة أربع مجموعات من الأعداد لا ثلاث. وهكذا اخترع هاملتون الكواتيرنيون في ١٦ أكتوبر عام ١٨٤٣، ونقل اكتشافه هذا على الفور إلى صديقة جون توماس جراف (١٨٠٦–١٨٧٠). وعند تقديم عملياته الجبرية في التبادلية، أسهم اكتشافه بخطوات عظيمة في تطوير علم الجبر الحديث.
لاحظ هاملتون، منذ البداية، أن هذا يعد أروع اكتشافاته العلمية، وتكهن بأنه ربما يمضي الباقي من حياته في بحث نتائج هذا الاكتشاف. من الواضح أنه كان يرى أن الكواتيرنيون ربما يلعب، في الفضاء ثلاثي الأبعاد، دورًا مناظرًا للأعداد المركبة في الخريطة. وانطلق في أبحاثه بحماسة شديدة لا أحد يمكن إنكارها. وقبل وفاته بقليل، في الثاني من سبتمبر عام ١٨٦٥، وصف اكتشافه هذا في رسالة كان قد أرسلها إلى ابنه أرشيبولد يقول فيها:
في أكتوبر عام ١٨٤٣، كنت قد عدت للتوِّ من مؤتمر الجمعية البريطانية الذي عقد في مدينة كورك بأيرلندا، وتمكنتْ مني من جديدٍ الرغبةُ في اكتشاف قوانين ضرب الأعداد الثلاثية، بالقوة والحماسة التي كانت قد خملت منذ عدة سنوات، والتي كانت على وشك أن تكلل بالنجاح وهو ما تحدثت إليك عنه أحيانًا. في كل صباح، في بداية ذلك الشهر، عندما كنت أنزل لأتناول طعام الإفطار، كان شقيقك ويليام إدوين، وأنت نفسك، تطرحان عليَّ هذا السؤال دائمًا: إذن يا أبي، هل تستطيع ضرب الأرقام الثلاثية؟ هذا السؤال الذي كنت دائمًا أضطر إلى الإجابة عنه بهزة رأس حزينة، لا، إني فقط أستطيع جمعها أو طرحها. لكن في يوم الإثنين السادس عشر للشهر نفسه، وهو يوم اجتماع الأكاديمية الملكية الأيرلندية، ذهبت لحضور الاجتماع ورئاسته، سيرًا على الأقدام، وكانت والدتكما تسير معي بمحاذاة «القناة الملكية». وعلى الرغم من أنها كانت تتحدث إليَّ بين الحين والآخر، فإنني كنت أشعر أن تيارًا فكريًّا يدور في عقلي، تمخض في النهاية عن نتيجة لا أبالغ في القول بأنني شعرت على الفور بأهميتها، تيارًا كهربائيًّا بدأ يظهر وبرزت منه شرارة، كانت فتحًا (كما لمحت على الفور) لسنوات عديدة من الأفكار والعمل في اتجاه محدد، اكتشافًا كنت سأقوم به بنفسي لو منحني الزمن هذه السنوات، أو على الأقل سيقوم به غيري إذا امتد بي العمل طويلًا لأنقل هذا الاكتشاف إلى غيري. أخرجت ودون ترددٍ مفكرةً لا تزال موجودة حتى الآن وكتبت على الفور ملحوظة. لم أستطع مقاومة الدافع، حتى وإن كان دافعًا غير فلسفي، بتناول سكين وحفر صيغة الاكتشاف بالرموز على حجر من أحجار كوبري بروجهام الذي كنا نسير تحته:

هذه هي الصيغة التي تحتوي على حل المسألة، لكن بالطبع، مثل أي كلام منقوش، تم محوها منذ زمن طويل (وبدلًا منها توجد لوحة تؤرخ للحدث). وعلى الرغم من ذلك، فلا تزال هناك ملاحظة بمحضر مجلس الأكاديمية في ذلك اليوم (١٦ أكتوبر ١٨٤٣) تذكِّر بالحدث؛ إذ إنني طلبت حينئذٍ عرض مقال عن الكواتيرنيون في أول اجتماع عام للدورة الجديدة للأكاديمية وحصلت على التصريح بذلك، وقد تمت هذه القراءة في الثالث عشر من نوفمبر التالي.

وفي عام ١٨٤٤، ظهر كتاب هيرمان جوتير جروسمان (١٨٠٩–١٨٧٧) الذي عرض فيه عملية حسابية باستخدام متجهات الفضاء على عدد مجهول الأبعاد. ويرجع إلى جروسمان الفضل في ابتكار مفهوم «الاستقلال الخطي» وكذلك تعريفات أبعاد «الفضاء الاتجاهي» و«الفضاء الاتجاهي الجزئي». وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا العمل لم يتم تقديره إلا بإعادة اكتشافه من قبل جيوسيبي بيانو (١٨٥٨–١٩٣٢).

(١-٦) الهندسة غير الإقليدية

في علم الفيزياء، هناك العديد من النظريات الجديدة، مثل نظرية النسبية أو نظرية الكم، التي ظهرت للوجود بفضل باحث يتَّسم بالجرأة الكافية والقدرة على اتخاذ القرار الفوري بِتَرك الفرضية التي بُنيت عليها النظرية القديمة بهدف تبنِّي نظرية أخرى يَبْني عليها نظريته الجديدة. هذه الحالات نجدها نادرًا في علم الرياضيات؛ حيث جميع المقترحات يتم إثباتها بناءً على غيرها، وحيث لا توجد أي نتيجة ولا أي فرضية لا ترتكز على تجربة ملموسة. كل ذلك صحيح ومؤكد، إلا أنه يوجد حالات استثنائية إحداها الهندسة التي تم تأسيسها على عدد معين من المسلمات والبديهيات غير القابلة للإثبات لكن التفكير السليم العقلاني يفرض علينا قبولها على أنها حقيقة لا تحتاج إلى إثبات. وهذا ما عبر عنه هنري بوانكاريه (١٨٥٤–١٩١٢) عندما قال:

إن كل نتيجة تفترض وجود مقدمات، هذه المقدمات نفسها، إما أنها بديهية في حد ذاتها ولا تحتاج إلى إثبات، وإما أنها لا يمكن تطبيقها إلا اعتمادًا على مقترحات أخرى، وبما أننا ربما لا يمكننا الاستمرار هكذا إلى اللانهاية، فإن كل علم، ولا سيما علم الهندسة، يجب أن يرتكز على عدد معين من البديهيات التي لا تحتاج إلى برهان. فجميع أبحاث الهندسة بدأت ببيان عن هذه البديهيات.

ومن بين هذه البديهيات، توجد بديهية التوازي لإقليدس التي تنص على أنه: من أي نقطة خارج مستقيم ما يمر مستقيم وحيد يوازي المستقيم المذكور.

وقد بحث العلماء كثيرًا لمحاولة إثبات هذه البديهية، حتى اليوم الذي تم فيه التأكد من أن هذا الإثبات يستحيل تحققه. وبما أن الإثبات أصبح مستحيلًا، فماذا سيحدث لو تم الاستعاضة عن بديهية التوازي هذه ببديهية أخرى تنفيها؟ هذا هو السؤال الذي طرحه بطريقة شبه متزامنة كلٌّ من كارل فريدريش جاوس (١٧٧٧–١٨٥٥) في عام ١٨٢٤، ويانوس بولياي (١٨٠٢–١٨٦٠) في عام ١٨٢٥، ونيكولاي إيفانوفيتش لوباتشفسكي (١٧٩٢–١٨٥٦) في عام ١٨٢٦. استطاع الثلاثة — انطلاقًا من بديهيات جديدة — الحصول على نظام منطقي للمقترحات دون تناقضات. وهكذا، إلى جانب الهندسة الإقليدية التقليدية، فُتح مجال لأنواع مختلفة من الهندسة غير الإقليدية.

كان هذا الاكتشاف ثوريًّا وغير متوقع وغير عادي، وحقق ثورة في عالم الرياضيات إلى درجة أن جاوس لم ينشره على الإطلاق. ففي رسالة موجهة في عام ١٩٢٩ إلى فريدريش بيسيل (١٧٨٤–١٨٤٦) كتب جاوس قائلًا: «إنني أخاف من صراخ الجهلاء.»

أما يانوس بولياي، فقد نشر النتائج التي توصل إليها في ملحق كتاب صدر لوالده وولفجانج بولياي (١٧٧٥–١٨٥٦)، الذي كان هو أيضًا عالمًا رياضيًّا ذائع الصيت. وجاءت المعارضة الوحيدة من جانب والده الذي لم يتقبل أفكاره على الإطلاق.

إلا أن الأمر كان مختلفًا مع لوباتشفسكي. فنظرًا لوضع نتائج أبحاثه تحت تصرف أكاديمية العلوم في سان بطرسبرج، صرح ميخائيل فاسيلفيتش أوستروجرادسكي (١٨٠١–١٨٦٢) قائلًا: «تُظهر هذه الدراسة، عدم الدقة إلى الحد الذي جعلها، في الجزء الأكبر منها غير مفهومة … «هذا العمل» لا يستحق اهتمام السادة أعضاء الأكاديمية.» وقد نشر أوستروجرادسكي في جريدة «ابن الوطن» مقالات بدون توقيع، قام بكتاباتها صحفي ثوري مشهور، ذكر فيها: «ربما نتساءل لماذا نكتب، لا سيما مثل تلك الخرافات.» وبالرغم من تدخل زملائه، أقيل لوباتشفسكي من منصبه في عام ١٨٤٦ كرئيس لجامعة كازان، ثم تم تجريده بعد عام من لقب أستاذ وجميع المناصب الجامعية الأخرى التي كان يشغلها.

تعين الانتظار حتى حلول عام ١٨٧٠ ومجيء عالم الرياضيات الألماني برنارد ريمان (١٨٢٦–١٨٦٦)، حتى يتم الاعتراف بالهندسة غير الإقليدية التي لعبت دورًا رئيسيًّا في تطور نظرية النسبية العامة؛ فقد كان ريمان في الواقع، يدرك تمامًا الصلة بين هذا الفرع الجديد من الهندسة وعلم الفيزياء، ومما يدل على ذلك أنه ذكر في كتابه بعنوان «الفرضيات التي تصلح أساسًا للهندسة»:

إن مسألة صلاحية تطبيق فرضيات الهندسة بالنسبة للأعداد المتناهية الصغر ترتبط بمسألة المبدأ الوثيق للعلاقات بين دوال المسافات في الفضاء … ويجب إذن؛ إما أن تكون الحقيقة التي ترتكز عليها الهندسة الفراغية مجموعة متنوعة منفصلة، وإما أن يتم البحث عن علاقات دوال المسافات خارج نطاق الهندسة الفراغية؛ أي في قوى الربط التي تعمل عليها.

إن الإجابة عن هذه التساؤلات لا يمكن التوصل إليها إلا انطلاقًا من تصور للظواهر التي تم إثباتها حتى الآن بواسطة التجربة واتخذها نيوتن قاعدة، وكذلك بإضافة جميع التعديلات المتتابعة لهذا التصور التي تفرضها الحقائق التي لم يستطع هذا التصور إيجاد تفسير لها.

فيا لها من رؤية تنبُّئية!

(١-٧) توماس ستايلتج والكسور المستمرة

عندما يصعب دراسة موضوع في علم الرياضيات بالطريقة المباشرة، ربما نحاول تخمين الحل عن طريق ملاحظة بعض الحالات الخاصة. وهذا ما يطلق عليه، بطريقة أو بأخرى، الخطوات التجريبية. ثم يأتي البرهان العام في الخطوة التالية. ولقد لجأ جميع علماء الرياضيات يومًا ما إلى هذه الطريقة، وهذا شيء طبيعي. والمثال على ذلك هو عالم الرياضيات الهولندي الأصل توماس يوهانز ستايلتج (١٨٥٦–١٨٩٤) الذي تعلم في مدينة تولوز وكرس أغلب أبحاثه لدراسة الكسور المستمرة.

الكسر المستمر هو كسر يتكون المقام فيه من عدد صحيح زائد كسر. فالمقام في هذا النوع من الكسور الجديدة يكون نفسه عدد صحيح كسر آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية. وللكسور المستمرة قصة يرجع تاريخها إلى البدايات الأولى لعلم الرياضيات، وكانت أهميتها جوهرية في تاريخ هذا العلم. وفهم التفاصيل الرياضية التالية ليس له أهمية كبيرة لإدراك مواقف علماء الرياضيات من الخطوات التجريبية.

ففي مراسلاته الضخمة مع شارل إرميت (١٨٢٢–١٩٠١) كتب ستايلتج في ٣ مايو عام ١٨٩٤ قائلًا:
فيما يتعلق بالكسور و ، سوف أعترف لك أنه ليست لديَّ النية لتوضيح مثل هذا الموضوع الصعب باستخدام التفكير والتخيل فقط. سوف أقوم — مثلما يفعل علماء الطبيعة — باللجوء إلى الملاحظة. لكن في الوقت الحاضر، أقوم بحسابات رقمية شاقة للبحث عن جميع الكسور المتقاربة لبعض الحالات الخاصة حتى و فقط حتى يمكنني بهذه الطريقة تكوين مادة كبيرة أستطيع أن أبدأ التطبيق عليها بشكل جاد. لا أعرف مطلقًا إن كان ذلك سيقودني إلى شيء أم لا، لكني أريد أن أعرف طريقي بوضوح.
وفي ١٣ مايو رد إرميت عليه برسالة كتب فيها:

أشعر بالسعادة لمعرفة أنك على استعداد جيد للتحول إلى عالم طبيعة من أجل ملاحظة الظواهر في عالم الحساب. عقيدتك هي عقيدتي، فأنا أعتقد أن الأعداد والوظائف التحليلية ليست نتاجًا قطعيًّا لعقلنا، إنني أرى أنها توجد خارج نطاقنا، ولها طابع الضرورة ذاته لأمور الواقع الموضوعي، وإننا نقابلها أو نكتشفها أو ندرسها مثل علماء الفيزياء والكيمياء وعلم الحيوان …

ولا يدعو هذا الموقف من جانب ستايلتج إلى الدهشة، ففي الواقع، لكي يتم تحفيز القدرة على التخيل واكتشاف قاعدة عامة، يتعين عادة رؤية المواد الرياضية التي نتعامل معها. وإحدى الطرق التي يمكن استخدامها للوصول إلى هذا الهدف هي الانخراط في الحسابات الرقمية.

إن هذه المراسلات بين إرميت وستايلتج تعد منجمًا للمعلومات لكلِّ مَن يهتم بتاريخ الفكر العلمي. وإليكم مثالًا آخر مأخوذًا من رسالة وجهها ستايلتج في ٣١ مايو عام ١٨٩٤، يبين فيها أن التناظر بين الموضوعات المختلفة يمكن أن يكون مثمرًا:

إنني مُتعَب قليلًا ولست مستعدًّا للعمل في هذه اللحظة، وما يزعجني كثيرًا هو تسلط فكرة ما عليَّ، ربما تقودنا إلى تطبيق مهمٍّ للأبحاث التي انتهيت منها بشأن الكسور المستمرة. إن الذكريات الجميلة عن بوانكاريه التي تتعلق بمعادلات التفاضل في الفيزياء الرياضية هي التي وضعتني على هذا الطريق (النشرة الأخيرة لباليرم). منذ زمن طويل كان لديَّ شعور مبهم بأن الكسور المستمرة كان وما زال لها علاقة بهذا الموضوع، وأنها كان يجب أن تتدخل فيه. والآن فإن هذا يبدو لي شديد الاحتمال، وفي الوقت نفسه، لافتًا للنظر. فالمقصود هو ببساطة أننا أنشأنا متسلسلة رياضية. لكن لكي نخرج ذلك إلى النور، ربما يتعين إخضاعها لمزيد من التفكير والدراسة، وهذا ما لا أجد لدي القدرة عليه.

وتوفي ستايلتج عقب ذلك بسبعة أشهر، في الحادي والثلاثين من ديسمبر عام ١٨٩٤ وكان يبلغ من العمر ثمانية وثلاثين عامًا.

إن موقف علماء الرياضيات المؤيد للتجربة، يفسره إرميت في نص آخر يقول فيه:

على الرغم من ذلك، نستطيع، فيما يخص العمليات الفكرية الخاصة بعلماء الهندسة، أن نذكر هذه الملاحظة البسيطة للغاية، التي ربما يبررها تاريخ العلوم نفسه، وهي أن الملاحظة تحتل مكانًا مهمًّا وتلعب دورًا كبيرًا في هذه العمليات.

والحقيقة أن جميع فروع الرياضيات تثبت هذا التأكيد … (هناك أمثلة لاحقة تثبت ذلك).

إلا أن النتائج السابقة على الرغم من كونها لافتة للنظر وذات أهمية كبيرة، فإنها غير كافية لإعطاء فكرة تامة عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الملاحظة. فعند تحليل العمليات الخاصة ببرهان عدد ما من النظريات، ربما ندرك أهمية ذلك بشكل أفضل، مثلما سأحاول توضيحه بالمثال. وفيما يلي الافتراض الذي اخترتُه: متتالية الأعداد الأولية غير منتهية (أي تلك التي تقبل فقط القسمة على نفسها والعدد الصحيح). نبدأ بالبرهان بفرض أنه يوجد عدد منتهٍ ومحدد. لكن عندما نحصل على الناتج وعند إضافة عدد صحيح، نحصل على عدد جديد أَوليٍّ في الفرضية المسلم بها، ويكون أكبر من الأرقام السابقة، ومن هنا ينتج ضرورة رفض الفرضية لكونها تؤدي إلى نتيجة متناقضة. إن النقطة الأساسية هنا تتمثل بالطبع في تصور هذا الناتج من جميع الأعداد الأولية المسلم بها، التي يتم إضافة عدد صحيح إليها. وسوف نتفق، بسهولة، على أن هذه الملحوظة ليست نتاج التفكير وحده، لكن يجب أن نعترف بأنها ثمرة الملاحظة لأمر في غاية البساطة يتعلق بالقاسم من الأعداد، وهو أمر مكتسب وسبق استخدامه في التفكير ويخدم نقطة الارتكاز التي تصل بنا إلى البرهان.

(١-٨) قياس المجموعات

اشتهر عالم الرياضيات الفرنسي إيميل بوريل (١٨٧١–١٩٥٦) لعدة أسباب. والأبحاث محل الاهتمام هنا هي التي تقودنا إلى تعريف مفهوم قياس المجموعة. فمن المعروف أن هنري ليبيج (١٨٧٥–١٩٤١) قد اعتمد على هذا المفهوم لبناء تعريفه لعلم التكامل. ولقد روى بوريل قصة بدايات اكتشافه هذا. وسوف نرى، في هذا أيضًا، دور الخطوات التجريبية:

عندما انتهيت من دراستي في كلية التربية العليا بباريس عام ١٨٩٢، كانت نظرية الدالة التحليلية أحد المجالات العلمية التي ظهرت فيها اكتشافات مهمة وكبيرة في العقود الماضية، لكنها كانت لا تزال تحتاج إلى مزيد من العمل والدراسة. ولقد جذبني هذا المجال، لا سيما دراسة تأثير النقاط المفردة على خصائص الدالة. إن التمثيل الهندسي للمتغير التخيلي الذي ينطلق من نقطة ما في الخريطة كان معروفًا منذ وقت طويل، وكانت المسائل المطروحة تتمثل في شكل هندسي وجبري في آن واحد، وهذا المزيج، في عملية البحث للمناهج الهندسية والجبرية كان يستهويني بشدة. ومن أجل محاولة تقديم فكرة عن طبيعة هذه المسائل التي كانت مطروحة أمامي — حتى لمن لا يألفون التفكير الرياضي — فسوف أقوم بتبسيطها مع الاكتفاء بتصور مجموعات النقاط على خريطة.

وهذا هو المثال التناظري في الفيزياء:

لنتخيل مسطرة من الخشب أو المعدن طولها متر نرسم عليها أقسامًا عشرية، وبهذه الطريقة نكون قد رسمنا الديسيمتر والسنتيمتر والملِّيمتر. لكن عمليًّا، لا يمكن على الإطلاق الذهاب إلى أبعد من ذلك، وربما يتعين الاستعانة ببعض الأجهزة الأكثر دقة للتوصل إلى رسم خطوط أكثر تحديدًا يفصل ما بينها أعشار الملِّيمتر. إلا أن عالم الرياضيات لا ينزعج دائمًا من مثل هذه الأمور العملية غير المتوقعة؛ فتعميم طريقة ما استطاع الرياضي القيام بأولى خطواتها، يعد بالنسبة له عملية طبيعية. وهكذا يمكنه في الحقيقة تصور الأشياء دون إمكانية رسمها، فنتخيل بعد إجراء القسمة بالسنتيمترات وبالملِّيمترات وبأعشار الملِّيمترات، أنواعًا من القسمة أكثر دقة بأجزاء من المائة من الملِّيمتر وبأجزاء من الألف من الملِّيمتر … إلخ. فإذا سلمنا بأنه يمكننا الحصول على مجهر له خصائص تكبير لا نهائية، وإذا سلمنا أيضًا بأن المسطرة لها هذه الخصائص التكبيرية الهائلة نفسها، فلن يمنعنا شيء من أن نمتد بالفكر إلى ما لا نهاية في هذه الأنواع من القسمة. لقد سجلنا على المسطرة عددًا لا نهائيًّا من النقاط تمثل كلٌّ منها كسرًا عشريًّا بسيطًا، على سبيل المثال، الكسر ٠٫٣٢٤١٧٣٢ يطابق واحدًا من عشر ملايين من النقاط التي تحدد تقسيم المتر إلى عشر أعشار من الملِّيمتر. وبلغة نظرية المجموعات، نقول إن جميع النقاط مسجلة بشكل مكثف على طول المسطرة المستقيمة. فلا يوجد في الواقع جزء، مهما كان متناهيًا في الصغر على طول المتر، لا توجد عليه هذه النقاط العشرية المضغوطة الواحدة بجانب الأخرى.

ومن جهة أخرى، يوجد على المستقيم نقاط أخرى ليست عشرية، وهي النقاط التي تمثلها كسور عشرية لا نهائية؛ أي كسر دوري مثل ٠٫٣٣٣، أو كسر غير منتظم مثل الكسر العشري للعدد : ٠٫١٤١٥٩٢٦٥.
ونعود إلى التفسير الرياضي لهذه المسألة:

على كل جزء من المستقيم، مهما كان صغيرًا، يوجد نقاط عشرية ونقاط غير عشرية. فإذا أردنا من ثم المقارنة بين مجموعة النقاط العشرية وغير العشرية باستخدام الطريقة الطبيعية والتقليدية، التي تتمثل في تقسيم المستقيم إلى مجموعة من الفواصل متناهية في الصغر؛ فلن نحصل على أي نتيجة، فمهما كان صغر الفاصل فسندرك أنه يحتوي على نقاط عشرية وأخرى غير عشرية. إذن، فيما يبدو، من المستحيل تقسيم المستقيم إلى فواصل تتضمن جميع النقاط العشرية وفي الوقت نفسه جميع النقاط غير العشرية.

هذه الاستحالة لم تحدد، فيما يبدو، بشكل صريح من قبلُ، لكن كان مسلَّمًا بها ضمنيًّا من قِبل جميع علماء الرياضيات. إلا أن هؤلاء العلماء، ولأسباب متعددة نابعة من نظرية المجموعة الحديثة لجورج كانتور، وأيضًا نابعة من ملاحظات حساب الاحتمالات، الذي كان يتسم بالغموض بطريقة أو بأخرى، التي سوف نقوم بتحديدها الآن؛ هؤلاء كانوا يعلمون أن جميع النقاط العشرية كان يتعين النظر إليها على أنها نادرة أكثر من النقاط غير العشرية. فإذا قمنا بقرعة على أرقام كسر عشري، وحتى يصبح هذا الكسر رقمًا عشريًّا محددًا، يجب أن تكون جميع الأرقام مساوية للصفر بدءًا من مرتبة معينة، وهذه هي الاحتمالية التي يجب أن ينظر إليها على أنها ضعيفة الاحتمال. ألا توجد إذن وسيلة للتمييز بواسطة تصور فواصل صغيرة بالقدر الكافي لتستطيع أن تضم جميع هذه الأعداد، سواء العشرية أو غير العشرية؟

نعود مرة أخرى إلى التناظر في الفيزياء:

عند التفكير في هذه المسألة، وبمحاولة استعراض الخطوط نفسها التي يمكن بواسطتها تحديد الأعداد العشرية اللامتناهية على المستقيم، طرأت لي فكرة بسيطة؛ وهي: لو كانت هذه الخطوط دقيقة بالقدر الكافي، فإن عرضها الكامل ربما يمكن تصغيره بقدر كبير بحيث يكون أقل من طول المستقيم. وطبقًا لهذه الشروط، فإن الفرص كبيرة لوجود بعض النقاط على المستقيم ليست مغطاة بهذه الخطوط؛ هذا لأنه ربما يكون أمرًا متناقضًا أن نستطيع تغطية المستقيم بالكامل بهذه الخطوط التي يقل عرضها الإجمالي عن طولها. هذه الفكرة البسيطة وضعت الاكتشاف على الطريق الصحيح، ولم يكن يتبقى سوى القليل من التفكير والاهتمام والصبر للتوصل إلى صياغته.

إذا ما نظرنا مرة أخرى إلى صورة المستقيم الذي يبلغ طوله مترًا والذي تم تقسيمه بالخطوط، وإذا ما حددنا عرضًا يبلغ ملِّيمترًا لكلٍّ مِن هذه التقسيمات من السنتيمترات، فإن مجموع هذه الأقسام المائة التي يبلغ كلٌّ منها سنتيمترًا، سيغطي ١٠ سنتيمترات. وإذا ما حددنا، بعد ذلك، لهذه الأقسام من الملِّيمترات عرضًا يبلغ عشرة ملِّيمترات، فإن مجموع الأقسام سيبلغ أقل من سنتيمتر، ونستطيع الاستمرار هكذا وتنظيم الوضع بحيث يبلغ مجموع الأقسام المحددة بأعشار الملِّيمتر على الأكثر أقل من ملِّيمتر … إلخ. في هذه الظروف، عندما نصل إلى النهاية؛ أي عندما يتم تحديد جميع الأعداد العشرية المنتهية، حتى الأعداد التي لها أرقام عشرية كبيرة، فإن مجموع الخطوط المرسومة سيحتل فقط كسرًا يتساوى في الطول مع طول المستقيم. وقد نتمكن أيضًا من أن نجعل هذا الكسر أقل من أي عدد صغير تم وضعه سابقًا.

وهكذا نصل، بالاختيار الجيد للمسافات بين النقاط، وبتحديد هذه المسافات وفقًا للنقاط العشرية، حتى التي نريد إخضاعها للدراسة؛ إلى تجميع جميع هذه النقاط العشرية في مجموعة من النقاط يبلغ طول ما بينها من مسافات — على سبيل المثال — أقل من ملِّيمتر واحد، بينما تكون هذه النقاط متلاصقة على المستقيم الذي يبلغ طوله مترًا واحدًا. إنها نتيجة في منتهى البساطة، كان يجدر معرفتها منذ وقت طويل، لكنها ظهرت وكأنها اكتشاف جديد وشديد المفارقة.

نصل في النهاية إلى الخلاصة حول هذا الحدس الهندسي الذي ينبع من الإدراك الحدسي للعالم الخارجي:

إلا أن خيالنا الهندسي لا يستطيع بسهولة تمثيل هذه المسافات التي تحتوي على جميع النقاط العشرية والتي مع أنها لا تمثل إلا شريحة صغيرة من المستقيم كله، فإنها تترك الكثير من النقاط التي لا تتضمنها المجموعة بداخلها. وطالما حاول علم الحساب أن يجعلنا نثق في أن الطول الإجمالي لهذه المسافات، نظرًا لكونها متناهية الصغر، يكون من المستحيل أن يتضمن طول المستقيم جميع ما عليه من النقاط، والحدس الهندسي لهذه النتيجة لا يبدو لنا طبيعيًّا.

ولا مجال هنا للتوسع في النتائج التي توصلت إليها هذه الطريقة الجديدة، طريقة تتمثل أساسًا في إنشاء مسافات انطلاقًا من نقاط تخضع للدراسة، بدلًا من البحث عن دراسة توزيع هذه النقاط على مسافات محددة سابقًا وفقًا لقاعدة ثابتة. وسأكتفي بالتذكير بالنتائج التي توصلت إليها هذه الطريقة من أجل دراسة الوظائف التحليلية في بعض المجالات الفريدة، والتذكرة أيضًا بأن كل ما حدث من تطور في نظرية قياس المجموعات ونظرية التكامل المعروفة لعالم الرياضيات ليبيج، يرتبط مباشرة بهذه الطريقة.

وفي هذا الشأن، لنترك لعالم الرياضيات جان لوراي (١٩٠٦–١٩٩٨) يحدثنا عن فكرة ليبيج:

عندما ظهر للجميع أن العميد داربو قد نسف ببراعة مذهلة علم الهندسة التفاضلية، أخرج شاب يسمى ليبيج منديلًا مجعدًا من جيبه واعترض قائلًا بأن هذا المنديل كان يكذب أبسط خصائص علم التفاضل لمسألة المساحات التي يمكن تطبيقها على الأسطح؛ لأن هذه الخصائص تصلح فقط للصدريات الواقية الخشنة، للمساحات المنتظمة. لقد استطاع ليبيج أن يقول كل ذلك باستخدام مصطلحات رياضية، ثم نجح في دراسة المساحات للدالة غير المستمرة، إلا أن السلطات العليا في مجال علم الرياضيات في ذلك العصر، حكمت على أفكار ليبيج بأنها بلا قيمة، وسرى الهمس بأن هذه الأفكار ليست رياضة حقيقية. ومع ذلك، فقد كانت هذه السلطات من الحكمة والسماحة بحيث صرحت بنشرها. وهكذا استطاع ليبيج، باستخدام هذه الدوال، أن يقدم لنظرية علم التكامل مرونة وقوة غير عادية كانت مريحة للرياضيين والتقنيين. لقد تحولت المفاهيم التي أدخلها ليبيج إلى قواعد جديدة في التحليل الرياضي. والمثال التالي لا ينفصل عن الموضوع: إن الانزعاج الذي تسببه عدم الأناقة أو الشعور بظلام عرضي، لا يمكن تفسيره دائمًا إلا بتجديد المفاهيم الأساسية والجوهرية. لكن إعادة النظر هذه تستلزم العمل الشاق والجهد الطويل الذي لا تظهر فائدته إلا على المدى الطويل جدًّا ولا يمكن توقعه حتى يمكن تحفيزه.

لقد قام ليبيج بصياغة نظريته لقياس المجموعات في عام ١٩٠١ وفي رسالته التي ناقشها في مدينة نانسي بفرنسا عام ١٩٠٢، قام بتعميم مفهوم علم التكامل الذي كان اكتشافه يرجع إلى عالم الرياضيات ريمان، بهدف إدراج العديد من الدوال اللامتناهية، وقد كان هذا أحد أكثر التطورات أهمية في مجال تحليل الرياضيات الحديثة. وإذا كان الفضل يرجع إلى ليبيج في تقدم مجالات أخرى رياضية، فإنه لم يستمر في العمل على مفهومه لعلم التكامل؛ لأنه كان هو نفسه يخشى التعميمات. ولقد كتب يقول: إن علم الرياضيات بسبب تحديده في إطار النظريات العامة ربما لن يكون إلا شكلًا بلا مضمون، وسوف يكون مصيره الفناء السريع. لكنه كان مخطئًا في هذا الرأي.

(١-٩) خطأ ليبيج

في علم الرياضيات، ربما أكثر من أي علم آخر، من المستحيل تدوين كل شيء تفصيليًّا. لقد قرأنا كثيرًا في الكتب والمقالات البحثية التي تقدِّم نتائجَ جديدة، هذه العبارة: «من الواضح أن البرهان لا يمثل أي مشكلة … أو كذلك نرى بسهولة أن …» وبصفة عامة، أو على الأقل بالنسبة لكبار علماء الرياضيات، فإن هذا الحدس صحيح. إلا أنه يتعين في بعض الأحيان كتابة كثير من الصفحات بالحسابات الدقيقة لندرك أن البرهان كان بالفعل واضحًا وجليًّا! غير أن الخطأ حتمي ووارد وعلماء الرياضيات الذين لا يرتكبون أخطاء على الإطلاق هم أولئك الذين لا ينشرون أبحاثهم أبدًا. فهناك في الواقع كتاب كامل عن أشهر أخطاء علماء الرياضيات.

فقد اشتهر نوربرت فينر (١٨٩٤–١٩٦٤) مؤسس علم السبرانية (أو نظم التحكم) ورائد العديد من المجالات الرياضية، بنشر أعمال غير دقيقة. فقد كان تجسيدًا حيًّا لتأكيد عالم الرياضيات أبرام ساموالفيتش بيزايكوفيتش (١٨٩١–١٩٧٠) أن شهرة علماء الرياضيات ترتكز على عدد من البراهين الخاطئة. على سبيل المثال، إحدى النظريات الأساسية في كتاب فينر عن علم التكامل لفورييه تعتمد على إحدى متتاليات البرهان الاستدلالي، وبرهان إحداها يعتمد على النظرية الأساسية. إننا بهذا الشكل ندور في حلقة مفرغة!

ورغم ذلك، ففي العديد من الحالات، يمكن للأخطاء أن تكون خلاقة. ويروي لنا عالم الرياضيات هنري ليبيج (١٨٧٥–١٩٤١) ذلك قائلًا:
لقد ساعد هذا التصور عن الدوال غير المستمرة كثيرًا في اتساع حقل التحليل الذي كنا نتصور أنه يثير بعض القلق. وعلى الرغم من ذلك، نتباهى بوجود الأمل في أنه بين جميع الدوال وبين جميع المجموعات التي تم تصورها، ربما يمكن فقط في الرياضيات إدراج دوال نظرية باير والمجموعات القابلة للقياس المرتبطة بها؛ هذا لأنه فيما يبدو كانت العمليات التي تم إجراؤها على هذه الدوال والمجموعات تؤدي دائمًا إلى دوال ومجموعات من العائلة نفسها. وقد أسفر التحليل، في حد ذاته، عن مبدأ التحديد.
وللتأكد من أن الأمر كذلك، تعين على وجه الخصوص دراسة حل المعادلات التي تؤدي إلى الدوال الضمنية. وخلال هذه الدراسة، قمت بصياغة هذا التعريف: إن تصور مجموعة قابلة للقياس يكون دائمًا عندما تكون هذه مجموعة قابلة للقياس ، والبرهان كان بسيطًا وقصيرًا لكنه كان خاطئًا. وقد لاحظ هذا الخطأ كلٌّ من البروفيسور لوزين، الذي كان حينئذٍ أستاذًا مبتدئًا، وسوسبين أحد تلاميذه الأوائل، وشرعا في تصويبه. وأتخيل أنهما، في البداية، اعتقدا أن إصلاح هذا الخطأ سيكون أمرًا يسيرًا، إلا أن المشاكل ظهرت سريعًا، حتى انتهيا إلى الشك في التعريف نفسه. ثم باستخدام مثال قاطع قاما بتحويله إلى تعريف خاطئ.

وبهذا الشكل، فإن التحليل لا يمثل في حد ذاته مبدأ التحديد. ولقد كان امتداد عائلة دوال باير واسعًا حتى إنه يصيب بالدوار، كما أن حقل التحليل كان أيضًا أكثر اتساعًا. يا له من حقل واسع!

(١-١٠) طريقة شولسكي

عندما يكون لدينا نتائج قياسات متقاربة ونريد أن نمرر بينها خطًّا مستقيمًا، فعلينا أن نلجأ إلى طريقة المربعات الأقل لكارل فريدريش جاوس (١٧٧٧–١٨٥٥). تقتصر هذه المشكلة — رياضيًّا — على حل نظام متعدد المعادلات الخطية ذات المجهولين (عدد نقاط القياس). فبدلًا من الخط المستقيم، يمكننا محاولة تمرير دالة أكثر تعقيدًا بين نقطتي القياس — معادلة متعددة النتائج على سبيل المثال — بغية التوصل إلى تطابق أفضل. عندئذٍ يكون علينا حل نظام خطي به أكثر من مجهولين. يتعلم جميع طلبة الرياضيات ما يسمى بصيغ كرامر التي تؤدي إلى حل أي نظام خطي. لكن هذه الصيغ لم يكن في مقدورها أن تكون نافعة من الناحية العملية، فهي في الواقع تتطلب عددًا ضخمًا من العمليات لدرجة أن الحاسب الآلي — إذا ما قام بعشرة ملايين عملية في الثانية — قد يستغرق ما يوازي عمر الكون لينهي نظامًا مكونًا من اثنتين وعشرين معادلة!

هذا هو بالضبط نوع المشاكل التي نواجهها في مسائل التعويض داخل الشبكات الجيوديسية، وهو الأمر الذي تعين على أندريه لويس شولسكي (١٨٧٥–١٩١٨) الاهتمام به. فيتم قياس زوايا وخطوط طولية بغرض إثبات صحة معادلات شرطية تثبت أن مجموع زوايا مثلث يجب أن تساوي قيمة معروفة (أكبر من ١٨٠ درجة لأخذ كروية الأرض في الاعتبار) وأن الأطوال لا بد أن تظل كما هي مهما كان ترتيب القياسات التي تمت. وهكذا نصل إلى نظام خطي به مجاهيل أكثر من المعادلات، ونحله بطريقة المربعات الأقل، مما يقودنا إلى نظام به معادلات توازي المجاهيل ليكوِّن مصفوفة متماثلة وموجبة.

اخترع شولسكي طريقة جديدة لمعالجة هذا النوع من المشاكل، لكنه لم ينشر بنفسه أيًّا من أعماله، إلا أنه كتب تقريرًا بشأن عمليات التسوية وقياس الارتفاع التي كان يقودها في الجزائر وتونس. في هذا التقرير، وردت طريقة جديدة لحساب تصحيح قامة القياس، وإن كان من الصعب اعتبارها مقدمة لطريقة استخراج المُعاملات.

عُرضت أعمال شولسكي الرياضية لأول مرة في مذكرة لعام ١٩٢٤ كتبها القائد بنوا، وهو ضابط مساحي سابق بالقطاع الجغرافي بالجيش والقطاع الجغرافي في المستعمرة الفرنسية بفيتنام وكمبوديا، كتب فيها:

تخيلَ قائدُ المدفعية شولسكي أثناء أبحاثه حول تصحيح الشبكات المساحية بالقطاع الجغرافي بالجيش — الذي لقي مصرعه في الحرب — طريقة شديدة البراعة لحل المعادلات التي تسمى طبيعية، والناتجة عن تطبيق طريقة المربعات الأقل على معادلات خطية بعدد أقل من عدد المجاهيل. واستخلص منها طريقة عامة لحل المعادلات الخطية.

ويعرف جميع الطلاب الذين كان عليهم دراسة الرياضيات التطبيقية طريقة شولسكي، لكنْ قليل منهم يعرف منشأها وصاحبها.

ومؤخرًا، وُجد بين الأوراق التي أورثتها أسرته إلى كلية الهندسة — حيث كان هو طالبًا — المخطوطة الأصلية التي يعرض فيها شولسكي طريقته بوضوح شديد وبتعبيرات غاية في الحداثة. في ذلك الوقت، كانت الحسابات تتم على آلة حاسبة مكتبية مزودة بمقبض لإدارتها. يؤكد لنا شولسكي أن طريقته تتيح حل نظام ذي عشر معادلات بعشرة مجاهيل بخمسة أرقام محددة في أربع أو خمس ساعات. ووصلنا حاليًّا إلى أن سيكون لدينا أنظمة ذات عشرات الآلاف من المعادلات والمجاهيل، بل وأكثر!

(١-١١) الهندسة الكسيرية

حتى منتصف القرن التاسع عشر، كان الرياضيون يعتقدون أن أي دالة متصلة لها مشتقة عند كل نقطة تقريبًا، حتى ظن أندريه ماري أمبير (١٧٧٥–١٨٣٦) أنه حصل على إثبات على ذلك ونشره في صحيفة كلية الهندسة في عام ١٨٠٦. لكن — وفقًا لهنري بوانكاريه (١٨٥٤–١٩١٢) — مثل تلك الدالة كان من شأنها أن تعد في ذلك العصر إهانة للمنطق السليم. أعطى العالم الرياضي السويسري شارل سيليريه (١٨١٨–١٨٨٩) في عام ١٨٦٠ أول مثال لدالة متصلة لا تقبل أي مشتق في أي نقطة، لكنه لم يُنشر إلا في عام ١٨٩٠.
في عام ١٨٦١، حصل برنارد ريمان (١٨٢٦–١٨٦٦) على دالة متصلة ظن أنها لا تقبل الاشتقاق في أيٍّ من نقاطها. وتحددت هذه الدالة بواسطة السلسلة الموحدة النسق التالية التي تحوي عددًا لا نهائيًّا من الحدود (التي هي تفسير ما يلي):
لكن كان ريمان مخطئًا لأن هذه الدالة تقبل الاشتقاق عند النقطة ، وبشكل عام عند كل النقاط من نمط ؛ حيث و أرقام صحيحة. كان كارل تيودور فيلهلم فيرشتراس (١٨١٥–١٨٩٧) على قناعة بأنه من المستحيل إثبات أن قابلية دالة للاشتقاق هي نتيجة لاتصالها. ونظرًا لعدم قدرته على إثبات الخاصية التي أعلنها ريمان، في عام ١٨٧٢، أدلى كارل بالأكاديمية الملكية للعلوم ببرلين ببيان عن دالة متصلة لا تقبل الاشتقاق في أي نقطة داخل متوالية متقاربة.
تتقارب هذه المتوالية بصورة موحدة عندما تكون إلا أنها لا تقبل الاشتقاق في أي نقطة إذا ما كانت .

في عام ١٨٨٣، اقترح جورج كانتور (١٨٤٥–١٩١٨) — واضع نظرية المجموعات — التجربة التالية، بأن ننطلق من جزء من خط طولي ١ ونقسمه إلى ثلاثة أقسام متساوية، وننزع الثلث الذي في المنتصف، ثم نقسم الثلثين الباقيين كلًّا منهما إلى ثلاثة أقسام متماثلة وننزع من جديد القسم الواقع في المنتصف، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية، يكون الطول الإجمالي المنزوع مساويًا لواحد؛ أي طول المسافة الأصلية، ومع ذلك يتبقى عدد لا نهائي ولا يُحصى من النقط!

كان إعجاب علماء الرياضيات في ذلك الوقت — وعلى رأسهم شارل إرميت (١٨٢٢–١٩٠١) — يرجع إلى كون هذه الأمثلة تُظهر حدود التحليل الرياضي التقليدي، لكنهم لم يعتبروها سوى «وحوش يحسن وضعها في متحف الرعب»، على حد قول هنري بوانكاريه (١٨٥٤–١٩١٢).

يكون قياس المنحنى مساويًا لواحد؛ لأنه يكفي وجود مقياس واحد (المسافة المقطوعة منذ البداية، على سبيل المثال) لتحديد كلٍّ من هذه النقط. ويكون قياس السطح ٢ لأن كل نقطة يمكن تحديدها بطريقة نظيرية (أي واحدة مرة واحدة) عن طريق إحداثيين. إلا أنه في عام ١٨٩٠، أنشأ الرياضي الإيطالي جيوسيبي بيانو (١٨٥٨–١٩٣٢) منحنًى (قياسه واحد) مارًّا بكل نقاط مربع (قياسه ٢)؛ مما يجعل تعريف المقياس بناءً على عدد من المعايير اللازمة لتحديد كل نقطة غير مُجدٍ.

في عام ١٩٠٦، رسم نايلز فابيان هيلج فون كوخ (١٨٧٠–١٩٢٤) منحنًى مغلقًا ذا طول لا نهائي يحد سطحًا محددًا. وبالانطلاق من مثلث متساوي الأضلاع طول كلٍّ منها ١، نقسم كل ضلع إلى ثلاثة أجزاء متساوية، ثم نضيف في منتصف كل ضلع مثلثًا متساوي الأضلاع يساوي ضلعه 1/3. ونبدأ من جديد في منتصف كل ضلع بإضافة مثلث متساوي الأضلاع يساوي ضلعه 1/9، وهكذا دواليك حتى ما لا نهاية. ويدعى المنحنى الناتج «ندفة الثلج». عند الخطوة صفر يكون طول أي ضلع مساويًا لواحد وعدد الأضلاع يكون ثلاثة وأيضًا الطول الإجمالي ثلاثة، وتكون المساحة داخل المنحنى لا نهائيًّا لكنه يحيط بسطح محدود. أمر غريب!
لندرس الآن مسألة القياس بشكل أكثر تفصيلًا. إذا كانت لدينا قاعدة، فلا بد من اثنين متماثلتين للحصول على قاعدة ذات طول مضاعف. وإذا ما رسمنا مربعًا، فيلزمنا أربعة مربعات متشابهة للحصول على مربع بضلع مضاعف. وبالانطلاق من مكعب، فيلزم ثمانية منه لصنع مكعب بضلع مضاعف، وهكذا. إذن، ففي سبيل مضاعفة ضلع أي شكل قياسه يجب وجود أشكال مماثلة. ومن ثم يكون القياس يساوي .
ومن ثم، إذا ما توصلنا إلى عمل شكل نُضاعف ضلعه بواسطة ثلاثة نماذج مماثلة، فسيكون قياسه وبشكل أعم، فلكي نضرب في ضلع شكل ما قياسه ، يجب أن يكون هناك أي أشكال مماثلة؛ أي إن لدينا . وهذا الرقم هو ما يُسمى بالقياس الكسري للشكل. وبالنسبة لندفة الثلج لكوخ، فإن كل ضلع فيها يتكون من أربع نسخ منه هو ذاته، ينقص كلٌّ منها الثلث. إذن، و ولدينا .

أي شكل لا يكون قياسه رقمًا صحيحًا يسمى كسرًا.

وتتكون ندفة الثلج لكوخ باستبدال كل جزء بأربعةٍ طولها 1/3 من السابق. وبتشكيلات أخرى مماثلة نحصل على كسور بقياسات مختلفة. وفي كل خطوة يُستبدل جزء بعدد من الأجزاء الأخرى، يكون طول كلٍّ منها من السابق. ويكون القياس الكسري للشكل الذي نحصل عليه من تكرار هذه العملية لعدد لا نهائي من المرات يساوي .

ويترجم القياس الكسري خواص الشكل ومن ثم يرتكز على مبدأ تشابه الوضع الداخلي الذي يعني أنه عند تكبير قطعة من الشكل نجد شكلًا يشبه الشكل الأصلي. وهي خاصية التشابه الذاتي، التي يمكن ملاحظتها في الطبيعة. فلنأخذ القُنَّبيط على سبيل المثال؛ حيث كل زهرة صغيرة عبارة عن قُنَّبيطة صغيرة تتكون بدورها من عدة أزهار أصغر حجمًا. ولقد لاحظ متسلق الجبال إدوارد ويمبر (١٨٤٠–١٩١١) — أول من صعد قمتي سيرفين والجوراس الكبرى بالإضافة إلى قمم أخرى — أن الأجزاء الصغيرة من الصخرة تشبه الصخرة الكاملة التي تأتي منها.

كما يُعد لويس فراي ريتشاردسون (١٨٨١–١٩٥٣) أحد الملهمين لمثل هذه الأعمال. كان مهتمًّا بدراسة طول شواطئ البلاد. وإذا ما استخدمنا لذلك الأمر مقياسًا طوله فإن الطول الإجمالي للشاطئ سيكون دالة . في الواقع، إذا ما اتخذنا مقياسًا أصغر، فسيكون من الممكن قياس التفاصيل الأدق، ولا سيما أن الطول الإجمالي ﻟ يزيد كلما قل . فكلما تفتت خط — في سبيل الأخذ في الاعتبار لتفاصيل المقاييس الأصغر حجمًا — زادت المسافة بين نقطتين. ولقد اكتشف ريتشاردسون — تجريبيًّا — أن الطول الإجمالي يختلف على النحو التالي ؛ حيث يكون معاملًا ثابتًا. وبالنسبة لشواطئ بريطانيا، حصل ريتشاردسون على قيمة مقاربة ﻟ أما بالنسبة للحدود البرية لألمانيا أو البرتغال، فوجدها تقريبًا وبتطبيق نظرية ندفة الثلج لكوخ، نحصل — وفقًا لصيغة ريتشاردسون — على ؛ أي إننا نستعيد القياس الكسري. يقيس الرقم إذن انتظام (أو — إذا أردنا — اتساق) أي منحنًى.
يرتبط مفهوم الكسر بمفهوم ديناميكية التكرار والفوضى. وسأتحدث عنهما باقتضاب دون الدخول في أي تفاصيل شديدة التقنية. ولندرس — على مثال بسيط — مبدأ التكرار ونرى كيف يحدث. نضع رقمًا مركبًا (أي رقم ذي جزء حقيقي وآخر تخيلي) ولنسمه ، يمكن للرقم المركب أن يتم تمثيله بنقطة على سطح يكون محور سيناته هو الجزء الحقيقي، ومحور الصادات هو الجزء التخيلي. ثم نقوم بحساب من خلال الصيغة التالية: ؛ بحيث تكون رقمًا مركبًا. ثم نقوم بحساب الرقم بنفس الصيغة: ، وهكذا دواليك … ومن ثم سنحصل على متوالية لا نهائية من الأعداد، يتمثل كلٌّ من هذه الأعداد بنقطة على سطح ما، وبالربط بين هذه النقاط بالترتيب التالي: نحصل على ما يسمى بالمدار. ووفقًا لنقطة البداية ، قد تذهب بعض هذه المدارات بعيدًا إلى ما لا نهاية، بينما لا تصل هناك مدارات أخرى وتظل محدودة بمسافة محددة من مصدرها. أي تغيير طفيف في قيمة قد ينقلنا من مدار محدود إلى مدار لا نهائي. ونشهد هنا ظواهر شديدة الحساسية لأقل تشوش. ونقول إن المشكلة مطروحة بشكل خاطئ، فالفيزيائيون كانوا قد لاقوا بالفعل مثل هذه الحساسية الشديدة أثناء دراسة حركة الكواكب، وخاصة مشكلة الأجسام الثلاثة التي درسها بالذات هنري بوانكاريه (١٨٥٤–١٩١٢). فعندما تتفاعل هذه الأجرام السماوية الثلاثة تحت تأثير القوى الجاذبة على أساس بعض الشروط الأصلية، يكون من المستحيل إطلاقًا التنبؤ بأوضاعها أو حركتها لفترة طويلة. فاستقرار نظامنا الشمسي هو مثار لجدلٍ لم يُحسم بعد. كما أننا نعلم ما يُسمى بتأثير الفراشة، الذي يقضي بأن خفقان أجنحة فراشة في الصين قد يتسبب في عاصفة على الجانب الآخر من الكوكب. ومن ثم فالتنبؤات الجوية تُعد أيضًا مشكلة غير مطروحة بعناية؛ حيث تتدخل العديد من المعايير، لكن من الصعب أخذهم جميعًا في الاعتبار. وقد يؤدي أي تغيير ضئيل في البيانات الأصلية إلى تغيرات ضخمة في النتائج. لكن لا يمكننا فعل شيء حيال هذا الأمر، فهو كما هو. ومن الطريف ذكر أن أحد أول من اهتموا بدراسة التنبؤ بالطقس — بصورة علمية — هو لويس فراي ريتشاردسون الذي حدثتكم عنه سابقًا. وكان قد اقترح نموذجًا، لكنه لم يدرك أن المشكلة غير مطروحة بطريقة سليمة.
رجوعًا إلى مداراتنا، سنجد أن الحد الفاصل بين نقاط البداية اللاتي تعطي مدارات لا نهائية وتلك اللاتي تبقى محدودة؛ يُسمى «مجموعة جوليا»؛ نسبة إلى العالم الرياضي الفرنسي جاستون موريس جوليا (١٨٩٢–١٩٧٨)، وهو أول من عكف على مثل هذه الدراسة في عام ١٩١٨. وتعتمد هذه المجموعة على القيمة المعطاة للرقم المركب وسنشير إليه هنا ﺑ . عادة، يكون من الممكن دراسة بعض ظواهر التكرار أكثر تعقيدًا بكثير من تلك التي أوردناها كمثال.
حينما بدأ الرياضيون بعمل تجارب رقمية على الحواسب الآلية (وهو — بالطبع — ما لم يتمكن جوليا من فعله في عام ١٩١٨)، فوجئوا بملاحظة أن يعتمد اعتمادًا قويًّا على ، وأنه يمكنه تغيير شكله تمامًا وفقًا ﻟ ، وأنه يمكن أن يصبح شديد التعقيد: إذن رقم كسري.

في عام ١٩١٥، اقترحت أكاديمية العلوم بباريس دراسة التكرار كموضوع لجائزتها الكبرى لعام ١٩١٨. وكتب الفرنسي بيير جوزيف لويس فاتو (١٨٧٨–١٩٢٩) بحثًا طويلًا حول هذه المسألة عام ١٩١٧، لكن لم يكن واضحًا أنه كان ينوي تقديمه. في سبيل الحصول على الجائزة الكبرى، انكب جوليا على العمل وتوصل إلى نتائج مشابهة لفاتو لكن بطريقة مختلفة. وفي نهاية عام ١٩١٧، سلم جوليا عمله للأكاديمية في ظرف مغلق. ومن جانبه، أعلن فاتو عن النتائج التي توصل إليها في مذكرة للأكاديمية في ديسمبر ١٩١٧. فصاغ جوليا خطابًا للمطالبة بأولوية نتائجه. ولذلك، رفض فاتو الدخول في المسابقة، وذهبت الجائزة الكبرى إلى جوليا، بينما أهدت الأكاديمية جائزة أخرى لفاتو تكريمًا لعمله.

في عام ١٩٢٥، عُقدت حلقات دراسية في برلين لدراسة أعمال جوليا، شارك فيها رياضيون مثل ريتشارد داجوبير بروير (١٩٠١–١٩٧٧) وإبرهارد هوبف (١٩٠٢–١٩٨٣) وكيرت فورنر فريدريش ريدميستر (١٨٩٣–١٩٧١). وأعطى إتش كرامر — في مقالة له — أول تجسيد لمجموعة جوليا. وعلى الرغم من شهرة هذه الأعمال في العشرينيات، فإنها راحت طي النسيان حتى أجرى بنوا بي ماندلبرو (مولود ١٩٢٤) — الذي تتلمذ على يد جوليا في كلية الهندسة في الأربعينيات — تجاربه الأساسية على حاسب آلي في نهاية السبعينيات، معطيًا الكسريات التطور والاهتمام الذي نعرفه. فهناك العديد من الظواهر الطبيعية تشابه الكسريات، مثل السحاب والأعاصير، وتساهم أيضًا في إنتاج صورة تلخيصية.

فالحركة البراونية (نسبة إلى العالم روبرت براون) هي — على سبيل المثال — الحركة غير المنظمة للجزئيات الصغيرة المعلقة في الماء. وتستخدم — بالأخص — لدراسة ظواهر الشواش من التداخل في الإشارات الضوئية أو الكهرومغناطيسية، وأيضًا تذبذب الأسواق المالية. فإذا تتبعنا مسار جزئية متحركة بحركة براون، نُثبت أن قياسها الكسري يساوي 4/3. وكون القياس عددًا كسريًّا يتضمن وجود تماثل خفي عميق، نُطلق عليه «التحولات الامتثالية»، وهي تبدو مرتبطة — بصورة غامضة — بنظرية الكم التي تتيح وصف البنية الداخلية للمادة.

(١-١٢) مشكلة التحليل التوافيقي

سنرى من جديد في هذه القصة كيف أن بعض النتائج التجريبية والأمثلة والحسابات الرقمية قد تكون مصدرًا للإلهام لأكثر النتائج الرياضية نظرية. فيجب أن نشاهد لنفهم ونحفز قدرات التخيل والتحليل.

روى بول ليفي (١٨٨٦–١٩٧١) في كتاب ذكرياته القصة التالية:

سأعود لصيف ١٩٠١، حين كنت أقضي مع عائلتي إجازة لمدة ثلاثة أسابيع في الغابة السوداء، وهناك التقيت ملازمًا أول ألمانيًّا، كان الأكثر حيوية من بين المقيمين في النزل العائلي الذي كنا فيه. في أحد الأيام، جلس يلعب معي بالورق، فأخذ ثماني أوراق، ثم قلب الأولى، وأبقى الثانية في اللعبة، وقلب الرابعة وألقى بالثانية، وهكذا حتى انتهت اللعبة. كان قد أعاد الأوراق الثمانية بالترتيب الذي قاله لي في البداية. أردت أن أبلي أحسن منه، في اليوم التالي، أعطيته ثلاث عشرة ورقة، وعرضت أن أعيد الكرة بحسب عدد الأوراق التي يريدها، وهكذا مع باقي الأوراق الاثنتين والخمسين. وبعد ذلك، لم أعد أفكر في الأمر، إلا حينما أريد إعادة لعب الأوراق من وقت لآخر.

في عام ١٩٤٨، أُصبت بشدة بداء ذات الرئة، وظللت راقدًا أعاني من الحمى الشديدة. وربما شجع تدفق الدم في المخ على استرجاع الذكريات القديمة. وأيًّا كان ما حدث، فلقد ظللت أفكر في الملازم الألماني ولعبة الأوراق التي قادتني إلى التفكير في عملية تبديل مهمة لكل قيمة للرقم الصحيح بالشكل التالي: لكل ورقة. وحاولت كبداية أن أحددها من وجهة نظر نظرية المجموعات؛ أي تفكيكها إلى حلقات. ولأنه لم تكن لدي أي فكرة عن الطريقة التي يجب اتباعها، قررت تطبيق الطريقة التجريبية وحللت مشكلة القيم الصغيرة ﻟ حتى 45. كان عملًا من السهل القيام به في الفراش بورقة وقلم حبر. في البداية، بدت لي النتيجة محبطة: فللعدد من التباديل، وجدت متوالية من الأرقام شديدة الاختلاف. وهكذا، فمن ، تكون قيم بحيث لا تتجاوز حدها الأقصى السابق هي:
12, 18, 23, 35, 38, 44
وتكون القيم التي ﻟ :
28, 70, 210, 308, 990, 1710
وتكون الحلقات التي لا يكون ترتيبها أقل من نادرة. إلا أننا نجد للقيم 6, 7, 10, 15, 19, 27, 30, 31, 34, 42 من ، حلقة من عنصر، وهو الحد الأقصى المتاح. ويكون العنصر الأول معاملًا ثابتًا، ومن ثم لا يكون واردًا أي عنصر للتباديل سوى عناصر .
كانت أول ملاحظة بسيطة نجحتُ في التوصل إليها هي التالية: إذا كانت (أي القول إن ) يكون لدينا و تتضمن عدد من التباديل التي ﻟ عنصر؛ حيث يكون هو خارج قسمة على . عادة، تظهر قيم هذه كحدودٍ دنيا، ومن ثم، يكون الرقم 6 محاطًا ﺑ 60 و33.
أعطتني هذه النتيجة الأولية فكرة تحويل تركيزي إلى قيم على صورة . ولاحظتُ وجود حلقة واحدة من نوع وحلقات عديدة بدرجات أقل من ، لكن لا توجد واحدة أعلى، مما يجعل التبديل أصغر مشترك متعدد لأرقام الصحيحة الأولى.
وحاولتُ إذن إثبات هذه النتائج بطريقة عامة. لاحظتُ في البداية وجود علاقات طريفة بين وطريقة التباديل الأخرى الأبسط . وهكذا ، تكون الحلقات التي ﻟ و هي نفسها بالتمام، مع الفارق أنه — بالطبيعة — يكون ترتيب العناصر في كل حلقة مختلفًا. وشيئًا فشيئًا، اعتدت على آلية التباديل، حتى وصلت إلى إثبات عام لنتائج بالغة التعقيد لأعرضها هنا. وأذكر فقط ما يبقي منفردًا في ذاكرتي: تنقسم الأرقام الصحيحة إلى مجموعتين متكاملتين و ، ويتميز الرقم الأخير بالصفة التالية: تضم فترة تمثيل الرقم في الإحصاء الزوجي رقمًا زوجيًّا، ويكون النصفان الآخران متكاملين؛ أي إننا نمضي من واحد إلى آخر باستبدال الصفر بواحد والواحد بصفر. تكون خواص التبديل ؛ حيث مختلفة تمامًا عن تلك المرتبطة بالحالة . ومن ثم، تمتلك التباديل و ذات الحلقات فقط إذا ما كانت وليس إذا كانت .
فلنشرح معنى إثبات بالتكرار وكيف نكون مضطرين إلى اللجوء إليه، وكيف تطرأ لنا فكرته. يبدأ الرياضي بملاحظة أن هناك خاصية معينة أو صيغة ما تعتمد على رقم صحيح تصلح لأي قيمة للعدد ؛ أي إن ثم يتأكد — بعد القيام بالحسابات التفصيلية — أن الوضع كذلك مع القيم الصغيرة ﻟ . حيث تكون هناك فرص أن الصيغة تكون عامة وقابلة للتطبيق لكل قيمة ، ويبقى في النهاية إثبات الأمر رياضيًّا. ونقوم عندئذٍ بما يسمى بالإثبات بالتكرار، وهو ينقسم إلى ثلاث خطوات: فنثبت في البداية أن الخاصية سارية إذا كانت ، ثم الخطوة الثانية تقتضي الافتراض بأنها صالحة للحالة ، وأخيرًا، إثبات أنها سارية ﻟ . ومن ثم، واستنادًا إلى هذا الإثبات بالتكرار بما أن النتيجة صحيحة حيث ، فهي تكون كذلك إذا كانت ، وإذا كانت صحيحة إذا كانت ، فإنها تكون كذلك إذا كانت ، وهكذا دواليك. ولنعطِ مثالًا أكثر توضيحًا، فنحن نعتقد أن كل رقم فردي يمكن أن يُكتب بالصورة التالية . ونرى بالطبع على الفور أنه صحيح. والآن فلنقمْ بإثبات الأمر بالتكرار. إذا كانت نحصل على وهو رقم فردي. إذن فقد تم التحقق من هذه الخاصية لحالة . وإذا افترضنا — لقيمة ما محددة ﻟ — أن الرقم الفردي له صورة . وللحصول على الرقم الفردي التالي، يجب إضافة 2 إلى . ونحصل من ثم على الصيغة التالية: والمساوية للتالي: . وهي ذات الصيغة السابقة التي حصلنا عليها بعد استبدال ، مما يصل بنا إلى نهاية الإثبات بالتكرار. وتعد الإثباتات بالتكرار أداة مهمة في الرياضيات، وترجع جذورها إلى العصور القديمة.

(١-١٣) التوزيعات

يروي الرياضي الفرنسي لوران شوارتز (١٩١٥–٢٠٠٢) في مذكراته كيف جاءته فكرة التوزيعات، وهي تعميم لمفهوم الدالة:

توصلت إلى ذلك الكشف في باريس، في مستهل شهر نوفمبر ١٩٤٤ … ولقد حدث هذا الاكتشاف المفاجئ في ليلة واحدة، وهي ظاهرة معتادة كثيرًا ما شهدتها في حياتي ويعرفها العديد من علماء الرياضيات … كانت ليلة ما في بداية نوفمبر ١٩٤٤ — لا أعرف أيها ولماذا — حينما اتقدت شعلة ما في ذهني: في سبيل إيجاد حلول معممة للمعادلات ذات المشتقات الجزئية، لا بد من تعميم الدوال! ووجدت على الفور طريقة التعميم؛ ألا وهي الطريقة التي سعى إليها بيانو دون جدوى عام ١٩١٢ … طالما أطلقت على تلك الليلة التي توصلت فيها إلى هذا الاكتشاف الليلة الرائعة، أو أجمل ليلة في حياتي. في شبابي، كنت أعاني من الأرق ساعات طويلة، لكني لم أتعاطَ قطُّ أيَّ أدوية منوِّمة. فكنت أبقى في فراشي والأنوار مطفأة لأقوم في الأغلب — بالطبع دون كتابة — بعمليات حسابية. كنت أشعر بأن طاقتي قد زادت عشرة أضعاف، وكنت أتقدم بسرعة دون أن ينتابني أي تعب، كنت حينها حرًّا تمامًا دون أي قيود تفرضها عليَّ الكتابة أو واقع الحياة اليومية. وبعد بضع ساعات، يبدأ الملل مع ذلك، لا سيما إذا اعترضتني بعناد صعوبة ما. عندها كنت أتوقف وأخلد إلى النوم حتى الصباح. وأستيقظ اليوم التالي متعبًا، لكني سعيد، وعادة يستغرق الأمر عدة أيام لترتيب الأفكار وتنظيمها. لكن هذه المرة، كنت شديد الثقة بنفسي وملأتني الحمية والحماس … أي اكتشاف — بالنسبة لأي نظرية — عادة ما يكون طريقًا متعرجًا، وغالبًا ما تكون النتيجة النهائية قريبة من نقطة البداية. فكلما توصلت إلى نتيجة جديدة أبدأ بالبحث عن أي الطرق كان أقرب إليها، بينما يكتفي البعض بالنتائج وينشرونها برحلة التوصل إليها كما هي بتعرجاتها، إنها مسألة طبع … تكون صورة الاكتشاف مختلفة بالطبع عن تلك التي يتصورها الجمهور؛ فهو يظن أننا نتقدم من البداية إلى النهاية وفقًا لتفكير جامد وخطِّي، وبترتيب شديد النظام والتحديد، يتماشى مع المنطق البحت؛ أي إن الجمهور لا يعرف التعرجات. يا للخسارة! هذا الأمر يجعل الرياضيات (بل وكل العلوم) جامدة قليلة الإنسانية، وأكثر صعوبة بما أنها لا تعطي الحق في التردد والخطأ.

في هذا النص، نرى كيف حدثت الاستنارة المفاجئة بينما كان العقل في حالة استرخاء، حرًّا في الشرود كما يشاء. ونلحظ فيها أيضًا تعرجات التفكير في سبيل بلوغ الحل، ثم حركة التبسيط اللازمة للخطوات مما يتيح عرض النتائج بأبسط الطرق. هكذا فقط يستطيع أي إثبات أن يبلغ روعته الحقيقية. فعلى سبيل المثال، الإثبات الأول لتسامي العدد (أساس اللوغاريتمات الطبيعية) بواسطة شارل إرميت (١٨٢٢–١٩٠١) تجاوز ثلاثًا وسبعين صفحة، لكننا نستطيع إثباته الآن في صفحتين. وهكذا أيضًا للعدد .

كان لوران شوارتز — بدءًا من عام ١٩٤٠ — أحد أبرز أعضاء المجموعة المعروفة ببورباكي. في حوالي عام ١٩٣٤، اعتاد بعض علماء الرياضيات الفرنسيين الشبان — الذين درسوا في المدرسة العليا ثم تفرقوا إلى جامعات مختلفة — الاجتماع في مقاهي الحي اللاتيني، وهم هنري كارتان (١٩٠٤) وكلود شوفالي (١٩٠٩–١٩٨٤) وجان ديلسارت (١٩٠٣–١٩٦٨) وجان ديودونيه (١٩٠٦–١٩٩٢) وأندريه ويل (١٩٠٦–١٩٩٨). كانوا يتناقشون فيما يتعلمون معتبرين إياه غير كافٍ. فكانوا على يقين بأن حركة إصلاح عميقة في الفكر الرياضي، أمر لا غنى عنه؛ إذ يجب منحه مزيدًا من التماسك والوحدة وتركيز جل الاهتمام على الأبنية التي تربط الأشياء الرياضية بدلًا من الأشياء نفسها. لم يكن الأمر يعني بالطبع عمل أبحاث جديدة، وإنما صياغة جديدة وترتيب مختلف في عمل تعليمي بحت. وفي العاشر من ديسمبر ١٩٣٤، تكونت المجموعة؛ مجموعة بورباكي.

وقرر الأصدقاء أن يعكفوا على هذه المهمة. ووُضعت قواعد صارمة للسير والعمل ووجب على الجميع اتباعها خوفًا من الطرد من المجموعة. يجب على أي عضو في المجموعة ألا يبحث عن الفائدة الشخصية، بل يجب أن يبقى انتماؤه للمجموعة سرًّا، على أن يكون الحد الأقصى لعمر العضو الراغب في الانضمام للمجموعة خمسين عامًا. كان على كل عضو مسئولية صياغة جزء من علم الرياضيات، وسيتم فحصه بعد ذلك — لكيلا نقول نقدها بضراوة — من قبل باقي المجموعة أثناء اجتماعاتهم التي تعقد ثلاث مرات سنويًّا فيما يشبه الفلكلور. كان أول أمر هو إيجاد اسم جماعي للمجموعة، واستقروا على بورباكي، الذي يُعرف وفقًا لأحاديث كانت تسري في المدرسة بكونه صاحب نظرية شهيرة. بالفعل، كان هناك شخص يدعى اللواء شارل بورباكي (١٨١٦–١٨٩٧)، وُلد في باو، وكان قائدًا للجيش الشرقي في عام ١٨٧١. ثم أصبح لاجئًا في سويسرا هربًا من السجن، لكنه لم يكن عالم رياضيات. لكن، وفقًا لرواية أخرى، كان هناك طالبًا يعمل في رسالته تحت إشراف أندريه ويل، وكان بحاجة إلى نتيجة ما، لم يستطع أن يجد لها أي إثبات، وكان ويل مقتنعًا بالنتيجة، لكنه لم يكن يرغب في تكبُّد مشقة البحث عن إثبات لها. فما كان من الطالب إلا أن استخدم تلك النتيجة — دون إثبات — متعللًا بأنها منسوبة إلى بورباكي من الأكاديمية الملكية ببولدافيا. وبعد ذلك، بعد إنشاء المجموعة، أصبح من الضروري إضفاء وجود حقيقي على شخصية بورباكي ليتمكنوا من نشر مذكرة بأكاديمية العلوم باسمه. وكان يجب أن يقدم المذكرة أحد أعضاء الأكاديمية. ووقع الاختيار على اسم نيكولا، كما يروي أندريه ويل في مذكراته:

لم يكن لدينا أدنى شك في أن إميل بيكارد، السكرتير الدائم للأكاديمية، قد يُصاب بسكتة دماغية إذا ما علم بالأمر. وكانت عليَّ مسئولية كتابة المذكرة وإرسالها إلى إيلي كارتان مصحوبة بخطاب يدعمها.

وكتب أندريه ويل السيرة الذاتية لنيكولا بورباكي، ذكر فيها أنه ينحدر من أسرة يرجع أصلها إلى جزيرة كريت. وفيما يلي، جزء منها:

بعدما أتم بنجاح دراسته الثانوية في بلاده، ذهب ليدرس في جامعة خاركوف، ثم حصل في عام ١٩٠٦ على منحة أتاحت له حضور محاضرات هنري بوانكاريه بباريس ود. هيلبرت بجوتنجن. وقد كان لهما عميق الأثر على تفكيره. وفي عام ١٩١٠، ناقش رسالته بجامعة خاركوف. وتظهر جلية في هذا العمل — الذي شهد إقبالًا ضعيفًا على النسخ التي دُمرت إبان الغزو الألماني عام ١٩٤١ — مبادئ التطورات المستقبلية في تفكيره.

في عام ١٩١٣، عُين بجامعة دوربا، وتزوج بعد عامين، وأنجب فتاة واحدة تدعى بيتي تزوجت عام ١٩٣٨ من أحد صائدي الأسود.

كان على الأكاديمية التأكد من جدية الأبحاث العلمية التي تلقتها، لكن ليس من التفاصيل المتعلقة بالسيرة الذاتية لأصحابها. وقد انتزع إيلي كارتان (١٨٦٩–١٩٥١) — عالم رياضي ووالد هنري كارتان أحد أعضاء المجموعة — الموافقة على نشر البحث من زملائه في الأكاديمية عند تقديم المشروبات أثناء تناولهم الغداء الذي يضم عددًا من الأكاديميين قبل إحدى الجلسات الأسبوعية.

وحوالي عام ١٩٤٨، تلقى هنري كارتان اتصالًا هاتفيًّا من زوجته تبلغه بأن شخصًا يدعى بورباكي يريد لقاءه. كان مستشارًا بسفارة اليونان ويدعى نيكولايدس بورباكي، سليل أسرة عريقة ترجع جذورها إلى شقيقين ذاع صيتهما في كريت في القرن السابع عشر أثناء مقاومتهما للأتراك. فأثناء عودته المتعجلة من مصر، كان يصاحب بونابرت مرشد يدعى سوتير بورباكي. وحينما أراد بونابرت مكافأته، أمر بتعليم ابنه في مدرسة برتاني الحربية للرماية. وأصبح هذا الابن ضابطًا فرنسيًّا، والجد الأكبر للواء بورباكي. شرح كارتان للرجل الذي ظل مندهشًا — خاصة أن أسرته لا تضم أي عالم رياضيات — كيف وُضع اسمه على رأس وثيقة مهمة كهذا البحث. ومنذ ذلك الحين ولعدة سنوات، ظل نيكولايدس بورباكي يحضر الولائم التي تلي اجتماعات المجموعة.

عُقد أول مؤتمر لمجموعة بورباكي في بيسان شانديز بمقاطعة أوفرني عام ١٩٣٥، وساد هناك جو من العمل المكثف، وإن لم يختف الخيال الجامح. وقع اختيارهم على عنوان لمؤلفهم: «مبادئ الرياضيات». وتولى ديودونيه الجانب الأكبر من الصياغة النهائية للفصول الأولى.

وفي عام ١٩٤٠، انضم إلى المجموعة الأولى زولم ماندلبروجت (١٨٩٩–١٩٨٣)، ثم لوران شوارتز (١٩١٥–٢٠٠٢) وجان بيير سيير (المولود عام ١٩٢٦). وبعد فترة، أصبحت المجموعة تضم بين أعضائها رينيه دي بوسل (١٩٠٥–١٩٧٤) وشارل أهريسمان (١٩٠٥–١٩٧٩) وبيير كارتييه (المولود عام ١٩٣٢) وبيير صامويل (المولود عام ١٩٢١) وألكسندر جورتنديك (المولود عام ١٩٢٨) وروجيه جودمين (المولود عام ١٩٢١)، وآخرين. سيكون من المستحيل ذكرهم جميعًا، فأرجو أن يلتمسوا لي العذر.

شهد عام ١٩٣٩ صدور الجزء الأول من «مبادئ الرياضيات»، واستمرت المغامرة حتى الجزء الأخير الذي صدر عام ١٩٩٨. وبلغ حجم المؤلفات أكثر من سبعة آلاف صفحة. لقد غيرت مجموعة بورباكي وجه الرياضيات في العالم أجمع. إلا أنه ينبغي الاعتراف بأن هناك بضعة أجزاء من الرياضيات لم تتطرق إليها المجموعة بطريقتها الشكلية، مما دفع بعض كبار الرياضيين إلى استكمال أعمالهم بعيدًا عن هذا التيار.

وهكذا، في سبيل إبراز روح العمل داخل المجموعة، نعرض هجاء مصاغًا على وزن قصيدة لستيفان مالارميه (١٨٤٢–١٨٩٨) تدعى العذراء والمتألق واليوم البديع … كتبه بلا شك بيير صامويل عام ١٩٤٥. لنقُلْ إن أحد أكثر الأشياء المكروهة لدى مجموعة بورباكي كان كتاب التحليل الرياضي لإدوارد جورسا (١٨٥٨–١٩٣٦) المستخدم في ذلك الحين بتوسع؛ حيث كان يمثل لهم صورة الرياضيات القديمة. أما جورج فاليرون (١٨٨٤–١٩٥٥)، فهو صاحب كتاب آخر شهير للتحليل، أما المرشح، فهو مفهوم رياضي أدخله هنري كارتان.

المرشح

يا أيها القوي، يا أيها القاسي، أنت يا بورباكي الواضح،
أَسَتُمزقنا في إحدى نوبات أزمتك
أنا جورسا مفتول العضلات، مرآة التحليل،
المدافع عن ماضٍ فر منذ زمن؟

•••

المتوالية القديمة كانت تظن أنها إلى ما لا نهاية،
لم يعد لها فائدة، لكن دون أن يفهمها، يستخدمها
الطالب الأحمق، الذي يثني عليه فاليرون
في محاضرته المخيفة التي تقطر مللًا.

•••

جاهلًا بأسرار الهندسة اللاكمية
ذات المكانة المهانة، وأنت يا من تدرسها
تسبح في الخطأ حيث تستعير لغته.

•••

يحدق مدهوشًا كالثمل من شراب المحبة
الالتحام، كمعطف لم يفهمه قط،
لكن يرتديه فوق شيء جامد، المرشح.

(١-١٤) البرمجة الخطية

تطورت البرمجة الخطية وبدأ استخدامها عام ١٩٤٧ على يد جورج برنارد دانتزيج (٨ نوفمبر ١٩١٤ بورتلاند، أوريجون، الولايات المتحدة الأمريكية، ١٣ مايو ٢٠٠٥ بالو ألتو، كاليفورنيا، الولايات المتحدة الأمريكية) ومارشال كيه وود، وزملائهم بوزارة الطيران بالولايات المتحدة الأمريكية.

ويدرس هذا الفرع من الرياضيات الحل الأمثل لبعض مشاكل الاستمثال المشروط. فنحاول — على سبيل المثال — الوصول إلى التقسيم الأمثل للأسطول وللطاقم داخل شركة طيران بهدف تقليل الوقت المستغرق في إعداد الأجهزة، سعيًا إلى زيادة أرباح الشركة نظرًا للقيود المتعلقة بالعاملين ووقت العمل والموارد المالية والمادية.

وروى دانتزيج كيف توصل إلى اكتشاف طريقة المجموع التي أتاحت له بلوغ حل مثل هذه المشكلات للبرمجة الخطية. كان دانتزيج ذاهبًا للقاء جون فون نيومان (١٩٠٣–١٩٥٧)، الذي يعد أحد أكبر علماء الرياضيات في عصره؛ نظرًا لإسهاماته القيمة في مجال ميكانيكا الكم وفي نظرية الألعاب، بالطبع إلى جانب تلك المتعلقة بمجال الهندسة المعمارية وبرمجة الحاسوب. وعرض عليه دانتزيج ماهية البرمجة الخطية، وعلى الفور، هرع نيومان إلى السبورة ووضع عليها النظرية الرياضية الكاملة. وأمام دهشة دانتزيج، شرح له كيف أنه انتهى حديثًا مع أوسكار مورجنسترن (١٩٠٢–١٩٧٦) من تأليف كتاب حول نظرية الألعاب (نظرية الألعاب والسلوك الاقتصادي، جامعة برنستون، برنستون، ١٩٤٤)، وكيف أدرك فور سماعه أن المشكلتين متماثلتان. فلم تكن النظرية التي كتبها على السبورة سوى نقل لعمله هو لكن بلغة دانتزيج. لكن بالطبع الجميع ليسوا جون فون نيومان!

جاءت أولى تطبيقات البرمجة الخطية في المجال العسكري، لكن سرعان ما تحولت إلى الصناعة. وفي أيامنا هذه، تستخدم البرمجة الخطية في حل مشاكل تخصيص الموارد المحدودة بغية بلوغ الأهداف المنشودة. ولكي نبرز أهمية هذا المجال، نذكر أن جائزة نوبل للاقتصاد مُنحت عام ١٩٧٥ للروسي ليونيد فيتاليفيتش كانتوروفيتش (١٩١٢–١٩٨٦) والأمريكي تجالينج تشارلز كوبمانز (١٩١٠–١٩٨٥) لإسهاماتهما في نظرية التخصيص الأمثل للموارد. ولقد أثبت كانتوروفيتش كيف يمكن استخدام البرمجة الخطية لتحسين التخطيط الاقتصادي بالاتحاد السوفييتي. كما طور كوبمانز نظريته للبرمجة الخطية عن طريق التخطيط الأمثل لحركة السفن في المحيط الأطلنطي أثناء الحرب العالمية الثانية.

تزامن ظهور مصطلح «البرمجة الخطية» مع طريقة المجموع. وقد استخدم المهتمون بمشاكل الاستمثال في الفترة من ١٩٤٥–١٩٥٥ مصطلح «البرمجة» مصحوبًا بعدة صفات: المحدبة، الديناميكية، الخطية، … أي إنه أصبح مرادفًا للاستمثال، حتى سُميت دراسة المشكلات العامة للاستمثال بالبرمجة الرياضية. ليس باستطاعتنا الحديث عن البرمجة دون إلحاقها بصفة ما؛ نظرًا لظهور حركة البرمجة في الحاسب الآلي في ذات الوقت. واليوم، نستخدم المصطلحين بالمعنيين، ويسمح السياق بالتمييز بينهما بسهولة.

تظهر البرمجة الخطية بكثرة في مسائل التخطيط، وتستخدم بصورة موسعة في القطاعات الاقتصادية، مما يبرز أهميتها.

(١-١٥) لوغاريتم متجهات الميل المتلازمة

على الرغم من أن القصة التالية لا تحكي بصورة دقيقة كيف تم اختراع لوغاريتم متجهات الميل المتلازمة، أعتقد أنه من الممتع أن أرويها لكونها تظهر جيدًا مشوار الفكرة ونموها بالتلاقي عند عدة أشخاص. ليس من الضروري فهم بعض التفاصيل الرياضية التالية لإدراك أهمية القصة.

لوغاريتم متجهات الميل المتلازمة هو طريقة رياضية معروفة لدى القائمين على التحليل ورياضيات الحدود المثالية، ويعد وسيلة مهمة لحل أنظمة المعادلات الخطية أو لإيجاد أقل تقدير لمعادلة لها أكثر من متغير.

في مقدمة كتابه «طرق متجهات الميل المتلازمة في رياضيات الحدود المثالية» (سبرينجر-فيرلاج، هايدلبرج، ١٩٨٠) يروي مانيوس رودولف هيستنز (١٩٠٦–١٩٩١)، أحد مخترعي هذا اللوغاريتم، قصته:

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بفترة قليلة، حدث تطور للآلات الحسابية الرقمية السريعة (الحاسب الآلي). وأصبح من الجلي أن الجوانب الرياضية للحساب يجب أن تخضع لإعادة فحص في سبيل الوصول إلى الاستخدام الأمثل للحواسيب الآلية في مجال الحسابات العلمية. وهكذا، أُنشئ معهد للتحليل الرقمي بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس تحت قيادة مينا رييس وجون كورتيس وغيرهما وتحت إشراف المكتب الوطني للمعايير. وافتُتح أيضًا معهد شبيه بالمكتب الوطني للمعايير بالعاصمة واشنطن. في عام ١٩٤٩، أصبح باركلي روسر مديرًا لمجموعة البحث بجامة كاليفورنيا لمدة عامين، عقدنا خلالهما حلقة دراسية حول طرق حل المعادلات الخطية المتزامنة وحول تحديد القيم الذاتية، شارك فيها جي فورسيت، ودبليو كاروش، وسي لانزوس، وتي موتزكينو، وإل جي بيج، وغيرهم. واكتشفنا — على سبيل المثال — أن حذف جاوس لم يكن مفهومًا تمامًا للآلة، وأنه لم يكن هناك أي لوغاريتم متطور للحذف يمكن أن تتقبله الآلة. كان هذا في الوقت الذي عكف فيه لانزوس على دراسة علاقة اللوغاريتم ثلاثي الحدود، وحالفني الحظ باقتراح طريقة متجهات الميل المتلازمة. اكتشفنا بعد ذلك أن الأفكار الأساسية التي تقوم عليها الطريقتان واحدة من حيث الأساس. لم يكن مبدأ التلازم جديدًا لي. ففي مقال مشترك لي مع جي دي بريخوف عام ١٩٣٦، طرحنا التلازم كوسيلة أساسية لدراسة شروط برهنة تباين المحيطات الطبيعية في نظرية المتغيرات. إبان ذلك، كنت أعمل على تطوير عملية جرام شميدت المترافقة لإيجاد الأقطار المتلازمة بالتبادل لقطع ناقص، لكني لم أتحمس لنشره؛ نظرًا لقلة أو انعدام الإقبال على هذه الطريقة. كما عملت على تطوير نظرية عامة للأجسام الرباعية في فضاء هلبرت، تقوم بصورة كبيرة على مبدأ الترافق. وهو ما قادني إلى طريقة متجهات الميل المتلازمة. في نفس الوقت، وبصورة مستقلة، كان إدوارد ستيفيل يعمل هو أيضًا على تطوير طريقة متجهات الميل المتلازمة. من أجل هذا، قمنا بدعوته لينضم إلى مجموعة بحث جامعة كاليفورنيا، وأثناء زيارته، عكفت أنا وهو على كتابة مقالنا المشترك حول طريقة التلازم وطريقة متجهات الميل المتلازم بصورة عامة بما فيها عملية جرام شميدت المتلازمة. وفي المقالات التالية، عكفنا على تطوير الطرق العامة لمتجهات الميل المتلازمة التي أصبحت قاعدة لتطبيقات لاحقة. وحتى إن لم نذكر هذا علانية في مقالنا، فإني أعتبر نظرية متجهات الميل المتلازمة، التي كنت مسئولًا عن تسميتها، تقنية لدراسة الحدود المثالية ولتقليل المعادلات ذات الصيغ التربيعية.

كان هيستنز يعمل حينها بمعهد التحليل الرقمي بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس. في يوليو ١٩٥١، توصل إلى لوغاريتم متجهات الميل المتلازمة. في أغسطس، وصل إدوارد ستيفيل (١٩٠٩–١٩٧٨) إلى زيورخ ليشارك في مؤتمر، وهناك أعطاه أمين المكتبة مؤلف هيستنز. وعلى الفور، توجه ستيفيل لملاقاة هيستنز في مكتبه، وقال له: «إنه مشروعي!» كانا الاثنان قد توصلا بالفعل إلى نفس اللوغاريتم، ولكن انطلاقًا من نقطتين مختلفتين. وقررا تأليف مقال مشترك حول هذا اللوغاريتم وخصائصه. وسرعان ما اكتشف كورنيلوس لانكزوس (١٨٩٣–١٩٧٤) — الذي كان عضوًا بالمعهد — أن لوغاريتم متجهات الميل المتلازمة يمكن إثباته عبر طريقة ثنائية التعامد biorthogonalisation، وهي التي كان قد انتهى للتوِّ من تعديلها لحساب القيم الخاصة لمصفوفة وحل أنظمة المعادلات الخطية. إن أفكار لانكزوس وهيستنز وستيفيل كانت هي الأساس للوغاريتمات التي ظلت إلى الآن. في ذلك الوقت، كانوا يحلون أنظمة بها عشر معادلات بعشرة مجاهيل، في حين أن اليوم قد تصل بعض هذه الأنظمة إلى عدة ملايين!

فضلت — عند الحديث عن متجهات الميل المتلازمة — استخدام لفظ «لوغاريتم» الذي يعني مجموعة من القواعد التي تسمح بالقيام ببعض الحسابات، أفضل من لفظ «طريقة» التي تتناسب أكثر مع أي عمل ذي طبيعة نظرية — مثل عمل لانكزوس — ولا يستخدم مباشرة للتعامل مع الحسابات الرقمية. يأتي لفظ لوغاريتم من اسم عالم الرياضيات العربي محمد بن موسى جعفر الخوارزمي (حوالي ٧٥٠–٨٥٠) صاحب الكتاب الذي يبدأ عنوانه باللاتينية بلفظ لوغاريتم.

(١-١٦) التخمينات (الحدس)

في الرياضيات، نطلق اسم الحدس على أي نتيجة نعتقد — لأسباب جادة — في صحتها، دون القدرة على إثباتها. وإذا توصلنا إلى إثبات حدس ما يُطلق عليه مبرهنة. وهذا هو بالضبط ما حدث مؤخرًا مع الحدس المُسمى مبرهنة فيرما الأخيرة، التي تؤكد أنه إذا كانت أكبر من 2، فلا يوجد إذن أرقام صحيحة و و مثل (إذا كانت ، فإن الأرقام 3 و4 و5 تحل المسألة). ولقد ظل هذا الحدس عقبة أمام جهود علماء الرياضيات مدة ثلاثمائة وخمسين عامًا. وتمكن من إثباتها في عام ١٩٩٤ أندرو وايلز (١٩٥٣)، بمساعدة طالبه القديم ريتشارد تايلور قرب النهاية. وعلى الرغم من أن صياغة هذه المسألة غاية في السهولة وفي متناول فهم الجميع، فإن الإثبات — شديد الطول والتعقيد — يحتاج إلى رياضيات لا يفهمها سوى قلة من الباحثين.
ولنعطِ مثالًا آخر للحدس؛ حيث لدينا:
نُلاحظ نوعًا من التشابه بين هذه العلاقات الثلاث: فعشرة وعشرون وثلاثون أرقام زوجية، بينما ثلاثة وسبعة وثلاثة عشر وسبعة عشر أرقام أولية؛ أي تقبل القسمة على الواحد وعلى نفسها. إذن، فنحن أمام ثلاثة أرقام زوجية يمكن تمثيلها كمجموع لرقمين أوليين. ومن ثم، نستنتج الحدس بأن هذه الخاصية سارية لكل الأرقام الزوجية: أي رقم زوجي يمكن تفكيكه إلى مجموع رقمين أوليين. ويمكننا إجراء للتحقق ما إذا كان هذا الحدث يمتلك فرصًا في أن يصبح حقيقة. وفي الواقع، يكون من اللامعقول محاولة إثبات أمر إذا ظهر مثال يناقض الحدس، فمن السهل ملاحظة أن:
وهكذا. فهذه الطريقة تجريبية، وتُظهر أن الحدس صحيح. لكن، إذا كنا لا نعتبر الرقم 1 رقمًا أوليًّا، لكن نعتبره وحدة، فيكون لدينا و . فيكون علينا إذن تعديل الحدس الأولي لنضيف إليه الفرضية التالية: أن الرقم الزوجي الذي نبغي تفكيكه إلى مجموع رقمين أوليين (مع استبعاد الرقم 1) يجب أن يكون أكبر من 4. ولقد ورد هذا الحدس في خطاب أرسله كريستيان جولدباخ (١٦٩٠–١٧٦٤) في السابع من يونيو ١٧٤٢ إلى ليونارد أولر (١٧٠٧–١٧٨٣). ومنذ ذلك التاريخ، ظل إثبات هذا الحدس أمرًا يستعصي على جهود علماء الرياضيات.

بيان الدالة هو مجموعة نقاط يصل بينها أسهم. وبعض النقاط يمكن أن يصل بينها أسهم في كل اتجاه، فالنقاط قد تمثل — على سبيل المثال — مفترقات الطرق في مدينة والأسهم هي الشوارع. وعندما يربط سهم واحد بين نقطتين، يعني هذا بالطبع أن الشارع يسير في اتجاه واحد. وتكون المشكلة إذن هي معرفة ما إذا كان بمقدورنا — في هذه المدينة — الذهاب من كل نقطة إلى نقطة أخرى. لكن، ليس هذا سوى مثال بسيط — لكيلا نقول مُبسط — لبيان الدوال ولفائدتها. ولقد صاغ العالم الرياضي كلود بيرج (١٩٢٦–٢٠٠٢) في عام ١٩٦٠ حدسًا شهيرًا حول بيان الدوال، لكنه كان شديد الصعوبة لعرضه هنا. ولقد قادته إليه نظرية الألعاب والمعلومات. ويستخدم في إنشاء الدوائر المتكاملة. في عام ١٩٩٨، قرر فريق من الباحثين بجامعة برنستون تحت إشراف بول سيمور العكوف على دراسة هذا الحدس. وخصص لهم مبلغًا ضخمًا، حتى استطاع سيمور في الثالث والعشرين من مايو ٢٠٠٢ إعلان صحة الحدس، ولم يعد يبقى سوى الكتابة التفصيلية للإثبات الذي ناهز المائتي صفحة! بينما توفي كلود بيرج في يوليو ٢٠٠٢.

وهناك حدس رياضي آخر شهير، ألا وهو المتعلق بدالة لريمان. ولقد صاغه برنارد ريمان (١٨٢٦–١٨٦٦) في عام ١٨٥٩ ويؤكد فيه أن كل الأصفار غير المهملة في هذه الدالة أرقام مركبة ولها جزء حقيقي يساوي 1/2. وتقترن هذه الدالة بعدد الأرقام الأولية الأصغر من قيمة معينة. في عام ١٩١٥، قام الرياضي الإنجليزي جودفري هارولد هاردي (١٨٧٧–١٩٤٧) بإثبات وجود عدد لا نهائي من الأصفار في الدالة مما يؤكد صحة الحدس. وفي الوقت الحالي، تمكنا — على الحاسب الآلي بالطبع — من إحصاء مليار ونصف المليار من هذه الأصفار. وما زلنا في انتظار إثبات هذا الحدس.

(٢) الفيزياء

(٢-١) أخطاء كِبلر

كان يوهانز كِبلر (١٥٧١–١٦٣٠) يبلغ من العمر أربعة وعشرين عامًا، وكان يعيش منذ عام في مدينة جراتز؛ حيث كان هو عالم الرياضيات الرسمي لإقليم شتايرمارك. أثناء دراسته بتوبنجين، حدثه أستاذه مايكل مايستلين (١٥٥٠–١٦٣١) عن نيكولاس كوبرنيكوس (١٤٧٣–١٥٤٣) وعن نظامه. ومنذ ذلك الحين، وكِبلر الشاب يتساءل لماذا يوجد ستة كواكب فقط (وهو أمر خاطئ) وبدأ يسعى لسبر أغوار المسافات التي تبعدها عن الشمس وسرعاتها.

في التاسع من يوليو ١٥٩٥، أضاء ذهنه فجأة أثناء رسمه على لوحة مثلثًا متساوي الأضلاع مصحوبًا بدائرتين الدائرة المحيطة والمحاطة. ولاحظ فجأة أن مقياسهم مساوٍ لمدارات كوكبي زحل والمشتري؛ أبعد كوكبين عن الشمس. إلى جانب أنه وجد — على حد قوله — «أن المثلث هو أول شكل هندسي، ثم حاولت أن أرسم مربعًا في المسافة بين المشتري والمريخ، وشكلًا خماسيًّا بين المريخ والأرض، وسداسيًّا بين الأرض والزهرة …»

لم يسر الأمر على ما يرام، لكنه شعر بأنه يقترب من الحقيقة. «قررت المضي قدمًا، لماذا أريد من أشكال ذات بعدين أن تتناسق مع مدارات في الفلك؟ لا بد إذن من إيجاد أشكال ثلاثية الأبعاد. والآن — أيها القارئ العزيز — أنت تمسك بين يديك اكتشافي.»

في حين أنه على الخريطة، يمكننا رسم أي عدد من الأشكال متعددة الأضلاع، لا يمكننا في الفضاء سوى رسم خمسة فقط من الأشكال ثلاثية الأبعاد: الهرم، المكعب، ثماني الأوجه، الشكل ذي العشرة أوجه، وذي الاثني عشر وجهًا. ويمكن لهذه الأشكال الخمسة أن تحيط أو تُحاط بستة أشكال دائرية؛ مما يفسر عدد الكواكب. ولم يعد يتبقى سوى إيجاد الترتيب الذي تُنظم وفقه الأشكال لإدراك المسافات المختلفة عن الشمس:

لم أكن أرى بعدُ بوضوح النظام الذي يجب أن أرتب وفقه الأشكال الكاملة، إلا أنني نجحت … في ترتيبها لحسن الحظ، لدرجة أنه، بعد فترة وأثناء تحققي من أوضاعها، لم أُضطر لتعديل أي شيء. لم أندم على الوقت الضائع، ولم ينتَبْني الكلل من عملي، ولم أتراجع أمام أي حسابات مهما بلغت صعوبتها. كنت أقوم — ليل نهار — بحسابات للتأكد من تناسب الصيغ التي وضعتها مع صيغ كوبرنيكوس، وإلا ذهبت فرحتي أدراج الرياح … وخلال عدة أيام، أصبح كل شيء في موضعه، ورأيت الأشكال المتماثلة تدخل الواحد تلو الآخر بدقة بين المدارات المناسبة … لدرجة أنه إذا سأل فلاح في أي شيء عُلقت السموات لكيلا تقع، لكان من السهل إجابته.

فسر كِبلر العالم … لكن تفسيره كان خاطئًا.

في عام ١٦٠٠، طلب منه تيكو براهي (١٥٤٦–١٦٠١) أن يأتي لزيارته في براغ؛ حيث كان هو عالم الفلك الخاص بالإمبراطور رودولف الثاني (١٥٧٦–١٦١٢). كان تيكو عاكفًا على دراسة مدار كوكب المريخ. وبعد وفاته — بعد عام — خلفه كِبلر، وترك ورثة تيكو في حوزته مخطوطاته وملاحظاته. كانت المشكلة الأولى التي واجهته هي أن المراقب غير ثابت بالنسبة للمريخ. وهكذا، بدأ كِبلر بتحسين معارفه حول مدار الأرض. كان لا بد من إيجاد علامة ثابتة. ولهذا الغرض، اختبر كِبلر ملاحظات أجراها على مدار ستمائة وسبعة وثمانين يومًا، هي مدة دوران المريخ. وتمكن هكذا من تحديد أن مدار الأرض يمكن تمثيله بدائرة تبتعد الشمس قليلًا عن مركزها. ونرى كيف أن كِبلر ظل مرتبطًا بشكل أو بآخر بأفكار عصره، حبيسًا للأفكار المسبقة التي تؤكد دائرية كل المدارات الكوكبية.

بعد أن قام بتحديد مدار الأرض، انتقل كِبلر إلى المريخ. وكانت فرضيته الأولى خاطئة تمامًا: إذ افترض أن حركة الكواكب ناتجة عن قوة تولدها حركة دوران الشمس حول نفسها، مشابهة للقوى المغناطيسية، وأن هذه القوة تُمارس بالتماس مع المسار، ومن ثم فهي تتناسب عكسيًّا مع المسافة. واستنتج من ذلك أن السرعة تتناسب هي أيضًا مع المسافة. أثبت نيوتن بعد ذلك خطأ هذا المفهوم، على الرغم من أن الخطأ الذي أدت إليه كان عديم القيمة عند طرفي محور المسار. وبما أن قياسات كِبلر كانت متعلقة فقط بهذه النقاط، فلم يتمكن من ملاحظتها. وفقًا لنظرية كِبلر، يكون الزمن الذي يستغرقه الكوكب للسير بطول أي منحنًى مبدئي متناسبًا مع طول هذا المنحنى والمسافة بين الشمس والكوكب. وبقسمة المنحنى على منحنيات أخرى أصغر ذات نفس الطول، نتأكد من أن الزمن يكون متناسبًا مع مجموع الأشعة الناقلة للمنحنيات الصغيرة. وللقيام بالحسابات الدقيقة، كان من الطبيعي إيجاد نوع من التكامل، لكن رياضيات التكامل لم تكن اختُرعت بعد! وأمام هذه المشكلة، استعاض كِبلر — عن عمد — عن قيمة الأشعة الناقلة بمحيط قطاع من الكوكب. وهكذا، وقع في خطأين متتاليين، مما قاده إلى وضع النظرية القائلة إن السهم الواصل بين الشمس وأي كوكب يصف محيطات متساوية في أزمنة متساوية.

استغرق الأمر سبع سنوات من العمل ليترك فكرة دائرية المسار، ويختار بدلًا منها المسار البيضاوي. وكتب في مؤلفه «علم الفلك الجديد»، الصادر عام ١٦٠٩:

كان أول خطأ وقعت فيه هو الاعتراف بأن مسار الكواكب دائرة كاملة. ولقد كلَّفني هذا الأمر كثيرًا من الوقت، ولا سيما أنه كان مدعومًا بآراء جميع الفلاسفة ومقبولًا تمامًا من الناحية الميتافيزيقية.

احتلت حسابات كِبلر آلاف الصفحات، محفوظة الآن بمكتبة مرصد بلكوفا بالقرب من سان بطرسبرج. وفي كتابه، يدعو كِبلر القارئ إلى لوم المؤلف الذي اضطر إلى إعادة خمس عشرة ورقة نصفية من الحسابات التالية سبعين مرة. واستكمل كِبلر جهوده سنوات خصصها لدراسة كواكب أخرى، حتى صاغ قانونه الثالث.

(٢-٢) علم التبلور

لوحظت الأشكال المنتظمة لبعض المعادن — مثل بلورات الصخور — منذ أقدم العصور. لكن لم يعط أحد اهتمامًا خاصًّا لأوجهها المصقولة ولا زواياها الحادة. فلم تكن سوى إبداعات رائعة للطبيعة.

ظن اليونانيون أن بلورات الصخور هي ثلوج تحجرت للغاية نتيجة بقائها الطويل في الجبال! في عام ١٥٩٧، تمكَّن الكيميائي (والخيميائي) الألماني أندرياس ليبو (١٥٥٠–١٦١٦) من التعرف على الأملاح المستخرجة من المياه المعدنية بناءً على شكل بلوراتها. ولقد تطرَّق عالِما الفلك يوهانز كِبلر (١٥٧١–١٦٣٠) وروبرت هوك (١٦٣٥–١٧٠٣) لفكرة البنية البلورية، لكن دون التعمق فيها أو تفسيرها.

في عام ١٦٦٩، لاحظ الدنماركي إرازموس بارتولين (١٦٢٥–١٦٩٨) أن المعادن المتبلورة في أيسلندا تتسبب في انكسار مضاعف لأي حزمة ضوئية. كما أدرك مواطنه نيكولا ستينون (١٦٣٨–١٦٨٦) ثبات شكل الزوايا المكونة لأوجه الكوارتز من عينة إلى أخرى. وفي عام ١٦٨٨، تحقق دومينيكو جوليلميني (١٦٥٥–١٧١٠) من وجود هذه الخاصية في معادن أخرى.

اكتشف كريستيان هيجينز (١٦٢٩–١٦٩٥) عام ١٦٩٠ أن المعادن تستقطب الضوء. وفي عام ١٧٧٢، نشر عالم المعادن الفرنسي جان باتيست روميه دوليل (١٧٣٦–١٧٩٠) أول بحث مخصص لدراسة المعادن، بحث في علم التبلور أو وصف الأشكال الهندسية الخاصة بالأجسام المختلفة من مملكة المعادن.

كان الراهب رينيه جست هوي (١٧٤٣–١٨٢٢) معلمًا بسيطًا بمدرسة لوموان، وكانت تسليته هي جمع النباتات والمعادن.

ذات يوم — أثناء زيارته لصديق — تعثر في تكوين جميل من المعادن المتبلورة منشورة الشكل، وانكسر منشور منها مما جعل أوجه الكسر جميعها مصقولة ببراعة. وكانت القطعة الجديدة ذات شكل يختلف تمامًا عن المنشور. فحص هوي الأوجه والانحناءات والزوايا، ووجد أن لها بالضبط نفس شكل المعادن المتبلورة معينة الشكل في أيسلندا. ثم أعاد التجربة — بقصد هذه المرة — على المعادن التي جمعها والتي أهداها له أصدقاؤه. ووجد في جميع القطع بنية واحدة تقوم على ذات القوانين. فالشكل الخارجي ليس سوى انعكاس لترتيب منتظم ودوري للمادة؛ أي إنه أرسى أسس مبدأ التماثل البلوري.

وكانت النتيجة بحثًا في علم المعادن جعل منه أكاديميًّا ورائدًا في علوم التبلور.

(٢-٣) الكهرباء الحيوانية

سنعطي الآن مثالًا لاكتشاف تم بالصدفة تبعه تفسير خاطئ لنتيجته؛ ألا وهو الاكتشاف الذي توصل إليه لويجي جالفاني (١٧٣٧–١٧٩٨).

في مساء ذات يوم عام ١٧٨٠، قام جالفاني بتثبيت أعضاء الجزء السفلي لضفدعة كانت لا تزال محتفظة بأعصاب الفخذ على لوح وضعت عليه ماكينة كهربائية بمعمله بجامعة بولونيا. وأثناء تقريبه المبضع من أحد الأعصاب، انقبضت عضلات الضفدعة بعنف، عندها أطلقت الماكينة الكهربائية شرارة. وكان لدى جالفاني التفسير لهذه الظاهرة الغريبة: تكهربت الضفدعة بالتأثير، وعندما نزعنا الكهرباء عن الموصل مُحدثين شرارة، انتقلت هذه الشرارة إلى جسم الضفدعة مما تسبب في هذه الانقباضات.

استمر في أبحاثه حول تأثير الكهرباء مدة ستة أعوام في سبيل ملاحظة طريقة حدوث الانقباضات. وفي العشرين من سبتمبر عام ١٧٨٦، أراد دراسة أثر الكهرباء الجوية على الانقباضات العضلية للضفدعة، فقام بتمرير ملقط نحاسي في النخاع الشوكي للضفدعة، وثبتها على الحاجز الحديدي لشرفة منزله. لم يحدث شيء. نحو المساء، أصابه الإحباط، وحاول حك الملقط بالحاجز ظنًّا منه أن الاتصال ضعيف. حينها حدثت الانقباضات، وكانت تتكرر كلما لامس الملقط الحاجز الحديدي. لكن كما أظهرت الأجهزة، لم تكن هناك كهرباء في الهواء في ذلك الوقت. فالانقباضات كانت إذن مستقلة عن أي أسباب خارجية، ومن ثم اعتقد جالفاني — كما افترض منذ ستة أعوام — في وجود كهرباء حيوانية. وأعاد التجربة في معمله، فوضع الضفدعة المجهزة بنفس الطريقة على لوح حديدي ومرر ملقطًا نحاسيًّا عبر العضلات القطنية والنخاع الشوكي. وكلما تلامس النحاس مع الحديد، حدثت انقباضات. ثم حاول تغيير التجربة، فأخذ قوسًا مركبًا مكونًا من الحديد والنحاس. وظلت النتيجة كما هي. واستخلص جالفاني أن عضلة الضفدعة تشبه قارورة ليدن عضوية؛ أي إنها عامل مُكثِّف، وأن الأعصاب تلعب دور الأسلاك الكهربائية. تسير الكهرباء بين العضلة والعصب حينما نضعهما في اتصال عن طريق موصل كهربائي. إذن كانت هناك بالفعل كهرباء خاصة بالحيوان، واقتنع معاصروه بهذه النظرية.

لكن هذا التفسير كان خاطئًا. وجاء دحض هذه النظرية على يد مواطنه الإيطالي أليساندرو فولتا (١٧٤٥–١٨٢٧). على عكس جالفاني، ظن فولتا أن الكهرباء تأتي من التقاء معدنين مختلفين. هذا الالتقاء هو ما يسبب الكهرباء التي تسري بعد ذلك في جسم الحيوان. وإذا كان المعدنان متماثلين، تكون الانقباضات ضعيفة، فعلى حد قوله: «إن اختلاف طبيعة المواد المكونة للعضلات والأعصاب المولدة للكهرباء هي السبب في الانقباضات.»

استمر خلاف جالفاني وفولتا ستة أعوام، وانقسم العلماء إلى فريقين: الجلفانيين والفولتيين. لكن في عام ١٧٩٩، أجرى فولتا التجربة الحاسمة التي فصلت بين المعسكرين. فقد لاحظ أنه إذا فصلنا بملاءة مبللة لوحًا من الزنك ولوحًا من الفضة، ثم قمنا بتوصيل اللوحين بسلك، يحدث تيار كهربائي ضعيف. وللحصول على تيار أقوى، يكفي تجميع عدد أكبر من مجموعات الألواح والأسلاك. وهكذا، لم يثبت فقط عدم وجود ما يُسمى بالكهرباء الحيوانية، وإنما اخترع البطارية الكهربائية.

(٢-٤) الكهرباء والمغناطيسية

أثناء شتاء عام ١٨١٩، أثبت هانز كريستيان أورستيد (١٧٧٧–١٨٥١) — أستاذ الفيزياء بجامعة كوبنهاجن — لطلابه القدرة الحرارية للعمود الكهربائي عن طريق الإمساك بسلك معدني متوهج. وكانت طاولته مزدحمة بالعديد من الأجهزة ومغناطيس وبوصلة. ولفت الطلاب — الذين ينشغلون دائمًا بشيء آخر غير الذي يُشرح لهم — نظر أورستيد إلى ظاهرة مثيرة: كلما تولد تيار كهربائي، انحرف مؤشر البوصلة.
ظهر بحث أورستيد في الحادي والعشرين من يوليو ١٨٢٠، لكنه لم يُعرف في فرنسا إلا بعد بضعة شهور. كان فرانسوا أراجو (١٧٨٦–١٨٥٣) قد حضر في جينيف إعادة تمثيل لهذه التجربة على يد جاسبارد دو لاريف (١٧٧٠–١٨٣٤). وأعادها أمام أكاديمية العلوم بباريس في الحادي عشر من سبتمبر عام ١٨٢٠. وبعد أسبوع، أصدر أندريه ماري أمبير (١٧٧٥–١٨٣٦) نظريته القائلة إن الكهرباء المتحركة تنتج المغناطيسية:

قمت بتلخيص الظواهر التي لاحظها أورستيد إلى حقيقتين عامتين. وبينت أن التيار الموجود في العمود الكهربائي يؤثر على المؤشر الممغنط مثل تيار السلك الموصل … ودخلت بعد ذلك في عدة تفاصيل حول طريقة رؤيتي للمغناطيس، خاصة خواصه تحت تأثير التيارات الكهربائية على مستويات عمودية على محوره، وأيضًا حول التيارات المشابهة الموجودة في الكرة الأرضية، بحيث قلصت جميع الظواهر المغناطيسية إلى تأثيرات كهربائية خالصة.

وفي الخامس والعشرين من سبتمبر، خاطب الأكاديمية من جديد:

أدخلت مزيدًا من التطورات على هذه النظرية، وأُعلنُ الآن الحقيقة الجديدة حول التجاذب والتنافر بين تيارين كهربيين، دون تدخل أي مغناطيس، وهي ظاهرة لاحظتها في موصلات لولبية الشكل والانحناءات.

وفي الثاني من أكتوبر، توصل إلى وضع تصور مبدئي للتلغراف.

بعد بضع سنوات، خطرت لأمبير فكرة قلب تجربة أورستيد: هل يؤثر المغناطيس على التيارات الكهربية؟ كان لا بد من فك جزء من الدائرة الكهربية، ولذلك قام بعمل مستطيل من سلك نحاسي ذي أطراف معقوفة مغموسة في الزئبق. وهكذا، يمكن للمستطيل أن يدور حول محور أفقي، بينما تلعب أوعية الزئبق دور المفصلات. ولقد توجت التجربة بالنجاح. فبمجرد وضع مغناطيس أسفل المستطيل الحر، تحرك الأخير واستقر متعامدًا على المغناطيس. وفيما يتعلق بهذا الاكتشاف، يُقال إن تجارب أمبير لم يتم استيعابها إلا بعد وقت. أثناء أحد المؤتمرات، أكد أمبير — في البداية — على تحديد ماهية الملف الكهربائي والمغناطيس. وحاول إثباتها تجريبيًّا، لكن لم يكن النجاح حليفه. وأثناء خروجه من المؤتمر، اكتشف مساعده جان دانيال كولادون (١٨٠٢–١٨٩٣) أن نظام تعليق الملفات اللولبية غير مضبوط، فأصلحه. وفي الحادية عشرة مساءً، نجحت التجربة، وهرع كولادون ليوقظ أمبير، الذي أعطى الدليل التجريبي على حدسه أمام نفس الجمهور الذي اجتمع على عجل بكلية فرنسا. وأثناء خروجه من الجلسة، استوقف بيير سيمون لابلاس (١٧٤٩–١٨٢٧) كولادون وخاطبه قائلًا: «أيها الشاب، ألم تساعد قليلًا في هذه التجربة؟» ومن حينها أصبح كولادون أستاذًا للميكانيكا بالمدرسة المركزية بباريس، ثم بجامعة جينيف. واستطاع في ١٨٢٦ — بمساعدة شارل فرانسوا ستيرن (١٨٠٣–١٨٥٥) — أن يقيس سرعة الصوت في المياه في بحيرة ليمان.

في عام ١٨٢٤، كتب أمبير إلى الكيميائي والفيزيائي البريطاني همفري ديفي (١٧٧٨–١٨٢٩):

عندما اكتشفت الفعل المتبادل لموصلين فولتيين، رأيت الرجال الأكثر جدارة في فرنسا بتقدير هذه الحقيقة التي كان يجهلها الجميع حتى ذلك الحين، يضعون اكتشافي في ذات المرتبة مع اكتشاف أورستيد الذي سبقني بقليل، ليس فقط السيد فورييه، بل أيضًا السيد لابلاس (الذي خالف ما توصلت إليه فيما يتعلق بماهية الكهرباء والمغناطيسية؛ لأن ذلك يتعارض مع طريقة تصوره للأمور، تمامًا كما عارض نتائج اكتشافات السيد فريسنيل) اتفقا على نفس التقييم لعملي.

كان أمبير قد أثبت ببساطة ماهية المغناطيسية والكهرباء، مخترعًا ما يُسمى بالكهرومغناطيسية. إلا أنه لاقى صعوبات بالغة لجعل الناس تتقبل أفكاره. وكان من القلائل الذين ساندوه جان باتيست جوزيف فورييه (١٧٦٨–١٨٣٠)، صاحب الدراسة الشهيرة عن انتشار الحرارة؛ حيث أدخل متواليات حساب المثلثات التي تحمل اسمه (١٨٢٢). أما لابلاس — الذي التقيناه قبلًا وكان يبدو مؤيدًا لأمبير في البداية — فمعروف بصياغته لفرضية متعلقة بنشأة الكون ما زالت تستلهم منها النظريات الحالية حول تكوين النظام الشمسي، وأيضًا بتجميعه للأعمال المتناثرة حول الجاذبية الكونية في مذهب واحد وكتابته لبحث أساسي حول حساب الاحتمالات. ونحن مدينون له لصياغته لتحويل لابلاس الشهير.

(٢-٥) السوليتونات (الموجات المتوحدة)

في أغسطس ١٨٣٤، لاحظ المهندس والمعماري البحري الاسكتلندي الشاب جون سكوت راسل (١٨٠٨–١٨٨٢) — على ضفاف إحدى القنوات — مركبًا يجرها زوج من الأحصنة. لكن لندعه هو يكمل الرواية:

لا أستطيع أن أقدم فكرة واضحة عن الظاهرة دون وصف الظروف التي أحاطت برؤيتي لها للمرة الأولى. كنت أراقب حركة مرْكب يجرُّه بسرعة زوجٌ من الأحصنة داخل قناة ضيقة، وعندما توقف المركب فجأة، لم تتوقف كميات المياه التي كانت تتحرك وراءه، بل تجمعت أمام مقدمة المركب في حالة اضطراب عنيف. ثم تركت المركب خلفها، واستمرت في الجريان بسرعة شديدة على هيئة موجة ضخمة ذات سطح مستدير ومصقول ومحدد تمامًا. استمرت الموجة في الجريان داخل القناة دون أن يتغير شيء في شكلها أو سرعتها. ظللت أتتبعها على فرسي، ووجدتها تسير أيضًا بسرعة تتراوح بين ثمانية وتسعة أميال في الساعة محتفظة بشكلها الأساسي (كان طولها حوالي ثلاثين قدمًا وارتفاعها ما بين قدم وقدم ونصف). ثم بدأ ارتفاع الموجة يقل تدريجيًّا. وبعدما تبعتها لميل أو اثنين، تاهت بين انعطافات القناة.

وقعت هذه الحادثة على ضفاف قناة يونيون بمدينة هيرمستون القريبة من حرم جامعة هيريوت وات بإدنبرة. وأسماها الموجة الانتقالية العظيمة، وهي تلك الموجة التي تنتشر لمسافات طويلة دون أن تغير شكلها، ومن ثم أصبح اسمها الموجة المتوحدة. على إثر هذا الاكتشاف، عكف راسل على العديد من التجارب في حديقته؛ حيث وضع مستودعا للماء، مُجريًا العديد من المشاهدات حول هذه الأمواج. ولقد ظل طوال حياته الوحيد المقتنع بأهميتها.

لكن كانت أعمال جون سكوت راسل دافعًا وراء دراسة الديناميكا المائية في بريطانيا. وحاول جورج جرين (١٧٩٣–١٨٤١) وجورج بيدل أيري (١٨٠١–١٨٩٢) وفيليب كيلاند (١٨٠٨–١٨٧٩) وصامويل أيرنشو (١٨٠٥–١٨٨٨) إيجاد وصف نظري لهذه الموجة. وأكد أيري أن الموجة ليست عظيمة أو أولية كما زعم راسل. بينما كان جورج ستوكس (١٨١٩–١٩٠٣) أقل هجومية، على الرغم من شكوكه في أن الموجات المتوحدة قادرة على الانتشار دون أن يتشوه شكلها. وأخيرًا، تمكن جوزيف بوسينيسك (١٨٤٢–١٩٢٩) في عام ١٨٧١ وجون ويليام ستروت (اللورد رايليه) (١٨٤٢–١٩١٩) في عام ١٨٧٦ من وضع نظرية تقريبية صحيحة للموجات.

في عام ١٨٩٥، حصل ديريك يوهانز كورتويج (١٨٤٨–١٩٤١) وجوستاف دي فريس (١٨٦٦–١٩٣٤) على المعادلة التي تحكم انتشار الموجات ذات البعد الواحد في قناة طويلة ضيقة. وكانت عبارة عن معادلة ذات مشتقات جزئية — غير خطية — من الدرجة الثالثة. وتُعرف هذه المعادلة اليوم باسم معادلة KdV، على الأحرف الأولى لاسميهما. كان هدفهما معرفة ما إذا كان من الممكن استمرار موجة متوحدة في أي ظرف. كان راسل مقتنعًا بذلك، أما علماء الرياضيات مثل ستوكس فكانوا على ثقة بأنه أمر مستحيل. وأثبت كورتويج ودي فريس أن راسل كان محقًّا حين وجدا الشكل المُعلن لحل معادلتهما. تمثل الموجة جبهة متحركة شديدة المحلية سريعة الهدوء. ويعد إثبات إمكانية وجود معادلة ذات مشتقات جزئية غير خطية والوصول صراحة إلى حل لها حدثًا مهمًّا، تم الاعتراف فيما بعد بشدة أهميته، بينما مر — في وقته — مرور الكرام.

لم يُعترف بأهمية هذه المسائل إلا في منتصف ستينيات القرن العشرين. ففي عام ١٩٦٥، قام مارتن دافيد كروسكال (المولود عام ١٩٢٥) ونورمان جيه زابوسكي (المولود عام ١٩٢٩) بدراسة هذه المعادلة رقميًّا على الحاسب الآلي. وأظهرا أن الموجات المتوحدة يمكن أن تحدث بصورة طبيعية إذا توفرت الظروف المناسبة. فإذا صنعنا موجة صغيرة وتبعناها بأخرى أكبر، تلحق الكبيرة بالصغيرة ويدخلان في تفاعل، ثم ينفصلان. وتصبح الكبيرة في المقدمة، بينما يحتفظ الاثنان بنفس أشكالهما. ولا يبقى سوى حقيقة أن الموجة الكبيرة تسبق الموجة الصغيرة، تمامًا كما كان الوضع إذا انتشرت كلٌّ منهما بمفردها دون تفاعل. مثل هذا التصادم المرن يضاهي الصدمة بين أي جزيئين أوليين، ولذلك أطلق كروسكال وزابوسكي اسم السوليتونات على هذه الموجات. وهي الآن عناصر أساسية لصياغة السلوك الديناميكي للعديد من الأنظمة من الديناميكا المائية إلى البصريات غير الخطية، ومن البلازما إلى موجات الصدمة، ومن الأعاصير وحتى كوكب المشتري، ومن صناعة الموصلات الفائقة إلى انتقال الطاقة في الحمض النووي، وحتى الاتصال بالألياف الضوئية للتليفزيون والهاتف والحاسبات الآلية.

(٢-٦) المشابهة الجزيئية البصرية

هناك فصل آخر — أقل شهرة — في تاريخ علم التبلور، من شأنه إظهار ضرورة القدرة على تغيير وجهة النظر والاقتباس من مجالات أخرى؛ أي المطالبة بتعددية المجالات.

فلنتخيل حبلًا مشدودًا أفقيًّا، فإذا حركنا أحد أطرافه من أعلى إلى أسفل في حركة رأسية، يتشوه شكل الحبل وسنرى تموجات تنتشر على المستوى الأفقي. بهذا نكون صنعنا موجبة مستقطبة مستطيلة (أو غير خطية). ويسمى المستوى الأفقي مستوى الاستقطاب. لكنه كان من الممكن لنا تحريك الحبل في أي اتجاه. فإذا هززنا الحبل في اتجاهين متعامدين في ذات الوقت، يمكن أن تقع أكثر من احتمالية. إذا كانت الاهتزازات متوافقة أو متعارضة يكون الاستقطاب خطيًّا. أما إذا لم تكن كذلك، فنحصل على استقطاب بيضاوي في حالة اختلاف المساحات، ودائري في حالة تماثلها. في الحالتين الأخيرتين، يرى من يلاحظ الموجة الأمامية الاهتزاز الناتج يدور في اتجاه أو آخر. وإذا رأى الملاحظ أن مستوى الاستقطاب يدور في اتجاه دوران عقارب الساعة، فنكون أمام استقطاب يميني، على عكس الاستقطاب اليساري.

يعتبر الضوء موجة كهرومغناطيسية، وتتردد المجالات الكهربية والمغناطيسية معًا على مستويين متعامدين وعموديين على اتجاه انتشاره. إلا أن الضوء الطبيعي ليس مستقطبًا؛ لأن الاهتزازات فيه ليست متوافقة، بل تحدث متزامنة في كل المستويات وتتغير في كل لحظة. يمكن أن يحدث استقطاب جزئي للضوء الطبيعي في حالة قيامنا بلف بعض النظارات الشمسية، مما يفسر لون السماء الأزرق. في عام ١٨١٠، لاحظ إتيان لويس مالوس (١٧٧٥–١٨١٢) أن الضوء يمكن أن يُستقطب بالانعكاس. لكن كانت هناك إمكانية أخرى للاستقطاب. فالمشابهة الجزيئية البصرية هي قدرة بعض المواد على تحويل مستوى الاهتزاز للحقل الكهربي من زاوية معينة، وهذه هي ظاهرة الاستقطاب الدوراني للضوء. ولقد بين فرانسوا أراجو (١٧٨٦–١٨٥٣) هذه الخاصية بوضوح — في عام ١٨١١ — بمساعدة بلورات الكوارتز. الأمر الذي كان من شأنه المساهمة في تطور أفكار أوجستين فريسنيل (١٧٨٨–١٨٢٧) حول نظرية التموجات الضوئية. إذا كان الضوء العاكس متعدد الألوان، فإن الاهتزاز الموافق لكل لون يدور من زاوية مختلفة. في عام ١٨١٥ — وأثناء دراسته للاستقطاب المُحفَّز بواسطة بعض السوائل، مثل زيت التربنتين والمحاليل السكرية — توصل جان باتيست بيو (١٧٧٤–١٨٦٢) إلى أن دوران الضوء المنقول بوحدة الطول والمقسوم على الكثافة هو ثابت جزيئي، الخاصية التي أطلق عليها اسم قوة الدوران الجزيئي. هذا هو قانون بيو. ولقد طبق اكتشافه على محاولات البحث عن السكر في البول؛ أي مرض السكري. كما أظهر أن الظاهرة تنبع من ترتيب عناصر صغيرة تشكل البلورة. ووفقًا لهذا الترتيب، تكون البلورة متقابلة ضوئية؛ أي تكون صورة مرآة لبلورة أخرى أو لا.

نطلق اسم التماكب الضوئي (المشتق من كلمتي التماثل والتركيب) على قابلية الشيء على أن يكون صورة مرآة لشيء آخر، كحالة اليد نظرًا لأنها غير متماثلة. في الطبيعة، تمتلك الكثير من الأشياء هذه الخاصية. ونميز بين المواد المتماكبة يمينًا ويسارًا بحسب اتجاه دوران مستوى الاستقطاب بالحزمة الضوئية التي تمر بها. بالنسبة لنوع من السكر يدعى الجلوكوز، فإن مستوى الاستقطاب يدور ناحية اليمين إذا ما رأينا حزمة الضوء من الخلف، ولذلك نقول إن الجلوكوز متماكب يميني. تلك هي القاعدة المختارة. بينما تدور مستويات استقطاب معظم جزيئات الكائنات الحية نحو اليسار. إلا أن الأحماض الأمينية — التي نفترض أنها أصل الحياة — تمتلك تماكبًا يمينيًّا. ويعد هذا الاختلاف لغزًا يمكن إرجاعه إلى عدم تماثل التفاعلات الضعيفة؛ أي إلى الأجسام الدقيقة الأولية ذات الكتلة الأصغر من الإلكترون (النيوترينو).

لكننا لم نصل إلى هذا بعد. في عام ١٨٤٧، ناقش شاب رسالتين في اليوم ذاته؛ واحدة في الفيزياء والأخرى في الكيمياء. كان يدعى لويس باستير (١٨٢٢–١٨٩٥)، وكان مهتمًّا بدراسة بلورات أملاح حمض الترتريك الناتج عن تخمير عصير العنب. في عام ١٨٤٤، لاحظ الكيميائي الألماني إيلهارد ميتشيرليتش (١٧٩٤–١٨٦٣) وجود نوعين من المشابهة الجزيئية في حمض الترتريك؛ الأولى — وتدعى ترتريك — لها نفس تأثير الاستقطاب الدوراني، بينما بدت الثانية — وتدعى شبه الترتريك أو المُرازم — مختلفة. بقي تفسير الظاهرة وإيجاد سببها. وهي بالضبط المشكلة التي حلها باستير في رسالته في الفيزياء «دراسة حول الظواهر المتعلقة بالاستقطاب الدوراني للسوائل» بتاريخ الثالث والعشرين من أغسطس. ويقول هو نفسه في هذا الصدد: «إبداء الدهشة من شيء ما هو أول خطوة للذهن باتجاه الاكتشاف.»

وبمجرد عودته إلى معمل كريستوف فرانسوا دولافوس (١٧٩٦–١٨٧٨) بالمدرسة العليا، طرح باستير مسألة العلاقة بين ترتيب الذرات داخل الجزيء والقدرة الدورانية. وقرر — بغية التعرف على علم التبلور — البدء بتكرار جميع التجارب حول الاستقطاب الدوراني لبعض المحاليل. ووقع اختياره — لحسن حظه الشديد — على حمض الترتريك. كان في ذهنه العلاقة الممكنة بين تماكب الكوارتز وقدرته الدورانية، ومن ثم كان واثقًا من وجود شيء ما داخل المحاليل مسئول عن الاستقطاب. لم يعتقد باستير — مثله مثل ميتشيرليتش — في أن بلورات حمض الترتريك متشابهة. ولم يخدعه حدسه. وبفضل قدرته على الملاحظة الطويلة ولجوئه إلى التدقيق بدون شك لقصر بصره، أدرك على الفور أن بلورات حمض شبه الترتريك تمتلك أوجهًا دقيقة الحجم وغير متماثلة، وهي صفة لم يلحظها أيٌّ من سابقيه؛ لأنهم لم يكونوا يبحثون عنها! وتوصل باستير إلى تقسيمهم إلى نوعين من البلورات الأصغر حجمًا لها أوجه متجهة سواء إلى اليسار أو إلى اليمين. كان النوعان متماكبين. لم يكن حمض الترتريك يتكون إلا من بلورات من نوع واحد جعلت قوته الدورانية يمينية. فالنوع الثاني من البلورات يحول مستوى الاستقطاب ناحية اليسار؛ أي إننا أمام نوع ثالث من حمض الترتريك. فتتكون بلورات حمض شبه الترتريك من خليط من الجزيئات المتماكبة اليمينية واليسارية بنسب متطابقة، ومن ثم فليس لها أي قوة دورانية. وأدرك باستير أن اختلاف ترتيب الجزيئات يؤدي إلى خاصية بصرية مختلفة يمكن قياسها. وعن طريق ظاهرة فيزيائية، أثبت باستير أن خاصية كيميائية (عدم التماثل الجزيئي) ترجع إلى مسألة هندسية. ولقد أذهل هذا الاكتشاف العالم العلمي وخاصة بيو الذي قضى عمره كله في دراسة البلورات. ولكونه متشككًا، فقد طلب من باستير أن يأتي إليه ويعيد أمامه هذه التجارب. ولما رآها العالم الشهير لم يصدق عينه، وقال لباستير: «يا بني العزيز، لقد أحببت العلوم طوال حياتي، حتى إن قلبي يخفق لهذا الاكتشاف.»

ويلعب الاستقطاب الدوراني دورًا مهمًّا في العديد من أنظمة الكيمياء الحيوية؛ لأن الجزيء لا يقدر على التفاعل بدون المشابهة الجزيئية البصرية. ولقد أثار التفريق بين القدرة الدورانية اليمينية واليسارية العديد من المناقشات حول المادة العضوية وغير العضوية، وأصبح من ثم مكونًا رئيسيًّا في الجدل حول التناسل التلقائي؛ أي إن باستير — الفيزيائي والكيميائي — قد حقق تقدمًا في علم الأحياء؛ فقد ربط بين عدم التماثل الجزيئي والكيمياء الحيوية، مدركًا إحدى أهم خصائصها.

(٢-٧) التحليل الطيفي

بفضل يوهانز كِبلر (١٥٧١–١٦٣٠) وإسحاق نيوتن (١٦٤٣–١٧٢٧)، عرفنا أن الضوء الأبيض مكون من مزيج من ألوان مختلفة. وُلد جوزيف فون فرونهوفر (١٧٨٧–١٨٢٦) لأسرة فقيرة في ستروبينج ببافاريا. وعمل متدربًا لدى صانع زجاج. لكن عندما انهار منزل أسرته، أصيب إصابة بالغة وأصبح يتيمًا. تعاطف معه عمدة مدينة بافاريا وأعطاه مبلغ ثمانية عشر دوكًا. عندما بلغ من العمر تسعة عشر عامًا، التحق بالعمل في مصنع للأدوات البصرية، ليصبح مديرًا له بعد ثلاث سنوات. في عام ١٨١٤، توصل إلى اختراع منظار التحليل الطيفي، وهو عبارة عن تليسكوب صغير يُثبت على قوس دائري ليلتقط أشعة طيف الشمس. وفي عام ١٨٢١، استطاع أن يُحسن جذريًّا فعالية المنظار بالاستعاضة عن المنشور بشبكة انكسار مكونة من أسلاك حديدية مثبتة بِبَراغيَّ. وعندها اكتشف وجود أشعة معتمة، ولاحظ أن منبعها لا يرتبط بطبيعة المصدر المستخدم، لكن يرجع إلى وجود عامل كيميائي محدد داخل هذا المصدر. لكن يبقى تحديد مصدر هذه الأشعة.
تأسس التحليل الطيفي حوالي عام ١٨٥٠ على يد روبرت فيلهلم فون بنزن (١٨١١–١٨٩٩) وجوستاف كيرشوف (١٨٢٥–١٨٨٧). كانا قد التقيا قبلًا في برسلو (فروتسواف ببولندا)، ثم سافر بنزن إلى هيدلبرج، واستطاع أن يقتنص منصبًا لصديقه كيرشوف. وبعدما عمل لفترة طويلة مع الكيميائي الإنجليزي سير هنري روسكو (١٨٣٣–١٩١٥)، قرر بنزن فجأة قطع هذا التعاون في عام ١٨٥٩، وكتب إلى روسكو:

بدأت في عمل مشترك مع كيرشوف طير النوم من أعيننا … حقق كيرشوف اكتشافًا رائعًا ومفاجئًا تمامًا؛ إذ اكتشف السبب وراء الخطوط السوداء في طيف الشمس … مما أوجد وسيلة لتحديد تكوين الشمس والنجوم الثابتة بنفس الدقة التي نحدد بها حمض الكبريتيك والكلور وغيرها عن طريق الكاشفات الكيميائية. المواد التي على الأرض يمكن تحديدها بهذه الطريقة بنفس سهولة تحديدها على الشمس، لدرجة أنني — على سبيل المثال — كنت قادرًا على إيجاد ليثيوم في عشرة جرامات من ماء البحر.

بوضع أملاح داخل شعلة موقد غازي (موقد بنزن) وبملاحظة الضوء من خلال منشور، تظهر خطوط تميز خواص الملح المستخدم. ويتيح هذا النوع من التحليل — المسمى التحليل الطيفي — التأكد من وجود بعض العناصر الكيميائية على الشمس والنجوم مثلًا. كما يتيح اكتشاف عناصر جديدة. في عام ١٨٦٨، ظهر بحث أندرز جوناس أنجستروم (١٨١٤–١٨٧٤) بعنوان «أبحاث حول الطيف الشمسي»، الذي جاء فيه أن طول موجة الأربعة الخطوط الأولى لانبعاث الهيدروجين تقدر بعشرة أجزاء من المليون ملِّيمتر، وهي وحدة قياس تدعى الآن الأنجستروم. أتوجد صيغة رياضية تربط فيما بين هذه القيم؟ كان هذا هو السؤال الذي يطرحه الفيزيائيون. في عام ١٨٨٥، أثبت يوهان ياكوب بالمر (١٨٢٥–١٨٩٨) — الأستاذ بمدرسة وجامعة بازل — أن الصيغة: ؛ حيث معامل ثابت قام بتحديد قيمته تجريبيًّا، تعطي طول الموجة لأربعة خطوط أنجستروم، إذا كانت . وللتأكد من صحة هذا النموذج، كان لا بد من استخدام صيغة بالمر عند حيث نجد خطوطًا أخرى لطيف ذرة الهيدروجين. وقد تحقق هذا الأمر لاحقًا، وحاليًّا تتفق صيغة بالمر مع قيم خمسة وثلاثين خطًّا متتاليًا. وكان التعديل الوحيد الذي طرأ على هذه الصيغة هو قيمة المعامل الثابت الذي لم يحدده بالمر بطريقة واضحة. ولاحقًا، لوحظ أنه بوضع بدلًا من في صيغة بالمر، ستدرك تماما أشعة الطيف فوق البنفسجي للهيدروجين؛ وأنه بوضع بدلًا من ، سنحصل على سلسلتين من الأشعة الموجودة في الأطياف تحت الحمراء.

هنا توقف عمل الفيزيائي التجريبي، من حيث شرح الظواهر الملاحظة حيث يمتلك الأداة التي تمكنه من اكتشافها. أما الفيزيائي النظري، فيريد أن يفهم مصدر الصيغة؛ أي استنتاجها منطقيًّا من نظرية؛ أي إنها ستصبح وسيلة للتحقق من صحة النموذج النظري، تمامًا كما ساعدت الخطوط الجديدة في التحقق من صحة الصيغة.

في عام ١٩١٢، طور نيلز بور (١٨٨٥–١٩٦٢) نموذجه لذرة الهيدروجين مستندًا إلى أفكار ميكانيكا الكم الأولى. كان زاخرًا بالحماس لنموذجه، لكن كان ينقصه إثبات صحته. في عام ١٩١٣، سأله أحد طلابه — هانز ماريوس هانسن (١٨٨٦–١٩٥٦) — ما إذا كان نموذجه يعطي أي معلومات عن الطيف. فأجاب بالنفي. فاقترح عليه هانسن أن يلقي نظرة على صيغة بالمر. وبعد عدة أعوام، صرح بور: «منذ أن رأيت صيغة بالمر، اتضح كل شيء أمامي.» أتاحت نظرية بور تفسير المعامل الثابت وأعطته تعبيرًا رياضيًّا. وأعطت إثبات نموذج بور لذرة الهيدروجين، ومن ثم إثبات صحة نظرية الكم الجديدة.

(٢-٨) النشاط الإشعاعي

عادة ما تلعب الصدفة دورًا في الاكتشاف العلمي، بلا شك في مجال علوم الطبيعة أكثر من الرياضيات. وعلى الرغم من أنها قصة مشهورة، فإنني سأروي قصة اكتشاف النشاط الإشعاعي.

في نهاية عام ١٨٩٥، حاز اكتشاف الأشعة السينية على يد فيلهلم كونراد رونتجن (١٨٤٦–١٩٢٣) على اهتمام المجتمع العلمي، وكان لذلك الفضل في حصوله على أول جائزة نوبل في الفيزياء في التاريخ عام ١٩٠١. كانت الأشعة السينية تنبعث من جوانب أنبوب زجاجي اصطدمت به أشعة كاثودية (مهبطية)، وعلى الفور توهجت الجوانب. عرف هنري بيكيريل (١٨٥٢–١٩٠٨) — الذي كان يعمل بالتحديد على دراسة التوهج والإشعاع — باكتشاف الأشعة السينية أثناء محادثة له مع هنري بوانكاريه (١٨٥٤–١٩١٢). وظن بالطبع أن الظاهرتين يمكن أن تكونا مرتبطتين، وأنه يجب الآن التأكد من أن الأجسام المتوهجة أو المشعة ينبعث منها الأشعة السينية. وهكذا، سعيًا وراء فكرة — اتضح بعد ذلك خطؤها — حاول بيكيريل معرفة ما إذا كان اليورانيوم المشع في حال تعرضه للضوء يصدر الأشعة السينية أم لا.

وبعدما عرض لضوء الشمس صفيحة مغطاة بطبقة من ملح اليورانيوم، قام بتغطيتها بورقة سوداء ووضعها بجوار لوح فوتوغرافي في صندوق. وبعد تحميضه، رأى أن الصفيحة أصبحت مطبوعة على اللوح؛ أي إن اليورانيوم يصدر إشعاعًا قادرًا على اختراق الورقة السوداء. وهكذا استمر الأمر كما لو كان اليورانيوم المشع بعد تعريضه للشمس يصدر الأشعة السينية التي تنطبع على اللوح الفوتوغرافي. أرسل بيكيريل هذه النتائج إلى أكاديمية العلوم بباريس في الرابع والعشرين من فبراير ١٨٩٦، دون تحديد طبيعة هذا الإشعاع. بعد بضعة أيام، أراد أن يكرر التجربة، لكن الجو كان ملبدًا بالغيوم وظلت الشمس مختفية. ومن ثم بقيت أملاح اليورانيوم والألواح الفوتوغرافية حبيسة الأدراج.

في الأول من مارس، عادت الشمس. وبسبب أمانته العلمية، أراد بيكيريل التأكد من أن الألواح لم يتغير فيها شيء من جراء وضعها داخل الأدراج. وكم كانت المفاجأة عظيمة عندما تبين بوضوح انطباع الصورة على الألواح كما حدث وقت التجربة السابقة عند تعريض اليورانيوم للشمس؛ أي إن اليورانيوم يُصدر إشعاعًا مستمرًّا سواء تعرض للشمس أم لا. وهكذا اكتُشف النشاط الإشعاعي وحصل بيكيريل على جائزة نوبل للفيزياء عام ١٩٠٣ بالمشاركة مع ماري كوري (١٨٦٧–١٩٣٤) وبيير كوري (١٨٥٩–١٩٠٦). ونجد بتاريخ ١٩٢٨ مقالات في بعض صحف نشر العلوم — موقعة بأيدي علماء — يتساءلون فيها ما إذا كان النشاط الإشعاعي ذا مصدر كوني! لكن كان هذا قبل اكتشاف النشاط الإشعاعي الاصطناعي.

(٢-٩) الكمات

الجسم الأسود هو جسم يمتص كل الإشعاع الكهرومغناطيسي؛ أي إن معامل الامتصاص لديه — الذي يقيس كسر الطاقة الممتصة — يساوي واحدًا. ولا تعتمد قدرته على الانبعاث — أي قوة الإشعاع الكهرومغناطيسي المنبعث من وحدة السطح — إلا على درجة الحرارة والتردد.

في نهاية القرن التاسع عشر، كان اكتشاف قانون قدرة الجسم المعتم على الانبعاث مشكلة فيزيائية مهمة. إلا أن كافة المحاولات — المبنية على الديناميكا الحرارية التقليدية — باءت بالفشل، ولم تستطع حلها بطريقة مُرضية. وجاءت النتائج متعارضة مع التجربة، بل بدت غير معقولة بما أنها كانت تقول بقدرة انبعاث كاملة وغير محدودة!

تصدى ماكس بلانك (١٨٥٨–١٩٤٧) في عام ١٨٩٧ لهذه المشكلة. بما أن إشعاع الجسم المعتم لا يعتمد إلا على حرارة الجوانب وليس طبيعتها، طرأت لبلانك فكرة دراسة جسم معتم تُحدث جوانبه تيارات كهربائية متذبذبة من نوع هيرتز. وكان يمكن حساب هذه الخواص دون إدخال البنية الجزيئية، التي لم تكن قد اكتشفت بعد. ووجد بلانك أن قدرة الانبعاث متناسبة مع الطاقة المتوسطة للجوانب ذات التيارات الكهربائية المتذبذبة. ولذلك، ظلت المشكلة دون حل. وبافتراض صحة قانون واين حول توزيع الطاقة الطيفية — وهو أكثر قانون كان يتفق حينها مع التجربة — قام بلانك بحساب أن عكس المشتقة الثانية من قانون القصور الحراري (إنتروبي) بالنسبة للطاقة يكون متناسبًا معها. إلا أن النتائج التجريبية اللاحقة ألغت هذه النتائج. كان الاتفاق بين النظرية والتطبيق مقبولًا بالنسبة لكميات صغيرة من الطاقة ولأطوال قصيرة للموجة. لكنه لم يكن كذلك في حالة الطاقات الكبيرة والموجات الطويلة. إذن فهناك تناسب، ليس بالنسبة للطاقة لكن لمربعها. وعمد بلانك إلى استكمال الصيغتين وحصل بذلك على قانون جديد يتوافق في كل نقاطه مع التجربة. ولندع بلانك يتحدث:

لكن حتى مع الاعتراف بالصحة المطلقة للصيغة الموجية — التي احتفظت طويلًا بطابع القانون المكتشف عن طريق الحدس — فلا يمكننا أن نتوقع أنها تمتلك أكثر من معنى شكلي. ولهذا السبب، منذ اليوم الذي قمت فيه بصياغة هذا القانون، بدأت بنفسي في محاولة فهم تفسيره الفيزيائي الحقيقي. وقادني هذا البحث تلقائيًّا إلى دراسة العلاقات المتبادلة بين القصور الحراري والاحتمالية.

وأضاف في مؤلَّف آخر: «بعد بضعة أسابيع مشحونة بالطبع بأكثر الأعمال جهدًا في حياتي، ظهر بصيص وسط الظلام الذي كنت أتخبط فيه، وانفتحت أمامي آفاق غير متوقعة.»

قام بلانك — في سبيل تسهيل حساب الاحتمالية بطريقة التحليل التوافيقي — بتفكيك الطاقة التي لآلة تحث تيارات كهربائية متذبذبة إلى كميات صغيرة على شكل ؛ حيث تكون رقمًا صحيحًا، و رقمًا صغيرًا كما نريد. وبفضل تلك الحيلة، تمكن بلانك من حساب الطاقة المتوسطة للآلة وإيجاد صيغته للجسم المعتم. لم يكن التحليل سوى حيلة حسابية مناسبة، دون أي مغزًى آخر. لكن القصة لم تنتهِ هنا بعد. لبلوغ التوافق بين قانون واين للطاقات المنخفضة، لا يمكن اتخاذ كرقم صغير كما نريد. يجب أن تكون إما منتهية ومتناسبة مع التردد للموجة، وإما أن تكون ؛ حيث تكون معاملًا كونيًّا يُسمى الآن ثابت بلانك. كانت نتيجة ثورية بحق: فكان لا بد من التخلي عن فكرة الاستمرار في عالمنا الفيزيائي، وقبول حقيقة أن بعض الظواهر قد يكون لها علاقات سببية غير متصلة؛ أي كمية. ولقد واجهت هذه النتيجة المفاجئة والجذرية الكثير من التشكك بالطبع، بل والمقاومة الشديدة. بلانك نفسه لم يكن على ثقة كاملة في طريقته التي ظل أعوامًا طويلة يشرح نتائجها بطريقة تقليدية، على الرغم من قناعته بأهمية اكتشافه. وكتب بعد ذلك:
في الواقع، كان المعامل الثابت لا غنى عنه — من ناحية — للحصول على القيمة الحقيقية للقصور الحراري؛ لأنه بفضله وحده استطعنا تحديد المجالات أو المسافات اللازمة لحساب الاحتمالات، بينما كان من المستحيل — من ناحية أخرى وعلى الرغم من الجهود الجبارة — إدراجه في إطار نظري تقليدي أيًّا ما كان. فطالما استطعنا معاملته كرقم متناهي الصغر … مضت الأشياء على ما يرام، لكن — وبشكل عام — كان هناك دائمًا لحظات نتوصل فيها إلى حلول قادرة على الاستمرار … وأمام فشل جميع محاولات سد الفجوة، كان لا مناص من مواجهة المعضلة التالية: إما أن تكون سلسلة استنتاجاتي المؤدية إلى حساب قانون الإشعاع الأسود وهمية من حيث المبدأ، ولم تكن سوى خدعة حسابية دون جدوى واقعية؛ وإما أنه يجب أن تسبقها فكرة أخرى مقابلة لشيء ما في الواقع الفيزيائي، ومن ثم يجب أن يكون لكم الحركة دور رئيسي في الفيزياء. في المحاولة الثانية، أصبح هذا الكم يمثل شيئًا غاية في الحداثة وغير متوقع حتى تلك اللحظة، وكأنه مقدر له أن يحدث ثورة في الفكر الفيزيائي القائم على مفهوم الاستمرارية ذاتها، المتأصلة في كافة العلاقات السببية منذ اكتشاف الحساب التفاضلي على يد لايبنتز ونيوتن.

ولقد تحققت التجربة بالبديل الثاني.

ولنلاحظ — على نحو عابر — أن بلانك عندما يقول إن مفهوم الاستمرارية متأصل في جميع العلاقات السببية، يبدو كمن يتنبأ بما سيحدث عندما أثبت فرنر هايزنبرج (١٩٠١–١٩٧٦) علاقات عدم اليقين، وعندما اعتبرت مدرسة كوبنهاجن — وعلى رأسها نيلز بور (١٨٨٥–١٩٦٢) — أن الطبيعة تقوم أساسًا على الاحتمالية، مثيرةً الشكوكَ حول مبدأ السببية. ونعلم بالطبع أن هذا التفسير الاحتمالي لم ينل قط قبول ألبرت أينشتاين (١٨٧٩–١٩٥٥)، الذي كان يعتقد أن ميكانيكا الكم — على الرغم من النجاح الذي لاقته — كانت ناقصة، وأن العالم سيبدو قدريًّا من جديد عندما ينتهي إنشاؤه، بحسب عبارته الشهيرة: «الإله لا يلعب بالنرد!» وسنعود إلى هذا الجدل القديم بين أينشتاين وبور عند دراستنا لتكوين الذرة لاحقًا. إن ما أوشك بالفعل على التغير أو التبدل تمامًا إنما هو تفسيرنا الفلسفي للعالم الخارجي. لكن لنعد إلى نهاية قصتنا.

عندما تكون أينشتاين فأنت لا تخشى أي ثورة علمية، حتى إنه استطاع جعل فكرة بلانك أكثر جراءة وثورية. وفقًا لبلانك، فإن الطاقة لا يمكن أن تصبح كمية داخل المادة، بينما تظل خاضعة داخل الإشعاع الضوئي للقوانين المستمرة لجيمس كلارك ماكسويل (١٨٣١–١٨٧٩). ولقد أثبت أينشتاين أن هاتين الفكرتين غير متوافقتين، ومن ثم يجب افتراض أن كل إشعاع يمكن أن يصبح كميًّا: فالضوء يتصرف ليس فقط كموجة لتحقيق معادلات ماكسويل، بل يتكون أيضًا من جزيئات وكمات شبه جسيمية تدعى الفوتونات. وهكذا اجتمعت التصورات الموجية والجسيمية للضوء التي شغلت الفيزياء منذ نيوتن. ووُلدت ميكانيكا الكم وكل الفيزياء الحديثة.

(٢-١٠) النسبية

منذ خمسين عامًا، والعلماء يصارعون الأثير، هذا المحيط الرقيق الذي يملأ الفضاء، والذي يمثل — كما كان يُعتقد — وسيلة لانتشار الضوء والظواهر الكهربية. لكن لم تكن خواصه عصية فقط على الدراسة، بل إن حتى وجوده قاد إلى توقع ظواهر لم تظهر على الرغم من التقدم المذهل في تقنيات القياس. ولقد حاول واضعو النظريات تعديل نظرية الكهرومغناطيسية لجيمس كلارك ماكسويل (١٨٣١–١٨٧٩)، ومن بينهم هندريك أنطون لورنتز (١٨٦٣–١٩٢٨) الذي درس الطريقة التي تتحول بها معادلات ماكسويل عندما ننتقل من إطار مرجعي لآخر في حركة منتظمة ومستقيمة بالنسبة للأول. وأثبت أن هذه المعادلات تبقى ثابتة — أي دون تغير — إذا ما أبدلنا متغيرات الفضاء ومتغير الزمن بمتغيرات جديدة متصلة بالمتغيرات الأولى بعلاقة خطية نسميها الآن تحويل لورنتز. لم يعتبر لورنتز — تحت تأثير الأفكار السائدة حينها — المتغيرات الجديدة سوى كميات تخيلية دون أي حقيقة فيزيائية، واقتصر دورها على تسهيل الحساب. في أيٍّ من الحالات، لم يكن الأمر يتعلق بمعرفة ما إذا كان بها الإحداثيات الحقيقية والزمن الفعلي للنظام المرجعي الجديد. وسنلاحظ التوازي بين موقف بلانك ونتائجه.
استهزأ ألبرت أينشتاين (١٨٧٩–١٩٥٥) بالمسلمات والأفكار المسبقة، وقرر أن يجعل من أعماله حول الفرضية القائلة بأن المتغيرات الجديدة هي ذاتها فعليًّا وفيزيائيًّا النظام الجديد؛ نقطة انطلاق له، وأن تحويل لورنتز كان التعبير الفيزيائي عن العلاقة الموجودة بين إطارين مرجعيين في حركة مستقيمة ومنتظمة. وكانت تلك الفرضية شديدة الجسارة؛ لأنها تتضمن التخلي عن الميكانيكا بمفهوم نيوتن. لكنها كانت فرضية مثمرة، إذ ولدت بفضلها نظرية النسبية الخاصة في عام ١٩٠٥.
كان من المرغوب فيه بالطبع مد مفهوم النسبية ليشمل حالة أي حركة سريعة وغير منتظمة. بالإضافة إلى أنه في النسبية الخاصة، لم تعد السرعات تحقق قانون الجمع التقليدي إذا ما اقتربنا من سرعة الضوء. فيجب إذن استخدام قانون لورنتز للجمع؛ حيث يعد القانون التقليدي تقريبًا جيدًا للسرعات الأقل. كان لا بد من إيجاد حل لهذا التفكك للتوفيق بين قانون نيوتن للجاذبية والنسبية الخاصة. ولقد تمكن أينشتاين — عن طريق تفسيره لقوى الجاذبية هندسيًّا وبطريقة مماثلة لقوى الطرد المركزي داخل إطار مرجعي في حركة دائرية معتبرًا إياه كناتج لشكل الفضاء — من صياغة نظريته عن النسبية العامة عام ١٩١٦. وتجدر الإشارة إلى أن النسبية العامة ترتكز على الحسابات الهندسية غير الإقليدية، وخاصة أعمال برنارد ريمان (١٨٢٦–١٨٦٦).
ولقد روى أينشتاين بنفسه كيف توصل إلى هذه النظرية. وسأقتبس من مؤلفه المقاطع التي تبدو لي أكثر أهمية مع حذف التفاصيل التقنية لكيلا نحتفظ إلا ببنية طريقة التفكير:

عندما توصلنا إلى التوازن بين جميع الأنظمة المسماة أنظمة الجمود لصياغة قوانين الطبيعة بفضل نظرية النسبية الخاصة (١٩٠٥)، طُرحت شبه تلقائي مسألة معرفة ما إذا لم يكن هناك توازن أكثر اتساعًا لأنظمة الإحداثيات؛ أي إذا لم يكن في إمكاننا إضفاء صفة على السرعة سوى النسبية، فهل يجب أن نصر على اعتبار التسارع مفهومًا مطلقًا؟

ولأول مرة، قمت بخطوة للأمام نحو حل المشكلة، عندما حاولت معالجة قانون الجاذبية في إطار نظرية النسبية الخاصة. وشأني شأن غالبية كُتاب هذا العصر، سعيت إلى وضع قانون لمجال الجاذبية … لكن مثل هذه الأبحاث قادتني إلى نتيجة جعلتني أتشكك إلى أقصى درجة … وعندها تخليت عن المحاولة التي أشرت إليها سابقًا — محاولة معالجة مسألة الجاذبية من خلال النسبية الخاصة — لعدم ملاءمتها. فهذا الإطار كان بوضوح غير متفق مع الخاصية الأكثر محورية في الجاذبية … وشغلتني هذه الأفكار من ١٩٠٨ وحتى ١٩١١ … وكان الأمر الوحيد الذي يهم هو معرفتي بأنه لا يمكن بلوغ نظرية عقلية للجاذبية إلا بتوسيع مبدأ النسبية.

ومن ثم، كان من اللازم وضع نظرية تحتفظ معادلاتها بشكلها حتى مع التحويلات غير الخطية للإحداثيات. لكن حتى تلك اللحظة، لم أكن أعرف ما إذا كان هذا الأمر يمكن تطبيقه على تحويلات أي إحداثيات (مستمرة)، أم بعضها فقط.

ورأيت بعد ذلك أن … التفسير الفيزيائي البسيط للإحداثيات يجب أن يزول … ولقد أزعجتني هذه الملاحظة بشدة؛ لأني لم أكن أفهم ماذا تعني الإحداثيات حينها في الفيزياء. ولم أتمكن من حل هذه المعضلة إلا في عام ١٩١٢ … لكن تبقى لي مشكلتان … وعملت على حلهما منذ عام ١٩١٢ وحتى ١٩١٤ مع صديقي جروسمان … وقبل عامين من نشر نظرية النسبية العامة، كنا قد أدركنا جيدًا المعادلات الصحيحة للجاذبية، وإن تعذر علينا فهم استخدامها من الناحية الفيزيائية. ولهذا الأمر، ظننت أنني قادر — استنادًا إلى اعتبارات عامة — على إثبات أن قانونًا ثابتًا للجاذبية متعلقًا بتحويلات الإحداثيات المختارة عن قصد لن يتفق مع مبدأ السببية. كانت تلك هي أخطاء ذهني التي كلفتني عامين من العمل الشاق، حتى أدركتها في النهاية — قرب نهاية عام ١٩١٥ — واكتشفت الرابط بين حقائق التجربة الفلكية، بعدما رجعت إلى منحنى ريمان.

بفضل المعارف المجمعة، بدا الهدف واضحًا لحسن الحظ، بل وفي استطاعة أي طالب ذكي استيعابه دون مشقة كبيرة. إلا أن هذه الأبحاث الزاخرة بالحدس والجارية في الظل لمدة أعوام مصحوبة برغبة شديدة في بلوغ الهدف، بكل ما فيها من حالات الثقة والكلل انتهت أخيرًا بالظهور المفاجئ الواضح، فلم يكن من الممكن الوصول إليها حتى بالنسبة لمكتشفها دون تلك اللحظة من الوضوح.

عندما حصل ألبرت أينشتاين على جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٢٢، لم يستطع الذهاب إلى ستوكهولم لحضور مراسم تسلم الجائزة في ديسمبر لقبوله سابقًا دعوة لزيارة اليابان. ففي الرابع عشر من ديسمبر عام ١٩٢٢ — بناءً على طلب كيه نيشيدا، أستاذ الفلسفة بجامعة كيوتو — عقد أينشتاين مؤتمرًا بعنوان «كيف وضعت نظرية النسبية؟» كان عبارة عن عرض مرتجل قدمه أينشتاين في ألمانيا دون أن يحمل أي أوراق مكتوبة. بينما تولى أمر الترجمة الفورية جون إيشيوارا (١٨٨١–١٩٤٧) أستاذ الفيزياء بجامعة توهوكو، الذي كان زميلًا لأرنولد سومرفيلد (١٨٦٨–١٩٥١) وأينشتاين في الفترة بين ١٩١٢ و١٩١٤. في عام ١٩٢٣، نشر إيشيوارا ملاحظاته في مجلة يابانية شهرية. وقام تي أوجاوا بترجمة المقال بتصرف إلى الإنجليزية عام ١٩٧٩. وفي عام ١٩٨٢، قام يوشيماسا إيه أونو بترجمة مؤتمر أينشتاين إلى الإنجليزية (الفيزياء اليوم، العدد ٣٥ (١٩٨٢) من صفحة ٤٥ إلى ٤٧). وها هي أول ترجمة فرنسية له:

ليس بالأمر الهين الحديث عن الطريقة التي جاءتني بها فكرة نظرية النسبية. كان هناك العديد من التعقيدات الدفينة حفزت تفكيري، وكان لكل فكرة أثر مختلف على مراحل متعددة من تطور الفكرة. لن أذكرها جميعها هنا. ولن أقوم بإحصاء عدد المقالات التي كتبتها بشأن الموضوع. بدلًا من ذلك، سأصف باختصار تطور تفكيري الذي له علاقة مباشرة مع هذه المشكلة.

كان قد مضى سبعة عشر عامًا على المرة الأولى التي ساورتني فيها فكرة تطوير نظرية النسبية. ورغم أني كنت عاجزًا عن تحديد مصدر الفكرة بالضبط، فإنني متيقن من أنها كانت متضمنة في مشكلة الخواص البصرية للأجسام المتحركة. فالضوء ينتشر عبر بحر الأثير الذي تتحرك فيه الأرض؛ أي إن — بعبارات أخرى — الأثير يتحرك بالنسبة للأرض. وحاولت أن أجد دليلًا تجريبيًّا قاطعًا حول تدفق الأثير في الأدب الفيزيائي، لكن دون جدوى.

وعندها أردت أن أتأكد بنفسي من تدفق الأثير بالنسبة للأرض؛ أي حركة الأرض بتعبير آخر. عندما فكرت لأول مرة في هذه المسألة، لم يساورني أي شك في وجود الأثير وحركة الأرض عبره. وفكرت في التجربة التالية باستخدام ازدواجين حراريين: أن أضع مرايا بحيث ينعكس الضوء القادم من مصدر واحد في اتجاهين مختلفين، يكون أحدهما موازيا لحركة الأرض والثاني في الاتجاه المضاد. فإذا افترضنا وجود اختلاف في الطاقة بين الحزمتين الضوئيتين المنعكستين، يمكننا قياس اختلاف الحرارة المولدة باستخدام الازدواجات الحرارية. وعلى الرغم من تقارب فكرة هذه التجربة من تجربة ميكلسون، فإنني لم أقم بها.

وبينما كانت تشغلني هذه المشكلة عندما كنت طالبًا، درست النتيجة الغريبة لتجربة ميكلسون. وسريعًا ما توصلت إلى استنتاج خطأ فكرتنا الخاصة بحركة الأرض عبر الأثير، إذا ما قبلنا النتيجة الصفرية لميكلسون كحقيقة. وكان هذا هو أول الطريق الذي قادني إلى نظرية النسبية الخاصة. ومن ذلك الحين، وأنا اعتقد أن حركة الأرض لا يمكن متابعتها بتجربة بصرية على الرغم من دورانها حول الشمس.

حالفني الحظ بقراءة دراسة لورنتز الأحادية في عام ١٨٩٥، وفيها ناقش وحل مسألة الكهروديناميكية بأول درجة من التقريب؛ أي متجاهلًا الحدود التي تزيد عن ؛ حيث هي سرعة الجسم المتحرك، و هي سرعة الضوء. وحاولت فيما بعد تحليل تجربة فيزو استنادًا إلى فرض أن معادلات لورنتز للإلكترونات سارية أيضًا في النظام المرجعي لجسم متحرك كما في نظام الفراغ مثلما ناقشه لورنتز. في ذلك الوقت، كنت شديد الاعتقاد في صحة المعادلات الكهروديناميكية لماكسويل ولورنتز. ومن ثم قادني افتراض أن هذه المعادلات لا بد أن تكون صحيحة داخل نظام أي جسم متحرك إلى مفهوم ثبات سرعة الضوء، مما يتناقض مع قاعدة جمع السرعات المستخدمة في الميكانيكا.

لماذا يتعارض المبدآن؟ وأدركت مدى صعوبة المسألة. وقضيت ما يقرب من عام — دون جدوى — في محاولة تعديل فكرة لورنتز أملًا في إيجاد الحل.

لحسن الحظ، ساعدني أحد أصدقائي من بيرن (ميشيل بيسو) على الخروج من هذا المأزق. كنت قد ذهبت لزيارته وعرضت عليه المسألة في يوم من الأيام، وبدأت محادثتي معه هكذا: «مؤخرًا، كنت أعمل على مسألة صعبة، واليوم جئت لزيارتك لنفكر فيها معًا.»

تناقشنا في كل جوانب المسألة. وفجأة أدركت أين تكمن المشكلة. في اليوم التالي، ذهبت لرؤيته ثانية، وقلت له — دون حتى أن ألقي التحية: «شكرًا، لقد حللت المشكلة بالكامل.» كان الحل هو تحليل مفهوم الزمن. فلا يمكن تحديد الزمن بصورة مطلقة، كما أن هناك علاقة وطيدة بين الزمن وسرعة الإشارة. وبهذا المفهوم الجديد، استطعت لأول مرة تخطي كل الصعوبات بالكامل.

في غضون خمسة أسابيع، تَشكَّلت نظرية النسبية الخاصة. وكنت على يقين من أن هذه النظرية معقولة من الناحية الفلسفية. كما وجدتها متوافقة مع مبدأ ماخ. وعلى عكس الحال مع نظرية النسبية العامة — حيث تم إدماج مبدأ ماخ في النظرية — كان لتحليل ماخ أثر غير مباشر في نظرية النسبية الخاصة.

وكانت هذه هي الطريقة التي توصلت بها إلى نظرية النسبية الخاصة.

بينما تكونت أفكاري الأولى عن نظرية النسبية العامة بعد عامين، في عام ١٩٠٧، وقد باغتتني الفكرة، لم أكن راضيًا عن نظرية النسبية الخاصة؛ لأنها كانت محدودة بالأطر المرجعية التي تتحرك بسرعة ثابتة مقارنة بعضها ببعض، ومن ثم لم تكن قابلة للتطبيق على الحركة العامة للأطر. وصارعت في سبيل إزالة هذا القصور، وأردت صياغة المشكلة في الحالة الأعم.

في عام ١٩٠٧، طلب مني يوهانز ستارك كتابة مقال عن نظرية النسبية الخاصة في جريدة «جاهربش دير راديواكتيفيتات». وأثناء كتابته، بدأت أدرك أن كل قوانين الطبيعة ما عدا قانون الجاذبية يمكن دراستها في إطار النسبية الخاصة. وأردت أن أكتشف السبب وراء ذلك، لكني لم أستطع بكل بساطة.

كانت أقل النقاط إرضاء لي هي التالية: على الرغم من أن النظرية تعطي بوضوح العلاقة بين السكون والطاقة، فإن العلاقة بين السكون والكتلة أو طاقة مجال الجاذبية لم تكن تظهر بوضوح. وشعرت بأن هذه المشكلة لن تحل في إطار نظرية النسبية الخاصة.

وفي يومٍ ما، فجأة حدثت الاستنارة. كنت جالسًا على مقعد في مكتبي بمكتب براءات الاختراع ببيرن، وفجأة خطرت لي فكرة: إذا سقط رجل سقوطًا حرًّا، فلن يشعر بوزنه. جلست مرتبكًا، لقد تركت فيَّ هذه التجربة الذهنية أثرًا كبيرًا وقادتني إلى نظرية الجاذبية. واستمرت أفكاري: يسقط الرجل بسرعة؛ أي إن ما يشعر به يبدو له وكأنه يحدث في نظام تسارعي. وقررت أن أمتد بنظرية النسبية إلى النظام المرجعي للسرعة، وشعرت بأنني بهذا أستطيع حل مسألة الجاذبية في ذات الوقت. فالرجل الذي يسقط لا يشعر بوزنه لأنه يوجد في نظامه المرجعي مجال جديد للجاذبية يلغي مجال الجاذبية الذي تحدثه الأرض. وفي إطار مرجعي للتسارع، نكون في حاجة إلى مجال جاذبية جديد.

في ذلك الوقت، لم أتمكن من الفصل في المسألة تمامًا. واستغرق الأمر ثماني سنوات للحصول أخيرًا على الحل الكامل. خلال كل هذه الأعوام، كنت أحصل على حلول جزئية للمسألة.

كان إرنست ماخ من الذين يصرون على فكرة تعادل الأنظمة ذات التسارع بمقارنة بعضها ببعض. وكانت هذه الفكرة تتعارض مع الهندسة الإقليدية، بما أنه داخل إطار مرجعي متسارع لا يمكن تطبيقها. ووصف القوانين الفيزيائية دون الرجوع إلى الهندسة يشبه محاولة التعبير عن أفكارنا دون كلمات. فنحن بحاجة إلى الكلمات لنعبر. فعن ماذا نبحث إذن لوصف هذه المسألة؟ ظلت هذه المسألة بدون حل منذ عام ١٩١٢، عندما جاءني الإلهام بأن نظرية الأسطح لكارل فريدريش جاوس قد تكون مفتاح هذا اللغز. ووجدت أن إحداثيات جاوس للأسطح ناجحة جدًّا في فهم هذه المسألة. ولم أكن أعرف حينها أن برنارد ريمان (الذي كان تلميذًا لجاوس) كان قد ناقش بالتفصيل أسس الهندسة. وتذكرت محاضرة لي أثناء دراستي (في زيوريخ) ألقاها كارل فريدريش جيسير، وعرض فيها نظرية جاوس. ووجدت أن أسس الهندسة تمتلك مغزًى فيزيائيًّا عميقًا فيما يتعلق بتلك المسألة.

وعند عودتي من زيوريخ إلى براغ، كان في انتظاري صديقي مارسيل جروسمان، الذي ساعدني من قبل عندما وفر لي ما يتعلق بالمؤلفات الرياضية أثناء عملي بمكتب براءات الاختراع ببيرن؛ حيث واجهت صعوبات في الحصول على مقالات في الرياضيات. علمني في البداية أعمال كيرباسترو جريجوريو، ثم ريمان. وتناقشت معه فيما إذا كانت المسألة قابلة للحل باستخدام نظرية ريمان؛ أي باستخدام مبدأ ثبات نقاط الخط المستقيم. وقمنا بكتابة مقال عن هذا الأمر في عام ١٩١٣، على الرغم من عجزنا عن التوصل للمعادلات الصحيحة للجاذبية. درست معادلات ريمان بتعمق ووجدت فيها ما يجعل من المستحيل الحصول على النتائج المرجوة بهذه الطريقة.

وبعد عامين من النضال، اكتشفت أنني أخطأت في بعض الحسابات، وعدت إلى المعادلة الأصلية باستخدام نظرية الثبات، وسعيت إلى وضع المعادلات المضبوطة. وبالفعل، في غضون أسبوعين، تمكنت من إظهارها!

فيما يخص عملي بعد عام ١٩١٥، لن أتكلم إلا عن مسألة علم الكونيات، المتعلقة بهندسة الكون والزمن. يأتي أساس هذه المشكلة من شروط نهايات نظرية النسبية العامة ومن نقاش ماخ حول قضية السكون. وعلى الرغم من أنني لم أكن أفهم بالضبط فكرة ماخ، فإن تأثيره على التفكير كان عظيمًا.

وتوصلت إلى حل المشكلة، عن طريق فرض ثبات الظروف على نهايات معادلات الجاذبية. وأخيرًا، قمت بحذف النهايات، معتبرًا الكون نظامًا مغلقًا. والنتيجة أن السكون يبدو كخاصية للمادة التفاعلية، ومن ثم فهو يختفي في حالة عدم وجود مادة يتفاعل معها. واعتقد أنه بفضل هذه النتيجة، يمكن استيعاب نظرية النسبية العامة بصورة مُرضية من الناحية المعرفية.

كانت هذه لمحة تاريخية عن أفكاري عندما وضعت نظرية النسبية.

أتاحت النسبية العامة لأينشتاين تفسير شذوذ نقطة القياس للمريخ، الذي عجز قانون الجاذبية العام لنيوتن عن رصده. لكن النظرية تظل نظرية ما دامت لا تؤدي إلى توقع ظواهر جديدة يمكن التحقق من صحتها تجريبيًّا. وفقًا للنسبية العامة، فإن شعاع الضوء يجب أن ينحرف إذا مر داخل مجال جاذبية كثيف، بالقرب من نجم ضخم على سبيل المثال. افترض أنك وضعت حصاة ثقيلة في منتصف ورقة مرنة مشدودة أفقيًّا، فسيحدث فيها هبوط. ثم ألقيت كرة صغيرة على هذا السطح، فكلما اقترب مسارها من الحصاة ازدادت درجة انحرافها. هذا هو ما يعلمنا إياه منحنى الزمكان بالقرب من الأجسام الثقيلة في نظرية النسبية العامة. في عام ١٩١٩، قام رائدا علم الفضاء البريطانيان آرثر ستانلي إدينجتون (١٨٨٢–١٩٤٤) وأندرو كلود دولاشيروا كروملين (١٨٦٥–١٩٣٩) ببعثتين استكشافيتين لمراقبة الكسوف الكلي للشمس. وبالفعل، انحرف الضوء وفق توقعات أينشتاين.

تعد نظريتا الكم والنسبية من أجمل النظريات الفيزيائية التي تخيلها العقل البشري. ولقد ظهرت الأولى نتيجة افتراضية جريئة رافضة للأفكار المسبقة، والثانية عن طريق مقارنة أظهرت مدى جرأة تفكير ألبرت أينشتاين.

كان العالم الرياضي الفرنسي هنري بوانكاريه (١٨٥٤–١٩١٢) قد توصل إلى نفس النقطة تقريبًا التي بلغها أينشتاين حول النسبية الخاصة، لكنه — على الرغم من كونه أحد ألمع الرياضيين على مر العصور — لم يكن يمتلك حسًّا جريئًا، ولم يتخذ تلك الخطوة. فلم يستطع أن يترجم المعادلات الناتجة بعبارات فيزيائية. وبخصوص النسبية، كتب يقول:

ولهذا فكرت طويلًا أن نتائج هذه النظرية — المتعارضة مع مبدأ نيوتن — سينتهي بها المطاف إلى طي النسيان.

يجب أن نعرف كيف نصبح — من وقت لآخر — أعداءً للأفكار المسبقة. وكذلك عن نظرية الكم، كتب قائلًا:

هل أعترف بأنني لم أكن راضيًا تمامًا عن هذه الفرضية الجديدة؟

كان بوانكاريه مختلفًا أيضًا مع أفكار كانتور — شبه الثورية في ذلك الوقت — حول طبيعة اللانهاية، أو بالأحرى اللانهايات الرياضية المختلفة.

كما مر جاك هادامار (١٨٦٥–١٩٦٣) — وإن كان أقل شهرة كعالم رياضيات فرنسي — بجوار نظرية النسبية الخاصة، وعرض «عدم اكتشافه» على المجلس الدولي للفلسفة بنابولي عام ١٩٢٤. وذكر في مقاله «كيف لم أجد النسبية»:

… كان يلزمني عناد نادر ليثنيني عن نتائج أبحاثي.

وبعد بضعة تطورات رياضية — لن نطرحها هنا — يحدثنا هادامار عن مستقيم كيرشوف؛ حيث تصبح بعض الكميات لا نهائية:

من الناحية التحليلية، ليس لهذا الخط المتفرد — الذي يظهر طبيعيًّا من الأصل الفيزيائي للمسألة — أي علاقة بالمعادلة …

لقد نشرت هذا في مكان ما!

نعم، ومنذ ذلك الوقت، وأنا أعرف جيدًا — شأني شأن كافة علماء الرياضيات — أنه يوجد عدد لا نهائي من التبديلات في المتغيرات الخطية (دون التطرق إلى شيء أكثر تعقيدًا) من شأنها أن تحتفظ لأيٍّ من المعادلتين ذواتي المشتقات الجزئية بأشكالهما. ولم أكن فقط على دراية بهذه التغييرات، وإنما انصب جل اهتمامي بصورة أساسية عليها عن طريق السؤال الذي طرحته، واتضح أن مثل هذه التبديلات لا تحتفظ بشكل عام لمستقيم كيرشوف بوضعه المميز، بل على العكس قد تجعله يضاهي أي مستقيم آخر ينزل من نفس النقطة A داخل مخروط الموجة.

لكن كان مجرد التفكير في أن مستقيم كيرشوف ليس له أي مغزًى فيزيائي ضروري وغير ملموس أمرًا يتطلب الكثير من الجرأة بالنسبة لي. وماذا تريدون؟ فمثل كل زملائي، كنت أتأمل بإعجاب في أعمال الفيزيائيين التي لا تكف عن الاتساع، واختلط هذا الإعجاب بنوع من الاحترام فرضه عليَّ شعوري بعدم كفاءتي. ولم أفهم جيدًا أن الفيزياء هي هؤلاء الأشخاص الذين يجب عدم احترامهم عند اللزوم.

وهكذا يظهر كيف، لكوني عالم رياضيات ينقصه الخيال، لم أتمكن من الوصول إلى التسليم بالنتيجة التي فرضتها عليَّ النظرية الرياضية بشكل مُلح، وكيف اكتفيت بالانحناء احترامًا لوجهة نظر كيرشوف، على الرغم من أن الدرس المستفاد من هذه القصة هو أن العالم في مجاله لا يجب أن يحترم حتى نظرية كيرشوف، كما لم يحترم كوبرنيكوس نظرية أرسطو أو بطليموس … وهو ما نقوم به جميعًا منذ أينشتاين.

هذا هو مبدأ الأفكار البسيطة بل العبقرية. ولا أعلم، فربما كانت هي نفسها قصة الكثير من الاكتشافات الرياضية، والعلمية بشكل عام.

ويضيف في نص آخر:

لقد اقتربت بنفسي من الوصول إلى نظرية النسبية: وكان هذا لنقص الجسارة الفلسفية؛ لأنه عندما لاحظت أن المعالجة التفاضلية للمشكلة ظلت دون تغيير خلال سلسلة من التحويلات، اهتممت — لسوء الحظ — بالتأكيد على أن هذه التحويلات ليس لديها بالطبع أي معنى فيزيائي.

لكن يجب الاعتراف بضرورة تعويض الحظ السيئ بسلامة القصد:

عادة ما يكون الفشل — وإن لم يكن مرغوبًا فيه بقدر النجاح — أكثر فائدة، وهذا درس مفيد لأي عالم كيف أنه يمكن أن يتجاوز اكتشافًا مهمًّا دون أن يلحظه.

ربما كان على بوانكاريه وهادامار التأمل في أفكار الكيميائي الإنجليزي جوزيف بريستلي (١٧٣٣–١٨٠٤):

إن أكثر الفيزيائيين جرأة وتجديدًا في تجاربهم هم الذين يطلقون العنان لخيالهم ويقبلون تزاوج أكثر الأفكار تشتتًا. وعلى الرغم من أن العديد من هذه الأفكار تكون مبالغًا فيها ومجرد أوهام، فإن هناك أفكارًا منها يكون مقدرًا لها أن تنتج أعظم الاكتشافات التي لن يتمكن الأشخاص الخجولون الحذرون وبطيئو التفكير من الوصول إليها.

لكن يمكننا القول دفاعًا عن هذين العالمين الكبيرين، أنهما كانا عالِمَي رياضيات وليسا فيزيائيَّيْن، رغم أن بوانكاريه قد قدم إسهامات مهمة في مختلف قضايا الفيزياء الرياضية. وفي عام ١٩٢٣، كتب أحد العلماء — بجدية شديدة — أن النسبية الخاصة: «إنما هي ضرب من الدعابة.»

(٢-١١) بنية الذرة

منذ القدم، ومسألة بنية الذرة تشغل بال الإنسانية. وقد قام ديموقريطوس (٤٦٠ق.م–٣٧٠ق.م) بصياغتها، تلاه لوكريتيوس (٩٩ق.م–٥٥ق.م). إلا أنه حتى نهاية القرن التاسع عشر، لم يكن العديد من العلماء يؤمنون بحقيقة الذرة. ولم يكن هناك من يعرف ممَّ تتكون الذرات. فنجد — على سبيل المثال — السطور التالية في أحد كتب الفيزياء في ذلك الوقت:

نعرف أن ذرة أي مادة تتكون من جزيئات الأثير في حالة الحركة، ويمكن أن تكون — على سبيل المثال — عبارة عن شكل قالب حلقي من جزئيات الأثير المتحركة في حركة دورانية في شكل قطع ناقص.

ثم جاءت ثلاثة اكتشافات لتقلب موازين الفيزياء: الأشعة الكاثودية والأشعة السينية والنشاط الإشعاعي. وقد قاد تفسير هذه الظواهر العلماء إلى اكتشاف الإلكترون في الفترة ما بين ١٨٩٢ و١٨٩٧ على إثر أعمال جوزيف جون طومسون (١٨٥٦–١٩٤٠) وجان بيرين (١٨٧٠–١٩٤٢) وبيتر زيمان (١٨٦٥–١٩٤٣) وهندريك أنطون لورنتز (١٨٦٣–١٩٢٨). بالنسبة لطومسون، كانت الذرة عبارة عن كرة بها شحنات كهربية. لكن هذه النظرية لم تتح فهم سلوك الجسيمات التي تنبعث من المواد المشعة. واقترح بيرين عام ١٩٠٠ أول نظرية عالمية للذرة. لكن، حتى عام ١٩١١، كان الفيزيائيون يتصورون الذرة كما لو كانت كرة لها توزيع منتظم من الشحنات الموجبة وتمتلك في الداخل الإلكترونات السالبة. وفي نفس العام، بيَّن إرنست رذرفورد (١٨٧١–١٩٣٧) — في محاولة لتفسير بعض النتائج التجريبية حول انحراف جسيمات — أن الذرة لا بد أن تكون مكونة من نواة موجبة وأن الإلكترونات موزعة في محيط الذرة.
في عام ١٩١٣، اقترح نيلز بور (١٨٨٥–١٩٦٢) — استنادًا إلى نتائج رذرفورد وإلى ما نعرفه عن الأشعة السينية — نظرية عالمية للذرة تدور فيها الإلكترونات حول النواة في مدارات محددة. وتم تحديد كمية الحركة والطاقة للإلكترونات. وفي عام ١٩٢٥، تبين أن الإلكترون يدور حول ذاته: وهو ما نسميه دوران الإلكترون. وفي عام ١٩٣٢، أثبت والتر فيلهلم بوث (١٨٩١–١٩٥٧) وتلميذه هربرت بيكر (المولود عام ١٨٩٤) أن البورون والبريليوم إذا ما تعرضا لأشعة ينبعث منهما إشعاع شديد الاختراق. واكتشفت إيرين جوليو-كوري (١٨٩٧–١٩٥٦) — ابنة بيير وماري كوري — وزوجها فريدريك جوليو (١٩٠٠–١٩٥٨) أن هذا الإشعاع قادر على قذف البروتونات عالية الطاقة عند اختراقه للمواد التي بها الهيدروجين. ولقد فسر جيمس تشادويك (١٨٩١–١٩٧٤) هذه الظواهر، مبينًا أن الإشعاع يملك جسيمات متعادلة تقارب كتلتها كتلة البروتونات، هي النيوترونات. وهي الفرضية التي وضعها رذرفورد في عام ١٩٢٠؛ أي إن الأمر استلزم خمسة وثلاثين عامًا من الجهد لإثبات حقائق بسيطة حول بنية الذرة.
ومن ثم تخلينا عن تلك الصورة الكونية والحتمية للذرة، لنصل إلى ازدواجية الموجة-الجسيم التي طرحها لويس دي برولي (١٨٩٢–١٩٨٧) في نظريته عن الميكانيكا الموجية عام ١٩٢٣. وأصبحنا ندرك أن الذرة عبارة عن نواة يحيط بها سحابة من الإلكترونات، لكننا لم نكن نعرف أين يوجد كل إلكترون على حدة ولا ما هو مساره بالتحديد. وبناءً على علاقات عدم اليقين لفرنر هايزنبرج (١٩٠١–١٩٧٦)، ليس من الممكن قياس كمين فيزيائيين متزامنين — الموضع وكم الحركة مثلًا — في الوقت ذاته وبدقة. فلم يكن لدينا سوى احتمالات. لم يكن هناك أي تمثيل مصور للذرة، كان هناك فقط كيان رياضي. وقد أسفرت ميكانيكا الكم — شيئًا فشيئًا — عن مسائل فلسفية كبرى: الحقيقة الموضوعية، هل لها وجود خارج الملاحظة؟ هل تعطي ميكانيكا الكم التمثيل الحقيقي للواقع أم مجرد تقريب؟ لا بد من وجود متغيرات خفية. وفي عام ١٩٣٥، قاد هذا الجدل بين بور وألبرت أينشتاين (١٨٧٩–١٩٥٥) كلًّا من الروسي المهاجر إلى أمريكا منذ عام ١٩١٣ بوريس بودولسكي (١٨٩٦–١٩٦٦) — الحاصل على الدكتوراه في الفيزياء من معهد كاليفورنيا للعلوم بباسادينا عام ١٩٢٨ — وناثان روزن (١٩٠٩–١٩٩٥) إلى متناقضة EPR التي صاغها أينشتاين. وشككت هذه المتناقضة في الفيزياء الكمية. ونعرف العبارة الشهيرة لأينشتاين: «الله لا يلعب بالنرد.» فإذا انبعث جسيمان أثناء تفاعل ما، تكون خواصهما متقاربة. وبإجراء بعض القياسات على أحدهما يمكن الوصول إلى استنتاجات بخصوص الآخر. لكن ميكانيكا الكم تعلمنا أن الجزيئات لا تمتلك خواص حقيقية ما لم يكن هناك قياسات. وهكذا، فإن أي قياس على أيٍّ منهما يجب أن يؤثر على الثاني على الفور، حتى وإن كان بعيدًا. لم يقبل أينشتاين بهذا التأثير عن بعد. وكان واثقًا في أن كل جسيم يمتلك خواصه المميزة بغض النظر عن الآخر. وفي عام ١٩٦٥، قام جون ستيوارت بل (١٩٢٨–١٩٩٠) بحساب الترابط الملحوظ بين الجسيمين، وأدرك أنه يكون أكثر قوة وفقًا للميكانيكا الكمية، عما يمكن أن يكون عليه وفقًا لأي نظرية أخرى تقول باستقلال الجسيمات. وفي الفترة من ١٩٧٢ إلى ١٩٨٢ أجرى آلان أسبيه (المولود عام ١٩٤٧) وزملاؤه فيليب جرانجيه وجيرارد روجيه في أورساي عدة تجارب حسمت النتيجة نهائيًّا لصالح بور والنظرية الكمية. كيف يمكن تفسير ميكانيكا الكم؟ ما هي معانيها؟ ما هي حقيقة العالم من حولنا؟ كلها تساؤلات لم تُحسم بعد.

(٢-١٢) النيوترونات البطيئة

يُعرف إنريكو فيرمي (١٩٠١–١٩٥٤) بكونه صاحب أول مفاعل ذري، وأول من أنتج تفاعلًا متسلسلًا تحت السيطرة في الثاني من ديسمبر ١٩٤٢.

وقد حصل فيرمي على جائزة نوبل عام ١٩٣٨ لاكتشافه لعناصر إشعاعية جديدة تنبعث مع انبعاث النيوترونات، وأيضًا لاكتشافه للتفاعلات النووية التي تحدثها النيوترونات البطيئة.

في صباح أحد أيام شهر أكتوبر ١٩٣٤ — في روما — كان الفيزيائيان برونو بونتيكورفو (١٩١٣–١٩٩٣) وإدواردو أمالدي (١٩٠٨–١٩٨٩) يدرسان الطاقة الإشعاعية الاصطناعية (النظائر المشعة) لبعض المعادن المكتشفة حديثًا قبل بضعة شهور على يد إيرين جوليو-كوري (١٨٩٧–١٩٥٦) وزوجها فريدريك جوليو (١٩٠٠–١٩٥٨). كانت المعادن قد اتخذت هيئة أسطوانات مفرغة وُضع بداخلها مصدر النيوترونات، ثم وُضع الكل في صندوق من الرصاص. كان بونتيكورفو هو أول من لاحظ — في هذا الصباح — أن الطاقة الإشعاعية للفضة اختلفت بحسب ما إذا كان الشكل الأسطواني موضوعًا في منتصف أو في جانب الصندوق الرصاصي.

وأمام حيرتهما، مضيا للقاء فرانكو رازيتي (١٩٠١–٢٠٠١) وفيرمي الذي اقترح عليهما مراقبة ماذا سيحدث إذا أجريا التجربة خارج الصندوق المصنوع من الرصاص. ثم حملت الأيام التالية مفاجآت أخرى. بدا وكأن الأشياء الأخرى الموضوعة على الطاولة إلى جانب الأسطوانة تؤثر على طاقتها الإشعاعية. وقاما بإخراج مصدر النيوترونات من الشكل الأسطواني ووضعا أشياء مختلفة بينه وبين المعادن. مثلًا شريحة من الرصاص كانت تزيد قليلًا من الطاقة الإشعاعية. وفي صباح الثاني والعشرين من أكتوبر — وأثناء انشغال زميليه باختبار ما — خطر لفيرمي أن يجرب — على العكس — مادة أكثر خفة كالبرافين. فأخذ قطعة كبيرة من البرافين، وحفر فيها ثقبًا وضع فيه مصدر النيوترونات، ثم سلط إشعاع الأسطوانة الفضية. وعندما قرب فيرمي مقياس جيجر لقياس الطاقة الإشعاعية، أظهر الجهاز أعلى قياساته على الإطلاق. غير معقول! ضاعف البرافين من الطاقة الإشعاعية لنظير الفضة المشع. اتصل فيرمي بزميليه ليريهما هذه الظاهرة غير العادية. لكنهما ظنَّا أنه خلل في الجهاز.

انفصل الزملاء على مضض لتناول الغداء. وبعد الظهيرة، عاد فيرمي بنظرية تفسر الظاهرة. يمتلك البرافين الكثير من الهيدروجين الذي تتكون نواته من بروتونات لها نفس كتلة النيوترونات تقريبًا، مما يؤدي إلى حدوث تصادمات عديدة بين نيوترونات المصدر وبروتونات الهيدروجين. تضعف كل صدمة منها النيوترونات التي تفقد من طاقتها وتتباطأ، مما يعطيها فرصة أكبر لتستقر داخل ذرة الفضة بدلًا من اختراق نواة الفضة دون أي تفاعل في حالة النيوترون السريع. فَكُرة جولف بطيئة لها فرص أكبر في السقوط داخل الحفرة أكثر من الكرة السريعة التي قد تمر فوقها دون أن تسقط.

(٢-١٣) صانع الأمطار

كان إحداث أمطار بإرادة الإنسان حلمًا قديمًا له، ولم يتحول إلى حقيقة إلا في عام ١٩٤٦. أثبت عالم الأرصاد الجوية الاسكتلندي جون آيتكن (١٨٣٩–١٩١٩) أن قطرات المطر تتكون حول ذرات دقيقة من الأتربة الموجودة في الجو؛ وعليه — وفي سبيل إحداث أمطار — تم نشر مئات الكيلوجرامات من الجزيئات الدقيقة للمواد المختلفة من طائرات، أو تم تصعيدها في الهواء عن طريق النيران من الأرض، لكن دون نجاح.

أثناء الحرب العالمية الثانية، طلبت شركة جنرال إلكتريك من إرفينج لانجموير (١٨٨١–١٩٥٧) — الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام ١٩٣٢ عن أعماله في التكافؤ الكهربي واكتشاف الهيدروجين الذري — أن يعود إلى العمل (بعد تقاعده)؛ لدراسة ظاهرة تكون الثلوج على أجنحة الطائرات. توجه مع مساعده فنسنت جوزيف شايفر (١٩٠٦–١٩٩٣) إلى جبال نيو هامبشاير المعروفة برياحها الباردة البطيئة وعواصفها الثلجية. وهناك، كانت المفاجأة الكبيرة؛ حيث لاحظا أنه على الرغم من أن درجة حرارة السحب عادة ما تكون تحت الصفر، فإنه لم تتكون بلورات ثلجية. كانا على دراية بالنظرية التي صاغها علماء فرنسيون ونرويجيون — خاصة أعمال تور هارولد بيرسيفال بيرجيرون (١٨٩١–١٩٧٧) — والتي تنص على أن قطرات الماء تتكون حول حبيبات دقيقة، ثم تتحول إلى بلورات من الثلج لتسقط بعد ذلك على هيئة أمطار. ولذلك اشتدت بهما الدهشة من البرودة القارسة للسحب دون أن يتسبب عنها تكون ثلوج. كان شايفر شديد الاهتمام بالثلوج، حتى وجد طريقة يحافظ بها على شكل بلورات الثلج بهدف دراستها في معمله.

وبعد أن انتهى عملهما أثناء الحرب، استكمل شايفر أبحاثه لاكتشاف جسيم ما يمكن لبلورات الثلج أن تتكون حوله في جو رطب وشديد البرودة. وقام بتجارب على عدة مواد، واثقًا من أنه سينجح يومًا ما. كان يحتفظ ببعض البودرة والسكر وبعض المواد الأخرى في ثلاجته. وهيأ الجو الرطب البارد لتجاربه. ففي سبيل محاكاة جو السحب، كان ينفخ داخل ثلاجته ثم يلقي حفنة من أي مادة داخلها. ولمدة شهور، ظل يجرب كل ما يمكن تخيله، ولم يحصل إلا على نتيجة واحدة: أن قاع ثلاجته أصبح مغطًى بكل المواد التي استخدمها.

وفي صباح أحد أيام شهر يوليو، كان مستغرقًا في تجاربه المعتادة، حينما جاءه صديق يدعوه للذهاب إلى أحد المطاعم. وكالعادة، لم يقم بغلق ثلاجته، وهو ما لم يكن ضروريًّا بما أن الهواء البارد ينزل للقاع ولا يخرج. وعند عودته من الغداء، استعد شايفر لاستكمال عمله، وعندها لاحظ أن درجة حرارة الثلاجة ارتفعت إلى درجة أعلى من التي تبقي بلورات الثلج صلبة. كان الوقت صيفًا، لا بد إذن من الحذر في الأيام الأخرى. كان أمامه خياران: غلق ثلاجته والانتظار حتى تنخفض درجة الحرارة من تلقاء نفسها، أو التعجيل بالأمر عن طريق إضافة ثلج مكربن، وهو ما فعله. ومضى ليحضر قطع الثلج المكربن ووضعه والبخار يتصاعد منه داخل الثلاجة. وفي الضوء، لاحظ وجود قطع دقيقة عالقة في البخار. وعلى الفور، أدرك أنها بلورات ثلج؛ أي إنه نجح في صنع الثلج، ليس عن طريق إضافة جسيمات مواد وإنما عن طريق تبريد البخار الخارج مع أنفاسه مؤديًا إلى تبلوره. ومن ثم أخذ ينفخ داخل الثلاجة وهو يضع كميات كبيرة من الثلج المكربن، وبدأ الثلج يتكون ويسقط في القاع. كان عليه أن يعيد التجربة مرة أخرى لكن في السحاب الحقيقي. جهز طائرة بها معدات تساعده على إلقاء الثلج المكربن على السحب. وفي أحد أيام نوفمبر الباردة، حيث بدت السحب مبشرة بأمطار، طار شايفر بينما ظل لانجموير على الأرض للملاحظة. وبعدما وجد سحابة مناسبة، شغل شايفر ماكينة الثلج المكربن، لكن الجو كان شديد البرودة لدرجة أن المحرك تعطل قبل أن يستخدم نصف كمية الثلج المكربن. ونظرًا لعجزه عن إصلاحه، ومعاناته من برودة الجو، بدأ يلقي ما تبقى من الثلج المكربن من النافذة على السحاب. واستقبله لانجموير بصيحات النصر: لقد نجح في صنع الثلوج!

عندما اكتشف شايفر أنه ليس في حاجة إلى جزيئات دقيقة من أجل بلورة الثلوج، قرر بالطبع وقف أبحاثه في هذا المجال. إلا أن باحثًا شابًّا آخر — أيضًا من شركة جنرال إلكتريك — برنارد فونجيت (١٩١٤–١٩٩٧) بدا مهتمًّا بالأمر. كان قد ولد في عام ١٩١٤ في أنديانابوليس، ودرس عملية تصنيع الثلج أثناء دراسته بكلية الهندسة. وكان أستاذه والتر فينديزن (١٩٠٩–١٩٤٥) قد اقترح استخدام مادة ما كجزيء مبلور. لكن فونجيت لم يستغرق وقتًا طويلًا لإدراك خطأ فكرة أستاذه؛ لأن الجزيئات كانت كبيرة جدًّا. ومضى يتصفح مؤلفات في الكيمياء لكي يجد فيها مركبًا ما يكون له الشكل المناسب ويكون صغيرًا بما يكفي. ووجد ضالته المنشودة في أيودين الفضة، وامتلأ ثقة. وبمجرد أن تم توظيفه بشركة جنرال إلكتريك، توصل إليه وتمكن من اختراع طريقة ما ليرسل بها هذه الجزئيات شديدة الدقة في الهواء. لكن لم يحدث شيء. واستمر في عناده، رفضًا منه الاعتراف بأن شايفر كان محقًّا. وأعاد حساباته مرات عديدة، وفي نهاية المطاف، طلب من أحد زملائه أن يفحص له أيودين الفضة. وبالفعل لم يكن نقيًّا. فحضره من جديد، وأعاد تجربته التي نجحت تلك المرة. وعلى الرغم من أن أيودين الفضة مكون باهظ الثمن، فإن فونجيت اكتشف طريقة عبقرية لتحويله إلى بخار، مما يؤدي إلى استخدام كميات أقل لتصبح طريقة استخدامه أكثر اقتصادًا من طريقة شايفر وهذه هي الطريقة التي لا تزال تستخدم إلى الآن.

(٢-١٤) التصوير التجسيمي (هولوجرافي)

ولد دنيس جابور (١٩٠٠–١٩٧٩) في الخامس من يونيو ١٩٠٠ بمدينة بودابست. وفي عام ١٩٧١، حصل على جائزة نوبل في الفيزياء لاختراعه طريقة التصوير التجسيمي للأشياء بأشعة الليزر ومساهمته في تطويرها. في الأصل، كان جابور يرغب في تطوير المجهر الإلكتروني في سبيل رؤية الشبكات الذرية، بل حتى الذرات منفردة. لم يكن الأمر عبارة عن تحسين منظور الآلات وإنما كيفية استخراج قدر أكبر من المعلومات من الصورة التي يعطيها الجهاز. لكنه وجد شيئًا آخر غير ما كان يبحث عنه، وهي الظاهرة التي أسماها الأديب الإنجليزي هوراس والبول (١٧١٧–١٧٩٧) السرنديبية في عام ١٧٥٤، استنادًا إلى قصة «أمراء سرنديب الثلاثة» التي أعاد إحياءها (وسرنديب هو الاسم القديم لجزيرة سيلان). وتعني هذه الكلمة — التي ليس لها مقابل في اللغة الفرنسية — فن الاستفادة من المصادفات العابرة والسعيدة من أجل بلوغ اكتشاف ما.

بدأ جابور أبحاثه باستخدام ضوء مصباح يعمل ببخار الزئبق يمر عبر حاجز رقيق للغاية. وتقوم تقنية التصوير بالأشعة على خلق البعد الثالث استنادًا إلى صورة سلبية، لم يسجل عليها فقط شدة الضوء المنعكس، وإنما أيضًا الطول الموجي المناسب. وتحتوي الصور السلبية الهولوغرافية على المعلومة القادمة من الشيء المصور، وأيضًا تلك القادمة من مصدر الضوء. ولكي تتداخل الموجتان، لا بد من أن تكونا منخفضتي التردد وصادرتين من نفس المصدر. ويتحقق هذان الشرطان في الضوء المنبعث من الليزر. ويعد إيميت إن ليث وجوريس أوبتنيكس أول من استخدما الليزر عام ١٩٦٢، مما ساهم في تطوير هذه التقنية بصورة كبيرة. ونلاحظ — مرورًا — أن عملية التصوير بالليزر تعتمد على ظاهرة خطوط التداخل التي كان جابرييل ليبمان (١٨٣٧–١٩٢١) قد استخدمها لتطوير طريقته في التصوير المباشر بالألوان في بداية عام ١٨٩١.

وقد روى جابور بنفسه قصة اكتشافه الذي يرجع إلى عام ١٩٤٨:

كانت نقطة الانطلاق في اكتشافي هي رغبتي في تحسين المجهر الإلكتروني … كنت أفكر فيه وأدركت أنه كان يتوقف عند حدود انفصال الشبكات الذرية أو عند ظهور ذرة منعزلة. كما أنه كان من الصعب تصنيع عدسة ذرية جيدة، ففكرتُ لماذا لا أصنع عدسة سيئة ثم آخذ صورة سيئة وأعمل على تحسينها. واستلزم هذا الحصول على صورة تحتوي على معلومات كاملة. كانت الصور العادية خالية من أي أطوار. وكانت فكرتي هي إضافة طور نمطي. كانت فكرة واضحة لكونها قابلة للتنفيذ.

جاءتني الفكرة البسيطة بإعادة تكوين الصورة الأصلية في يوم عيد الفصح منذ حوالي خمسة وعشرين عامًا … كنت جالسًا بالمدرجات في انتظار بدء مباراة تنس … بشكل عام، أعتقد أن أي فكرة جديدة بحق تتكون في العقل الباطن. فإذا واجهتكم مشكلة، فانسوها ثم فكروا فيها بعمق مرات ومرات من كل الزوايا، ثم انسوها مجددًا وانتظروا حتى يظهر الحل في العقل الباطن. عادة لا يظهر الحل، لكنه يبزغ في بعض الأحيان. ثم اتضحت لي فكرة أخرى إذا صح القول — أثناء نومي — بخصوص اختراعاتي الأخيرة حول التصوير بالليزر، الذي هو قادر على ترجمة وتحويل الرمز إلى آخر، الأمر الذي أدركته أثناء نومي.

ويبدو أن فكرة الابتكار داخل العقل الباطن تعمل بنفس الطريقة في العلوم كما في مجالات أخرى للنشاط الإنساني. وهكذا كتب الروائي الإنجليزي ويليام سومرست موم (١٨٧٤–١٩٦٥) يقول:

تأتيني القصص مباشرة. أنا على يقين بأن العقل الباطن هو الذي يقوم بالعمل الشاق، فأنت تبدع بصورة خلاقة اعتمادًا على عقلك الباطن، ثم تأتي مراحل إعادة الكتابة والمراجعات مع التنقيح والتوسعات حتى تقتنع بأنك قمت بأفضل ما في استطاعتك بعمل عقلك الواعي.

وكان لبول فاليري (١٨٧١–١٩٤٥) «نفس الاعتقاد … بأنه في أثناء المرحلة الأكثر حيوية في البحث العقلي، لا يكون هناك فرق بين المناورات الداخلية للفنان أو الشاعر وبين تلك التي للعالم.» وكأن الاستنارة لها نفس الطابع، ولا سيما أن فاليري كتب في مكان آخر يقول: «إن هناك ما يشبه وصول شعور ما إلى النفس، نوع من البريق، لكنه ليس بريقًا مضيئًا فقط وإنما بريق مبهر.» والحال نفسه مع يوهان فولفجانج فون جوته (١٧٤٩–١٨٣٢) وآرثر شوبنهاور (١٧٨٨–١٨٦٠). ويمكن إضافة المزيد من الأمثلة.

(٢-١٥) الانفجار العظيم

منذ أمد بعيد وعلماء الفيزياء الفلكية يعلمون أن الكون يتمدد (حتى الآن؟) وأن المجرات تتباعد الواحدة عن الأخرى؛ أي إنه كانت هناك لحظة ما — بين عشرة وثمانية عشر مليار سنة وفقًا للنظريات — كانت فيها كل مادة الكون متركزة في مكان واحد، ثم انفجر كل هذا كقنبلة نووية حرارية. هذه هي اللحظة التي يسميها الفيزيائيون الانفجار العظيم. على مدار السنوات الأخيرة، أصبحت هذه النظرية مقبولة عالميًّا، فهي تشرح في البداية لماذا يتمدد الكون، وأيضًا لماذا يحتوي على تلك الكمية الكبيرة من الهليوم، ٢٥٪.

في عام ١٩٦٤، قام عالمان في معامل شركة بل للهواتف، هما أرنو آلان بنزياس (المولود عام ١٩٣٣) وروبرت وودرو ويلسون (المولود عام ١٩٣٦)، بالعمل على الهوائيات المستخدمة للاتصال مع الأقمار الصناعية تليستار وإيكو. وجذب انتباههما موجات الراديو المنبعثة من الهالة الغازية التي تحيط بمجرتنا وحاولا إزالة ضوضاء الخلفية التي تعيق الاستقبال. لكن لم تكن لديهما أي معرفة خاصة بالفيزياء الفلكية. وظنَّا في البداية أن تلك الضوضاء مصدرها الهوائي بنزولهما وصعودهما عليه. وحاولا تنظيفه من مخلفات الحمام، ثم غلفا الوصلات بأوراق الألومنيوم. لكن ظلت الضوضاء مستمرة. ولم تكن تأتي من محيط الهوائي ولا سيما أنها كانت ثابتة ليلًا ونهارًا ولها نفس الخواص. وبما أن هذين الباحثين لم يكونا على دراية بنظرية الانفجار العظيم، لم يدُرْ بخَلَدِهما أن هذه الضوضاء سببها الإشعاع المنبعث من الظاهرة الذي فقد طاقته تدريجيًّا — أثناء رحلته عبر الزمن والفضاء — وحدث له انحراف كبير تجاه اللون الأحمر مما يجعله غير ملحوظ في الطيف الإشعاعي إلا في نطاق موجات الراديو.

في ديسمبر ١٩٦٤، تمكن بنزياس من الحديث عن مشكلته مع أحد علماء الفلك، الذي كان قد سمع عن نظرية الانفجار العظيم أثناء أحد المؤتمرات. وهكذا علم بنزياس وويلسون أن الضوضاء التي يسمعانها ما هي إلا إشعاع موجي شديد القصر نتج عن الانفجار الأصلي؛ أي إنهما كانا يسمعان صوت الكون ويراقبان كرة النار الأولية التي ولدت الكون.

وبفضل هذا الاكتشاف، حصلا على جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٧٨.

(٣) الكيمياء

(٣-١) تخليق البول

في بداية القرن التاسع عشر، كان العلماء يعتقدون أن المواد الكيميائية تنقسم إلى مجموعتين متمايزتين: المواد الخاملة، غير العضوية — التي إذا ما تم تسخينها ثم تبريدها تسترد حالتها الأصلية — والمواد الحية، العضوية كالكربون، التي تتغير بفعل الحرارة. كان هناك اعتقاد بأنه توجد قوًى حيوية وراء تفاعلات المواد العضوية، فيما عرف بنظرية الحيوية. ومن ثم نشأ نوعان متوازيان من الكيمياء المعدنية والعضوية. في الكيمياء المعدنية، يكون من المستحيل إعادة تنظيم ترتيب الجزيئات المختلفة المكونة للمادة، بينما في الكيمياء العضوية يكون هذا هو أساس الدراسات التي أُجريت جميعها. إلا أن أول حاجز هُدم في ١٨٢٣ على يد ميشيل يوجين شيفرول (١٧٨٦–١٨٨٩) عندما قام بعرض بعض القوانين المشتركة بين المعادن والمركبات العضوية.

ولد فريدريش فوهلر (١٨٠٠–١٨٨٢) في قرية ألمانية صغيرة تدعى إيشيرشيم. وكان مولعًا بجمع العينات المعدنية وأيضًا بدراسة الكيمياء، لكنه التحق بجامعة ماربورج لدراسة الطب. ثم تمكن في النهاية من التوفيق بين المجالين، وعكف على إجراء تجارب كيميائية على بعض سوائل الجسم البشري بمعمله الصغير الذي أسسه مؤقتًا داخل حجرته. في ذلك الوقت، لم تكن الكيمياء والطب مجالين مختلفين فقط، وإنما غير متوافقين. فكان لا بد من التخصص في أحد المجالين. ورفض فوهلر هذا الخيار، ومضى يبحث عن أستاذ يقدر مهارته المزدوجة. ووجده في شخص ليوبولد جميلين (١٧٨٨–١٨٥٣) بجامعة هيدلبرج والمعروف بمواهبه في الكيمياء وبكونه طبيبًا في ذات الوقت.

واجتاز فوهلر مرحلة الدكتوراه — بتشجيع من جميلين — بجامعة هيدلبرج، واستأنف أبحاثه في الكيمياء. ونصحه جميلين أن يذهب إلى أوبسالا ليدرس الكيمياء على يد جونز جاكوب بيرزيليوس (١٧٧٩–١٨٤٨). ولم يصدق فوهلر عينيه أمام ما قام به بيرزيليوس من تحديده للكتلة الذرية لعدد كبير من العناصر وقيامه بوضع جدول لها، وهو الجدول الذي سيطوره مندليف في صورة جدول دوري بمواد أبسط. وكان عمل فوهلر الأول هو قيامه بتحليل مختلف المعادن. وبعد أن أنهى دراسته التكميلية، عاد فوهلر إلى برلين كأستاذ في الكيمياء. وفي عام ١٨٢٧، اكتشف أن هناك عنصرًا جديدًا — وهو الألومنيوم — تلاه اكتشاف البريليوم.

وفي عام ١٨٢٨ حدث الاكتشاف الذي غير وجه الكيمياء العضوية. قبل أربع سنوات، كان فوهلر قد نجح في مزج حمض السيانيد مع الأمونيا (النشادر) مكونًا مركبًا جديدًا يتكون من ذرة كربون وذرة أكسجين وذرتي نيتروجين وأربع ذرات هيدروجين. ونشر نتائج تحليله الكيميائي في مجلة «أخبار الكيمياء».

ولاحظ جوزيف جي لوساك (١٧٧٨–١٨٥٠) — الذي كان يدير المجلة في ذلك الوقت — أن هذا التحليل كان مطابقًا لتحليل مركب آخَر درسه جوستس فون ليبيج (١٨٠٣–١٨٧٣) من عام سبق. لكن كان ناتج ليبيج أزرق اللون، بينما ناتج فوهلر أبيض. واندلع جدال بين الكيميائيين. كان من المستحيل أن يحتوي ناتجان مختلفان على نفس المكونات. وجاء الحل على يد بيرزيليوس بإثباته أن الذرات اختلفت مواضعها في كلٍّ من المادتين.

إلا أن فوهلر أعاد تجربته بحرص، فقام بتسخين حمض السيانيد والأمونيا معًا، ثم قام بتبخير السائل بالغليان، وما تبقى كان عبارة عن بلورات بيضاء رفيعة. تحير فوهلر بشدة عند رؤية هذه البلورات. كان قد أجرى العديد من التجارب وكان على علم بالعديد من المواد. وكان شكل البلورات مشابهًا تمامًا لبلورات البول، التي اكتشفها هيلار مارين رويل المعروف برويل الأصغر (١٧١٨–١٧٩٩) في عام ١٧٧٣، وتمكن من فصلها وأسماها حينها «المستحضر الصابوني من البول». كان أمرًا غريبًا، فلم يكن من الممكن صنع البول داخل المعمل، فهو مركب عضوي! وأثناء دراساته الطبية، كان فوهلر عادة ما يفصل هذه البلورات في البول. كانت تنتج عن نظام حي أثناء التمثيل الغذائي. كان أنطوان لوران دي لافوازييه (١٧٤٣–١٧٩٤) قد أثبت أن الحياة عبارة عن عملية كيميائية من الاحتراق الذي يولد طاقة ويتخلص من بعض المواد. كان البول أحد تلك المواد؛ أي إنه مادة عضوية لا يستطيع الإنسان صنعها بصورة صناعية. إلا أن الحل ظهر: فقد استطاع فوهلر تركيب البول من حمض السيانيد والأمونيا. وليزيد من قناعته، أضاف فوهلر حمض النيتريك إلى البول الطبيعي وبلوراته، وكانت النتيجة كما هي. حقق فوهلر ما كان يُعتقد أنه مستحيل: إنتاج مادة عضوية من مادة غير عضوية. كان مدركًا تمامًا للتبعات الفلسفية، بل أيضًا الدينية لاكتشافه. وجاء الدليل على أن العمليات الكيميائية للحياة لا تتطلب أي قوة حيوية في عام ١٨٩٧ على يد إدوارد بوشنر (١٨٦٠–١٩١٧)، الأمر الذي أهله لنيل جائزة نوبل في الكيمياء لعام ١٩٠٧.

إلا أن قصة البول لا تنتهي هنا، فلقد قاد تخليقه ومعرفة دائرة العلماء تركيبه إلى افتراضات (اتضح خطؤها) حول تكونه داخل الجسم الحي في الكبد. وأثبتت تجارب حول تغذية الحيوانات أنه إذا ما أضفنا بعض سكر الغراء (جليكوكول) أو اللوسين إلى غذائها يزيد إدرار البول، مما قاد إلى الافتراض أن هذه الأحماض الأمينية تكون وسيطًا بين البروتينات والبول. وفيما بعد أظهرت تجارب مماثلة أن أملاح الأمونيوم تحدث نفس التأثير. وباستخدام الحقن لأكباد معزولة، تم إثبات أن أملاح الأمونيا واللوسين والتيروسين والحمض الأسابرتي تزيد من تكون البول، ومن ثم استخلص أن البول يتكون في الكبد من الأحماض الأمينية والأمونيا. لكن لم تسمح الصعوبات التجريبية المرتبطة بطرق الحقن بالوصول إلى الفصل بين الافتراضات المختلفة. كان هذا هو الوضع عندما بدأ هانز أدولف كريبس (١٩٠٠–١٩٨١) أعماله في عام ١٩٣١.

قام باختبار الأحماض الأمينية المختلفة على رقائق من الأنسجة، وهي طريقة تعلمها في معمل أوتو هاينريش فاربورج (١٨٨٣–١٩٧٠) الحاصل على جائزة نوبل في الطب والفسيولوجيا عام ١٩٣١. كانت النتائج سلبية، وخلص منها إلى أن الجلوكوز يمنع تكوين الأمونيا من الأحماض الأمينية. وقبل بالفكرة المعترف بها، في حين أن الأمونيا كان ناتجًا وسيطًا أساسيًّا. وقضى أربعة أشهر محاولًا توصيف تكوين البول من الأمونيا.

ثم جاء طالب طب جديد — كيرت هينزيليت (١٩٠٨–١٩٧٣) — لمعاونة كريبس الذي عزم على تحديد المصدر الأصلي للأزوت (النيتروجين) الذي في البول، والذي كان يعتقد أنه الأحماض الأمينية. وأعطت عدة مواد نتائج سلبية. وخلال الأسبوعين الأخيرين من نوفمبر ١٩٣١، درس كريبس وهينزيليت أثر الجلوكوز والفركتوز واللبنات والسيترات، التي تلعب دور الوسيط في الأيض الغذائي لهيدرات الكربون. لم تكن لديهما أي افتراضية محددة، وإنما درسَا هذا الاتجاه لأنهما لاحظَا اختلافًا في إنتاج البول بين صفائح الكبد المأخوذة من الفئران الجيدة التغذية والفئران الجائعة. وفي الخامس عشر من نوفمبر، قام هينزيليت بتجربة حمض أميني جديد — اليورينين — ومزج بينه وبين كلورور الأمونيوم. وأنتج المزيج جرعة قوية من البول. حتى الرابع عشر من يناير ١٩٣٢، كان كريبس يتبع خطة تقليدية تقوم على تجربة مشتقات المزيج، دون أن تسفر أي محاولة عن نتائج مشابهة لليورينين؛ أي إن تأثير هذا الحمض الأميني كان مميزًا، ومن ثم يجب أخذه في الاعتبار في آلية إنتاج البول. لكن لم يكن لدى كريبس افتراضية يقوم بصياغتها.

ابتداءً من الرابع عشر من يناير، حظي كريبس وهينزيليت بفرصة استخدام مادة جديدة في سبيل عمل مقارنات أكثر دقة بين الأمونيا المستخدمة والبول المنتج. ومنذ الثالث والعشرين من يناير، كان فعليًّا على يقين بأن الأمونيا هي مصدر الأزوت في البول. وكان يجب اكتشاف الدور الذي يلعبه اليورينين. وشيئًا فشيئًا توصل كريبس إلى أنه عامل محفز. وعلى الرغم من أن هذا الاستنتاج قد يبدو لنا اليوم بديهيًّا، فإنه يجب أن نتذكر أنه في عام ١٩٣٢ كانت دراسة التحفيز لا تزال حديثة العهد. أدرك كريبس أن الأرجينين يتحول إلى بول ويورينين. وخطرت له فكرة أن هذا التفاعل يجب أن ينظم في جدول. في غضون ذلك، استمر هينزيليت في دراسة آثار اليورينين. وتمكن في الثالث عشر من أبريل من إثبات أن جزيء اليورينين يمكن أن ينتج أكثر من أربعة وعشرين جزيئًا من البول؛ أي إن التفاعل كان محفزًا.

وتدريجيًّا، بدأت حلقة تركيب البول تتكون في عقل كريبس. إلا أن تحويل اليورينين إلى أرجينين لم يكن ليتم في خطوة واحدة. كان لا بد من وجود وسيط. واكتملت النظرية عندما وجد كريبس مقالًا بتاريخ ١٩٣٠، وفيه تم إثبات أن السيترولين وسيط بين اليورينين والأرجينين. وفي منتصف مايو ١٩٣٢، استطاع كريبس أن يرسل مقالًا يصف فيه تلك الحلقة بالكامل: ينتج اليورينين والأمونيا مادة السيترولين، التي تنتج الأرجينين، الذي يعطي في النهاية بولًا ويورينين.

نرى أن بعض مراحل ذلك الاكتشاف كانت منطقية، بينما تبدو أخرى غير مألوفة. وكانت أول فكرة غير مألوفة وخالية من أي أساس منطقي لكريبس وهينزيليت هي فكرة تجربة اليورينين. والفكرة الغريبة الثانية هي تطرقهم إلى التحفيز، وهي إمكانية لم تكن تُدرس بكثرة في ذلك الوقت. يجب إذن التحليق بالفكر بعيدًا وعدم التقيد بالأفكار التقليدية.

(٣-٢) بنية البنزول

تم اكتشاف البنزول في قطران الفحم الحجري عام ١٨٢٥ على يد مايكل فاراداي (١٧٩١–١٨٦٧)، الفيزيائي والكيميائي الإنجليزي المعروف بأعماله حول القوة الكهرومغناطيسية التي تولدها الموجات. في عام ١٨٣٣، تمكن الكيميائي الألماني إيلهارد ميتشيرليتش (١٧٩٤–١٨٦٣) من تركيب البنزين عن طريق تسخين حمض البنزويك فوق طبقة من الجير، وأسماه البنزين benzine وأعطاه الصيغة C3H3. وفي عام ١٨٤٨، تمكن أوجست فيلهلم فون هوفمان (١٨١٨–١٨٩٢)، أحد تلاميذ جوستس فون ليبيج (١٨٠٣–١٨٧٣)، من استخلاص البنزين من قطران الفحم الحجري.
يمتلك البنزول — وصيغته الكيميائية هي C6H6 — بنية سداسية. فالستة أصول CH المكونة له لا تصطف خطيًّا في الفضاء، وإنما على صورة ستة رءوس لشكل سداسي.
ولقد تم اكتشاف تلك البنية في عام ١٨٦٥ على يد الكيميائي الألماني فريدريش أوجست كيكولي فون شترادونيتز (١٨٢٩–١٨٩٦) الذي كان يعمل في ذلك الوقت أستاذًا بجامعة جاند قبل أن ينتقل إلى بون. قبل اكتشافه، لم يكن معروفًا سوى بنى الكيميائية الخطية. إلا أنها لم تكن تتيح تفسير خواص عدد كبير من المواد الكيميائية. كان لا بد من تخيل بنًى أخرى. ويروي كيكولي بنفسه قصة اكتشافه:

أثناء إقامتي بلندن، مكثت فترة طويلة بشارع كلافام بالقرب من حديقة كلافام العامة. لكني كنت أقضي أمسياتي مع صديق لي يدعى هوجو مولر — المقيم بإيسلنجتون في الطرف الآخر من المدينة — وكنا نتحدث عن كل شيء، خاصة الكيمياء المفضلة لدينا. وفي مساء خريفي، عدت إلى منزلي في آخر حافلة — كنت راكبًا في الدور العلوي كالعادة — عبر الشوارع الخالية في تلك الساعة … واستغرقت في أحلام جميلة، وعندها رأيت ذرات تتراقص أمام عيني.

حتى تلك اللحظة، كانت تلك الكائنات الدقيقة تظهر لي في حالة من الحركة الدائمة كل مرة، حركة لم أكن قد تمكنت بعد من تحديد ماهيتها. في هذه المرة، رأيت كيف تتحد ذرتان صغيرتان لتكونا زوجًا، وكيف تتمكن ذرة أكبر من جمع ثلاث بل أربع من هذه الذرات الصغيرة، وكيف يدور كل هذا في حلقة سريعة. ورأيت الذرات الأكبر حجمًا تكون سلسلة، تجذب الأصغر وراءها، ليلتحموا فقط بأطرافها … أيقظني صياح سائق الحافلة من أحلامي، لكني قضيت الجزء الأكبر من ليلتي في رسم بعض هذه الأشكال التي تراءت لي في حلمي. كان ذلك أساس نظرية البنية.

ولقد حدث لي نفس الأمر مع نظرية البنزول. أثناء إقامتي بجاند ببلجيكا، كنت أعيش في شقة صغيرة فاخرة تطل على شارع رئيسي. وكان مكان عملي يطل على حارة مظلمة لا يدخلها ضوء النهار. لكن بالنسبة لكيميائي مثلي يقضي يومه كله في معمله، فهذا أمر لا يهم. كنت عاكفًا على كتابة بحث ما، لكن العمل لم يكن يتقدم جيدًا، كانت أفكاري شاردة في مكان آخر. أدرت مقعدي ناحية المدفأة وغفوت. ومن جديد عادت الذرات تتراقص أمام عيني. لكن هذه المرة ظلت الذرات الصغيرة في المؤخرة كنوع من التواضع. كان ذهني — الذي أصبح أكثر حدة من جراء تكرار هذه الرؤى — أصبح الآن قادرًا على التمييز بين البنى والتكوينات المتنوعة: رأيت صفوفًا طويلة من الذرات على شكل خيط من نسيج القطن الهندي تدور وتتلوى كالثعابين. لكن انظروا ماذا حدث. بدأ أحد هذه الثعابين يقضم ذيله ويدور أمامي كمن يسخر من نفسه. واستيقظت في لحظة خاطفة، وأيضًا قضيت باقي الليل في استخلاص نتائج تلك الفرضية.

اكتشف كيكولي بنية البنزول. وبذلك يمكن اعتباره مؤسس الكيمياء العضوية البنيوية التي تعطي للذرات مواضع معينة في الجزيئات بموجب مبادئ الهندسة دون أن يؤخذ في الاعتبار طبيعة القوى بين الذرات. ولقد أثبتت مفاهيم كيكولي الطابع العملي لمفهوم تكافؤ العناصر. كما ساهم اكتشافه في تطوير الكيمياء العضوية الحلقية (الأروماتية). وأصبح من الممكن تصنيع هرمونات وفيتامينات وغيرها من الأدوية اعتمادًا على البنزول الذي يمتلك تأثيرًا إيجابيًّا على الصحة. كما تدخل مركبات حلقية (أروماتية) أخرى في المجال الحربي مثل ثالث نترات التولوين TNT والغازات المسيلة للدموع.

لكن هل كان اكتشاف كيكولي بالفعل ثمرة أحد أحلامه؟ في الواقع، في عام ١٨٦١، قام الفيزيائي والكيميائي النمساوي يوهان جوزيف لوشميدت (١٨٢١–١٨٩٥) بنشر كتيب — على نفقته الخاصة — وصف فيه البنية السداسية لما يقرب من مائة مادة من الهيدروكربونات الحلقية (الأروماتية)، لكن كيكولي لم يُرِدْ قَطُّ الاعتراف بأثر سابقه على تفكيره. ووفقًا له، فإن رسومات لوشميدت تمثل فقط تفاعلات كيميائية ولا تمثل بنية الجزيئات.

(٣-٣) الجدول الدوري

كلما تم اكتشاف عناصر كيميائية جديدة بات تصنيفها ضرورة ملحَّة. وهكذا، لاحظ الكيميائي الألماني يوهان فولفجانج دوبراينر (١٧٨٠–١٨٤٩) في عام ١٨١٦ أن هناك بضعة عناصر يمكن أن يتم تجميعها ثلاثيًّا بحسب خواصها الكيميائية. ثم في عام ١٨٦٣، قام ألكسندر إميل بيجوييه دي شانكورتوا (١٨٢٠–١٨٨٦) — الأستاذ بمدرسة المناجم بباريس — بترتيب العناصر تصاعديًّا بحسب وزنها الذري بشكل حلزوني مرسوم على هيئة أسطوانة قُسمت إلى ستة عشر جزءًا متساويًا. ولاحظ أن العناصر الواقعة على نفس الخط الرأسي تمتلك خواص مشتركة. لكن لم يكن النجاح حليف اكتشافه الذي أسماه باللولب الأرضي tellurique. في عام ١٨٦٤، لاحظ الإنجليزي جون ألكسندر رينا نيولاندز (١٨٣٧–١٨٩٨) أن بعد كل سبعة عناصر نجد نفس الخواص الفيزيائية والكيميائية المتقاربة. واستهزأ المجتمع الملكي بما أسماه قانون المسافات، وسألوه هل يمكنه الحصول على نفس النتيجة بترتيب العناصر ترتيبا أبجديًّا؟
نحن الآن في عام ١٨٦٩. كان قد مضى عامان على التحاق ديميتري إيفانوفيتش مندليف (١٨٣٤–١٩٠٧) بالعمل كأستاذ للكيمياء بجامعة سان بطرسبرج. لكنه لم يكن راضيًا عن الطريقة التي تُدرس بها الكيمياء في ذلك الوقت، فلم يكن هناك أدنى ترتيب، أو أدنى تجانس، أو أدنى شيء مشترك بين العناصر يتيح تصنيفها بدلًا من عرضها — في أحسن الأحوال — على شكل مجموعات منعزلة من العناصر تمتلك بعض نقاط التشابه. أراد مندليف تيسير عمله كأستاذ بإيجاده لطريقة منطقية لتصنيف العناصر. كنا نعرف حينها أن العناصر (الذرات) تتَّحد لتشكل جزيئات أكثر تعقيدًا. وهكذا فعندما تتحد ذرتا هيدروجين بذرة أكسجين فإنها تكون جزيء الماء، وتمتلك كل ذرة عنصر وزنًا خاصًّا بها. هذا لا يعني أنه بقدرتنا أن نزن كل ذرة بمفردها، لكننا نعرف — بفضل العديد من التجارب — نسب العناصر التي تتحد معًا. فعلى سبيل المثال، عند حرق جرامين من الهيدروجين وستة عشر جرامًا من الأكسجين، نحصل على ثمانية عشر جرامًا من الماء، ومن ثم لم يكن من الممكن معرفة الوزن الحقيقي لكل ذرة، وإنما الوزن النسبي بالمقارنة بالذرة الأخف وهي الهيدروجين التي اتفق على إعطائها الوزن الذري ١، بينما الأكسجين ١٦، والنحاس ٦٣، وهكذا. وهو ما يسمى بالوزن الذري (المعروف الآن بالكتلة الذرية)، وهو مفهومٌ طوَّره جون دالتون (١٧٦٦–١٨٤٤) في الفترة ما بين ١٨٠٣ و١٨٠٨، ولقد قام الكيميائي الإيطالي ستانيسلاو كانيزارو (١٨٢٦–١٩١٠) في عام ١٨٦٠ بإعطاء أول تحديدات موثوق فيها للكتلة الذرية، وهو نفسه الذي توصل قبل عامين إلى تعريف مفهوم ثابت أفوجادرو.

في الأول من مارس ١٨٦٩، ترك مندليف بطرسبرج لزيارة أحد مصانع الجبن. وأثناء رحلته — التي كان منشغلًا فيها بالتفكير في الفصل الذي يجب أن يلي فصل المعادن في الكتاب الذي يؤلفه — خطرت له بغتة فكرة ترتيب العناصر تصاعديًّا حسب كتلتها الذرية. وبطريقة لعبة الأوراق، استطاع تصنيف العناصر المعروفة في ذلك الوقت والبالغ عددها ثلاثة وستين. وقد أدرك أن نفس السلوك الكيميائي يتكرر بشكل دوري. وبعد تجنيب الهيدروجين، الذي أصبح يمثل مصنفًا بمفرده، بدأت القائمة بالليثيوم الذي يذوب أوكسيده في الماء مخلفًا مادة قلوية. وبعد سبعة عناصر، نجد أن الصوديوم يتمتع بنفس الخاصية، وبعده بسبعة عناصر البوتاسيوم أيضًا الذي يتميز بذات الخاصية، وهكذا.

قام مندليف بتقسيم قائمته بعد كل سبعة عناصر، وكتبها في سطور متتالية. وأصبح كل عمود يضم عائلة من العناصر لها سلوك كيميائي متشابه. إلا أنه واجه بعض المصاعب مع العناصر الأكثر ثقلًا، وكان عليه أن يضع فواصل كل سبعة أو عشرة عناصر بالتبادل لكي يحتوي كل عمود على العناصر المتشابهة. وكان يجب أيضًا ترك بعض الفراغات في الجدول. فعلى سبيل المثال، نجد أن الكالسيوم يتبعه التيتانيوم الذي يصبح ضمن عائلة البورون والألومنيوم التي لا تشبهه. ومن ثم كان من الضروري ترك فراغ ووضع التيتانيوم أسفل الكربون والسيليسيوم اللذين لهما خواص مماثلة. وملأ مندليف الفراغ بعنصر افتراضي أسماه الإيكابور. وفي مواضع أخرى، كانت هناك فراغات ملأها مندليف بعناصر تخيلية. ومرت الأعوام، وتدريجيًّا امتلأت الفراغات، واكتشف أن هذه العناصر الخيالية موجودة في الواقع. فقد كنا في عام ١٨٨٦.

في عام ١٨٦٤، كان يوليوس لوثر ماير (١٨٣٠–١٨٩٥) — أستاذ الكيمياء بجامعة كارلسروه — قد قدم لتلاميذه كتابًا عرض فيه لطريقة تصنيف العناصر تبعًا لتكافئها. ومن أجل الطبعة الثانية منه، أعد في عام ١٨٦٨ تصنيفًا دوريًّا آخر. وكما فعل مندليف، ترك ماير أماكن فارغة للعناصر الناقصة. ولسوء حظه، أدى تأخير الطباعة إلى نشر كتابه في عام ١٨٧٠؛ أي بعد عام من نشر منافسه لكتابه. وقد كان هذا النزاع حول الأولوية مصدرًا لعذاب مندليف لأعوام.

لكن القصة لا تتوقف هنا. ففي عام ١٩١٠، احتاج الكيميائي فريدريك سودي (١٨٧٧–١٩٥٦) — الذي عمل طويلًا مع البارون نلسون إرنست رذرفورد (١٨٧١–١٩٣٧) — إلى مادة الميزوثوريوم، فاشترى مادة الثوريانيت وأضاف عليها باريوم، وحصل على الميزوثوريوم مع كبريتات باريوم مترسبة. حاول بالطبع فصلهما، لكن مع كل ترسيب ظلت نسبة كلٍّ منهما ثابتة. وقد صُدم سودي من مدى تقارب العنصرين وتشابه خواصهما لدرجة تعجزه عن فصلهما. فهو أمر مخالف لقوانين الكيمياء: كانا جسمين مختلفين لهما كتلتان ذريتان مختلفتان لكنهما متشابهان كيميائيًّا! مما أوحى له بأن العناصر العادية غير المشعة يمكن أن تشكل مجموعات تمتلك عناصرها كتلًا ذرية مختلفة لكن لها خواص كيميائية متشابهة تجمعها معًا. ومن ثم وضعها معًا في نفس الخانة من جدول مندليف الدوري. وهو ما نسميه الآن النظائر، وهي الكلمة المشتقة من كلمة يونانية بمعنى الأشياء التي توجد في مكان واحد. وتكريمًا لأعماله، حصل سودي على جائزة نوبل في الكيمياء لعام ١٩٢١. وحظيت العناصر المشعة المعروفة في ذلك الوقت على مكانها داخل الجدول عام ١٩١٢ بفضل أعمال كازيمير فايان (١٨٨٧–١٩٧٥)، الكيميائي البولندي الأصل الذي كان يعمل أيضًا بجامعة كارلسروه.

لكن القصة لم تنته بعد.

في عام ١٩١١، اقترح إرنست رذرفورد نموذجًا كونيًّا للذرة تدور بموجبه مجموعة الإلكترونات حول النواة المركزية. ثم في عام ١٩١٣، أصدر نيلز هنريك دافيد بور (١٨٨٥–١٩٦٢) افتراضية تقول إن هذه الإلكترونات تدور في مدرات مختلفة لكنها محددة جيدًا. ويحتوي كل مدار على عدد ثابت من الإلكترونات، وبصورة متدرجة. والعناصر التي تحتوي على نفس عدد الإلكترونات في الطبقة الخارجية يكون لها نفس الخواص الكيميائية. كما أنه لا يوجد انبعاث للطاقة إذا انتقل إلكترون من مدار مستقر إلى آخر أقل طاقة. لكن لم يكن أحد يعلم عدد الإلكترونات الموجودة التي تدور حول نواة ذرة الكربون أو الألومنيوم. وكانت الافتراضية الأقرب هي افتراضية جوزيف جون طومسون (١٨٥٦–١٩٤٠) التي يقول فيها إن عدد الإلكترونات يكون مساويًا لنصف الكتلة الذرية للعنصر.

في ذلك الوقت، كان أنطونيوس يوهانز فان دن بويك (١٨٧٠–١٩٢٦) مقيمًا بهولندا. وكان يدرس القانون، بينما كان أكثر ما يجذب اهتمامه هو التصنيف الدوري للعناصر. وظل يبحث عن قاعدة بسيطة قادرة على تفسير كل شيء. كان رذرفورد قد اقترح يومًا ما — بدافع من المنطق — أن الجزيء يجب أن يكون له نفس علاقة الوزن، الكتلة التي لنصف ذرة الهليوم. ووجد فان دن بويك في تلك الفكرة ضالته المنشودة؛ لأنه بوحدة وزن وبكتلة ذرية تساوي اثنين، قدم هذا الجزيء لطومسون قاعدة حول عدد إلكترونات الذرة. لم يكن هناك أي سبب علمي لطرح هذه القاعدة، ولم يكن هناك ما يرشده — تمامًا مثل مندليف — سوى حرصه على التبسيط والجمال. لكن بدت الفكرة مثيرة لرذرفورد، الذي قام بترقيم جميع عناصر الجدول الدوري بالترتيب، واعتبر أن هذا الرقم (الرقم الذري ) يساوي ببساطة عدد الإلكترونات التي تدور حول النواة (ومن ثمَّ مساوٍ لعدد بروتونات النواة). وكان بالفعل محقًّا. ولقد ثبتت صحة هذه الافتراضية في العام ذاته ١٩١٣ على يد هنري جوين جيفريز موزلي (١٨٨٧–١٩١٥) — الذي كان أحد طلبة رذرفورد — عند قيامه بمقارنة طيف الأشعة السينية للعناصر المختلفة. أصر موزلي — على الرغم من ضغوط زملائه — على التطوع في الجيش في بداية الحرب العالمية، ولقي مصرعه في العاشر من أغسطس ١٩١٥ في معركة جاليبولي.

بقيت مشكلة معرفة ما إذا كانت العناصر غير المشعة يمكن أن يكون لها — هي الأخرى — نظائر (أي عناصر لها نفس الرقم الذري، لكن لا تمتلك نواتها نفس عدد النيوترونات، ومن ثم تختلف كتلتها الذرية).

تصدى فرانسيس ويليام أستون (١٨٧٧–١٩٤٥) — مساعد جوزيف جون طومسون بمعمل كافنديش بجامعة كامبريدج — في عام ١٩٠٩ لهذه المسألة، إلا أن أعماله توقفت بسبب الحرب. وبفضل جهاز المنظار الطيفي للكتلة — والذي طوره في عام ١٩١٩ — تمكن من اكتشاف نظائر لما لا يقل عن مئتين واثني عشر عنصرًا، مفسرًا من ثم لماذا قد لا تكون الكتل الذرية (المساوية لمجموع أرقام البروتونات والنيوترونات الموجودة في النواة) رقمًا صحيحًا: يجب أن يؤخذ في الاعتبار التناسب بين كل نظير في العينات التي يتم تحليلها. إلا أن هذا الأمر لم يصبح مفهومًا إلا بعد اكتشاف النيوترون عام ١٩٣٢ على يد جيمس تشادويك (١٨٩١–١٩٧٤). بما أن النيوترون محايد، فإن العدد الذري للنظيرين يكون واحدًا، ويحتلان إذن نفس المكان في الجدول الدوري لمندليف، وتكون خواصهما الفيزيائية والكيميائية واحدة. ولقد حصل أستون على جائزة نوبل في الكيمياء عام ١٩٢٢. ولمزيد من الدقة، يجب لفت الانتباه إلى أن الكتل الذرية للعناصر — حتى النقية — ليست بالضبط رقمًا صحيحًا بسبب التعادل بين الكتلة والطاقة التي تجمع جزيئات النواة.

وبالطبع، يمتلك جدول مندليف دلالة أعمق بكثير من تلك التي تلوح من الوهلة الأولى. فالخواص الفيزيائية والكيميائية للمواد تتحدد وفقًا لعدد إلكتروناتها. هذه الإلكترونات تنقسم على مستويات مختلفة، لا يقدر كل مستوًى إلا على حمل عدد معين من الإلكترونات. وتكون إلكترونات المستوى الخارجي هي المسئولة عن الخواص الكيميائية للذرة. ويكون للذرات الواقعة في عمود واحد من الجدول الدوري نفس عدد الإلكترونات في مستواها الخارجي. وفي نهاية كل خط من الجدول، نجد الغازات النادرة التي تمتلئ مستوياتها الخارجية بالكامل، ومن ثم فلا تمتلك سوى علاقات تشابه قليلة جدًّا.

وهكذا، اتضحت الرابطة بين النظرية الكمية للذرة (أي خواصها الفيزيائية) وخواصها الكيميائية المتشابهة التي أبرزها الجدول الدوري.

(٣-٤) قوانين الميكانيكا الكيميائية

كان هنري لو شاتولييه (١٨٥٠–١٩٣٦) كيميائيًّا وعالم تعدين فرنسيًّا. وقد روى في كتابه «في منهج العلوم التجريبية» (دونون، باريس، ١٩٣٦)، عدة اكتشافات، ولا سيما اكتشاف قوانين الميكانيكا الكيميائية:

في هذه الحالة، كان قد تم استنتاج قوانين كيميائية جديدة — دون إجراء تجارب حديثة — استنادًا إلى قوانين معروفة من قبل: قانون الديناميكا الحرارية — ثمرة أعمال سادي كارنو حول القوة المحركة للنار — وقانون التوازن الكيميائي، ثمرة تطور تجارب سانت-كلير دوفيل حول التفكك.

وبفضل العلاقة الطيبة التي جمعت بين والدي وسانت-كلير دوفيل، كنت دائمًا متابعًا للاكتشافات الخاصة بالتفكك. كما تابعت باهتمام المؤلفات التي تتناول هذا الفرع الجديد من الكيمياء. وعلى إثر أعمال دوبراي حول التوترات الثابتة للتفكك في كربونات الكالسيوم، نشر عالمان فرنسيان هما بيسلين وموتييه على التوازي — دون أن يقرأ أحدهما للآخر — ملاحظات في دفاتر الأكاديمية لإثبات أنه — تحت تأثير التوترات الثابتة — يمكن تطبيق قانون كلابيرون-كارنو الخاص بتوتر بخار الماء على توتر تفكك كربونات الكالسيوم.

صدمتني على الفور هذه الفكرة، دون أن أدري لماذا. وتركت لدي نفس الأثر الذي نستشعره حينما يكون علينا حساب عمر قبطان سفينة بمعرفة تاريخ ميلاده وارتفاع أكبر سارية. فالتوتر الثابت بدا لي شديد البعد عن الموضوع.

فإما أن تكون ظواهر التوازن تتبع جميعها قوانين الديناميكا الحرارية أو لا تتبع شيئًا.

وعكفت على دراسة هذه المشكلة، وظللت أدرسها مدة عام دون نتيجة. لم أكن بالطبع خبيرًا بطرق الديناميكا الحرارية، ولا معتادًا على الحساب الرياضي. وفجأة أضاءت ذهني فكرة أثناء مطالعتي لكتيب سادي كارنو حول القوة المحركة للنار، التي لم أكن أعرفها بعد؛ لأنه عادة لا يُذكر أي شيء عن مثل هذه الطرق في التفكير أثناء التعليم التقليدي. كان كارنو قد اكتفى بتطبيق مبدأ استحالة الحركة الدائمة على الجهد المبذول لنقل الحرارة. فبما أن التفاعلات الكيميائية تتطلب عملًا بل ويمكن إجراءها بالعكس، فمن الممكن تطبيق مثل هذه الأفكار عليها بالمثل. ونجحت في صياغة قوانين انتقال التوازن وفي مد نطاق قانون كلابيرون-كارنو إلى جميع الأنظمة وحيدة التغير، سواء التي تشهد توترًا ثابتًا أم لا.

وبعد أن أتممت هذه الدراسة، كان عليَّ الاعتراف بأن عالمًا أمريكيًّا يدعى جي دبليو جيبز كان قد توصل — في وقت سابق لأبحاثي — إلى استنتاج نفس قوانين الديناميكا الحرارية التقليدية. لكنه اكتفى بوضع صيغها الجبرية، دون صياغتها باللغة الدارجة، فلم يدرك أحد أهمية عمله. ويرجع الفضل إلى أبحاثي وأبحاث فانتهوف في تعريف الكيمائيين بالقوانين الأساسية للميكانيكا الكيميائية، دون أن يكون لنا الحق في ادعاء أسبقية اكتشاف هذه القوانين.

وحري بنا أن نقر أنه — في مجال العلوم الفيزيائية والكيميائية — يعد اكتشاف قوانين جديدة فقط عن طريق التركيب الجبري للقوانين السابقة أمرًا نادرًا.

فأي فكرة — حتى وإن كانت في مجال آخر — قد تقود بالمثل إلى اكتشاف.

(٣-٥) فيتامين ج

ولد ألبرت زينت جورجي (١٨٩٣–١٩٨٦) بمدينة بودابست. وحصل على جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب في عام ١٩٣٧ لاكتشافاته في مجال الأكسدة في علم الأحياء، ولا سيما لأبحاثه حول فيتامين ج.

لاحظ الجميع أنه إذا سقطت تفاحة، يتحول لونها مكان السقطة إلى اللون البني. هذا اللون هو دليل الأكسدة الناتجة عن رد فعل دفاعي للخلايا. وبدأ زينت جورجي بدراسة الفواكه التي لا يحدث لديها هذا النوع من الأكسدة مثل الليمون والبرتقال. وأدرك أنه — في بعض حالات التفاعل — قد يحدث تأخير لمدة ثانية أو نصف الثانية. وأرجع هذا التأخير إلى وجود مادة معينة، عكف على البحث عنها. وأخيرًا، تمكن من بلورتها، ثم كان عليه أيضًا تحديد تركيبها الكيميائي وتكوينها. لكنها كانت مهمة شاقة؛ لأنه لم يكن يمتلك من تلك المادة سوى كمية ضئيلة. وبعد إقامته لمدة عام في الولايات المتحدة الأمريكية، عاد ومعه خمسة عشر جرامًا من المادة الشهيرة، وهي كمية كبيرة كان فخورًا بها. لكنها نفذت بسرعة، قبل أن يتمكن من اكتشاف تركيبها الكيميائي. وظل زينت جورجي يبحث في العديد من النباتات، دون فائدة. فلم يجد في أيٍّ منها كمية كافية من المادة المنشودة.

في ذلك الوقت، انتقل للعيش في زيجيد، المنطقة الرئيسية لزراعة الفلفل الحلو الذي يقدره المجريُّون. وذات مساء، قدمت له زوجته طبقًا من الفلفل الحلو على العشاء، دون أن تعلم أنه يعاني من صعوبة في هضمه. لكن لم تُوَاتِه الشجاعة ليقول لها ذلك. وأدرك على الفور أنه لم يُجرِ أي تجارب على الفلفل الحلو ليعرف إن كان يحتوي على المادة المنشودة أم لا. عندها — بدافع من الجبن الزوجي كما اعترف هو ذاته — قال لزوجته إنه لن يأكل الفلفل الحلو لكنه سيأخذه معه إلى معمله ليحلله. وبعد أسبوع، أصبح بين يديه كيلوجرام ونصف من المادة التي لم يكن يستطيع من قبل الحصول على ملِّيجرام واحد منها في المرة. كان قد اكتشف فيتامين ج.

وقد توفي ألبرت زينت جورجي في وودزهول بماساتشوستس في الرابع والعشرين من أكتوبر ١٩٨٦.

(٤) العلوم الطبيعية

(٤-١) نظرية التطور

ها هي مصادفة أخرى، طُرحت نظرية تطور الأنواع بصورة مستقلة ومتزامنة على يد تشارلز داروين (١٨٠٩–١٨٨٢) وألفريد راسل والاس (١٨٢٣–١٩١٣). ويبدو أن التاريخ لم يحتفظ إلا باسم داروين. لكن الأمر الطريف أن يكون الباعثَ على اكتشاف العالمين شيء واحد: نظرية توماس روبرت مالتوس (١٧٦٦–١٨٣٤) حول زيادة السكان. ففي كتابه «بحث حول عدد السكان» الذي نُشر عام ١٧٩٨، ذكر مالتوس — بخصوص التزايد السكاني في عالم الأحياء — عدة أسباب تحدُّ، وفقًا لما يرى، من انتشار النباتات والحيوانات: نقص المساحة والغذاء، وأيضًا كون الحيوانات فرائس بعضها لبعض. ولم تكن هذه الملاحظات سوى تأكيد لحدس داروين، الذي يروي بنفسه:

سرعان ما أدركت أن الانتخاب يمثل حجر الزاوية في تمكين الإنسان من إنتاج الأنواع المفيدة من الحيوانات والنباتات. لكن ظلت كيفية تطبيق مبدأ الانتخاب على الكائنات الحية في الطبيعة لغزًا بالنسبة لي لمدة طويلة. في أكتوبر ١٨٣٨؛ أي بعد خمسة عشر شهرًا من بدء أبحاثي المنظمة، حدث أنني كنت أقرأ بدافع التسلية كتابًا بعنوان «مالتوس والسكان»، ونظرًا لكوني مهيأً — بفضل ملاحظتي الطويلة لعادات الحيوانات والنباتات — لفهم الصراعِ الدائمِ الحدوثِ من أجل البقاء، فقد صدمتني حقيقة أنه في تلك الظروف تميل التغيرات الجيدة إلى الاستمرار، بينما تضمحل التغيرات السيئة. وينتج عن ذلك ظهور سلالات جديدة. وأخيرًا وجدت نظرية لأعمل عليها …

كما يقول باستير: «الحظ لا يفضل سوى الأذهان المستعدة!»

أما والاس، فلقد درس كتاب مالتوس أثناء عمله كمعلم بليسيستر من ١٨٤٤ وحتى عام ١٨٤٥. وبعد مضي عدة أعوام، بالتحديد في ١٨٥٨، كان في جزيرة مولوك لجمع الفراشات والخنافس، وهناك يروي:

كنت أعاني من حمى شديدة ومتقطعة، وكل يوم كان عليَّ أن أستلقي عدة ساعات بسبب حالات السخونة والبرودة الحادة. في ذلك الوقت، لم يكن لدي ما أفعله سوى التفكير في أكثر ما يثير اهتمامي. وفي يومٍ ما تذكرت كتاب «مبدأ السكان» لمالتوس، الذي كنت قرأته قبل عشرين عامًا. وظللت أفكر في وصفه لمعطلات النمو: المرض، والحوادث، والحروب، والمجاعة، وغيرها؛ التي كانت تبقي عدد سكان الأجناس المتوحشة في مستوًى متوسط أقل بكثير من معدل الشعوب المتحضرة. وعلى الفور خطرت لي فكرة أن هذه العوامل أو مثيلاتها تعمل أيضًا دون توقف في عالم الحيوان … فلماذا يموت بعضها، بينما يعيش البعض الآخر؟ كانت الإجابة واضحة: في المجمل، يمتلك الأكثر جدارة القدرة على البقاء. فينجو الأوفر صحة من المرض، والأقوى أو الأسرع أو الأوسع حيلة ينجو من الأعداء، ويتغلب على المجاعة الأكثر قدرة على الصيد أو من يمتلك قدرة أكبر على الهضم، وهكذا دواليك. وبدا لي فجأة أن هذه العملية التي تنظم الأنواع من شأنها بالضرورة تحسين السلالة. ففي كل جيل، تضمحل العناصر الأَقل، ولا يبقى سوى العناصر الأرقى؛ أي لا ينجح في البقاء سوى الأصلح … وظللت أنتظر على أحر من الجمر انتهاء الحمى لأدون بسرعة هذه الملاحظات لأكتب مقالًا في هذا الأمر.

نلاحظ أن هذه الفكرة خطرت لوالاس أثناء فترة راحة إجبارية، كان من الممكن أن يدع عقله يشرد فيها.

كان والاس مشغولًا منذ ثلاثة أعوام بفكرة بقاء الأصلح. وظل يدون أفكاره ويرسلها إلى داروين، راجيًا إياه توصيلها إلى الجيولوجي الإنجليزي الشهير سير تشارلز لايل (١٧٩٧–١٨٧٥). ولقد أجبر هذا الأمر داروين على الإسراع بنشر أعماله، فلقد فاجأه طلب والاس. لكن بفضل العديد من العلماء الذين يعرفون سبق أعماله، استطاع أن يقتنص الاعتراف بأسبقيته في الاكتشاف في الأول من يوليو ١٨٥٨، على إثر قضية تعد علامة في تاريخ العلوم. وظهر كتاب داروين «أصل الأنواع» في الرابع والعشرين من أكتوبر ١٨٥٩، وبيعت منه في ذات الليلة جميع النسخ البالغ عددها ١٢٥٠ نسخة. وعلى الفور أقر والاس باستحقاق داروين:

… روعة هذا الكتاب، والتجميع الواسع النطاق للأدلة، وقدرته على إظهار الحجج، وأسلوبه البديع، وطريقة التفكير الواضحة فيه. أنا سعيد بأنه لم يقع على عاتقي مسئولية تقديم هذه النظرية للعالم. فلقد خلق السيد داروين علمًا جديدًا وفلسفة جديدة، ولا أعتقد أنه سبق لأحد أن رأى شبيهًا لهذا الفرع الجديد من المعرفة الإنسانية الذي ندين فيه إلى أعمال وأبحاث شخص واحد.

(٤-٢) علم الوراثة

على النقيض، ليس شرطًا أن نطرح الأسئلة الصحيحة لنصل بها إلى اكتشافات.

هذا هو ما حدث أثناء عمل يوهان جريجور مندل (١٨٢٢–١٨٨٤). ولد مندل في النمسا لأسرة متواضعة تملك مزرعة صغيرة، وبدا نابغًا في دراسته. ولقد لفت نظر راعي كنيسة قريته، فقرر إرساله إلى معهد الفلسفة بأولوموك استعدادًا لإلحاقه بالجامعة. لكن نتيجة الفقر والإحباط، اكتفى بقبول عرض أحد أساتذته بالالتحاق بدير برنو. وفي سبتمبر ١٨٤٣، تم قبوله ببيت الرهبان، وتغير اسمه ليصبح جريجور. ثم عين قسيسًا في عام ١٨٤٨، وبدأ يعلم في مدارس ومعاهد المناطق القريبة، مخصصًا وقت فراغه لدراسة العلوم الطبيعية. لكن في عام ١٨٤٩، صدر مرسوم يلزم القائمين على التدريس بالحصول على درجة أكاديمية. فمضى مندل إلى فيينا ليجتاز الاختبارات، لكنه كان على حد وصف ممتحنيه:

لا يدري شيئًا عن المصطلحات العلمية … ويسمي الحيوانات باللهجة الألمانية العامية، متجنبًا المصطلحات النظامية. وعلى الرغم من دراسته بحمية واهتمام، فإنه يفتقر إلى المعرفة، وحتى القليل الذي يعرفه، لا يعرفه بوضوح كافٍ.

لم ينل الإحباط من مندل. وابتداءً من عام ١٨٥١، عاد إلى فيينا ليلتحق بمحاضرات الفيزياء التي يلقيها يوهان كريستيان دوبلر (١٨٠٣–١٨٥٣). ودرس أيضًا علم النبات والفسيولوجيا النباتية وعلم الحشرات وعلم الحفريات. واستطاع — تحت إشراف دوبلر — أن يتعلم الدقة التجريبية التي ستساعده كثيرًا فيما بعد. ثم حظيت باهتمامه نظريات فرانز أونجر (١٨٠٠–١٨٧٠) — أستاذ فسيولوجيا النبات — التي تدعو إلى الدراسة التجريبية لطريقة ظهور الصفات على النبات على امتداد أجيال متعاقبة سعيًا إلى حل مشكلة تهجين النباتات.

وبعد عودته إلى برنو، وضع مندل خطة لمجموعة من التجارب تهدف إلى تفسير قوانين أصل وتكوين النباتات المهجنة. لم يستطع العلماء الذين سبقوه استخلاص أي قانون؛ نظرًا لعملهم على مجموعة نباتات تمتلك عددًا كبيرًا من الصفات المختلفة. أما مندل، فقد اختار أن يعمل على البقول التي تؤكل، والتي تمتلك سبع صفات يمكن لكلٍّ منها أن تظهر على نحوين مختلفين يمكن التمييز بينهما بسهولة: شكل البذرة، ولونها، ولون الغلاف، وشكل الفص، ولونه، ووضع الزهور، وطول الساق. ثم عقد تقابلًا بين نوعين: البذور الناعمة، والبذور المجعدة. واكتشف أن النباتات المهجنة في الجيل الأول يكون لها بذور ناعمة. وفي عام ١٨٦٥، كتب في بحثه بعنوان «تجارب على تهجين النبات»:

في المناقشة التالية، نُطلق اسم الصفات السائدة على الصفات التي تنتقل كاملة أو تقريبًا بدون تغير إلى المهجن، وتمثل هي ذاتها من ثم صفات هجينة، وصفات متنحية على الصفات التي تظل كامنة في التكوين. ولقد اختير لقب متنحية لأن هذه الصفات تنمحي أو تختفي تمامًا لدى الهجين لتظهر دون أي تعديل في سلالته، على النحو المبين لاحقًا.

ولقد أثبتت الأبحاث أيضًا أنه ليس من المهم معرفة هل الصفة السائدة تعود إلى النبات الأنثى أم الذكر، فالشكل المهجن يظل كما هو في الحالتين.

ومن ثم فإن النعومة تعد صفة «سائدة»، أما التجعيد فهو «متنحٍّ». وتحصل المهجنات على عامل من كلٍّ من والديها. هذا هو قانون مندل الأول، الذي يناقض الحدس الرئيسي لداروين حول الانتقال الوراثي للمميزات المكتسبة، وينفي بالقطع مفهوم الوراثة بالاختلاط الذي صاغه فرانسيس جالتون (١٨٢٢–١٩١١)، ابن عم داروين. ولقد اتضح أن مندل محق بعد اكتشاف الجينات السائدة والمتنحية.

في الموسم التالي، زرع مندل بذورًا مهجنة ناعمة، وحصل على جيل آخَر يمتلك بذورًا ناعمة وأخرى مجعدة بنسبة ثلاثة إلى واحد. واستخلص مندل من ظهور صفة التجعد في الجيل الثاني أنه كان كامنًا. ولقد أتاحت له هذه التجربة الإعلان عن قانونه الثاني الذي ينص على أن الصفات تنتقل دائمًا للأجيال التالية بنفس النسبة. واستنتج أنه حتى وإن ظلت الصفة خفية، فإنها تظل موجودة داخل النبات. واليوم، يرتبط هذا الاكتشاف بدراسة خطر انتقال الأمراض الوراثية من الآباء إلى الأطفال. ويمكن تفسير هذه النسبة الثابتة، ثلاثة إلى واحد، إذا افترضنا أن البذرة المخصبة قد ورثت من كلٍّ من والديها «عنصرًا محددًا» للصفة صافيًا وقابلًا للنقل. ويكون تركيب الاثنين هو العامل الذي يحدد شكل النبات. لكن لم يكن لدى مندل أي فكرة عن طبيعة هذه العوامل الافتراضية. لكنه كان يدرك بالفعل أنه توصل إلى أمر جديد جذريًّا. لم تكن الوراثة تقترب من الجوانب الإلهية أو الروحانية، لكن نتائجها لم تكن لتتماشى بسهولة مع معارف ذلك العصر. ولذلك وليجنب نفسه الانتقادات، درس مندل حوالي ثمانية وعشرين ألف نبات.

ثم انتقل إلى دراسة الانتقال المتوازي لعدة صفات. ووفقًا لقانونه الثالث، يمكننا التنبؤ بنتائج النباتات ذات الصفات المختلفة، لكن كلما اختلفت النباتات، كلما أصبحت النتائج أكثر تعقيدًا.

تعد قوانين مندل خطوة مهمة للأمام، إلا أنها لا تقدم تفسيرًا لكل شيء. فمندل مثلًا لم يتوقع الردة الوراثية؛ أي ظهور صفة ما بعد اختفائها في أجيال متعددة.

لم يعلن مندل أفكاره إلا في عام ١٨٦٦؛ أي بعد ستة عشر عامًا من التجارب. وظل بحثه — المنشور في مجلة محلية مغمورة — في طي النسيان لأكثر من ثلاثين عامًا. ولم يؤكد العلماء صحة نظرياته إلا بعد ستة عشر عامًا من وفاته.

واليوم يعتبر جريجور مندل المؤسس الأول لعلم الوراثة.

في عام ١٩٠٠، أضاف الهولندي هوجو دي فريس (١٨٤٨–١٩٣٥) أمرًا أساسيًّا إلى قوانين مندل: أنه قد تظهر صفات جديدة لا يمتلكها أيٌّ من الوالدين. ولقد مكنت هذه «الطفرات» من فهم أفكار داروين حول تطور الأنواع. وندرك في عجالة — بفضل الميكروسكوب — أن هناك مكونات داخل نواة الخلية تسمى الكروموسومات وهي التي تقوم بدور العوامل المحددة التي تحدث عنها مندل، ومن ثم فهي التي تحملها. وهكذا ظهرت نظرية الكروموسومات للنور في عام ١٩٠٢.

شهد منتصف القرن العشرين تطورًا سريعًا، فأصبحنا ندرك أن الجين (الاسم الذي أطلق في عام ١٩٠٩ على العوامل الوراثية) يقابله بروتين معين. وبعد ثلاثة أعوام، أثبت إرفين شارجاف (١٩٢٩–١٩٩٢) أنه عبارة عن أجزاء من الحمض النووي المكون لجزيء الكروموسومات.

في عام ١٩٥١، تمكنت روزاليند إلسي فرانلكين (١٩٢٠–١٩٥٨) — عالمة التبلور بالمعهد الملكي بكامبريدج — من الحصول على أول صورة لانكسار الأشعة السينية في الحمض النووي. كانت الصورة مهتزة نوعًا ما، لكن كان من الممكن ملاحظة شكل حلزوني منتظم. وصاغت العالمة الشابة — في تقرير لم ينشر — فرضيتها حول بنية الحمض النووي. لكن نظرًا لأسباب ودوافع شخصية بينها وبين زملائها الذكور — خاصة رئيسها موريس ويلكنز (١٩١٦–٢٠٠٤) — تم تهميش روزاليند فرانلكين وإقصاؤها من فريق البحث. وفي عام ١٩٥٣، أعلن جيمس واطسون (المولود عام ١٩٢٨) وفرانسيس كريك (١٩١٦–٢٠٠٤) وموريس ويلكنز؛ اكتشاف البنية الحلزونية الثنائية للحمض النووي. وفي عام ١٩٦٠، حصلوا على جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب، من دون روزاليند التي كانت قد توفيت مبكرًا قبل أربعة أعوام جراء إصابتها بالسرطان، ربما بسبب الأشعة السينية التي كانت تستخدمها في عملها مدة سنوات.

استلزم الأمر عشر سنوات أخرى لفهم العلاقة بين وحدات الحمض النووي والبروتينات المقابلة. في عام ١٩٦١، أثبت فرانسوا جاكوب (المولود عام ١٩٢٠) وجاك مونو (١٩١٠–١٩٧٦) دور الحمض الريبي النووي (رنا) في تكوين البروتينات. وفي عام ١٩٦٦، اكتشف كلٌّ من هار جوبيند خورانا (المولود عام ١٩٢٢) ومارشال وارن نيرنبرج (المولود عام ١٩٢٧) الشفرة الوراثية.

وبعد عشرة أعوام، شهدنا تطوير أول تقنية لتحديد الترتيب التسلسلي لمكونات الحمض النووي على يد كلٍّ من فريدريك سانجر (المولود عام ١٩١٨) ووالتر جيلبير (المولود عام ١٩٣٢). ولقد نالا جائزة نوبل في الكيمياء عام ١٩٨٠، وهي الثانية بالنسبة لسانجر. ثم تلى ذلك تحديد الترتيب التسلسلي لمكونات بكتيريا «المستديمة النزلية» في عام ١٩٩٥، ولذبابة الخل عام ١٩٩٩. في عام ٢٠٠٠، قامت الشركة الأمريكية سيليرا جينوميك بعرض خريطة للجينوم البشري. وفي الأول من يناير ٢٠٠٣، أعلن الاتحاد الدولي لتحديد الترتيب التسلسلي لمكونات الجينوم البشري — الذي يضم ألمانيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا واليابان والمملكة المتحدة — أنه تم فك شفرة الحمض النووي بالكامل.

(٤-٣) التشخيص المناعي (المَصْلي)

يروي عالم الأحياء الفرنسي شارل نيكول (١٨٦٦–١٩٣٦) القصة التالية:

كان فرناند فيدال — أثناء مروره بالقسطنطينية — يتحدث مع أخيه موريس حول مسألة التحام الميكروبات، كما كانت معروفة في ذلك الوقت استنادًا إلى ملاحظات هربرت درهام وماكس جروبر. أثبت هذان العالمان أن دم الحيوانات المصاب ببعض أنواع الميكروبات يكتسب خاصية التجمع في مجموعات تلتحم بميكروبات من نوع واحد. ونحن مدينون لأعمالهم بالقدرة على التعرف على ميكروب من آخر مجاور ومشابه له بطريقة محددة ومناسبة. ويكون المصل المحدد هو الكاشف عن الميكروب.

وفجأة يقلب فيدال الأمر في ذهنه، فبدا له أنه بما أننا نستطيع التعرف على الميكروب بفضل المصل المحدد، فإنه يمكن — عن طريق زرع الميكروب — اكتشاف وجود الخواص المحددة داخل مصل المريض. ومن ثم فإن ميكروب حمى التيفوئيد سيلتحم بمجرد إضافة نقطة من مصل دموي مأخوذ من شخص مصاب بهذا المرض. ولن يكون لأي مصل آخر نفس رد الفعل.

عاد فيدال بسره هذا إلى باريس، ومضى يجري التجارب اللازمة التي أكدت فرضيته. ومن هنا تأسست طريقة التشخيص المناعي (المصلي) للأمراض التي أصبحت شائعة الاستعمال ومفيدة على المستوى اليومي.

ولد جورج فرناند إيزودور فيدال في التاسع من مارس ١٨٦٢ بديليس بالجزائر، وكان والده جراحًا بالجيش. درس فيدال الطب في باريس، وأصبح طبيبًا عام ١٨٩٣، وحصل على الإجازة في عام ١٨٩٤، ثم أصبح أستاذًا للباثولوجي في عام ١٩١١. كان معلمًا لامعًا شديد الاعتناء بإعداد محاضراته. كان متواضعًا شديد التقدير لقدرات زملائه. كان اكتشافه الرئيسي هو التشخيص المناعي للتيفوئيد، لكنه أثبت أيضًا أن احتباس الأملاح هو سبب التهاب الكلى والوذمات القلبية (الأوديما)، وأوصى في تلك الحالات بنظام غذائي خالٍ من الصوديوم. ولقد توفي في الرابع عشر من يناير ١٩٢٩ بباريس.

(٤-٤) التكاثر العذري

التكاثر العذري هو التناسل عن طريق بويضة غير مخصبة وهي ظاهرة تلاحظ في النحل وتنتج حشرة تشبه النحل وتظهر بين ذكور النحل أو عند بعض النباتات.

وقد قام يوجين باتايون بوصف اكتشاف هذا النوع من التكاثر:

في صباح يوم أحد بشهر مارس عام ١٩١٠، وقفت مسلوب اللب أمام عدسة المجهر متأملًا لوحة مبهرة: حضانة بيض متعدد المني للكلاميت (نوع من الضفادع) مكسوة بالحيوانات المنوية للسمندل، وكان البيض مغطًى بهذه العناصر الذكورية الغريبة ذات الرءوس الكبيرة التي ظهرت على الألواح وكأنها رءوس إبر جراح. وفجأة وردت إلى ذهني فكرة أن أي صدمة طفيفة، كوخزة رفيعة من زجاج أو معدن، قد يكون لها نفس الأثر الذي للحرارة أو لفرط التوتر العضلي. لكن بالطبع لم يكن لدي سوى عامل جديد من التكاثر العذري الفاشل. وعلى الفور، أعددت سلسلة من أنابيب الاختبار الزجاجية وقمت بتوزيع بيض أنثى بالغة على الأنابيب. ووجدت أن البيض الموضوع جافًّا أصبح مغطًى بالماء. إنها تجربة كلاسيكية الآن لكن حينئذٍ جاوزت نتائجها كل الآمال … يا ترى ما هو العامل الرباني المسبب لهذه النتيجة غير العادية التي طالما سعى إليها الناس دون جدوى؟

قضى باتايون وقتًا طويلًا للوصول إلى الحل. وفي عام ١٩٤٧ عهد إلى جان روستاند بمخطوطته «بحث حول التناسل» لينشرها له بعد وفاته. وهو ما فعله روستاند راويًا هذا الاكتشاف بكافة تفاصيله.

ولد جان يوجين باتايون في الثاني والعشرين من شهر أكتوبر عام ١٨٦٤ في أنوار في مقاطعة جورا بفرنسا. وعمل معيدًا في المدرسة الثانوية ببلفور عام ١٨٨٤ وليون عام ١٨٨٤ على التوالي، ثم عمل مساعدًا في كلية العلوم بليون عام ١٨٨٧، ومحاضرًا في كلية العلوم بديجون عام ١٨٩٢، وأستاذًا من عام ١٩٠٣ وحتى عام ١٩١٩. وفي نفس الوقت الذي عمل فيه أستاذًا بكلية الطب بديجون من عام ١٩٠٩ وحتى عام ١٩١٩ شغل منصب العميد. ثم عمل أستاذًا بكلية العلوم بستراسبورج، بين عامي ١٩١٩ و١٩٢١، وعميدًا لجامعة كليرمونت فيران من ١٩٢١ وحتى ١٩٢٤، وأيضًا أستاذًا في علم الحيوان وعلم التشريح المقارن بكلية العلوم بمونبلييه من عام ١٩٢٤ وحتى ١٩٣٢، ومديرًا لمحطة سيت. ثم قرر التقاعد مبكرًا في عام ١٩٣٢، وتوفي في الأول من نوفمبر عام ١٩٥٣ في كاستلنو لو ليه بالقرب من مونبلييه.

كان باتايون يقول: «عبرت الحياة ضيفًا.»

(٤-٥) الانجراف القاري

لنُعطِ مثالًا لتعددية التخصصات التي أربكت العديد من العلماء على مدى فترة طويلة.

لم يكن لدى القدماء تصور واضح للقارات، ولم يسبق لأيٍّ منهم أن قام بجولة في أيٍّ منها. لكنهم كانوا يعتقدون أن المناطق المختلفة التي يعرفونها والتي تفصلها البحار كانت موجودة منذ قديم الزمان، ولم تتحرك قط بالطبع. ومنذ أرسطو (٣٨٤ق.م–٣٢٢ق.م) كان الاعتقاد السائد أن الأرض قد اكتسبت الصفات التي نعرفها خلال كوارث كبرى وقعت في وقت قصير وأنها غير قابلة للتغيير. طبقًا للكتاب المقدس، خُلقت الأرض في ستة أيام. وظل هذا المفهوم الذي يطلق عليه نظرية الكارثية catastrophism بالإضافة إلى نظرية الخلق سائدين لأكثر من عشرين قرنًا.

في القرن السادس عشر بدأ عمل المستكشفين، وكان في البداية اكتشاف أمريكا في عام ١٤٩٢ عن طريق كريستوفر كولومبوس (حوالي ١٤٥١–١٥٠٦). ثم فتح الملاح البرتغالي فاسكو دي جاما (حوالي ١٤٦٩–١٥٢٤) الطريق إلى الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح في عام ١٤٩٧. وأخيرًا، اكتشف ملاح برتغالي آخر يدعى فرنانو دي ماجلاس، المعروف في فرنسا باسم فرديناند ماجلان (١٤٨٠–١٥٢١)، المضيق الذي يحمل اسمه وكان هو أول من يدور حول الأرض. فالأرض إذن كروية! قتل ماجلان في السابع والعشرين من أبريل عام ١٥٢١ في جزيرة ماكتان في أرخبيل الفلبين.

منذ أواخر القرن السادس عشر، شارك الجغرافيون بشكل أكبر ورسموا خرائط دقيقة بما فيه الكفاية للمحيط الأطلسي. وفي عام ١٥٩٦، لاحظ الجغرافي أبراهام أورتيليوس (١٥٢٧–١٥٩٨) نوعًا من «التوازي» بين بعض سواحل أفريقيا وأمريكا. وافترض أن هناك انفصالًا ما قد حدث وأن الأميركتين ابتعدتا عن أوروبا وأفريقيا. وشاركه الرأي كلٌّ من جورج لويس لوكلير، كونت مقاطعة بوفون (١٧٠٧–١٧٨٨) وأيضًا فرانسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦).

في عام ١٦٦٨، قام فرانسوا بلاسيه، وهو رجل دين من طائفة البريمونتيه وواعظ بلوزان في مقاطعة جورناي بلاسين ماريتيم، في بحث بعنوان «فساد العالم الكبير والصغير»، الذي أثبت فيه أنه قبل الطوفان كانت القارة الأمريكية غير مفصولة عن باقي أجزاء العالم؛ بوضع فرضية تقول إنه لم يكن يوجد سوى كتلة قارية واحدة، ثم انهار مركزها، مما خلف المحيط الأطلسي وقارتين منفصلتين. كانت هذه الفرضية كافية لإحياء أسطورة جزيرة أطلنتس، وهي القارة التي تحطمت، وفقًا لأفلاطون (٤٢٨ق.م–٣٤٨ق.م)، في المحيط الأطلسي قبالة جبل طارق.

في عام ١٨٣٣، ظهر كتاب الجيولوجي تشارلز لايل (١٧٩٧–١٨٧٥) «مبادئ الجيولوجيا»، وفيه انتقد النظرية الكارثية، مؤكدًا أن الأرض تخضع لتغيرات مستمرة من القوى الطبيعية.

وفي عام ١٨٣٨، كتب العالم الطبيعي الاسكتلندي توماس ديك (١٧٧٤–١٨٥٧)، في كتابه «مشهد سماوي أو عجائب النظام الكوكبي: تصوير لكمال الإله وتعدد العوالم»، أن فكرة وجود قارة واحدة تسببت كارثة بالغة القوة في تفتيتها أمر غير وارد.

وفي عام ١٨٥٨، تحدث الفرنسي أنطونيو سنايدر بيليجريني في كتابه «الخلق وكشف الأسرار» عن الانفصال والانجراف القاري. لكنه طرح تفسيرًا آخر وهو وجود كتلة واحدة تكونت من الحمم البركانية المنصهرة، ثم جاء الطوفان (المرجعية للتوراة!) ليبردها فجأة، ثم انقسمت ومنها ولدت القارات.

في عام ١٨٥٩، ظهر على الساحة عالم الطبيعة تشارلز داروين (١٨٠٩–١٨٨٢) الذي قوض، في كتابه «أصل الأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي»، نظرية الكارثية التي كانت تُعتبر حتى ذلك الحين المسئولة عن اختفاء بعض الأنواع، كالديناصورات.

وفي عام ١٨٧٩، تطرق جورج هوارد داروين (١٨٤٥–١٩١٢)، الابن الثاني لتشارلز داروين إلى قضية حركة القارات. لكنه كان من مؤيدي النظرية الكارثية! فقال إن القمر انتُزع من الأرض في فترة مبكرة جدًّا، مما نتج عنه تشكُّل المحيط الهادي. وقد أدى الفراغ الذي تركه إلى انزلاق القشرة الأرضية وتكوُّن القارات.

وكان الجيولوجي النمساوي إدوارد سوس (حوالي ١٨٣١–١٩١٤)، أستاذ علم الحفريات بفيينا، ومؤلف كتاب «وجه الأرض»، قد اقترح، في أواخر القرن التاسع عشر، وجود جندوانا وهي قارة عظيمة المساحة تتضمن كافة قارات نصف الكرة الجنوبي: أمريكا الجنوبية وأفريقيا والجزيرة العربية، والهند وأستراليا والقارة القطبية الجنوبية. واعتقد أن العالم نشأ على حدٍّ سواء بسبب كارثة وأيضًا نتيجة للتطور البطيء، وعزا اختلالات القشرة إلى انكماش في العالم عن طريق التبريد، مما يسبب طيات غير متماثلة وكسورًا قطرية.

يعد الجيولوجي الأميركي فرانك بي تايلور (١٨٦٠–١٩٣٩) أول من وضع في عام ١٩١٠ فرضية تقول إن المحيط الأطلسي تكون نتيجة انفصال كتلتين قاريتين انجرفتا بعد ذلك. ولقد أقام هذه الفكرة بالطبع استنادًا إلى تشابه الأشكال وأيضًا إلى وجود سلاسل الجبال على الحواف القارية مقابل ساحل المحيط الأطلسي، مثل جبال روكي في أمريكا الشمالية والأنديز بأمريكا الجنوبية. تَشكَّلت هذه السلاسل الجبلية بواسطة تأثير مشابه للذي يمكن أن يحدثه دفع قطعة قماش موضوع على طاولة في مقابل حائط. لكن فرضية تايلور بدت معقدة للغاية ولم تقنع أحدًا.

في خريف عام ١٩١١، أثناء بحثه في مكتبة جامعة ماربورج، وجد ألفريد فيجنر (١٨٨٠–١٩٣٠) مقالًا به قوائم للحفريات من النباتات والحيوانات متطابقة من كلا جانبي المحيط الأطلسي. وعكف على البحث عن حالات تشابه أخرى بين الكائنات الحية على جانبي المحيطات الكبرى. وفي عام ١٩١٤، بينما كان يقضي فترة نقاهة في المستشفى العسكري بعد إصابته في الحرب، أعلن فيجنر، دون أن يعلم على ما يبدو بالفرضية التي وضعها تايلور، عن نظريته في الانجراف القاري. وكتب قائلًا: «إن الاعتقاد في صحة هذه الفكرة قد تأصل في ذهني.» وكان — مثله مثل الكثيرين قبله بالطبع — شديد الاهتمام بالتشابه الملحوظ بين شكل سواحل أمريكا الجنوبية وأفريقيا. لكن — خلافًا للآخرين — فقد جمع العديد من الأدلة الحفرية والمناخية والطبقية والمغناطيسية والجيولوجية، لدعم فرضيته. فعلى سبيل المثال، تمتلك سلاسل جبال الأبلاش بشمال شرق الولايات المتحدة عدة قواسم مشتركة مع المرتفعات الاسكتلندية. وبالمثل، فإن مختلف طبقات الصخور في هضبة كاروو في جنوب أفريقيا جاءت مماثلة لتلك التي في ولاية سانتا كاترينا في البرازيل. ووجدت حفريات في أوروبا وأمريكا الشمالية متطابقة تمامًا، وكذلك تلك التي في الهند ومدغشقر. وأظهرت حفريات نباتية وجود مناخ مختلف تمامًا عن المناخ الحالي. على سبيل المثال، تم العثور على حفريات من النباتات الاستوائية في سبيتزبرج. ويمكن تفسير العصور الجليدية في أمريكا الجنوبية وأفريقيا والهند وأستراليا بصورة أفضل إذا ما كانوا ملتحمين معًا في قارة واحدة. كما وجد فيجنر أن الحركة الظاهرية للقطبين عبر العصور يمكن تفسيرها بسهولة أكبر إذا كانت القارات قد جنحت وكان من المفترض أن يظل القطبان ثابتين. أيدت كل هذه الحقائق نظريته. لم يكن أول من اقترح مثل هذه النظرية، لكنه كان أول من يقدم أدلة مقنعة من المجالات المختلفة.
في عام ١٩١٥، نشر فيجنر كتابه عن «أصل القارات والمحيطات». ثم ظهرت طبعات لاحقة من كتابه في أعوام ١٩٢٠ و١٩٢٢ و١٩٢٩. وفيه ذهب إلى أبعد من فرضية سوس متحدثًا عن قارة عملاقة أسماها بانجيا Pangée (من الكلمة اليونانية Pan = كل شيء و = الأرض)، نشأت عنها جميع القارات الأخرى، واعتمد في هذه الفرضية على علم الحفريات وعلم المناخ، الذي يعد هو أحد مؤسسيه مع خوان كيديل (١٨٧٧–١٩٥٤) وآخرين. وأرجع تشكل سلاسل الجبال إلى حقيقة تحرك القارة فتتَشكَّل على جانبيها طيات تشبه النسيج الذي يتم الضغط عليه باتجاه حائط. وهكذا نشأت جبال سييرا نيفادا على ساحل المحيط الهادي وجبال الأنديز. ونشأت جبال الهيمالايا نتيجة اصطدام اللوح الهندي بالآسيوي.

كانت ردود الفعل على أفكار فيجنر معادية تمامًا حتى بلغ بعضها حد التجريح، ويرجع ذلك إلى حد بعيد إلى عدم تقديم فيجنر أي تفسير لآلية الانجراف القاري. فكان هو نفسه يعتقد أن القارات تتحرك على طريقة كاسحات الثلج على قطعة من الجليد، وأن قوى الطرد المركزي والمد والجزر هي المسئولة عن الانجراف. لكن هذه القوى، كما أظهر خصومه، كانت أضعف من أن تتسبب في مثل هذه الآثار. ولقد حسب شخص ما أنه لو حدث مد أو جزر بهذه القوة لكان من شأنه التسبب في وقف دوران الأرض مدة سنة على الأقل. وكانت بعض بيانات فيجنر غير صحيحة وقادته إلى توقعات خاطئة. وهكذا، أعلن فرضيته القائلة بأن أوروبا وأمريكا الشمالية ابتعدتا بمعدل ٢٥٠سم سنويًّا، وهو معدل يرتفع مائة مرة عن الطبيعي. لكن بعض العلماء أيدوا نظرية فيجنر، مثل الجيولوجي الجنوب أفريقي ألكسندر دوتوا (١٨٧٨–١٩٤٩) والسويسري إميل أرجان (١٨٧٩–١٩٤٠). ووجدت النظرية العديد من المدافعين بعد وفاة فيجنر، وإن ظل أغلبية الجيولوجيين راسخي الاعتقاد بثبات القارات وبأنها متصلة بقارات أخرى اختفت.

ربما كان أعظم إسهام لفيجنر في العلم هو قدرته على الجمع بين حقائق لا علاقة لبعضها ببعض، ومعزولة ظاهريًّا، وجمعها في نظرية كانت بالفعل سابقة لعصرها. فكان أول من أدرك أن فهم تاريخ هذه الأرض يجب أن يستدعي نهجًا متعدد التخصصات. وهناك أيضًا علماء من تخصصات أخرى سيشاركون في تاريخنا الذي لم ينته بعد.

ومنذ عصر فيجنر، اكتشف علماء المحيطات أخطاء كبيرة وعكف علماء البراكين على دراسة البراكين، وحدد علماء الزلازل أماكن الصفائح القارية، ودرس علماء الجيولوجيا تشكيل سلاسل الجبال، وقاس الفيزيائيون مغناطيسية الأرض في محاولة لفهم آلية انتقال الحرارة التي تحرك الأرض والصفائح. وهناك مسألة أخرى مهمة هي شكل الأرض، فهي ليست كروية بالضبط وإنما أقرب إلى شكل القطع الناقص (بيضاوي). لكنها ليست بالضبط ذات شكل بيضاوي. فشكل الأرض يتغير بفعل دورانها نتيجة لخضوعها لقوة الطرد المركزي. ومن الضروري معرفة شكل الأرض الدقيق لحساب القوى التي تحافظ على تماسكها بفضل ثقلها. على مدار القرون، قام علماء الرياضيات مثل إسحاق نيوتن (١٦٤٢–١٧٢٧) وكولن ماكلورين (١٦٩٨–١٧٤٦) وريتشارد ديدكيند (١٨٣١–١٩١٦) وبرنارد ريمان (١٨٢٦–١٨٦٦) والفيزيائي سيبرامهانيان شاندرا سيخار (١٩١٠–١٩٩٥) (الحائز جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٨٣، بعد مرور خمسين عامًا على طرحه لنظرية وجود الثقوب السوداء، وبالطبع هذا التكريم المتأخر أفضل من عدم التكريم على الإطلاق)؛ بدراسة هذه المسألة، لكن دون أن يجدوا لها حلًّا تمامًا. وقام علماء رياضيات آخرون بحسابات على الحاسوب لعمل محاكاة رقمية لحركة الصفائح القارية. وقامت أقمار صناعية بقياس الانجراف القاري بصورة مستمرة وبدقة متناهية. ومع ذلك، لا يزال البحث جاريًا عن أدلة أخرى لنظرية فيجنر. إذن ما هي أهم الخطوات التي اتخذت منذ عصر فيجنر؟

تنقسم القشرة الأرضية إلى صفائح تتحرك فوق الوشاح. وتحت الوشاح توجد النواة التي تتألف من حمم الصخور المنصهرة. تعد حواف الصفائح موقعًا لنشاط جيولوجي مكثف. فهذا هو المكان الذي تحدث فيه البراكين والزلازل وتتكون الجبال.

في عام ١٩٢٩، ركز آرثر هولمز (١٨٩٠–١٩٦٥)، أستاذ الجيولوجيا بجامعة إدنبرة، على واحدة من نظريات فيجنر، وهي أن الوشاح يخضع لظاهرة الحمل الحراري. فعندما يتم تسخين مادة، تقل كثافتها وترتفع إلى السطح حتى تبرد ثم تغوص مرة أخرى. واقترح هولمز أن هذه العملية المتكررة من التدفئة والتبريد تولد تيار الحمل الحراري القادر على تحطيم قارة وبعثرة القطع بعضها عن بعض، فهو يعمل بطريقة المياه التي تتدفق من منبع. وهكذا تكونت قشرة أرضية جديدة في المكان الذي تتدفق منه الحمم. لكن لم يكن لدى هولمز أي بيانات تدعم نظريته التي لاقت اعتراضات الجيوفيزيائيين، وعلى رأسهم السير هارولد جيفري (١٨٩١–١٩٨٩)، وهو عالم بريطاني شديد التأثير آنذاك، الذي زعم أنه لا لزوم لإعادة النظر في أفكار فيجنر؛ لأنه ثبت أنها كاذبة. وعلاوة على ذلك، فإذا كانت قشرة جديدة قد تَشكَّلت في مكان ما، فكان لا بد من أنها انهارت في مكان آخر. وبعدها مضى جيفري يقاتل ضد نظرية الذاكرة المغناطيسية للصخور، حتى كتب أن المطرقة التي استخدمت لجمع العينات كانت هي المسئولة عن المغنطة!

أثناء الحرب العالمية الثانية، وبفضل السونار، شهدت عملية التنقيب في أعماق البحار تطورًا كبيرًا لأسباب استراتيجية. وجلبت المعرفة المكتسبة الكثير من الأسئلة حول الفوالق المحيطية، والقمم تحت المائية، وتلال منتصف المحيطات والسهول السحيقة.

في عام ١٩٥٣، تناول صموئيل وارن كاري (١٩١١–٢٠٠٢)، نظرية هولمز وقام بتعديلها. بالنسبة له، لم يكن من الضروري القضاء على القشرة المحيطية في مكان آخر. وكانت نظريته تستند إلى أن الأرض تزداد حجمًا، ومن ثم فإنها تتمدد. لكن هذه الفكرة فشلت في تفسير عدد من الظواهر المهمة.

كان هاري هاموند هيس (١٩٠٦–١٩٦٩) أستاذًا للجيولوجيا في جامعة برنستون. وخلال الحرب العالمية الثانية، قام بقيادة سفينة في جنوب المحيط الهادي. وبالإضافة إلى مهماته العسكرية، وضع خريطة لأعماق البحار، مما قاده إلى طرح الأسئلة حول الجبال البحرية وتكونها. في عام ١٩٦٢، اقترح نظرية تمدد قاع البحر. وفقًا له، توجد حركة تكوُّن لقشرة جديدة في المحيطات في الفوالق المحيطية عندما ترتفع الصهارة ويتم تبريدها بواسطة الماء. لكن واجهته أيضًا شكوك الجيوفيزيائيين. كان جون توزو ويلسون (١٩٠٨–١٩٩٣) بجامعة تورنتو واحدًا من القلائل الذين اعتنقوا نظريته. ولاحظ ويلسون أن عمر الجزر المحيطية يزيد مع المسافة التي تفصلها عن سلسلة التلال. هذا هو الدليل على أنها تَشكَّلت على حافة التلال، ثم ابتعدت عنها بعد ذلك. وكان له دور فعال في قبول نظريات هيس.

في ذات الوقت وبشكل مستقل عن هيس، اقترح روبرت سينكلير ديتز (١٩١٤–١٩٩٥) نموذجًا مختلفًا إلى حد ما عن تمدد قاع المحيطات. وأكد أن الحمل الحراري هو السبب في تكون الغلاف الصخري، وليس القشرة الأرضية. للتذكرة، شارك ديتز بين عامي ١٩٤٦-١٩٤٧ في بعثة إلى القطب الجنوبي بقيادة الأميرال ريتشارد إيفلين بيرد (١٨٨٨–١٩٥٧)، واشترك أيضًا في بناء غواصة جاك بيكار (ولد في ١٩٢٢).

وهكذا ولد علم تكتونيات الصفائح، وهو مجموعة من نظريات هولمز حول الانجراف القاري وتمدد قاع المحيط. وكان بمنزلة ثورة في رؤية الجيولوجيين للأرض.

كان لتحرك القطب المغناطيسي للأرض وللانعكاس القطبي تأثير جذري على صياغة تكتونيات الصفائح. وسيتم تفسيرهما بواسطة حركة القارات، الأمر الذي كان من شأنه تعزيز نظرية هيس حول تمدد قاع المحيطات.

كان الصينيون أول من اكتشفوا المغناطيسية الأرضية والبوصلة حوالي عام ١٠٤٠. لكن كان ويليام جلبرت (١٥٤٤–١٦٠٣)، الفيزيائي والطبيب الخاص بملكة إنجلترا إليزابيث الأولى (١٥٣٣–١٦٠٣) هو من لاحظ أنه، إذا كانت إبرة البوصلة تشير دائمًا إلى الشمال، فذلك يرجع إلى وجود ما يشبه المغناطيس داخل الأرض. ومن ثم أصبح من الممكن حساب اتجاه المجال المغناطيسي في أي نقطة من الكرة الأرضية. لم يظهر مقياس المغناطيسية حتى أواخر القرن التاسع عشر، ولقد أظهر بعض الشذوذ: في بعض الأماكن، كان المجال الذي تم قياسه أكبر من المجال النظري، في حين أن العكس كان هو الصحيح في مواضع أخرى.

في عام ١٨٥٣، اكتشف الفيزيائي النابولي الأصل ماسيدونيو ميلوني (١٧٩٨–١٨٥٤) أن كل صخرة بركانية لديها مجالها المغناطيسي الخاص بها. ووضع افتراضية تقول إن هذه المغنطة جاءت نتيجة تبريد الحمم البركانية التي شكلت الحقل المغناطيسي للأرض في ذلك الوقت. هذه هي الذاكرة المغناطيسية للحمم البركانية. كانت الأسس النظرية لهذه الذاكرة هي اختصاص عمل الفرنسي برنار بيرنهز (حوالي ١٨٦٧–١٩١٠) في عام ١٩٠٦ والسويسري بول لويس ميركانتون (١٨٧٦–١٩٦٣) بين عامي ١٩١٠ و١٩٣٠. واكتشف بيرنهز أيضًا أن بعض الحمم تظهر انعكاسات مغناطيسية. وفي الوقت نفسه، سجل الياباني موتونوري ماتوياما (١٨٨٤–١٩٥٨) وجود تدفق للحمم المختلفة، وخلص إلى وجود حركات انقلابية متعددة على مر العصور. لكن ظلت النتائج التي توصل إليها ضحية اللامبالاة والنسيان مدة نصف قرن.

وتجدد الاهتمام بفضل الفيزيائي الأمريكي جون إيه جراهام الذي طرح في عام ١٩٥٠ فكرة أن انعكاسات الأقطاب المغناطيسية ليست نتيجة لانعكاس الحقل المغناطيسي الأرضي كما اقترح ماتوياما، وإنما نتيجة لظاهرة معروفة جيدًا في فيزياء الجوامد؛ هي الانعكاس الذاتي، الذي يحدث أثناء تبلور بعض المعادن. على الرغم من خطأ هذا الاقتراح، فإنه كان له الفضل في إعادة تسليط الأضواء على دراسة المغناطيسية القديمة.

لكن لتحقيق مزيد من التقدم، كان من الضروري تحقيق تقدم تكنولوجي حقيقي. في عام ١٩٥٢، قام البارون الإنجليزي باتريك ماينارد ستيوارت بلاكيت (١٨٩٧–١٩٧٤)، الحائز جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٤٨، أثناء قيامه بأبحاث حول العلاقة بين المغناطيسية الأرضية ودوران الأرض، باختراع جهاز القياس المغناطيسي المتغير القادر على قياس مجالات مغناطيسية ضعيفة للغاية. في عام ١٩٥٩، استطاع الجهاز بفضل عمل ستانلي كيث رنكورن (١٩٢٢–١٩٥٩) وإدوارد إيه إيرفينج أن يقيس الذاكرة المغناطيسية للصخور، وكانت هذه هي نشأة علم المغناطيسية القديمة. في ديسمبر عام ١٩٥٩، اغتيل رنكورن على يد لص هاجمه في غرفته بفندق في سان دييجو. أما الحقل المغناطيسي لقاع المحيط الهادي، فقد تم تحديده على الخريطة، وتم العثور على بعض الشذوذ المغناطيسي في كلا الاتجاهين في نطاقات موازية بديلة بشكل متناظر على طول مرتفعات وسط المحيط. كما تم رسم الطريق بين القطبين وأوروبا على الخريطة، وأيضًا بين أمريكا والهند. لم تتفق الخرائط! وعلاوة على ذلك، تبين أنه كلما رجعنا بالزمن، ابتعد القطب المغناطيسي عن القطب الجغرافي.

في عام ١٩٦٠، أثبت جون رينولدز وجون فيرهوجن (١٩١٢–١٩٩٣) من جامعة بيركلي، أثناء دراستهما للبازلت، صحة النتائج التي توصل إليها ماتوياما. أما والتر إم إلساسير (١٩٠٤–١٩٩١) من جامعة برينستون وإدوارد بولارد كريسب (١٩٠٧–١٩٨٠) من جامعة كامبريدج، فقد طرحا فكرة وجود مولد مركزي في لب الأرض. ولشرح الانعكاسات العرضية للحقل المغناطيسي للأرض، وضعا فكرة أن هذا المولد يمكن أن يتصرف بسلوكيات غير مستقرة. وأخيرًا، تم إثبات حقيقة هذه الانعكاسات بين أعوام ١٩٦٠ و١٩٦٦ من قبل فريقين؛ الأول من جامعة بيركلي بكاليفورنيا، وكان يضم آلان كوكس، وريتشارد دويل، وجي برنت داريلمبل؛ والفريق الآخر من أستراليا، ويضم إيان ماكدوجال وفرانسوا شاملان. قاموا بوضع مقياس لانعكاسات الأقطاب المغناطيسية لأربعة ملايين عام ماضية، اعتمادًا على الحمم البركانية الحديثة نسبيًّا، وطبقوها على الولايات المتحدة وأوروبا والمحيط الهادي وأستراليا.

تم تقديم فرضية لتفسير هذه الحالات الشاذة في الحقل المغناطيسي للأرض في عام ١٩٦٣ من قبل جون فاين فريدريك (١٩٣٩–١٩٨٨) ودراموند ماتيوس (١٩٣١–١٩٩٧) من جامعة كامبريدج، ومن قبل جورج لورانس مورلي من هيئة المساحة الجيولوجية في كندا بشكل مستقل: تحتفظ الحمم المنبعثة من الجزء العلوي من مرتفعات وسط المحيط في عصور مختلفة بمظاهر الشذوذ المغناطيسي المختلفة. وبفضل تلك الذاكرة، كان من الممكن تحديد مكان الأقطاب المغناطيسية على مر العصور اعتمادًا على الصخور المعروف عمرها. ويرجع الشذوذ المغناطيسي في قاع المحيط إلى انعكاسات الأقطاب المغناطيسية. ويمكن تفسير تناوب الفرق بين الحالات الشاذة بفضل التشكل المستمر للقشرة الجديدة على التلال، بينما يتحرك قاع المحيط بسبب الحمل الحراري الكامن على طريقة الحلقة المفرغة، بحسب نظرية هيس.

كانت الطريقة الوحيدة لحل هذه المشاكل هي نظرية حركة القارات بنسبة بعضها لبعض. نعرف الآن، من خلال عمل دبليو جيسون مورجان (المولود عام ١٩٤٢) من جامعة برينستون عام ١٩٦٧ وأعمال الباحثين البريطانيين دان ماكنزي وروبرت إل باركر، أن القارات تحركت على مر التاريخ، وأن دراسة المغناطيسية القديمة هي الأداة الأساسية لإعادة بناء مواقع القارات في العصور الجيولوجية المختلفة.

وهكذا تم رد الاعتبار لفيجنر!

(٤-٦) النبضات العصبية

تعد حالة أوتو لوي (١٨٧٣–١٩٦١) الحائز جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب عام ١٩٣٦ لنظريته الكيميائية في انتقال النبضات العصبية، أحد الأمثلة الاستثنائية لعمل العقل الباطن. ابتداءً من عام ١٩٠٣، اعتقد لوي أن انتقال هذه النبضات يرجع إلى وجود عامل كيميائي، في الوقت الذي كان يرجع فيه الجميع هذا الانتقال إلى عامل كهربائي. لم تطرأ له فكرة إجراء تجربة حاسمة حتى عام ١٩٢٠؛ أي بعد سبعة عشر عامًا من النضج والعمل غير الواعي. ولقد روى بنفسه ظروف اكتشافه هذا:

في الليلة التي سبقت عيد الفصح في تلك السنة، استيقظت وأنرت الضوء وكتبت بعض الملاحظات على طرف ورقة صغيرة رقيقة، ثم عدت إلى النوم. وفي السادسة صباحًا، طرأ على ذهني أنني كتبت أثناء الليل شيئًا مهمًّا للغاية لكني لم أستطع فهم تلك الشخبطة. في الليلة التالية، نحو الساعة الثالثة، عاودتني تلك الفكرة. كانت خطة تجربة لتحديد هل كانت نظرية الانتقال الكيميائي التي كنت قد أصدرتها قبل سبعة عشر عامًا صحيحة أم لا. استيقظت على الفور، وذهبت إلى المعمل وأجريت تجربة بسيطة على قلب ضفدع وفقًا لهذا النموذج الليلي …

وتؤكد قصة هذا الاكتشاف أن الفكرة تستطيع أن تنام عدة عقود في العقل الباطن ثم تعود فجأة. وعلاوة على ذلك، فإنها تشير إلى أنه ينبغي لنا أن نثق أحيانا في الحدس المفاجئ من دون شكوك كثيرة. فإذا كنت قد درست هذه التجربة بجدية خلال اليوم، لكنت رفضت دون شك هذا نوع من التجارب …

وبعد بعض الوقت، كان عليَّ كتابة قائمة المراجع، وألقيت نظرة على جميع الأبحاث المنشورة في مختبري. ووجدت دراستين أُجريتا منذ عامين قبل أن تساورني فكرتي الليلية، وفيهما قمت، أثناء البحث عن مادة منبعثة من القلب، بتطبيق التقنية المستخدمة في عام ١٩٢٠. وفي رأيي، كانت هذه التجربة أساسية في إعداد فكرة المشروع كاملة. في الواقع، كانت هذه الفكرة التي جاءتني في الليل تمثل تجميعًا مفاجئًا لنظرية عام ١٩٠٣ وللطريقة المختبرة قبل قليل في تجارب أخرى. وتعد معظم هذه الاكتشافات البديهية الحدسية عبارة عن تجميعات للأفكار يقوم بها اللاوعي.

(٤-٧) انتقال حمى التيفوس

كيف تنتشر الأمراض المعدية؟

ينحدر جيرولامو فراكاستورو — الذي يقال له فراكاستور — (١٤٨٣–١٥٥٣) من عائلة من الأطباء من فيرونا. وهو يعد نموذجًا للمفكر الإنساني في عصر النهضة، كان قد تلقى تعليمه في جامعة بادوفا، وكان طبيبًا وعالمًا للنبات وشاعرًا وموسيقيًّا وفلكيًّا وعالمًا في الرياضيات والجغرافيا. وانتشرت سمعته على مستوى أوروبا. نحو عام ١٥٠٩، أصبح الطبيب الشخصي للبابا بولس الثالث. كما زاره تشارلز الخامس في ١٥٣٥ ليستشيره بشأن عدم إنجاب كاترين دي ميدسيس. كما كان صديقًا لكوبرنيكوس. في عام ١٥٤٥، شارك كطبيب في مجلس الثلاثين، ونقله إلى بولونيا بسبب وباء الطاعون. في العام التالي، نشر مؤلفه «عن العدوى والأمراض المعدية»، وفيه دحض فكرة أن الأوبئة تأتي من أصل إلهي، وصاغ — عن طريق المنطق والحدس — نظرية بمقتضاها تحدث العدوى بسبب انتقال جزيئات صغيرة جدًّا لا تلحظ بالحواس؛ أي الميكروبات القادرة على غزو الجسم البشري والتكاثر فيه. لم تقبل هذه النظرية، التي كان قد أشار إليها من قبل ابن الخطيب (١٣١٣–١٣٧٤)، إلا بعد أن قام باحث من دفت يدعى أنطوني فان ليوينهويك (١٦٣٢–١٧٢٣) بتطوير المجهر الذي كان يستخدمه في عمله، وفيه شاهد «كائنات حية دقيقة». وحثت أفكار فراكاستور على إنشاء المستوصفات للحجر الصحي. وكانت هذه هي بداية الخلاف بين أنصار نظرية التناسل التلقائي، وأولئك الذين رفضوا الانضمام إلى أفكارهم.

وعلى الرغم من أعمال لازارو سبالانزاني (١٧٢٩–١٧٩٩)، الذي أظهر أن هذه الكائنات الصغيرة لا تنمو إلا في قوارير معرضة للهواء، وليس في تلك المحكمة الغلق، تم قبول نظرية التناسل التلقائي حتى منتصف القرن التاسع عشر. لم تحسم هذه المسألة قبل باستير الذي أثبت في عام ١٨٦٢ أنه في ظل الظروف الحالية، يعزى تطور الكائنات في بيئة معقمة فقط إلى التلوث بواسطة الميكروبات في الهواء المحيط.

ثم في عام ١٨٦٤، أثبت الطبيب الفرنسي كازيمير جوزيف دافين (١٨١٢–١٨٨٢)، بشكل تجريبي وللمرة الأولى، أن مرض الجمرة الخبيثة يحدث بسبب ميكروب — «بكتيريا» على حد قوله — ينتقل من الحيوان إلى الإنسان. وهكذا فتح الطريق أمام أبحاث باستير وروبرت كوخ (١٨٤٣–١٩١٠) في مجال علم الأحياء الدقيقة الطبية.

وبعد ذلك، في عام ١٨٩٤، سافر ألكسندر يرسين (١٨٦٣–١٩٤٣) إلى هونج كونج بناءً على طلب من الحكومة الفرنسية لدراسة طبيعة وباء الطاعون، واكتشف العصية المسئولة عن المرض الموجودة في الدمامل، وأكد على تشابه الأمراض التي تصيب البشر وتلك التي تصيب الفئران، مشددًا على دور الفئران في نشر هذا الوباء. وسرعان ما أعد مصلًا ذا فعالية متأرجحة، لكنه استطاع إنقاذ حياة الكثيرين في كانتون وبعد ذلك في بومباي.

ثم اكتشف عالم البكتيريا الفرنسي شارل جول هنري نيكول (١٨٦٦–١٩٣٦) عامل انتقال حمى التيفوس أثناء عمله مديرًا لمعهد باستير في تونس. ثم حصل على جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء والطب عام ١٩٢٨. وروى شارل اكتشافه بشكل موسع في كتاب «بيولوجيا الاختراع» الذي يحتوي على تاريخ وتحليل العديد من الاكتشافات. وفي النص التالي لنيكول، سنلحظ الاستنارة واليقين اللذين يصاحبانه:

أستطيع الكلام عن هذه الصدمة، تلك الاستنارة المفاجئة، ذلك الاستحواذ اللحظي للحقيقة الجديدة على الذات، هذه كلها شعرت بها وعشتها، فهكذا انكشفت لي طريقة انتقال التيفوس الوبائي.

كل يوم، شأني شأن كلٍّ من تردد سنوات عديدة على المستشفى الإسلامي بتونس، كنت أرى في القاعات مرضى التيفوس نائمين بجوار مرضى آخرين مصابين بأمراض أخرى. مثل من سبقوني، كنت أشاهد يوميًّا ودون اهتمام هذا الوضع الغريب، خاصة في ظل هذا الاختلاط المرفوض في حالة أي مرض شبه معدٍ، لكنه كان يمر دون عدوى. كان المرضى المجاورون لمريض التيفوس لا يلتقطون مرضه، لكن بشكل شبه يومي في أوقات تفشي الوباء، كنت ألحظ انتشار العدوى في البيوت وفي أحياء العاصمة والمدينة، وحتى بين موظفي المستشفى المخصص لاستقبال المرضى. كان الأطباء والممرضات يصابون بالمرض في ريف تونس، لكن ليس في قاعات المستشفى.

في صباح أحد الأيام — مثل أي يوم — أردت وأنا مأخوذ بالتفكير في لغز كيفية انتقال عدوى حمى التيفوس دون أن أفكر فيه بصورة واعية (أؤكد ذلك)؛ أن أعْبر باب المستشفى عندما استوقفني جسد إنسان ملقى على الدرجات.

كان مشهدًا معتادًا أن نرى فقراء من السكان الوطنيين مصابين بحمى التيفوس في حالة هذيان وحمى، يسيرون كالمجانين حتى يجدوا ملجأً يتساقطون عليه منهكين. كالعادة، عبرت فوق الجسد المسجى، وفي تلك اللحظة بالتحديد داهمتني لحظة الاستنارة. وعندما دخلت المستشفى في اللحظة التالية، كنت أملك حلًّا للمشكلة. كنت أعرف، دون أدنى شك، أنه هذا هو الحل وليس غيره. ففجأة أظهر لي هذا الجسد الممدد والباب الذي ارتمى أمامه الحاجز الذي يمكن أن يتوقف عنده التيفوس. فلكي يتوقف هذا المرض، وهو مرض معدٍ في كل أرجاء البلاد، في العاصمة نفسها ليصبح غير مضر بمجرد عبور باب المستشفى، كان لا بد من أن العامل المسبب للعدوى لا يتجاوز هذا المكان؛ إذن ما الذي يحدث في هذه المرحلة؟ خلعنا ثياب المريض وملابسه الداخلية وحلقنا له وحممناه. لا بد أن ما يسبب له المرض شيء غريب عليه، شيء يحمله في ملابسه الداخلية، على جلده. لن يكون سوى القمل، كان السبب هو القمل. وأخيرًا انكشف لي ما كنت أجهله، الأمر الذي لم يلاحظْه أيٌّ من الذين بحثوا في مرض التيفوس منذ بداية التاريخ (فالتيفوس مرض يعود إلى العصور السحيقة للإنسانية)، انكشف لي الحل القاطع المثمر لطريقة انتقال المرض.

أشعر ببعض الارتباك لقيامي بإعادة تمثيل ما حدث لي. لكني أفعل ذلك لأن الحدث الذي طرأ لي يعتبر، على ما أعتقد، مهمًّا من الناحية التعليمية، ولأني لم أجد أمثلة أخرى أكثر وضوحًا. سأستكمل ملاحظاتي بقدر أقل من الخجل. وسأتناول الآن نقاط الضعف فيها؛ لأنني أعتبرها هي أيضًا مفيدة.

وكان الحل، الذي جاءني به حدسٌ حادٌّ شبهُ غريبٍ بالنسبة لي، غريبٌ بأي حال على منطقي — خاصة إذا تراءى لي وأنا في حالة يقظة — بحاجةٍ إلى إثبات عن طريق التجربة.

يعتبر التيفوس مرضًا خطيرًا جدًّا لإجراء تجاربه على البشر. ولحسن الحظ، عملت بالفعل بحساسية شديدة. وأصبحت التجربة ممكنة. لكنها لم تكن جاهزة بالكامل، وإلا كنت نشرت اكتشافي دون تأخير، خاصة أنه كان غنيًّا وبه منافع فورية لجميع البشر. واحتفظت بالسر عدة أسابيع، حتى على مستوى المحيطين بي؛ لأني كنت قادرًا على تقديم البرهان مع الاكتشاف، وظللت أجرى الاختبارات اللازمة لإثبات الاكتشاف. لم يسبب لي هذا العمل أي عاطفة أو مفاجأة. وانتهى في غضون شهرين.

في أثناء هذه الفترة الوجيزة، واجهت، مما لا شك فيه، ما شعر به المكتشفون من أمثالي من شعور بأن إثبات التجربة أمر غير مهم، شعور بانفصال في الروح وملل عام. كانت الأدلة قوية لدرجة منعتني من الاهتمام بالتجربة. لو كان الأمر يقتصر على شيء يتعلق بي فقط، لما استكملت الأمر. لكني لم أمض قدمًا إلا بسبب الانضباط والكبرياء. وشغلتني كافة الأفكار الأخرى. أعترف بهذا الفشل. لكنه لم يوقف أبحاثي التي — كما قلت — جلبت لي من دون صعوبة أو تأخير يوم واحد، تأكيدَ الحقيقة التي كنت أعتقد فيها منذ اللقاء الذي حكيت عنه.

(٤-٨) تجميد الخلايا الحية

كان تجميد الأنسجة الحية لحفظها وقتًا طويلًا كيفما نشاء لإعادة استخدامها لاحقًا حلمًا قديمًا. ألا يتحدث البعض عن جنود نابليون الذي وُجدوا مجمدين بعد حملته على روسيا ثم عادوا إلى الحياة دون خسائر؟ أليست هذه هي رواية «الرجل ذو الأذن المكسورة» لأدموند أبوت (١٨٢٨–١٨٨٥)؟

على الرغم من كثرة عدد التجارب العلمية التي أُجريت، كان من النادر رجوع الخلايا المجمدة إلى الحياة بحالة جيدة.

في الأربعينيات، عكف على دراسة هذه المشكلة الدكتور باسيل جوزيف لوييت (١٨٩٧–١٩٧٤)، أحد آباء أبرشية الإرسالية بسانت-فرانسوا الذي درس الأحياء بجامعة جينيف. فبما أن التلف يحدث من بلورات الثلج، اقترح نزع كل الماء الموجود في الخلايا قبل تجميدها. ولقد توصلت إلى هذه الطريقة شركة بيردزاي المتخصصة في صناعة الأطعمة المجمدة. لكن إذا كان التجفيف ينجح مع الخضروات، فلماذا لا ينجح مع الخلايا الحية؟

اكتشف لوييت وفريقه أنه باستطاعتهم تجفيف خلايا الدجاج جزئيًّا باستخدام خليط سكري. وبالفعل حققوا بعض النجاحات، إلا أن تلك الطريقة لم تكن تسفر في كل مرة عن نتائج جيدة. كان لوييت هو العالم الوحيد في عصره الذي يقوم بمثل هذه التجارب، وظل غامضًا حتى جاء اليوم الذي شرع فيه علماء آخرون من المعهد الوطني للأبحاث الطبية بلندن في إجراء تجارب جديدة مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية. وفي لندن، استخدم آلان إس باركس سكر الفاكهة، وقام كلٌّ من أودري يو سميث (١٩١٥–١٩٨١) وتشارلز بولج بإعادة تجارب لوييت وحصلَا على النتائج نفسها: تتحمل بعض الخلايا التجميد وإزالة التجميد، بينما تعجز خلايا أخرى عن الصمود. إلا أنهما لم يفقدا الأمل في التوصل إلى طريقة موثوق فيها، واحتفظا بخليطهما السكري في المبرد، عاقدَين النية على استئناف تجاربهما لاحقًا بطريقة جديدة.

وبالفعل، بعد بضعة شهور، استأنف سميث وبولج تجاربهما التي نجحت جميعها هذه المرة، وبدا وكأن الحلم سيتحول إلى حقيقة. أعاد باركس التجربة بزجاجة جديدة من سكر الفاكهة وماتت جميع الخلايا، ووقع العالمان في حيرة؛ كيف يمكن لنفس التجربة أن تعطي نتائج متعارضة تمامًا؟ وعكفَا على دراسة كافة تفاصيل التجربة عن كثب سعيًا وراء التفسير. وأخيرًا، وجداه … كانا قد أخطآ بكل بساطة! فبدلًا من استخدام مزيجهما السكري القديم، وضعا خليطًا له نفس الشكل من بياض البيض والجلسرين. كان من المعروف منذ وقت طويل أن الجلسرين يمنع المحركات من التجمد، لكن لم يخطر لأحد من قبل أن يستخدمه مع الخلايا الحية.

وتبين بعد ذلك أن عالم الأحياء جان روستاند (١٨٩٤–١٩٧٧) — ابن إدموند روستاند (١٨٦٨–١٩١٨) — كان قد استخدم قبل عامين — أي عام ١٩٤٦ — الجلسرين لتجميد خلايا ضفدعة لكن في درجة حرارة أقل بكثير.

ولقد طور سميث طريقته واكتشف طرقًا أخرى، وسرعان ما أصبح بمقدوره تجميد وحفظ الدم فترات طويلة، مما فتح الباب أمام أكثر الآمال جموحًا. في عام ١٩٦٥، تكونت جمعية لحفظ الأجسام في انتظار حياة مستقبلية. وبالفعل، في يناير ١٩٦٧، تم تجميد جسد العالم جيمس إتش بدفورد — المتوفى جراء مرض عضال عن عمر يناهز ثلاثة وسبعين عامًا — بناءً على رغبته حتى يُكتشف علاج لمرضه. كل هذا بسبب خطأ في اختيار الزجاجة!

(٤-٩) البنسلين

كما أن الاستنارة لا تحدث إلا لعقل مستعد لاستقبالها، هكذا الصدفة لا تُستغل إلا على يد باحث مهيأٍ لذلك. والدليل المثالي على ذلك هو اكتشاف البنسلين.

منذ بداية مسيرته العلمية، اهتم ألكسندر فليمنج (١٨٨١–١٩٥٥) بدراسة آليات المناعة. وهكذا قام بعزل الخميرة الذوابة (الليزوزيم) التي كانت تعد مضادًّا حيويًّا تخشاه البكتيريا المزروعة، وإن كانت أثبتت عدم فعاليتها في الجسم البشري.

في أحد أيام عام ١٩٢٨، وصل فليمنج صباحًا إلى معمله، وحينها لاحظ أن العديد من الميكروبات التي يحتفظ بها تحتوي على عفن أخضر اللون. تكرر هذا الموقف مع العديد من العلماء قبله، وبالطبع كان رد فعلهم هو إلقاء هذه المجموعة من البكتيريا خوفًا من أن يؤثر هذا العفن على نقاء التجربة.

أما فليمنج، فقد احتفظ بالبكتيريا الفاسدة. وتساءل لماذا هاجم العفن هذه البكتيريا. وكتب بعد ذلك:

يُنسب اختراع البنسلين إليَّ، لكن لم يكن أحد ليخترعه؛ لأن الطبيعة كانت قد اخترعته بالفعل في أحد الأزمنة السحيقة. كلا، لم أخترع أنا تلك المادة، لكني فقط كشفت وجودها للناس وأعطيتها اسمًا.

هنا يكمن الجدل حول الفرق بين اختراع شيء لم يكن له وجود من قبل، واكتشاف خاصية أو حقيقة كانت موجودة بالفعل لكنها ظلت متوارية عن الأعين. النتائج الرياضية، هل هي اكتشاف أم اختراع؟ المعطيات الرياضية هل لها وجود خارج عقلنا؟

وقد حدثت قصة مشابهة لقصة فليمنج للويس باستير (١٨٢٢–١٨٩٥) أثناء اكتشافه للقاحات الاصطناعية عام ١٨٧٩. كان قد ترك في معمله أثناء فترة الإجازة عينات من مرق دجاج مصابة بميكروب الكوليرا. وعندما عاد في سبتمبر؛ ليستكمل تجاربه، وبدأ يحقن الحيوانات السليمة بهذه العينات، لم يحدث شيء. وعلى الفور أدرك باستير أنه قد تم تطعيمها. وعلى حد قوله:

… إن أوهام من يجري التجارب تمثل جزءًا من قوته. فهي تلعب دور الأفكار المسبقة ودور المرشد، لكن كثيرًا منها سرعان ما ينهار الواحدة تلو الأخرى أثناء مسيرة الباحث، بينما يتمكن الباحث في يومٍ ما من إثبات أن البعض الآخر منها كان صحيحًا ومناسبًا للحقيقة. وحينئذٍ يصبح مرجعًا لمبادئ جديدة سيأتي تطبيقها بمنافعه سواء عاجلًا أم آجلًا.

اعتاد باستير أن يقول: «الحظ لا يؤثر إلا في الأذهان المستعدة»، لكن من الضروري أيضًا معرفة كيفية طرح التساؤلات الجيدة!

لكن الأمر غير المعروف، هو أن إرنست دوشيزن (١٨٧٤–١٩١٢) — طبيب عسكري فرنسي — كان قد سبق فليمنج في اكتشافه. واليوم من المعترف به أن تقاريره المفصلة هي أساس اكتشاف فليمنج، على الرغم من أن الأخير لم يشر إليها قط.

ظهر مبكرًا لدى دوشيزن — المولود في باريس — ميل إلى العلوم الطبيعية. وشارك في المسابقة العامة. وفي عام ١٨٩٤، تم قبوله بمعهد الخدمات الطبية العسكرية بليون، وهناك عمل في معمل جاستون روو، الأستاذ بكلية ليون (وليس إميل روو (١٨٥٣–١٩٣٣) زميل باستير). وقام بمناقشة رسالته في الطب وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وكانت بعنوان «إسهام في دراسة المنافسة الحيوية لدى الأجسام الصغيرة، العداء بين الفطريات والميكروبات».

عندما بدأ في ذلك العمل، كان العداء بين العفن والميكروبات معروفًا، لكن كانت هناك قناعة بأن النصر كان بشكل عام حليف الميكروبات. لكن دوشيزن لم يقبل بهذا الاستنتاج، وكتب يقول:

ألا توجد حالات يمكن للعفن فيها أن ينتصر، بل يقتل الميكروبات، أو على الأقل يشل بعض من آثارها الضارة؟

كانت التجربة قصيرة لكن حاسمة. قام فيها بحقن فأْرَي تجارب؛ أحدهما ببكتيريا قولونية والآخر بعصية التيفوس. ومات الاثنان سريعًا. وفي الأيام التالية، تلقى فأران آخران نفس الحقن، لكن مع جرعة أكبر من فطر البنسلينيوم جلوكوم، وفي هذه المرة نَجَوَا من الموت مع حمى بسيطة. وتم استخدام البنسلين في العلاج لأول مرة، حتى وإن كان تحت مسمى التجربة. وكأن خلاصة رسالة دوشيزن كانت بمنزلة نبوءة:

يمكننا أن نأمل أننا باستكمال دراسة واقع المنافسة الحيوية بين الفطريات والبكتيريا — تلك الدراسة التي لم نقمْ إلا بأول خطوة فيها ولا نزعم أننا جئنا إلا بإسهام متواضع — نستطيع أن نصل إلى اكتشاف حقائق أخرى يمكن تطبيقها مباشرة والاستفادة منها في مجال الصحة الوقائية والعلاجية.

وهنا توقفت مسيرة دوشيزن العلمية، واضطر إلى أخذ إجازة منذ عام ١٩٠٤ لظروف مرضه الذي أجهز عليه في عام ١٩١٢، ولم يكن يبلغ من العمر سوى ثمانية وثلاثين عامًا.

وبالتأكيد نظرًا لنقص قدرته على الحدس، لم يستوعب جاستون روو أهمية أعمال دوشيزن التي كان هو العامل المحفز لها بالرغم من كل شيء. ولم ينشر أي مقال من شأنه إثارة اهتمام عالم الأبحاث. وكان في عام ١٩٤٩، أن اعترفت الأكاديمية الوطنية للطب بأن دوشيزن كان هو مؤسس مجال العلاج بالمضادات الحيوية ورائد أحد أهم اكتشافات هذا القرن.

لم يتم البدء في تصنيع البنسلين إلا في عام ١٩٤٣. وساهمت الحرب العالمية الثانية في انتشاره سريعًا. ومنذ ذلك الحين، أصبح تطوير مضادات حيوية جديدة أحد الأنشطة الكبرى في مجال الأبحاث الطبية. وفي عام ١٩٩٦، بلغ عدد المضادات الحيوية الموجودة في العالم حوالي مائة وستين مضادًّا حيويًّا.

(٤-١٠) تركيب البروتينات

كثير من الاكتشافات العلمية يتم عن طريق التشابه، حتى وإن كانت تلك الطريقة غير علمية في أصلها. وها هي حالة تؤكد ذلك. كان فرانسوا جاكوب (المولود عام ١٩٢٠) يعمل مع جاك مونو (١٩١٠–١٩٧٦) حول دراسة معدل تكوُّن البروتينات. وكانت هذه المعدلات تتغير بمرور الزمن، بينما كان مونو مقتنعًا بأن تكون البروتينات يتم بطريقة السير أو التوقف، الكل أو لا شيء. وهذا الأمر كان غير ملائم بالنسبة لمونو. لكن تلك الفرضية — نظرًا لبساطتها — لاقت استحسان جاكوب، الذي يشرح بنفسه السبب:

حدث لي الأمر أثناء مراقبتي لأحد أبنائي وهو يلعب بقطاره الكهربائي الصغير. ولم يكن يمتلك جهازًا ينظم التيارات الكهربية، إلا أنه تمكن من جعل قطاره يسير بسرعات مختلفة لكن ثابتة، فقط عن طريق اللعب بقاطع التيار، ومن ثم جعل قطاره يتمايل أسرع تدريجيًّا بين السير والتوقف. بدت لي تلك الآلية قادرة على تنظيم سرعة تكون البروتينات بشرط أن تكون درجة ثبات النظام كافية. لكن حجة القطار لم تبدُ حاسمة بالنسبة لجاك!

إلا أن الأمر كان كذلك في الحقيقة، كما تم إثباته بعد بضعة أعوام.

(٥) التقنيات

(٥-١) آلة الطباعة

عادة ما تكون علاقة التشابه باعثًا على الاكتشاف، وهذا هو بالضبط ما حدث مع يوهان جوتنبرج (حوالي ١٣٩٤–١٤٦٨) أثناء اختراعه لآلة الطباعة. كانت فكرته الأولى تقوم على سبك الحروف كما لو كانت أختامًا أو ميداليات. لكن كيف له أن يجمع آلافًا من الأختام وأن يستخدمها في طباعة منظمة على ورق؟ قبل جوتنبرج، كنا ندهن بالحبر لوح الطباعة، ثم نضع عليه الورقة ونحك ظهرها في سبيل الحصول على طباعة موحدة الشكل. ولأعوام، ظل جوتنبرج متعثرًا أمام هذه المشكلة. وذات يوم — أثناء وجوده بمسقط رأسه راينلاند — ذهب إلى حقول العنب، وربما ثمل هناك قليلًا كما يروي:

رأيت النبيذ ينسكب، وتبادر إلى ذهني السبب، وجلست أدرس قوة هذه المعصرة التي لا يقاومها شيء.

كان هذا الشبه صادمًا بالنسبة له، واتحدت المعصرة مع الختم لتعطي في النهاية آلة الطباعة.

لقد أحدث اختراع آلة الطباعة ثورة في مجال نشر الثقافة. قبل جوتنبرج، كان لا بدَّ من طلب أي نسخة من صاحب المكتبة الذي كان يعهد بمهمة كتابتها إلى ورشة من الناسخين، وكان عملًا يستلزم شهورًا للقيام به. وبالطبع، شهدت إنتاجية طباعة الكتب — بعد اختراع آلة الطباعة — قفزة هائلة. وافتتحت المطابع في كل مكان. ففي الفترة ما بين ١٤٧٠ و١٤٨٠، أصبح هناك ما يقرب من مائة مطبعة. وشهد العقد التالي مولد أربعين مطبعة أخرى. في عام ١٤٧٥، كان في الإمكان طباعة ما يقرب من ١٣٠٠ إلى ١٥٠٠ ورقة مركبة كل يوم. وفي عام ١٥٤٩، كانت طباعة ٢٢٥٠ نسخة من كتاب مكون من ٣٨٤ صفحة تستغرق ستة أشهر فقط (الترجمة الإسبانية لتعليقات القيصر). وتحتفظ مكتباتنا اليوم بسبعة وعشرين ألفًا من الطبعات الأولى (أي الكتب المنشورة قبل عام ١٥٠٠) بمتوسط طبع يصل إلى خمسمائة نسخة، مما يعادل حوالي عشرة أو خمسة عشر مليون نسخة تم بيعها خلال أربعين عامًا، في حين أن تعداد أوروبا في ذلك الوقت لم يكن يتجاوز مائة مليون نسمة.

(٥-٢) الطباعة الحجرية (الليثوجرافيا)

كانت أسرة سينيفيلدر تعيش في ميونخ، وكان والده ممثلًا مسرحيًّا. ومن ثم فلا عجب أن اتجه ابنه ألويز سينيفيلدر (١٧٧١–١٨٣٤) إلى كتابة المسرحيات وحقق في هذا المجال نجاحًا ملحوظًا. كان يقوم بطباعة مسرحياته وقصصه، لكنه أدرك أنه بعد أن يقوم بدفع حساب صاحب المطبعة، لا يتبقى له إلا القليل. ومن ثم قرر أن يحاول طباعة أعماله بنفسه. بدأ يحفر الكلمات على ألواح نحاسية رقيقة. لكن كان عليه أن يكتب بالعكس، كما لو كان أمام مرآة، وهو ما كان أمرًا شاقًّا. كما أن النحاس كان مكلفًا، صعب الصقل وسريع التلف. وكانت أي تعديلات على الكتابة تشكل مشكلة بالنسبة له. وقرر ألويز أن يبحث عن مادة جديدة للكتابة، واستقر رأيه على المربعات الحجرية التي تستخدم لتبليط الأرض. فكان يقوم بتلميعها وصقلها في البداية باستخدام الرمال، ثم يحفر عليها. كان الأمر هذه المرة أكثر سهولة؛ لأن الحجارة كان ألين بكثير من النحاس. وتقدم في عمله بسرعة حتى نفد منه مخزون الأوراق. لم يكن تبقى له من روايته سوى صفحة واحدة ليطبعها، ولم يكن معه سوى ورقة واحدة، عندما جاءت والدته تطلب منه أن يعد قائمة بالملابس التي تحتاج للتنظيف. وفكر، لماذا لا يكتب تلك القائمة على أحد المربعات الحجرية؟ كان حبره المصنوع من الشمع والصابون والكربون قد جف وأصبح صلبًا. فأخذ قطعة منه وأخذ يكتب بها على المربع. وعندما انتهت الغسالة من تنظيف الملابس أحضرته إليه، ولم تنس — لحسن حظنا — أن تحضر معها المربع الشهير. وأراد سينيفيلدر أن ينظفه ليستخدمه في إنهاء عمله في الطباعة. لكن الحبر لم يكن ليزول. فحاول استخدام الحمض. لكن الحبر ظل ثابتًا، بل أفسد الحمض أجزاء الحجارة التي لم يكن عليها حبر، ولا سيما أن الكلمات أصبحت منفصلة وبارزة عن سطح الحجر مما مكنه من طباعة القائمة بسهولة على ورقة. واستمر مع ذلك في محاولات التنظيف ولاحظ أن الماء أصبح يغطي اللوح الحجري ما عدا الأماكن المكتوب عليها بالحبر؛ لأن المواد الدهنية الموجودة فيه تبعد الماء، من ثم فإن الحبر لم يكن يكتب على المناطق المبللة من الحجر. وشيئًا فشيئًا، أدرك سينيفيلدر أنه ليس من الضروري حفر الحجر، وإنما يكفي خلق نوعين من السطح الحجري: الأول يحتفظ بالحبر والآخر لا. وباستخدام حبره الجاف، قام على الفور بعمل شكل ما على اللوح. ثم بلل المربع بأكمله، وأخذ يمر على الحبر السائل. فبدأ الحبر يتجمع فقط في حدود الشكل المرسوم، فلم يكن هناك حبر في المناطق غير المرسومة؛ لأن الحجر كان مبللًا. ولم يكن عليه سوى أن يضع ورقة على الحجر ويضغط. وهكذا كان قد اخترع الطباعة على الحجر. كان ذلك في عام ١٧٩٩. لكن القصة لا تتوقف هنا؛ لأنه ظل مرغمًا على الكتابة أو الرسم بالعكس كما لو كان أمام مرآة.

لكن على الرغم من هذا العيب، فإن فن الطباعة على الحجر بدأ يشق طريقه تدريجيًّا. وتطورت المطابع. وفي عام ١٨١٠، خطرت لعامل المطبعة الألماني فريدريش كونيج (١٧٧٤–١٨٣٣) فكرة استخدام أسطوانة لفرد الورقة على السطح المستقيم للمربع الحجري. وفي عام ١٨٤٦، اخترع ريتشارد مارش هو (١٨١٢–١٨٨٦) مطبعة يمتلك فيها السطح الذي عليه ما يُراد طباعته شكل أسطوانة. ثم، تم وضع أسطوانة من المطاط للضغط على الورقة مقابل الأسطوانة الأخرى. وأصبح هذا النوع من الطباعة شائعًا. وذات يوم في أحد مطابع مدينة نيو جيرسي، وقع خطأ ما جعل المطبعة تدور بينما كانت الورقة محشورة، وأخذت الأسطوانتان، تلك التي تحتوي على الرسم المحبر والأخرى المطاطية، تدوران بدون ورقة. وبسرعة تم إصلاح العطل، وبدأت الورقة تلف. وأراد العامل التأكد من أن كل شيء أصبح على ما يرام، فأخذ النسخة يراجعها، وفوجئ لرؤية أن جانبي الورقة كانا مطبوعين، أحدهما في الوجه والآخر في الظهر. كان الحبر بكل بساطة قد انطبع على الأسطوانة المطاطية؛ مما أدى إلى طباعة صورة معكوسة على ظهر الورقة؛ لأنها كانت مقلوبة على الأسطوانة المملوءة بالحبر. ومن ثم أصبح في الإمكان رسم أو كتابة ما نريد على الأسطوانة المملوءة بالحبر والحصول في نفس الوقت على طبعة في نفس المكان. وهو ما يسمى بالأوفست.

(٥-٣) سماعة الطبيب والهاتف

منذ عصر أبقراط (٤٦٠ق.م–٣٧٧ق.م)، والأطباء يعرفون كيفية اكتشاف حالة الأعضاء بوضع أذنهم على صدر أو ظهر المريض. كانت طريقة شاقة، لكنها كانت تمثل مصدرًا مهمًّا للمعلومات عن حالة المريض.

في أحد الأيام في عام ١٨١٦، كان رينيه لاينيك (١٧٨١–١٨٢٦) يعبر ساحة اللوفر. وكان هناك طفلان يلعبان. كان أحدهما يحك رافدة بدبوس، بينما يضع الآخر أذنه على الطرف الآخر ليسمع الصوت الذي يصدره الحك. ولقد تمخض هذا الموقف البسيط عن فكرة سماعة الطبيب التي أُطلق عليها في البداية طريقة نقل همسات الصدر.
ويروي لاينيك:

في عام ١٨١٦، جاءتني شابة تستشيرني وكان لديها أعراض عامة لمرض ما في القلب. لكن طريقة استخدام الأيدي أو الطرق على الصدر لم تكن لتعطي سوى نتائج قليلة بسبب امتلاء الجسم. ونظرًا لأن عمر وجنس المريضة مَنَعاني من إجراء الفحص بالطريقة التي عرضتها، تذكرت الظاهرة الصوتية المعروفة: وضع الأذن على طرف رافدة يمكننا من الاستماع بوضوح إلى صوت حكة دبوس في الطرف الآخر. وفكرت في أننا قد نستغل هذه الخاصية للأجسام. فأحضرت كشكولًا ورقيًّا وصنعت منه أسطوانة ووضعت طرفها على منطقة العظم أمام القلب، ووضعت أذني على الطرف الآخر. وشعرت بالمفاجأة والرضا في ذات الوقت لسماعي دقات القلب بطريقة واضحة ومميزة أكثر من وضعي لأذني مباشرة فوق جسم المريض.

حدثت قصة مماثلة في عام ١٨٧٥ لإليشا جراي (١٨٣٥–١٩٠١) مدير شركة ويسترن يونيون، كان يتنزه في ميلواكي حينما لفت نظره طفلان يلعبان بواسطة علبتين للأطعمة المحفوظة وقد ربطا قاعيهما بخيط مربوط في ثقب. وكلما شدَّا الخيط وتكلم أحدهما في علبته، استطاع الآخر سماعه بوضوح في العلبة الأخرى. لعبنا جميعًا تلك اللعبة في طفولتنا. وهكذا جاءت لجراي فكرة الهاتف. لكن لسوء الحظ كان قد تقدم بطلب براءة الاختراع بعد ألكسندر جراهام بل (١٨٤٧–١٩٢٢) بساعات قليلة، مما جعل من حق الأخير اختراع الهاتف.

في عام ١٨٥٤، كان الفرنسي شارل بورسول (ولد في دواي عام ١٨٢٩ وتوفي في سانت سيريه ٢٣ نوفمبر ١٩١٢) — الموظف بهيئة التلغراف — أول من فكر في نظام لنقل الكلام بالكهرباء. كان قد لاحظ أن الكلام أمام غشاء مرن يتسبب في اهتزازات قادرة على فتح وإغلاق دائرة كهربية. وهذه الدفعات الكهربية قادرة بدورها على إحداث اهتزازات مماثلة على سطح آخر ومن ثم إعادة إنتاج الصوت الأصلي. وفي عام ١٨٦٠، اخترع الألماني يوهان فيليب ريس (ولد في جيلنهاوزن ٧ يناير ١٨٣٤ وتوفي في فيسبادن ١٤ يناير ١٨٧٤) أداة قادرة على نقل الأصوات، وإن ظلت عاجزة عن إعادة إنتاج الكلام.

في عام ١٨٧٠، وأثناء وجوده في لندن، قرأ بل كتاب هلمهولتز (١٨٢١–١٨٩٤) حول السمع. كان الكتاب باللغة الألمانية، ولذلك أساء بل فهم أحد المقاطع، فظن أن هلمهولتز نجح في نقل الصوت بواسطة سلك كهربائي. وحتى بعد أن أدرك خطأه، ظل بل مقتنعًا أن التجربة ممكنة. وبمجرد وصوله إلى كندا، بدأ في تجاربه. وباستخدام آلة التلغراف، كان يرسل تيارًا كهربائيًّا إلى مغناطيس كهربي يقوم بهز معيار للنغم (ديابازون) عند التردد المناسب. كان من الممكن أيضًا استخدام أكثر من مغناطيس وأكثر من معيار للنغم في نفس الوقت، يهتز كلٌّ منها عند التردد الخاص به، ثم استبدل بل المعيار بأنابيب الأرغن، ثم مغنطها ليزيد من قدرة الجذب لديها. وفقًا لقوانين الكهرباء المغناطيسية، فيجب على الأنابيب أن تتسبب في عمل تيار داخل المغناطيس الكهربي له نفس تردد الأنبوب. كان هذا هو مفتاح اختراعه، ولقد أدرك ذلك على الفور. إلا أن التيارات الناتجة كانت ضعيفة ولا يمكن استخدامها. وعندما زاره الفيزيائي الأمريكي جوزيف هنري (١٧٩٧–١٨٧٨) في عام ١٨٧٥، نصحه بالتروي قبل نشر اكتشافه ومحاولة تحصيل قدر أكبر من المعرفة حول الكهرباء.

كان بل قد استقر في بوسطن. وفي الثاني من يونيو ١٨٧٥، قام بتجربة جهازه ومعه مساعده توماس إيه واطسون (١٨٥٤–١٩٣٤) البالغ من العمر حينها واحدًا وعشرين عامًا. وأثناء التجربة، التصق أحد النصال التي يراقبها واطسون بالمغناطيس الكهربي. فقام واطسون بنزعه، وعلى الفور أحدث النصل صوتًا مباغتًا. وعلى الطرف الآخر من الخط، سمع بل الصوت وعرفه. فهرع إلى الغرفة حيث كان واطسون وصاح: «ما الذي حدث بالضبط؟ لا تغير شيئًا، دعني أرى!» وبدأ في العمل. وفي اليوم التالي، كان قادرًا على نقل الأصوات، وإن ظل الكلام غير مفهوم. ومن ثم حول تركيزه إلى ضعف التيارات المحفزة، فاستعاض عن الأنبوب والمغناطيس الكهربي بحاجز في منتصفه سلك معدني مغمور في محلول من حمض الكبريتيك. وبالفعل، تحرك الحاجز تحت تأثير الصوت الإنساني وأخذ يهتز، وظل السلك يرتفع وينخفض داخل المحلول، وبدأت مقاومة الدائرة تختلف بالتزامن مع اهتزازات الحاجز. كان هناك تيار كهربي. وفي العاشر من مارس ١٨٧٦، كان بل لا يزال يختبر مع واطسون هذا الجهاز. وبينما كان واطسون في غرفة أخرى، سكب بل الحمض على ملابسه، فصرخ: «واطسون، تعال هنا، أنا في حاجة إليك.» وعلى الفور، سمعه واطسون بوضوح … لكن عبر الهاتف.

وفي الخامس والعشرين من يونيو ١٨٧٦، تمت أول تجربة علنية للهاتف في فيلادلفيا. وكان هذا هو نفس اليوم الذي وقعت فيه معركة ليتل بيج هورن التي قُتل فيها اللواء جورج أرمسترونج كوستر (١٨٣٩–١٨٧٦).

إن غالبيتنا كان قد قرأ أو سمع بالفعل عن قصة بل ومساعده، إلا أنه من الواجب رواية القصة مرة أخرى من أجل إحقاق الحق للمخترع الحقيقي للهاتف. ولد أنطونيو ميوتشي بسان فرديانو بالقرب من فلورنسا في الثالث عشر من أبريل ١٨٠٨. ودرس بأكاديمية الفنون الجميلة بالمدينة، وعمل أخصائي مشاهد في العديد من المسارح حتى عام ١٨٣٥. وهي السنة التي قبل فيها العمل كمسئول عن الديكور بمسرح تاكون بهافانا. ونظرًا لكونه مفتونًا بالبحث العلمي، كان يقرأ كل ما يقع تحت يده من مؤلفات ويقضي أوقات فراغه في الاختراع. ووجد طريقة جديدة — استفاد منها الجيش الكوبي — لجلفنة المعادن. كما طور طريقة حديثة لعلاج بعض الأمراض عن طريق الصدمات الكهربائية، لاقت انتشارًا كبيرًا في هافانا. وفي يوم من الأيام، كان يعالج صديقًا له بهذه الطريقة، وفجأة أصدر صديقه صوت تعجُّب سمعه ميوتشي — الذي كان في غرفة أخرى — بواسطة السلك الكهربائي الواصل بينهما. وعلى الفور، أدرك أنه اكتشف ظاهرة مثيرة. وقضى العشرة أعوام التالية يعمل على تطوير الجهاز الأصلي، محاولًا إيجاد تطبيقات عملية له وطرقًا لتسويقه. ولذلك غادر كوبا، ومضى ليقيم بستاتن أيلاند؛ حيث استضاف جيوسيبي جاريبالدي في منزله. وكان يكسب قوته من بعض الاختراعات أو قيامه بتعديل وتطوير بعض الأجهزة الصناعية. لكن ظل وضعه المالي صعبًا، بالإضافة لتعرضه لبعض المضايقات لعدم إتقانه اللغة الإنجليزية، فطوال هذه الفترة كان يحاول أن يتصرف باللجوء إلى التشابه بين اللغتين الإيطالية والإسبانية. وفي عام ١٨٥٥، حينما أُصيبت زوجته بالشلل، قام بوضع هواتف في غرف المنزل المختلفة وورشته الواقعة في مبنًى مجاور. وبعد أن انتهى من تطوير اختراعه، عقد استعراضًا عامًّا في عام ١٨٦٠ بهدف جذب أي دعم مادي. وتلقى بالفعل وعودًا بذلك، حتى إن شخصًا يدعى بندلاري قد أخذ اختراعه إلى إيطاليا على وعد أن ينظم خطًّا لإنتاجه، إلا أن ميوتشي لم يَرَ أي نتائج. واضطره وضعه إلى بيع حقه في الاختراع. وأثناء عودته من نيويورك على متن الباخرة البخارية ويستفيلد، انفجرت السفينة مما تسبب في إصابته بحروق بالغة. ولدفع مصاريف المستشفى اضطرت زوجته إلى بيع اختراعاته، ومنها نموذج للهاتف، بستة دولارات. وبعدها، عكف ميوتشي على العمل ليل نهار لإعادة تصميم هاتفه خوفًا من أن ينسب أحد اختراعه لنفسه. لكن لعدم قدرته على جمع المبلغ اللازم لدفع تأمين براءة الاختراع، تقدم بطلب براءة مؤقتة في الثامن والعشرين من ديسمبر ١٨٧١، ثم قام بتجديده في العامين التاليين فقط. وأراد أن يشرح إمكانيات جهازه الهائلة أمام نائب رئيس شركة ويسترن يونيون للتلغراف الجديدة، لكن كلما خابر الشركة، كانوا يجيبونه بأنه لا يوجد لديهم وقت لمثل هذا العرض. وبعد عامين، أرسل إليهم ميوتشي يطلب استعادة جهازه، لكنهم أجابوا — كما ادعوا — بأنه فُقد. كان ذلك في عام ١٨٧٤. وفي عام ١٨٧٦، حصل بل على براءة الاختراع. وعلى الفور، أرسل ميوتشي يطلب من المحامي الاعتراض على هيئة براءات الاختراع بواشنطن. لكن لم يحدث شيء. وحاول أحد أصدقائه الاهتمام بالأمر، وعندها أجابوه بأن كل الوثائق الخاصة «بالتلغراف الناطق» قد فقدت. ولقد أظهر تحقيق — أُجري بعد ذلك — وجود علاقات غير قانونية بين بعض الموظفين بمكتب براءات الاختراع وبين مديري شركة بل. كما تم لاحقًا إثبات تفاهمات غير قانونية بين شركة بل وشركة ويسترن يونيون. وفي جلسة المحكمة بين بل وميوتشي في عام ١٨٨٦، قدم ميوتشي كافة التفاصيل الدقيقة الخاصة باختراعه مما لم يدع مجالًا للشك في أسبقيته، إلا أنه خسر القضية في النهاية. وعلى الرغم من تصريح وزير الخارجية الأمريكي الذي أكد فيه على وجود الكثير من الأدلة التي تؤكد أحقية ميوتشي في الاختراع، وأن الولايات المتحدة الأمريكية ستجري تحقيقات في اتهامات الغش في سبيل الحصول على براءة الاختراع بحق بل، فإنه تم تأجيل القضية عامًا بعد عام، حتى عام ١٨٩٦، وهي السنة التي توفي فيها ميوتشي في الثامن عشر من أكتوبر.

وفي الخامس عشر من يونيو ٢٠٠٢، أعلن الكونجرس الأمريكي رسميًّا أحقية ميوتشي في اختراع الهاتف.

(٥-٤) التصوير الفوتوغرافي

تمتد بعض الاكتشافات لعقود، بل لقرون، وتتطلب الإسهامات المبدعة لعدد كبير من العلماء. هذا هو الحال مع التصوير الفوتوغرافي: عمل فيزيائيون لدراسة الضوء والألوان، وكيميائيون لدراسة الأسطح الحساسة ومعالجتها، ومهندسون لصناعة أجهزة التقاط الصور، وعلماء بصريات لتعديل ومعالجة العدسات والمرشحات، ومؤخرًا، متخصصون في الإلكترونيات وعلم الحاسوب. وفي تاريخ التصوير الفوتوغرافي، كان هناك دور حتى للفنانين. بالطبع، لن نعرض هنا تاريخ التصوير الفوتوغرافي بالكامل، وإنما سنكتفي بوصف مرحلة محورية منه.

لم تأتِ فكرة التصوير الفوتوغرافي من فراغ. فمنذ أمد بعيد، والعلماء مهتمون بدراسة عمل الضوء. وكان من المعروف أن الضوء الذي يدخل غرفة ما من فتحة صغيرة يكون صورة معكوسة على الحائط المقابل. كان هذا هو مبدأ الغرفة السوداء الذي عرفه أرسطو (٣٨٤ق.م–٣٢٢ق.م) ووصفه العالم العربي ابن الهيثم (٩٦٥–١٠٣٩) في القرن الحادي عشر، وأيضًا ليوناردو دافنشي (١٤٥٢–١٥١٩). في عام ١٥٥٨، لاحظ الفيزيائي الإيطالي جيمباتيستا ديلا بورتا (١٥٣٥–١٦١٥) أن وضع عدسة لامة على الفتحة يحسن من نقاء الصورة. ومن جانب آخر، لاحظ الخيميائي جورجيوس فابريسيوس (١٥١٠–١٥٧١) عام ١٥٦٥ أن كلوريد الفضة — والمعروف بقمر القرن — يتحول إلى اللون البنفسجي تحت تأثير الشمس.

أي إن المبادئ الأساسية للتصوير الفوتوغرافي كانت معروفة قبل القرن الثامن عشر. ومنذ ذلك الحين، بدأ السعي لمحاولة تثبيت الصور على الورق. وانكب العديد من الكيميائيين على هذه المسألة حتى نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر. وعلى هذا الأساس، قام توماس ودجوود (١٧٧١–١٨٠٥) — ابن الخزاف الشهير جوشيا ودجوود (١٧٣٠–١٧٩٥) — بتعريض ورقة عادية أو قطعة من الجلد الأبيض مبللة بنترات الفضة للشمس. فتحولت الأجزاء المعرضة للشمس إلى اللون الأسود، بينما ظلت الأجزاء المختفية بيضاء. لكن تعين عليه الاحتفاظ بهذه الصور في غرفة مظلمة لئلا تسود كلها. وأصبح عليه إيجاد طريقة لتثبيت الصورة التي حصل عليها.

بدأ نيسيفور نيبس (١٧٦٥–١٨٣٣) أبحاثه في عام ١٨١٣. وبعد ثلاثة أعوام، حصل على صورة مثبتة على ورقة مبللة بكلوريد الفضة، لكنها كانت نسخة سلبية. ومن ثم تخلى عن هذا الطريق، وبدأ يستخدم قار اليهودية — وهو قطران طبيعي معروف منذ القدم — الذي نحصل عليه من على سطح البحر الميت؛ حيث يطفو من القاع إلى السطح. كان هذا القار يستخدم في تحنيط المومياوات لدى المصريين، وفي جلفطة السفن أو أعمال الردم عند البابليين. وفي عصر نيبس كان قد بدأ استخراجه من الصخور، إلا أن القار الذي يستخدمه لم يكن يستخرج من منطقة اليهودية. وفي عام ١٨٢٠، توصل — باستخدام هذا القار المخلوط بزيت الخزامى والموضوع كطبقة رقيقة جدًّا على لوح معدني أو زجاجي — إلى تثبيت صورة إيجابية يمكن رؤيتها بالانعكاس في إضاءة خافتة. وكان لا بد من تعريض اللوح للشمس لثماني ساعات، وإذا وضع في الغرفة السوداء كان القار يصبح صلبًا في المواضع الفاتحة، بينما يظل طريًّا في المواضع الداكنة. ثم كان يزيل القار بواسطة محلول مذيب مكون من معيار من الزيت وماء الخزامى وعشرة معايير من الجاز، وأطلق نيبس على طريقته اسم الحفر الشمسي، ثم عمل على تطوير هذه التقنية باستخدام وسائل مختلفة ومحاليل متنوعة.
إلا أن العيب الأساسي لقار اليهودية كان حساسيته الشديدة التي كانت تتطلب ساعات عديدة من التعرض للضوء. وعليه، بدأ يبحث عن مواد أخرى وإن لم يتمكن من تكريس وقته واهتمامه للأمر؛ نظرًا للمشاكل المالية التي كان يعانيها بسبب أعمال شقيقه كلود حول أول موتور ديزل. وفي عام ١٨٢٧، اضطر إلى التوجه إلى لندن؛ حيث كان كلود يحتضر. وكان يفكر في أنه قد يتمكن من عمل ثروة بفضل اختراعه للحفر الشمسي. ونظرًا لمعرفته القوية بلويس جاك ماندي داجير (١٧٨٧–١٨٥١)، قبل في النهاية التعاون معه في عام ١٨٢٩، وشاطره اكتشافاته منذ توقيع العقد. لكنه توفي بعد أربعة أعوام.

في عام ١٨٣٥، توصل داجير إلى أولى نتائجه باستخدام لوح مفضض معرض للضوء وبخار اليود. وعرضه للضوء عدة دقائق فقط بدلًا من ساعات في غرفة مظلمة، ثم عرضه بعد ذلك لبخار الزئبق، وحينها ظهرت الصورة. وبعد مرور عامين، أصبح بمقدوره تثبيت تلك الصورة بفضل حمام ملح الهيبوسلفين. وبهذا استطاع أن يتوصل إلى الداجيروتيب الشهيرة.

ظهرت كلمة تصوير فوتوغرافي لأول مرة على لسان السير تشارلز ويتستون (١٨٠٢–١٨٧٥) في خطاب أرسله إلى ويليام هنري فوكس تالبوت (١٨٠٠–١٨٧٧) بتاريخ الثاني من فبراير ١٨٣٩. والكلمة تأتي من اليونانية فوتو أي ضوء، وجرافين أي كتابة. وفي أعقاب تقرير قدمه فرانسوا أراجو (١٧٨٦–١٨٥٣) — العضو بأكاديمية العلوم والنائب بشركة برينيه الشرقية — قررت الحكومة شراء حق الانتفاع بتلك التقنية لجعلها عامة ولتستفيد منها البشرية. يا له من مثل جميل!

في عام ١٨٤٠، تمكن تالبوت أيضًا من الحصول على صور إيجابية على ورقة عليها كلوريد ونترات الفضة، وقام بتثبيتها بواسطة كلوريد الصوديوم. وحصل من ثم على صور سلبية يمكنه أن يستخرج منها عدة صور إيجابية. نحو عام ١٨٤٥، شهد التصوير الفوتوغرافي تطورًا بفضل استخدام الغراء الذي يعطي للصور جودة عالية.

ومنذ ذلك الحين، والتصوير الفوتوغرافي لا يتوقف عن التطور. وتعد أحد المراحل المهمة من هذا التقدم هي بلا شك مرحلة التصوير بالألوان. كانت مشكلة إعادة إنتاج الألوان حكرًا على الفنانين — الرسامين بالطبع — وأيضًا العاملين بالحفر والطباعة. وكانت أول محاولة هي التصوير المباشر للألوان. واستطاع الفيزيائي الفرنسي جابرييل ليبمان (١٨٣٧–١٩٢١) أن يقدم لأكاديمية العلوم في الثاني من فبراير ١٨٩١ أول صورة لا تتأثر بطيف الشمس. ولأجل هذا الاكتشاف، نال جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٠٨. ثم قام العديد من الفيزيائيين بمحاولات لإعادة إظهار الألوان بطريقة غير مباشرة مثل جيمس كلارك ماكسويل (١٨٣١–١٨٧٩) ابتداءً من عام ١٨٦١. لكن جاء حل المشكلة على يد كلٍّ من لويس دوكوس دي هورون (١٨٣٧–١٩٢٠) وشارل كروس (١٨٤٢–١٨٨٨)، المعروف أكثر لكونه شاعرًا وصاحب اختراع الفونوغراف. كانا يعملان بصورة مستقلة. فأرسل كروس رسالة مغلقة إلى أكاديمية العلوم في الثاني من ديسمبر ١٨٦٧، لكنها لم تفتح قبل يوم السادس والعشرين من يونيو ١٩٧٦. في الثالث والعشرين من نوفمبر ١٨٦٨، تقدم دوكوس بطلب الحصول على براءة الاختراع لطريقة التصوير بالألوان. ولقد شاءت الصدفة أن تعرف الجمعية الفرنسية للتصوير بشأن الاكتشافين في نفس اليوم، السابع من مايو ١٨٦٩. ونُسب الاختراع إلى الاثنين معًا. لكن كان الحصول على مثل هذه الصور أمرًا يتطلب عمليات معقدة. في يوم الثلاثين من مايو ١٩٠٤، اقترح لويس لوميير (١٨٦٤–١٩٤٨) طريقة أبسط بكثير تعتمد على إضافة الألوان. ولقد لاقت الألواح المسجلة للألوان التي اخترعها نجاحًا ساحقًا، وبدأ تصنيعها بالملايين في مصنعه بليون. إلا أن الصور كانت تفتقر إلى الدقة، والأفلام إلى الحساسية للضوء.

وأخيرًا، لم يكن هناك حل للمسألة إلا في عام ١٩٣٤ بواسطة طريقة الطرح التي اقترحها موسيقيان أمريكيان — إلى جانب كونهما كيميائيين وفيزيائيين — هما ليوبولد دامروش مان (١٨٩٩–١٩٦٤) وليوبولد جودووسكي (١٨٧٠–١٩٣٨).

(٥-٥) الفونوغراف

عمل توماس ألفا إديسون (١٨٤٧–١٩٣١) كعامل تلغراف في شبابه. وكانت وظيفته هي سماع الرسائل المبعوثة بنظام مورس. لكن إذا كانت هناك مشاكل في الخط، كانت تؤثر على عمل الجهاز الرعاش، بالإضافة إلى أن إديسون كان مصابًا بصمم جزئي بسبب حادث. ومن ثم كان عليه تخمين الرسائل المبهمة. وهكذا اخترع إديسون جهازًا بسيطًا لتسجيل الرسائل: فكان يدير قرصًا ورقيًّا؛ حيث تنطبع فيها النقاط وعلامات مورس على شكل ثقوب. إلا أن الشركة التي كان يعمل بها اعتبرت هذا الأمر مضيعة للوقت، وقررت فصل الشاب إديسون.

وبعد أحد عشر عامًا، عمل إديسون في معمله بمنلو بارك بنيو جيرسي على تطوير تلغراف مسجل يتم فيه حفر النقاط والعلامات بواسطة إبرة. ولنقْل الرسالة، كان يجب وضع القرص الورقي على ناقل مزود بذراع ما ترتفع وتنخفض بحسب الفجوات. كان هدف الجهاز هو فقط تسجيل ونقل الدفقات الكهربية أوتوماتيكيًّا. إلا أن الذراع — أثناء تتبعها للثقوب — كانت تهتز وتحدث أصواتًا. وإذا أدرنا القرص بسرعة أكبر، تصبح الاهتزازات متواصلة والصوت موسيقيًّا. وكان الانتقال بالعكس من النتيجة إلى السبب للتوصل لاختراع الفونوغراف. في البداية، استعاض إديسون عن القرص الورقي بأسطوانة مكسوة بورق القصدير، وبدلًا من أن يصل الإبرة بجهاز التلغراف، أوصلها بغشاء ما يهتز تحت تأثير الصوت. ولقد استعان في تركيب الجهاز بأحد عماله الذي ظل يتساءل ما الفائدة منه؟ وما إن انتهى تركيب الجهاز، حتى قام بتشغيل أغنية للأطفال، ثم أدار مقبض الأسطوانة، وعلى الفور تحولت اهتزازات الزمام إلى أغنية!

وهناك قصة أخرى تعطي تصورًا عن مدى ابتكار إديسون وتبين أنه — أحيانًا — لحل أي مشكلة، يكفي تغيير وجهة النظر ومعالجتها بطريقة أخرى. كان هناك عالِمان رياضيان في معمل إديسون يحاولان دون جدوى حساب حجم الغلاف الزجاجي للَّمبة الكهربائية. ومن وجهة النظر الرياضية، لا تمتلك اللمبة شكلًا بسيطًا. كان الوقت قد تأخر، فطلب إديسون — ولمحة من السخرية تطل من عينيه — من سكرتيره أن يعود صباح الغد. ويروي السكرتير:

عدت إلى منزلي، وضبطت منبهي على الساعة الخامسة والنصف. وفي السادسة صباحًا، كنت في المكتبة التي يعمل بها علماء الرياضيات دائمًا. قال لي إديسون: اذهب إلى المعمل وأحضر الغلاف الزجاجي لِلَمبة كهربائية فارغة واملأها بالماء، ثم أحضِر كوبًا مدرجًا وأتِ بكل هذا إلى المكتبة. وحينها، أمسك إديسون القارورة المملوءة بالماء بيد، وفي اليد الأخرى الكوب المدرج. وبدأ يسكب الماء في الكوب، واستطاع بذلك أن يقرأ تدرج حجم اللمبة التي قضى علماء الرياضيات الليل كله في البحث عن حساب حجمها دون فائدة.

ربما كان إديسون يعرف قصة حمَّام أرشميدس!

(٥-٦) أوفتالموسكوب (منظار فحص قاع العين)

تبدو بعض الاكتشافات، بعد الانتهاء منها، بسيطة للغاية بل وشبه طفولية، وتجعلنا نتعجب كيف لم يكتشفها أحد قبل ذلك. ويبدو أن مثل هذه الحالات ليست نادرة، كما يروي هيرمان فون هلمهولتز (١٨٢١–١٨٩٤)، صاحب اختراع الأوفتالموسكوب، وهو عبارة عن مرآة مقعرة بها ثقب صغير في مركزها يرى من خلاله المراقبُ الضوءَ المنعكس من عين المريض:

أثناء تحضيري لدروسي، أدركت إمكانية تصنيع الأوفتالموسكوب … وهو يعد أكثر ما قمت به شعبية، على الرغم من أنني أدين بالفضل فيه لحظي أكثر من قدراتي. كان عليَّ أن أشرح لتلاميذي نظرية استنارة العين التي وضعها بروك. وفي تلك النقطة، كان بروك على شفا اختراع الأوفتالموسكوب، لكنه لم يطرح على نفسه هذا السؤال: ما هي الصورة البصرية التي تكونها الأشعة الخارجة من العين المضيئة؟ ففي سبيل الهدف الذي كان يسعى وراءه، لم يكن من المهم طرح هذا السؤال. لكن لو كان قد طرحه، لكان أسرع من يجيبه مثلي تمامًا.

كان هلمهولتز وإرنست فيلهلم فون بروك (١٨١٩–١٨٩٣) لهما نفس العمر تقريبًا، وتلقيا نفس التعليم، واهتما بنفس المشكلات. ووفقًا لشهادة هلمهولتز، فإن بروك لم يخترع الأوفتالموسكوب؛ فقط لأنه لم يطرح تلك المشكلة.

ولقد تحدث هلمهولتز عن هذا الأمر بخصوص أحد اكتشافاته. ويبدو لي أنه ملخص وافٍ؛ ولذلك سأقتبس النص كاملًا:

إلا أن الفخر الذي شعرت به بسبب النتيجة النهائية لأبحاثي تقلص بشدة بعد معرفتي بأنني لم أنجح في حل مثل هذه المشاكل — بعد العديد من المحاولات الخاطئة — إلا بعد تعميم بعض الأمثلة المناسبة تدريجيًّا وقيامي بسلسلة من التخمينات الجيدة. ويمكنني تشبيه نفسي بمتسلق جبال لم يكن يعرف أي طريق يسير فيه، فاضطر إلى التسلق ببطء ومعاناة مجبرًا على العودة مرة أخرى كلما أُعيق تقدمه، لكنه مرة بفضل تفكيره السليم، ومرة بسبب حادثة ما، كان يكتشف إشارات لطريق جديد يقوده إلى ما هو أبعد، ليصل في النهاية إلى هدفه، ليكتشف فقط حينها وجود طريق ممهد كان يمكنه أن يسلكه على حصانه، فقط لو كان يمتلك من الذكاء ما يجعله يحدد نقطة الانطلاق السليمة …

ونظرًا لأنني كنت عادة ما اضطر على مضض إلى انتظار مجيء أفكار مفيدة، حظيت بفرصة إجراء بعض التجارب في وقت ومكان مداهمتهم لي؛ مما ساعد ربما على توليد أفكار أخرى. فالأفكار تتدافع هكذا في العقل دون أن ندرك للوهلة الأولى مغزاها، ثم يحدث أمر بعد ذلك يكشف لنا ظروف وأسباب مولدها. ففي بعض الأوقات تكون موجودة دون أن نعرف من أين أتت، وفي حالات أخرى تظهر فجأة وبدون مجهود كنوع من الإلهام، لكن مما قد رأيت، فإنها لا تظهر أبدًا في العقل المرهق، أو على المكاتب.

كنت دائمًا ما أقلب مشاكلي في كل الاتجاهات داخل عقلي؛ سعيًا إلى اكتشاف جميع جوانبها وتعقيداتها، وإلى التفكير فيها بحرية دون أن أدونها على الورق. لكني عادة لم أكن أبلغ هذه المرحلة دون أن يسبقها عمل تمهيدي. وهكذا، بمجرد زوال إرهاق العمل، كان يلزمني ساعة من الراحة الجسدية التامة والهدوء قبل أن تأتيني الأفكار المثمرة. وعادة، ما كانت تتراءى لي في الصباح عند الاستيقاظ … كما أقر جاوس أيضًا. لكن — كما أكدت مرة لهيدلبرج — فإنها كانت عادة ما تميل إلى التجلي في رأسي أثناء تنزهي بهدوء في التلال المشجرة في الجو المشمس. بينما كانت أقل كمية من الكحول كفيلة بجعلها تهرب.

(٥-٧) الضوء الروسي

كان بافيل جابلوشكوف (١٨٤٧–١٨٩٤) مهندسًا روسيًّا يعمل مديرًا لمكتب تلغرافات موسكو-كورسك. ثم استقال من عمله، عاقدًا العزم على السفر إلى فيلادلفيا لزيارة المعرض الدولي. لكنه لم يذهب لأبعد من فرنسا. وفي باريس، قابل لويس بريجيه (١٨٠٤–١٨٨٣) الذي قام بتطوير التلغراف والأجهزة الكهربائية لتوجيه القذائف للبحرية والسكك الحديدية وبالطبع الطائرات. ولقد سمح بريجيه لجابلوشكوف باستخدام معمله. وفي عام ١٨٧٦، تمكن بالفعل من اختراع الشمعة الكهربائية.

وكانت الشمعة الكهربائية — التي أسمتها الصحف الباريسية الضوء الروسي — عبارة عن نظام إضاءة مكون من قوس كهربائي يمتد بين قطبين كهربيين من الفحم. لكن جابلوشكوف لم يستطع التوصل إلى طريقة سهلة لتخفيض تكاليف صناعة القوس الكهربائي. كما أن القطبين الكهربيين كانا ينحنيان كلٌّ منهما باتجاه الآخر، ونظرًا للتآكل، كان لا بد من إيجاد نظام لتقريبهما أوتوماتيكيًّا حتى لا ينطفئ القوس.

وذات يوم، أثناء انتظاره تقديم الطعام في أحد المطاعم، كان جابلوشكوف يفكر ويتسلى بالشوكة والسكين. وفي لحظة ما، خطر له وضعهما بشكل متوازٍ. وأخيرًا، وجد جابلوشكوف الحل المنشود. فبوضع القطبين الكهربيين بشكل متواز وفصلهما بواسطة مادة تنصهر بالحرارة، يمكن الاستغناء بالكامل عن نظام التقريب.

وكانت هذه الشمعة الكهربائية أول مصباح بقوس كهربائي يتم استخدامه بشكل مكثف؛ فقد كانت بسيطة وغير مكلفة ولا تستلزم نظامًا معقدًا مثل باقي المصابيح ذات الأقواس المعروفة في ذلك الوقت. وكانت الإضاءة التي تنتجها قوية مثل تلك التي تنتجها مصابيح الغاز. وقامت الشركة العامة للكهرباء بتصنيع هذه الشمعة، كما تم استخدمها لإضاءة الشوارع والمباني العامة والمرافئ. وتم إضاءة شارع الأوبرا بها في عام ١٨٧٨. كما تم استخدامها في لندن أيضًا. لكن كانت مشكلتها هي ضرورة تغيير الفحم في كل مرة تُطفأ فيها؛ ومن ثم تم الاستعاضة عنها بنوع آخر من المصابيح مزود بآليات أوتوماتيكية لتغيير الفحم.

(٥-٨) المجهر الثنائي

في القرن التاسع عشر، سيطرت على التطورات التقنية للمجهر الحاجة إلى اختراع مجهر أكروماتي (لا لوني) يتيح تقليل التشوه وعيوب الألوان. كانت العدسات الأكروماتية تستخدم منذ منتصف القرن الثامن عشر، لكنها كانت صعبة الصناعة، وذات قطر صغير وقدرة ضعيفة على التكبير، وكان يمكن تصحيح الزيغ اللوني باستخدام عدستين في نفس الوقت إحداهما محدبة والأخرى مقعرة، وكان انحناء مجال البصر أحد عيوب العدسات المركبة؛ حيث تظهر الصورة منحنية في حين أن الشيء نفسه مسطح. ولقد عكف العديد من العلماء على دراسة هذه المسائل.

في عام ١٨٣٨، كتب تشارلز ويتستون (١٨٠٢–١٨٧٥) مقالًا اقترح فيه استخدام مجهر ثنائي من شأنه أن يكون مفيدًا للعلماء؛ حيث إنه يعطي رؤية ثلاثية الأبعاد. وفي عام ١٨٥٢، بمناسبة أحد المعارض، اخترع دافيد بروستر (١٧٨١–١٨٦٨) منظارًا مجسمًا ثنائيًّا وحقق نجاحًا عظيمًا. وفي أعقاب هذا المعرض، تم تصنيع أعداد كبيرة من المجاهر الثنائية، وعلى الرغم من أن أحدًا منهم لم يكن قادرًا على إظهار الأشياء مجسمة، فإنهم كانوا أقل إرهاقًا للنظر من المجاهر الأحادية.

ورغبة منه في تحويل المجهر العادي إلى مجهر ثنائي، حاول المهندس فرانسيس هربرت وينهام (١٨٢٤–١٩٠٨) دون جدوى أن يتخيل منشورًا يمكنه أن يقسم الحزمة الضوئية التي تصل إلى عين المجهر إلى اثنتين. واضطر أن يوقف أبحاثه لانشغاله مدة أسبوعين بأعماله في الهندسة المدنية. ونسي المجهر. وفي مساء ذات يوم — أثناء استغراقه في قراءة رواية بوليسية تافهة للغاية — تراءى أمامه منشور بنفس الشكل الذي طالما بحث عنه. وعلى الفور أخرج أدوات الرسم وقام بتعديل رسوماته الأولى وحساباته. وفي الصباح، كان قد اخترع المجهر الثنائي. كان ذلك في عام ١٨٦٠؛ أي إن مجهر وينهام ظل مستخدمًا مدة خمسين عامًا.
وتأسست شركة صناعة الطائرات في عام ١٨٦٦ على يد مجموعة من عشاق الطيران، من بينهم وينهام. وفي عام ١٨٧١، أنشأ أول نفق للرياح. وكان أول من استخدم كلمة طائرة aéroplane.

(٦) أزمات العلم

واجهت بعض الاكتشافات العلمية صعوبات جمة ليتقبلها الناس؛ لكونها كانت تتعارض مع الفلسفة أو مع الفكرة التي كونها الإنسان عن الكون من حوله وعن الإنسان نفسه. وهكذا، كانت نظريات داروين عن التطور صادمة للكثيرين، مثلها مثل نظريات جاليليو جاليلي (١٥٦٤–١٦٤٢) الذي أنكر فيها — بعد نيكولاس كوبرنيكوس (١٤٧٣–١٥٤٣) — أن تكون الأرض مركز الكون، وتسببت له في الكثير من المتاعب لتعارضها مع الدين. وندرك بالطبع كيف ولماذا يكون لبعض النظريات الفيزيائية أثر فلسفي من شأنه أن يحدث أزمة في التفكير. وبالنسبة لبعض النظريات الأخرى، قد يكون هذا الجانب عسير الإدراك، خاصة في حالة النظريات الرياضية. لكني سأعطي بعض الأمثلة، بادئًا بالفيزياء.

في نهاية القرن التاسع عشر، بدا وكأن الفيزياء قد اكتملت. وهكذا يؤكد ألبرت ميكلسون (١٨٥٢–١٩٣١): «نحن ندخل الآن عصرًا لم يعد ينقص فيه سوى حساب الكسر العشري السادس.» ولم يخطر بباله أنه أثناء قيامه هو بنفسه بحساب هذا الكسر العشري السادس خلال تجربته الشهيرة ميكلسون-مورلي أنه سيطرح أرضًا ميكانيكا نيوتن ويمهد الطريق لنظرية النسبية. وعندما ذهب ماكس بلانك (١٨٥٨–١٩٤٧) — بعد أن أنهى رسالته — لزيارة أستاذه فيليب يوهان جوستاف فون جولي (١٨٠٩–١٨٨٤) ليزف إليه قراره بتكريس حياته كلها للفيزياء، لم يسمع سوى التعجب من رغبته في إضاعة مستقبله في مجال خالٍ من الآفاق. وبنفس الطريقة، تعجب جوستاف كيرشوف (١٨٢٤–١٨٨٧) — عقب الإعلان عن اكتشاف جديد في الفيزياء — من أنه لا يزال هناك شيء ليُكتشف.

وعلى الرغم من ذلك شهدت الفيزياء في غضون بضع سنوات، تغييرًا جذريًّا قلب طريقة التفكير رأسًا على عقب. كنا قد رأينا الأزمة الناتجة عن التخلي عن مفهوم الزمن الكلي في نظرية النسبية الخاصة. ثم — بصورة شبة متزامنة — شهدنا التخلي عن مفهوم الاستمرارية في الفيزياء بفضل نظرية الكم. وقد لاقى ماكس بلانك صعوبة شديدة في تقبل الصحة الفيزيائية لمفاهيمه هو نفسه، وظل مدة طويلة يحاول تجنب هذه العقبة. لم يكن لدى أينشتاين مثل هذه الوساوس، فبمجرد إثباتها عن طريق التجربة، لم تكن الأشياء الجديدة تشكل له مصدرًا للخوف، ليس دائمًا بالطبع!

في العلوم القائمة على الملاحظة والعلوم التجريبية، لا يكون كل نموذج وكل نظرية سوى حقيقة شديدة التعقيد ويصعب استيعابها. ويمكن بالطبع أن تفسر عدة نظريات نفس مجموع الظواهر. ويتم التأكد من صحة نظرية ما في ضوء قدرتها على تفسير كل الظواهر المعروفة، وإمكانية التنبؤ بظواهر جديدة. إذا كانت الإجابة بنعم، يتم قبولها مؤقتًا على أنها صحيحة. ويمكن أن يكون التأكد من صحة نظرية ما من خلال محاولة دحضها وإثبات عدم صحتها عن طريق تجربة أو ظاهرة معينة تناقضها. فلا توجد نظرية يمكن أن تؤخذ كنظرية أكيدة ونهائية.

إلا أن العلاقات بين الحقائق التجريبية والنظرية ليست بهذا القدر من البساطة: فهي لا تقتصر على فكرة الكل أو لا شيء، نعم أم لا، أبيض أم أسود. فيمكننا أن نعرف أن هناك نظرية ليست صحيحة بالكامل دون أن يكون في مقدورنا أن نرفضها بأكملها، ومن ثم نستمر في استخدامها. وبما أن النظرية ليست — بأي حال من الأحوال — سوى تقريب للواقع، فهذا التقريب قد يكون صحيحًا على مستوًى معين دون الآخر. وهو ما يحدث مع ميكانيكا نيوتن التي تعتبر صحيحة عندما تكون السرعات المعنية ضعيفة بالنسبة لسرعة الضوء. لكن كلما اقتربنا من سرعة الضوء، يجب ترك نظرية نيوتن واتباع نظرية أينشتاين. وهو بالضبط ما حدث أيضًا مع الميكانيكا التقليدية التي تكون نظرياتها سارية في حالة الأشياء المرئية بالعين المجردة، لكنها ليست صحيحة على المستوى الذري، ولذلك نستبدل بها ميكانيكا الكم. لكن لن يخطر ببال أحد أن يترك الميكانيكا الكلاسيكية ويتبع نظريات ميكانيكا الكم لإنشاء جسر!

وهناك بعض الأزمات في الفيزياء تكون أكثر عمقًا؛ لأنها تناقض إدراكنا الحدسي للعالم وتصطدم بمبادئ تفكيرنا. فلقد جعلتنا نظرية النسبية نتخلى عن فكرة الزمن الثابت، وأجبرتنا نظرية الكم على رفض فكرة الاستمرارية في الفيزياء، بل وتطلبت جهدًا إضافيًّا. ونحو ثلاثينيات القرن العشرين، شهدنا ظهور تفسير احتمالي لميكانيكا الموجات. وكان مربع دالة الموجة يمثل احتمالية وجود الجزيء في مكان محدد وفي زمن معين. تلك هي علاقات عدم اليقين الشهيرة التي وضعها فرنر هايزنبرج (١٩٠١–١٩٧٦)، والتي تنص على أنه من المستحيل قياس مكان التواجد والزمن لجسيم بصورة دقيقة ومتزامنة. ففي الواقع، للقيام بهذا النوع من القياس، يجب استخدام أجهزة تؤثر على الجسيم، ومن ثم تجعل من المستحيل إتمام هذا القياس المزدوج بشكل دقيق، وعليه يجب التخلي عن مبدأ السببية والحتمية الذي هو أساس الفيزياء؛ لأنه يعطي إمكانية توقع التطور الكامل لنظام ما استنادًا إلى مرجعيته الأصلية. ولقد وقع جدل محتدم بين كل هؤلاء الأبطال ومنهم أينشتاين، ولم ينتهِ بعدُ.

في العلوم الطبيعية، هدمت طريقة تركيب البول الحاجزَ بين الكيمياء المعدنية والعضوية، وأصبح من الممكن تركيب مواد حية داخل المعمل. وأيضًا اصطدمت نظرية التطور بالكنيسة؛ لأنها أفقدت الإنسان مركزه المميز وسط الخليقة. ولم تعد الأرض هي مركز الكون، ونحن نعرف جميعًا الصعوبات التي لاقاها نيكولاس كوبرنيكوس (١٤٧٣–١٥٤٣) وجاليليو جاليلي (١٥٦٤–١٦٤٢) ليحملوا الناس على الاعتراف بذلك الأمر.

ولْنأْتِ الآن إلى الرياضيات. قد يبدو من الغريب أن الرياضيات تمر بأزمات؛ حيث إنها لا ترتبط بأي شكل — مثل العلوم الطبيعية — بالتأويل النظري للتجربة، فهي ليست سوى تركيبات عقلية محضة. إلا أن هناك عددًا لا بأس به من التناقضات جاء ليزعزع التاريخ. فلقد ظهرت مسائل أُثبت فيها خطأ الحدس الفوري والبديهي، وكان من الضروري في كل مرة اتخاذ قرار بإدخال مفاهيم جديدة تتعارض مع هذا الحدس الفوري.

وكانت الأزمة الأولى التي وقعت هي استحالة القياس (نطلق عليها الآن اللامعقولية). ولقد تم الاعتراف بها كحقيقة بناءً على التجربة التالية — وهنا ننضم إلى الفيزياء — التي تقول إن جميع الأطوال يمكن قياسها؛ أي إن اثنين منهما يمكن قياسهما بناءً على الثالث الذي يعتبر وحدة. ويُنسب اكتشاف الأرقام غير القياسية إلى هيباسوس من ميتابونتوم في القرن الخامس قبل الميلاد. ويُعرف الإثبات بعامل اللامعقولية جذر ٢، الذي يعد في رأيي من أجمل ما قدمت الرياضيات. ويقيس هذا الرقم — وفقًا لمبرهنة فيثاغورس (القرن السادس قبل الميلاد) — طول الوتر للزاوية القائمة في مثلث طول كل من ضلعيه واحد. وللتغلب على هذه الأزمة، كان لا بد من رفض الأفكار الشائعة وقتها وقبول فكرة أن بعض الأرقام يمكن أن تكون غير قياسية.

وسأتجاوز الأزمات المرتبطة بمفهومي اللانهاية والتَّبْدِيهِ، للوصول إلى أزمة كبرى تعلقت بمنطق وأسس الرياضيات.

ترجع القصة إلى نظرية المجموعات التي صاغها جورج كانتور (١٨٤٥–١٩١٨) في نهاية القرن التاسع عشر. ولقد طرحت هذه النظرية أمام علماء الرياضيات عددًا من المشكلات ذات الطبيعة الفلسفية تتعلق بوجود أنواع مختلفة من اللانهايات. وكان من الواجب — على وجه الخصوص — الاعتراف بأن العدد اللانهائي من النقط الواقع على جزء من مستقيم والعدد اللانهائي من النقط داخل مربع ليس لهم نفس الطبيعة. إلا أن النظرية انتصرت في النهاية، وتم قبولها في مطلع القرن العشرين. ونظرًا لأن المفاهيم الأساسية لنظرية المجموعات يمكن صياغتها بلغة المنطق، شرع بعض الباحثين في محاولة قصر الرياضيات على المناطق وصياغتها كلها بلغته.

عندما انتهى عالم الرياضيات الألماني فريدريش لودفيج جوتلوب فريج (١٨٤٨–١٩٢٥) من كتابة البحث الضخم المكون من ثلاثة أجزاء «أسس الحساب» في عام ١٩٠١، أعلن عالم المنطق الإنجليزي الشاب برتراند راسل (١٨٧٢–١٩٧٠) أن العناصر التي يقوم عليها كانت متناقضة. ولقد حاول كلٌّ من راسل وألفريد نورث وايتهيد (١٨٦١–١٩٤٧) من جهة، ودافيد هيلبرت (١٨٦٢–١٩٤٣) من جهة أخرى؛ إثبات صحة بديهيات نظرية المجموعات كل على حدة؛ أي إثبات أنهم ليسوا متعارضين ولا يؤدون إلى تناقض.

وانتهى الأمر في السابع عشر من نوفمبر ١٩٣٠ عندما تلقت جريدة «موناتشفتي فور ماتيماتيك» مقالًا لعالم الرياضيات النمساوي، البالغ من العمر خمسة وعشرين عامًا، كيرت جودل (١٩٠٦–١٩٧٨)، يثبت فيه أنه من المستحيل إثبات صحة أو عدم جدوى هذه البديهيات؛ لأن المشكلة لا يمكن حسمها! وهكذا انهار التفاؤل الجميل لعلماء الرياضيات الذين ظنوا أن جميع المشكلات لها حل، وأن الأمر لا يعدو اختيار الطريقة المناسبة لإثبات أي نتيجة. ومن ثم لم تحظ بعض المشكلات بحل. واستنتاج كهذا كان له أهمية فلسفية عظمى؛ حيث أوضح حدود الرياضيات الداخلية.

ولقد تكلمنا أيضًا عن الأزمة الناجمة عن اكتشاف الهندسة الكسرية.

وحتى الآن، يخرج علماء الرياضيات دائمًا من الأزمات المجبرين على اجتيازها بفضل تعميق وإثراء المفاهيم المطروحة. وطالما خرجت الفيزياء أقوى من ذي قبل بعد الأزمات التي واجهتها لكن بطريقة مختلفة نوعًا ما، ولا سيما أن بعض النظريات تصبح قديمة ويتم الاستعاضة عنها بأخرى جديدة.

هل من الضروري وضع خلاصة؟ لقد حاولت — عن طريق أمثلة واقتباسات — أن أثبت تعددية مناهج معالجة أي مشكلة جديدة، وأردت أن أبرز الطرق المختلفة التي قادت نساء ورجالًا إلى تحقيق اكتشافات علمية، جاء بعضها نتيجة الصدفة، والبعض نتيجة الخطأ، والبعض الآخر بفضل لحظة استنارة مفاجئة.

وعلى غرار عالم الأحياء الفرنسي بيير لوكنت دي نووي، يجب أن يجعل كل باحث من تلك المقولة — التي لجيوم الأول من عائلة أورانج ناسو — شعارًا له:

لستَ بحاجة إلى الأمل لكي تحاول، ولا إلى النجاح لكي تستمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤