ثانيًا: قانون الاستحقاق

ويعني قانون الاستحقاق ثواب المطيع وعقاب المسيء، أو أن الجزاء من جنس الأعمال. وهو قانون يشمل العقليات والسمعيات معًا؛ فالله لا يكذب ومن صفاته العلم لا الجهل؛ فالقانون تعبير عن الذات والصفات؛ أي عن أصل التوحيد. كما أن الله عادل لا يظلم؛ وبالتالي يكون القانون أيضًا تعبيرًا عن العدل ومن مقتضيات العقول استنادًا إلى الحسن والقبح العقليَّين. كما يشمل السمعيات؛ فهو جزء من رسالة الأنبياء، وعليه سيتمُّ الجزاء في المعاد. كما أنه يقوم على ربط الإيمان بالأعمال، سواءٌ في الفرد أو في الحاكم؛ وبالتالي فإنه يشمل أيضًا موضوع الأسماء والأحكام وموضوع الإمامة آخر موضوعَين في السمعيات.

(١) هل يُمكِن نفي الاستحقاق؟

إن نفي قانون الاستحقاق هو في واقع الأمر نفيٌ للارتباط الضروري بين الفعل ونتائجه، بين العلة والمعلول، وهو ما يُنافي الأمور العامة في نظرية الوجود في المقدمات النظرية الأولى.١ فكل فعل يؤدي إلى نتيجة، كما أن كل علة تؤدي إلى معلولها. وتكون نتائج الأفعال المقصودة من نوع الأفعال ذاتها، كما تكون المعلولات من جنس عِلَلها. الثواب إذن نتيجة طبيعية للطاعة، والعقاب نتيجة طبيعية للمعصية، كما أن الاحتراق نتيجة طبيعية للنار، والتجمد نتيجة طبيعية للبرودة، لا فرق في ذلك بين قانون العقل وقانون الطبيعة. قانون الاستحقاق إذن قانون عقلي، وهو في نفس الوقت قانون طبيعي، ولا يُمكِن قلب القانون أو عكسه أو خرقه أو إيقافه أو إبطاله، طالما أن هناك عقلًا وطبيعة. ولا يعني ذلك حتمية في السلوك الإنساني؛ فحرية الاختيار وخلق الأفعال أحد مُكتسَبات العدل وهو من العقليات، ولا يُمكِن هدم العقليات بالسمعيات، بل تتأسس السمعيات بالعقليات.٢ هدم قانون الاستحقاق إذن هو تدمير للطبيعة وقضاء على السلوك الإنساني وإيقاع الاضطراب والعشوائية فيه، وتأسيس الحياة الإنسانية على عدم الثقة والضياع ونقص التوجيه وغياب التطلع إلى المستقبل. فكيف يُعاقَب المطيع ويُثاب العاصي؟ وكيف يُوثَق بالعقل وبالقانون إذا ما تم تدميره في المستقبل؟ كيف يُوثَق بأي شيء؟ كيف يُقضى على كل ضمان ويُنزَع كل اطمئنان؟ ليس المهم هو الإثابة أو العقاب، بل أثر ذلك على الحاضر، وضياع ثقة المطيع بطاعته فيعصي، واعتزاز المسيء بإساءته فيستمر فيها. وما دام الحال في النهاية سواءً بين المطيع والمسيء، وما دام الأمر سيقلب فينال المثيب عقابه والمسيء ثوابه، ففيمَ الاستمرار في الطاعة أو ترك العصيان؟ أليس ذلك استخفافًا بالعقل وهدمًا للحكمة الإلهية وقضاءً على الشرائع؟ كيف يستطيع الإنسان أن يعيش في عالمٍ لا يحكمه قانون؟ كيف يعيش الإنسان حياته وهو لا يضمن نتائج أعماله؟٣ كيف يُترَك مصير الإنسان لمُطلَق المشيئة والإرادة؟ كيف تُترَك الأفعال أمام احتمال تطبيق قوانين مُتعارِضة ومُتناقِضة، لو طُبِّق أحدها كان ظلمًا ولو طُبِّق الآخر كان عدلًا؟ صحيحٌ أن الله حر الإرادة، ولكن الإنسان أيضًا قد فعل واجتهد ويريد أن يعرف مصيره طبقًا لعالمٍ يحكمه قانون ثابت وعدل. وإذا كان ذلك معروفًا في الدنيا فيما يتعلق بالديات والكفارات، فالأولى أن يكون معروفًا في الآخرة حيث لا خطأ هناك ولا جور. وهل علاقة الله بالإنسان علاقة المالك بالعبد؟ ألا تُوجَد خطورة في أن تتحول هذه العلاقة من المستوى الديني إلى المستوى السياسي والاجتماعي، ويتحول كل مالك أو حاكم إلى إله وكل إنسان إلى عبد مملوك يتصرف فيه المالك أو الحاكم كما يشاء؟ أليس التصور، تصوُّر السيد والعبد، تصورًا إقطاعيًّا خالصًا، يفعل السيد مع العبد ما يشاء وليس للعبد أي حق، حتى حق الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية؟ وأين حق الثورة؛ ثورة العبيد على الأسياد أو على الأقل حق حرية العبيد وحق المساواة بين الناس؟ وكيف تكون العلاقة بين القوي والضعيف مجرد إرادة القوي دون حقوق الضعيف؟٤ وكيف يكون الثواب فضلًا وليس استحقاقًا، في حين يكون العقاب عدلًا واستحقاقًا؟ ولماذا يتم التفضل على الإنسان إذا ما أُعطي حقه أداءً لواجبه، في حين يُعطى إليه استحقاقه من العقاب إذا ما تهاون فيه؟ وهل من شيمة الإله التصدق بالثواب وفرض العقاب؟ ولماذا يجوز الابتداء بالثواب دون الاستحقاق، في حين يكون الاستحقاق للعقاب فقط؟ بهذا التصور يكون الله أقرب إلى الانتقام منه إلى العفو، وأكثر رغبةً في العقاب منه في الثواب، وكأن الله يتضجر بالطاعة فيُعطي الثواب تفضلًا، ولكنه يتنعَّم بالمعصية فيُعطي العقاب استحقاقًا وتشفيًا! لماذا يكون الثواب فضلًا والعقاب عدلًا؟ هذا تصوُّر سوداوي وقاسٍ لله. فلماذا لا يكون كلاهما عدلًا واستحقاقًا؟ لماذا يقتر الله في الثواب ويكون كريمًا في العقاب؟ أو لماذا يكون الثواب طبقًا للكرم والجود والإرادة، والعقاب طبقًا لقانون الاستحقاق؟ إن الأقرب إلى الألوهية هو العكس؛ أن يكون الثواب عن استحقاق، أما العقاب فيتنازل الله عنه بالعفو. والعجيب أن يُعرَف الأشاعرة بأنهم أهل الرحمة لا أهل العدل، في حين أنهم أخذوا العدل فيما وجبت فيه الرحمة، وجعلوا الرحمة فيما وجب فيه العدل. ولو أُدخِلنا الجنة من غير عمل لا نكون مستحِقين لها. والذي لا عمل له ولكن له كرامة لا يقبل ثوابًا تفضلًا على شيءٍ لم يفعله، كما يأخذ الجائزة الأولى في سباق وهو آخر الفائزين! إن الثواب لا يكون تفضلًا أو إنعامًا أو إحسانًا، بل يكون استحقاقًا، وإلا أصبح الإنسان عبيد إحسانات الآخرين، ولأصبح الناس عبيد إحسانات الحاكم «وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا»! إن نتائج أفعال الإنسان لا تأتي من أعلى هبةً ومِنَّة، بل تأتي من أسفل كسبًا واستحقاقًا، وإن حقوق الشعوب لا تكون مِنَّة وهبة من الحكام، بل تكون استخلاصًا لها منهم عنوةً وقسرًا بعد نضال لأجله يطول لعدة أجيال وفي أعمار لعدة حضارات. هناك ارتباط ضروري بين الطاعة والثواب لا يُمكِن فصله، وإلا لما كانت هناك طاعة، ولما وجد الثواب طريقًا إلى شيء يكون جزاءً له. ليس العقاب انتقامًا من الله، بل مجرد نتيجة للفعل تحدث في الدنيا، سواء قبل الموت أو بعده، لما كانت الحياة مستمرة. وما الموت إلا نقطة بداية جديدة، وانتقال من فعل الفرد إلى فعل الجماعة من خلال السنة والقدوة، والأثر والفكر. ومع أن العقوبة إيلام إلا أنها زجر في الحاضر ورعاية مصلحة في المستقبل، مع أنها إيلام للجاني إلا أنها تخفيف عن آلام أخرى؛ إرشاد وإصلاح. فالعقاب من أجل العقاب إيلامٌ وتشفٍّ وغيظ. إنه ليصعب الخروج على تصوُّر العدل، بأن يُعاقِب الله بغير ذنب؛ فالواقعة لا تخرج من المبدأ ولا تعتمد عليه. ولما كانت الواقعة لم تحدث بعدُ يظل المبدأ قائمًا مُعلَنًا عنه في الخطاب. إن الفضل والعدل مبدآن متعارضان؛ الفضل كرم، والعدل استحقاق.٥
وكيف لا يكون العمل علة الاستحقاق؟ وما البديل؟ الكرم والجود؟ النسب والحسب؟ الإيمان الذي لا يتحقق في عمل؟ لا يوجد مقياس آخر للاستحقاق أكثر عدلًا من العمل. وإن كل الحجج التي تُقال لنفي العمل كمقياس للاستحقاق إنما تُصوِّر قدرة الله فوق عدله، وإرادته فوق حكمته؛ فكيف تكون قدرة الله على الترك مقياسًا للعظمة والقدرة؟ كيف تغلب الإرادة والقدرة على العدل؟ كيف يقضي التوحيد على العدل، والعدل أحد مُكتسَباته؟ وإذا كانت الطاعة شكرًا على النِّعم، فإن الشكر فعلٌ يستلزم الثواب. وليس الشكر بالفم وحده، بل يكون بالفعل والطاعة والتمتع بالنِّعم دون الإضرار بالنفس، ويكون الجحود فعلًا يستوجب العقاب؛ فشكرُ الله على النِّعم إذن لا ينفي العمل كأساس للاستحقاق بل يؤكِّده؛ لأنه فعلٌ يستحق الثواب كما أن الجحود فعلٌ يستحق العقاب. ولا يكون شكر الله مكافأة على النِّعم؛ إذ لا يُمكِن مكافأة الله؛ فالله لا ينتظر مكافأة من أحد، وهي مكافأة ضئيلة بالنسبة لعِظَم النِّعم، كما أن حياة الإنسان ووجوده ليسا هبة من أحد عليه. إن الإنسان لا يعمل من أجل النعم السابقة واستبقاءً لها؛ فمهما عمل الإنسان فإنه لن يوفِّي نعمة الحياة والوعي والعقل والإبداع حقها. وهذان مستويان مختلفان بين المتناهي في الكِبَر وهو النعم، والمتناهي في الصغر وهو شكر الإنسان. ونِعَم الحياة ليست معطاة بل موجودة، ليست في مقولة الملكية بل في مقولة الوجود؛ فهي أضخم بكثير من أن يمتلكها إنسان أو يهبها أحد. ويُخشى من التصور التجاري المحض: ما دام الإنسان قد استلم البضاعة فعليه دفع الثمن، حتى ولو كان ثمنًا بخسًا لا يتفق مع عظمة المشتريات. وهل الله في حاجة إلى شكر النعم؟ وهل أفعال الإنسان شكر على النعم أم أداء للرسالة وتحقيق للأمانة؟ إن فعل الإنسان لا يكون فرضًا على الله، بل هو احترام الله لفعل الإنسان واكتساب الإنسان لفعله من الله، وهو أحد مُكتسَبات العدل من التوحيد. الإنسان حبيب الله ومعشوقه، وخليله وصفيه، مخلوقه وكليمه، بدليل إرسال الوحي إليه، وخلق الكون له، وجعله سيدًا له، وتكريمه إياه في البر والبحر، وتسخير المخلوقات لأجله.٦ إن وضع الإنسان في الحياة في حالة الثقة بالنفس وضعٌ من ذاته وليس كرمًا أو جودًا من أحد، نتائج عمله تأدية لواجباته ولا شكر على واجب. إن قانون الاستحقاق لا يجوز إلا بين مُتكافئَين، أما نِعَم الله والثواب عليها فغير مُتكافئَين؛ هذا شكر المُنعِم وليس الاستحقاق. لا يعني الاستحقاق أن الثواب والعقاب يعودان على الله بنفع أو ضرر، ولكن تزداد ثقة الإنسان بفعله وبنتائجه وبقوانين الطبيعة وسنن الكون، فالله غني عن العالمين، وإنما أتى الوحي لمصلحة الإنسان.٧ إن التكليف لا يتطلب بالضرورة القضاء على صفات الأفعال الذاتية وموضوعية القيم، بل قد يكون التكليف تأكيدًا وإثباتًا لها؛ مما يدل على ارتباط الأصول بعضها ببعض. ولا تقضي موضوعية القيم على الحرية، بل على العكس هي شرط لها؛ فموضوعية القيم تُعطي الحرية ثباتًا عمليًّا واستقلالًا نظريًّا، وتجعلها مباشرة في مواجهة موضوعها. ولماذا يضيع جهد الإنسان ومشقته وتعبه بلا جزاء؟ ولماذا تقع النتائج ابتداءً دون مقدمات، كرمًا دون استحقاق، هبةً ومنَّة لا كسبًا وتحصيلًا؟ والعجيب أن يتجه إلى ذلك أنصار الكسب، وإثبات الكسب هنا أولى من أجل الاستحقاق، وليس لسلب الإنسان حريته وخلقه لأفعاله. كيف يحصل الإنسان على نتائج فعله من غير تعب ولا نصَب؟ ليست المشكلة هي القدرة على العطاء، بل استحقاق العطاء. ليس الأمر من وجهة نظر الله، بل من وجهة نظر الإنسان. وما فائدة العطاء لو كان جبرًا ومنة؟ وما قيمته لو كان من السيد إلى العبد؟٨ لذلك ارتبط الاستحقاق بحرية الأفعال؛ ومن ثَم فثواب الملائكة ليس كثواب البشر، فالملائكة ليسوا أحرارًا وليسوا مكلَّفين مأمورين وطائعين، في حين أن البشر مكلَّفون مأمورون ومنهيون بناءً على تمتُّعهم بشروط التكليف؛ حرية الأفعال وكمال العقل. فالإنسان وحده هو الموجود الحر العاقل الذي اختار الرسالة لحملها، والأمانة لتبليغها، والكلمة لتحقيقها.٩
وقد تُؤخَذ حلول وسط؛ إما باستحقاق العقاب والتفضل بالثواب، أو باستحقاق الثواب والتنازل عن العقاب! والأول انتقام وسوداوية وحقد وتشفٍّ وغضب، وكأن قانون العقل هو قانون العقاب وحده، والثواب تفضُّل وتنازُل وعطاء ومِنة لا يُعرَف إلا بالسمع. قد يكون ذلك في حق الغير ممكنًا؛ فالغير المسيء لي عقابه واجب عقلي لا تسامُح فيه، في حين أن ثوابه على فعل الطاعة لا يؤثِّر كثيرًا فيها؛ لأن الطاعة حسنة لذاتها وليس لثوابها، ولا يعفو الإنسان عن المسيء له إلا بسمع، ولكن ألا يجعل ذلك السمع مُعارِضًا للعقل ومناقضًا له، بل وهادمًا إياه؟ وهل يكون أساس العقاب وحده في العقل في حين أساس العفو أو الثواب بالسمع؟ وإذا كان الأمر بالنسبة إلى النفس، فهل تود النفس توقيع العقاب عليها عقلًا وإرجاء الثواب إلى السمع؟ ألا يكون ذلك تعذيبًا للنفس إيلامًا للذات؟ ولماذا لا يتنازل العقل عن العقاب في حين يتنازل عن الثواب وكأن حق الآخر لا تنازل فيه ولا يكون التنازل إلا في حق الذات؟ إذا كان العقل لا يقبل الإساءة، فإنه قد يقبل التنازل عن الثواب إذا ما جاء السمع به. هل هذه تضحية بالذات في سبيل الغير، أم أنه تعذيب للذات بالإبقاء على عقابها والتنازل عن ثوابها؟١٠ أما الثاني وهو استحقاق الثواب والتنازل عن العقاب فهو أقرب إلى الطبيعة الخيِّرة، وهو من شِيَم القدرة على العفو، فالعفو عند المقدرة. والعقاب في النهاية ليس غاية في ذاته بل وسيلة للإصلاح، وإذا ما تم صلاح الناس يُصبِح العقل بلا داعٍ أو هدف. فإذا ثبت الثواب بالعقل فالعقاب يُنظَر فيه بالعفو؛ نظرًا لإمكانيات الندم والتوبة، وإن لم يتم الصلاح فالعقاب لا فائدة منه، وغرض التكليف هو النفع، فإن لم ينتفع المكلَّف وعصى فقد فوَّت على نفسه النفع وهو أكبر عقاب له، وتتوقف الغاية من العقاب الأول. والله منزَّه عن إنزال العقاب بالناس إن فوَّتوا صلاحهم في الدنيا، ولن يعود عليه شيء بالنفع إذا ما تم العقاب. التعذيب في حد ذاته ضررٌ خالٍ من المنفعة، والله منزَّه عنه أو حتى عن النفع، بل العقاب والنفع إنما هما لصالح الإنسان، وليس الدافع لتوقُّف العقاب هو خلق الله للأفعال، فذاك ضد مُكتسَبات العدل؛ الحرية والعقل؛ فالعقاب من نتائج التكليف. وقد يكون التنازل عن العقاب فضلًا أو تعبيرًا عن الرحمة والقدرة.١١ ولكن في هذه الحالة تظهر عدة اعتراضات رئيسية، منها افتراض الكذب في الخبر، أو تأويله بحيث يتبدل القول، وتجويز عدم خلود الكفار في النار. وهي اعتراضات عقائدية صِرفة، جدلية دينية.١٢ ولكن المهم هو الاعتراضات في التجربة الإنسانية؛ فإذا كان إبقاء الثواب وإيقاف العقاب يعبِّران عن نزعة إنسانية، وهي تجربة التسامح والعفو، فإنه أيضًا يكشف عن جانب آخر فيها، وهو رفض الإنسان العفو عن الظالم والقاهر والمُعتدي والقاتل، فذلك كله ضد العدل؛ فبقدر ما يتضمن شعور المطيع العفو عن العاصي يتضمن أيضًا الفرح لعقابه، وبقدر ما في نفسه من رحمة وعطف بالناس بقدر ما يحزُّ في نفسه أيضًا مرور الظالم بلا عقاب، والقاتل بلا قصاص. صحيحٌ أن المطيع أخذ ثوابه في الدنيا من تقدير الناس واحترامه له، كما أخذ العاصي عقابه في الدنيا من تصغير الناس له واحتقاره إياه، ولكن ماذا عن المؤمن المصاب والعاصي الذي خلا من العقاب؟

(٢) إثبات الاستحقاق

الاستحقاق إذن قانون عقلي ثابت مثل القانون الطبيعي، يُثبِته العقل وتؤكِّده التجربة البشرية، ولا تهم جهة الوجوب هل هو وجوب شرعي أو وجوب عقلي؛ فالشرع يقوم على العقل، والعقل أساس النقل.١٣ وثبوت الاستحقاق شرعًا من الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع تأكيدٌ على ثبوته عقلًا وهو القياس؛ فالاستحقاق ثابت نصًّا، وخطاب الله صادق لا كذب فيه، بل تبدو الذات نفسها متحقِّقة بصفاتها ومنها الرحمة؛ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ؛ ومن ثَم لا خوف من وجوب الاستحقاق على أنه إيجاب على الله وفرض عليه. وإن إثبات الوجوب السمعي وحده يقضي على الغاية من التكليف، وهو إلحاق النفع بالإنسان ودفع الضرر عنه، ويجعل التكليف بلا غاية ولا غرض. ولا يُقال لو أبقانا الله على العدم لاسترحنا، فالإنسان بمحض حريته اختار الأمانة وحمل الرسالة، فهو أفضل من السموات والأرض والجبال التي استراحت من عبء الرسالة ومشاقِّ التكليف. إن استحقاق العقاب يدل عليه السمع والعقل معًا. ولما كان العقل أساس السمع فوجوب الاستحقاق وجوب عقلي، والوعد والوعيد قانون عقلي ثابت. وليس الوجوب الشرعي والعقلي مجرد عادة أو تجربة بشرية متكررة، فالعادة تأكيد لوجوب الشرع والعقل وليست بديلًا عنهما. الشرع والعقل تأكيد للطبيعة، والطبيعة تأكيد للشرع والعقل.١٤ ولكن يظل العقل هو الأساس الذي ينبني عليه العقل، والذي تؤكده الطبيعة.١٥ فالاستحقاق لنفع الإنسان، إثابةً المطيع وعقابًا للعاصي، به صلاح الإنسان، والله لا يفعل إلا الصلاح، وهو منزَّه عن جلب النفع لنفسه ودفع الضرر عن ذاته. وإذا كان الإنسان قادرًا على إدراك الحسن والقبح في الأفعال، وقادرًا على الاختيار بينها، فالاستحقاق واجب عقلي نتيجةً لحرية الاختيار وللحسن والقبح العقليَّين. وتجتمع الحرية والعقل في الطبيعة؛ فقد خلق الله فيها شهوة الحسن ونفرة القبح من أجل وجوب الاستحقاق.١٦
إن منع المطيع من الثواب والمسيء من العقاب ظلم، والظلم ضد العدل، والعدل أصلٌ عقليٌّ مثل أصل التوحيد.١٧ وإذا كان التكليف مع القدرة فترك الثواب قبيح، وإذا كُلِّف الإنسان الأفعالَ الشاقة فإنه يستحق عليها الثواب، ولا يجوز التفضل بالثواب ابتداءً، وإلا لما تمَّت الأفعال الشاقة، ولما حسن التكليف بها. ولا يكفي المدح كثواب، بل لا بد من نفع فيه، وكل مدح إنما يُخفي وراءه طلب نفع أو دفع مضرة. وإذا كان المدح يتم في الدنيا فإن الثواب يتم في الآخرة؛ وبالتالي ثبتت ضرورة إعادة الأموات واستمرار الحياة بعد الموت لوقوع الثواب، كما يثبت الثواب برجعة الأموات وثبوت حياة بعد الموت، حتى الأفعال النظرية، مثل معرفة الله، بها مشقة الفكر ومعاناة النظر وجهد القريحة، كما أن الخيِّر بطبعه الذي يطيع طبقًا لطبيعته يستحق الثواب، ثواب الطبيعة وازدهارها وكمالها والحرص على استقامتها؛ فالطبيعة حرة، والحرية إدراك وجهد. وليس التكليف بالأفعال الشاقة من النِّعم العظيمة فحسب، بل أيضًا لأجل الإثابة عليها استحقاقًا ليحيا مَن حيي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة. فالإنسان لم يُكلَّف عبثًا، وحياته امتحان واختبار له بفعله وجهده. إن جهد الفعل يؤدي إلى تقوية الذات وتحقيق إمكانياتها بفعل الإنسان؛ فهو خلق أفعال، وإبداع وجوب يُثاب عليه.١٨ والاستحقاق أيضًا تعبير عن الأصلح، وإن لم يكن تعبيرًا عن الأصلح فإنه يكون تعبيرًا عن اللطف.١٩

والحقيقة أن نتائج الأفعال قد تكون مباشرة في الحال وغير مباشرة في المآل. قد تظهر في الدنيا وقد تتولد بعد انقضاء العمر. قد لا تكون نتائج الأفعال بالضرورة بعد الموت وعلى نحوٍ مادي، بل قد تكون في هذه الدنيا على نحوٍ معنوي. وإن كانت نتائج مادية فقد لا تكون نفعًا ماديًّا مباشرًا للفاعل، بقدر ما تكون تحقيقًا لمصلحة الجماعة وخلودًا في ذِكراها. وقد لا يكون الثواب بالضرورة هو الجنة أو العقاب حتمًا هو النار، ولكن تكون نتائج الأفعال من جنسها دون تحديد أشخاصها. وإذا كانت الأفعال حسنة وقبيحة في ذاتها، وكانت أفعال الإنسان تتم بلا إلزام ولا جزاء، فعليه أن يسعى، وليس عليه إدراك النجاح. وكل استباق للمستقبل خارج بِنية الفعل ذاته، فإنه يكون رجمًا بالغيب، وتجديفًا على الله، ودخولًا للإنسان فيما لا يخصُّه، وقد يكون المستقبل أكثر غنًى وثراءً من رؤية الحاضر له.

١  انظر الباب الأول: المقدمات النظرية، الفصل الرابع: نظرية الوجود، ثانيًا: ميتافيزيقا الوجود أو «الأمور العامة» الواجب، (٥) العلة والمعلول.
٢  يقول القاضي عبد الجبار: «وربما خلط السمعيات بالعقليات في هذا الباب الذي من حقه ألا يُعتمَد فيه إلا على أدلة العقول» (الأصلح، ص١٥).
٣  نفي قانون الاستحقاق هو موقف الأشاعرة بوجهٍ عام؛ إذ لا يجب على الله الثواب في الطاعة ولا العقاب على المعصية، بل إن أثاب فبفضله، وإن عاقب فبعدله ولا قبح منه، ولا يُنسَب فيما يفعل أو يحكم على جور أو ظلم، يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد (العضدية، ج٢، ص١٨١–٢١٧). يجوز أن يعذِّب المطيع وينعِّم العاصي (الحصون، ص٢٩–٣٢؛ الفصل، ج٣، ص١٣٠–٢١٧). لو عذَّب من لم يقدر على ما أمر به من طاعة لما كان ظلمًا إذا لم يسمعه ظلمًا (الفصل، ج٣، ص٨٢-٨٣). وإنه يعذِّب من يشاء أن يعذِّبه، ويرحم من يشاء أن يرحمه، وإنه لا يلزم أحدًا إلا ما ألزمه الله، ولا قبيح إلا ما قبَّح الله، ولا حسن إلا ما حسَّن الله، وإنه لا يلزم لأحد على الله حق ولا حجة. الله على كل من دونه وما دونه الحق والواجب والحجة البالغة؛ لو عذب المطيعين والملائكة والأنبياء في النار مخلَّدين لكان ذلك له، ولكان عدلًا وحقًّا منه. ولو نعَّم إبليس والكفار في الجنة مخلَّدين كان ذلك له، وكان حقًّا وعدلًا منه. وإن كل ذلك إذ أباه الله وأخبر أنه لا يفعله صار باطلًا وجورًا وظلمًا (الفصل، ج٣، ص٧٧-٧٨). في أنه لا يجب عليه الطاعة وعقاب المعصية (الاقتصاد، ص٨٤).
٤  تدَّعي «الأشاعرة» أن الله إذا كلَّف العباد فأطاعوه لم يجب عليهم الثواب، بل إن شاء الله أثابهم وإن شاء عاقبهم، وإن شاء أعدمهم ولم يحشرهم. ولا يُبالي لو غفر لجميع الكافرين وعاقب جميع المؤمنين! ولا يستحيل ذلك في نفسه، ولا يُناقِض صفة من صفاته الإلهية؛ هذا لأن التكليف تصرُّف في عبيده ومماليكه! أما الثواب ففعلٌ آخر على سبيل الابتداء وكونه واجبًا بالمعاني الثلاثة غير مفهوم! ولا معنى للحسن والقبح … لا نسلِّم أن من يستخدم عبده يجب عليه في العادة ثواب؛ لأن الثواب يكون عوضًا عن العمل فتبطل فائدة الرق! وحق العبد أن يخدم مولاه لأنه عبده، فإن كان لأجل عِوض فليس ذلك منفعة! (الاقتصاد، ص٩٥-٩٦). سبحانه مالك الملك بجميع العباد، والمالك مِنَّا إذا تعرف في ملكه فإنه لا يجب لأحد عليه شيء، وإذا لم يجب على المالك المجازي شيء بأن يتصرف في ملكه، فكذلك لا يجب على المالك الحقيقي، بل كان ذلك بطريق أولى (المسائل، ص٣٧٧-٣٧٨). العدل في أفعاله على مذهب أهل السنة أن يتصرف في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد؛ فالعدل وضع الشيء في موضعه، وهو التصرف في الملك على مقتضى المشيئة، والعلم والظلم بضده، فلا يُتصوَّر منه جور في الحكم وظلم في التصرف (الملل، ج١، ص٦٣). وهي الحجة القديمة للجبر والكسب في خلق الأفعال. انظر الباب الثالث: الإنسان المتعين، ثانيًا: أفعال الشعور الداخلية، (١) هل أفعال الشعور الداخلية أفعال جبرية؟ (ﺟ) حُجَج الجبر.
٥  الثواب فضلٌ من الله، والعقاب عدلٌ منه، والعمل دليل، وكلٌّ ميسَّر لما خُلِق له، ولا يجب عليه الثواب في الطاعة ولا العقاب في المعصية، بل إن أثاب فبفضله، وإن عاقب فبعدله (العضدية، ج٢، ص١٩٣–٢٠٢). الله متفضِّل على عباده، عادلٌ قد يُعطي الثواب أضعاف ما يستوتجبه العبد تفضلًا منه، وقد يُعاقِب على الذنب عدلًا منه، وقد يعفو فضلًا منه (الفقه، ص١٨٦). في إحالة الحجر على الله، الله عادل في كل أفعاله غير محجور عليه شيء، ما شاء فعل وما شاء ترك، له الخلق والأمر، لا يُسأل عما يفعل (الأصول، ص٨٢). وإنه عادل في خلقه بجميع ما يبتليهم به وبغضبه عليهم من خير وشر، ونفع وضر، ولذة وألم، وصحة وسقم، وهزيمة ونصر (الإنصاف، ص٢٨). الثواب فضلٌ وعدَ به فيبقى من غير وجوب؛ لأن الخُلف في الوعد نقص. والعقاب عدلٌ له أن يتصرف فيه، وله العفو عنه؛ لأنه فضل، ولا يُعَد الخُلف في الوعيد نقصًا عند العقلاء (المواقف، ص٣٧٨). الوجود من حيث هو وجود لا يُستحقُّ عليه ثواب وعقاب (الملل، ج١، ص١٤٧). وعند البهشمية، أتباع أبي بهشم عبد السلام بن أبي علي الجبالي، يجوز أن يُعاقِب الله العبد من غير أن يصدر عنه ذنب (اعتقادات، ص٤٤؛ الاقتصاد، ص٩٦-٩٧). وقد قيل في العقائد المتأخِّرة:
فإن يُثِبنا فبمحض الفضل
وإن يعذِّب فبمحض العدل
(الجوهرة، ص١٠-١١؛ تحفة المريد، ص١١؛ شرح عبد السلام، ص١٠٢)
ويُقال أيضًا:
لكن ذا في الشرع مستحيل
إذ قوله ليس فيه تبديل
فهو له إثابة العصاة
كما له التهذيب للهداة
(الوسيلة، ص٥٥؛ القول، ص٥٥-٥٦)
٦  العمل لا يكون علة لاستحقاق الثواب خلافًا لمعتزلة البصرة (المعالم، ص١٣٥-١٣٦). ويُعطي الأشاعرة حججًا ثلاثًا لإثبات ذلك: (أ) لو وجب على الله إعطاء الثواب، فإما أن يقدر على الترك أو لا يقدر على الترك، فإن قدر على الترك وجب أن يصير مستحِقًّا للذم موصوفًا بالنقصان، وإن لم يقدر على الترك فذلك قدحٌ في كونه فاعلًا مختارًا. (ب) إن لله على العبد نِعمًا عظيمة تُوجِب الشكر والطاعة، وقد وقعت الطاعة مُقابِل النعم، وليست مُوجِبة للثواب؛ لأن الواجب لا يُوجِب أشياء أُخَر. (ﺟ) وقع فعل العبد لأنه مجموع القدرة مع الداعي يُوجِبه، وهو فعل الله وفاعل السبب فاعل للمسبَّب. ففعل العبد يكون فعلًا لله، وفعل الله لا يُوجِب شيئًا على الله (المعالم، ص١٣٥-١٣٦؛ المحصل، ص١٤٨؛ الإرشاد، ص٣٨١-٣٨٢). أما قوله (أبو القاسم) في الثواب أنه يجب إيصاله للمطيعين من حيث الجود فظاهر التناقض؛ لأن الجود هو التفضل، والتفضل هو ما يجوز لفاعله أن يفعله وألا يفعله، والواجب هو ما لا يجوز له ألا يفعله. فكيف يُقال إن هذا يجب من حيث الجود؟ (شرح الأصول، ص٦١٩).
٧  النهاية، ص٣٨٤–٣٨٦.
٨  هذه هي حجة الآمدي إذ يقول: إنا نلوذ بجناب الجبروت ونستعيذ بعظمة الملكوت. فمن يتجاسر على الإفصاح بهذا الافتضاح، ويتفوَّه بالنكير على الله، والتجبن في الدخول في منته والاشتمال بنعمته، وكيف السبيل إلى الخروج عن ذلك وأين المفر منه؟ (الغاية، ص٢٤٠-٢٤١).
٩  وهو قادر على مجازاة العبيد ثوابًا وعقابًا، وقادر على الأفعال عليهم ابتداءً تكرمًا وتفضلًا، والثواب والتفضل والنعيم واللطف كلٌّ منه فضل، والعقاب والعذاب كله عدل؛لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (المِلَل، ج١، ص١٥٤-١٥٥). والتفضل غير الاستحقاق (الإبانة، ص٥١؛ لمع الأدلة، ص٩٩-١٠٠). واختلفت المعتزلة في نعيم الجنة؛ هل هو تفضُّل أم ثواب إلى رأيَين: (أ) هو ثواب. (ب) هو تفضُّل (مقالات، ج١، ص٢٩٥). وقال جمهور المعتزلة الغرضُ من التكليف التعريض لاستحقاق التعظيم؛ فإن التفضل بدونه قبيح (الطوالع، ص١٨٩–١٩٨). وعند النظَّام التفضلُ على الأطفال كالتفضل على البهائم (المِلَل، ج١، ص٨٨). الثواب لا يجوز الابتداء بمثله (الشرح، ص٥١١).
١٠  هذه تفرقة القاضي عبد الجبار إذ يسأل: هل يصح أحدنا أن يعلَم في حال الغير استحقاق الثواب والعقاب؟ لا خلاف في أنه يصح أن يعلَم كون الغير مستحِقًّا للعقاب. وإنما الكلام في أنه هل يصح أن يعلَم استحقاقه للثواب؟ الأصل أنه لا طريق من جهة العقل، وإنما يُعلَم سمعًا، مثل استحقاق الملائكة والأنبياء الثواب، وأن عليًّا وفاطمة والحسن والحسين من أهل الجنة. وكذلك السؤال الثاني: هل يصح أن نعلم كون أنفسنا من أهل الثواب والعقاب؟ من المُمكِن أن نقطع على استحقاقنا العقوبة، ولا يُمكِننا القطع على استحقاقنا للثواب وكوننا من أهل الجنة إلا سمعًا. والخلاف في علته يُعلَّل (أبو علي) أو لا يُعلَّل (أبو هاشم) (الشرح، ص٨٠١-٨٠٢).
١١  وعدُ الله المؤمنين بالجنة لا يتخلَّف شرعًا عند الأشعرية والماتريدية. أما الوعيد فيجوز الخُلف فيه عند الأشاعرة؛ لأن الخُلف لا يعني نقصًا، بل كرمًا، كما قال الشاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدته
لمُخلِف إيعادي ومُنجِز موعدي
وقد قيل في العقائد المتأخرة شعرًا:
وخاذلٌ لمن أراد بُعدَه
ومُنجِز لما أراد وعده.
(الجوهرة، ص٥)
ويُعزى هذا الرأي للملاحدة! ولهم شبهتان في نفي العقاب: (أ) غرض القديم من التكليف نفع المكلَّف، فإذا لم ينتفع المكلَّف فليس له أن يُعاقَب؛ فقد فوَّت على نفسه النفع وكفى. (ب) العقاب ضرر، وإيصاله من الله للغير لتشفِّي الغيظ لنفع المُعاقَب أو المُعاقِب، وهذا غير موجود (الشرح، ص٦٢١–٦٢٣). قال المسلمون كافةً إنه يحسن من الله تعذيب الكفار، وقال البعض لا يُعذَّب أحد أصلًا للآتي: (أ) التعذيب ضررٌ خالٍ من المنفعة، والله منزَّه عن أن ينتفع بشيء. (ب) إذا كلَّف الله الكافر ترتيبًا على تكليفه العذاب، فإما لا تكليف وإما تكليف ولا عذاب. (ﺟ) الخالق لداعي العقاب هو الله. (د) دوام العقاب قسوة. (ﻫ) لو تاب من الكفر ولو بعد حين وغفر الله له لا يكون عقاب (الوسيلة، ص٨٦–٩٢). قيل إن من جوَّز الخُلف في الوعيد بناءً على أنه مكرمة من الله يلزمه.
١٢  وقد اعتُرض على جواز تخلُّف الوعيد بمفاسد: (أ) الكذب في الخبر. (ب) تبدُّل القول. (ﺟ) تجويز عدم خلود الكفار في النار (شرح عبد السلام، ص٩٩-١٠٠؛ تحفة المريد، ص٥-٦). تجويز الكذب عليه. وبعضهم منع ذلك زعمًا منه بأن الكذب لا يكون إلا في الماضي، والخُلف في المستقبل. وفساده ظاهر؛ لأن الكذب هو الخبر اليقيني المطابق للواقع، سواء كان في الماضي أو في المستقبل، والوجه في دفعه أن آيات الوعيد مشروطة معلومة من الآيات الأُخَر، والأحاديث منها الإصرار وعدم التوبة ومنها عدم عفوه تعالى؛ فيكون في قوة الشرطية، فلا يلزم الكذب أصلًا. ويُمكِن أن يُقال المراد منها إنشاء الوعيد والتهديد لا حقيقة الأخبار، فلا يتصف بالكذب كما ذكره علماء العربية، مثل: «الصبي يُقاوِم الأسد» للتعجب، أو: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى للتعجب (الدواني، ج٢، ص١٦٤–١٦٦).
١٣  عند الأشاعرة، الاستحقاق ثابت بالسمع؛ وبالتالي لا يُخرَق إلا بالسمع. الثواب والعقاب مُمكِن في نفسه وردت به القواطع السمعية والأدلة الشرعية من الكتاب والسنة أو إجماع الأمة من السلف ومن تابعهم من الخلف، وهو مشهور عن النبي والصحابة وعلماء الأمة (الغاية، ص٣٠١-٣٠٢). لا يجوز عليه الجهل ولا الكذب (العضدية، ج٢، ص١٦٣)؛ لأنهما نقص، والنقص عليه مُحال (الدواني، ج٢، ص١٦٤). الثواب على الطاعة لأنه مستحَقٌّ للعبد، ولأن التكليف إما لغرض وهو عبث وإنه لجِد قبيح، وإما لغرض إما عائدًا إلى الله وهو منزَّه عنه، أو إلى العبد؛ إما في الدنيا وإنه مشقة بلا حظ، وإما في الآخرة، وهو إما إضراره وهو باطل إجماعًا، وإما نفعه وهو المطلوب. يُقال لهم: الطاعة لا تُكافئ النِّعم السابقة وعِظمها وحقارة أفعال العبد وقِلتها بالنسبة إليها. وما ذلك إلا كمن يُقابِل نعمة الملك عليه مما لا يحصره بتحريك أنملته، فكيف يحكم العقل بإيجاب الثواب عليه؟ وأما التكليف فنختار أنه لا الغرض أو لضر قوم ونفع آخرين كما هو الواقع. أوَليس ذلك على سبيل الوجوب؟ العقاب على المعصية زاجرٌ عنها؛ فإن في تركه التسوية بين المطيع والعاصي، وفيه إذنٌ للعصاة في المعصية وإغراء لهم بها. يُقال لهم: العقاب حقه، والإسقاط فضل، فكيف يُدرَك امتناعه بالعقل؟ وحرية الإذن والإغراء مع رجحان ظن العقاب بمجرد تجويز مرجوح ضعيفٌ (المواقف، ص٣٨٢). العبد مستحِقٌّ على ما يفعله ثوابًا وعقابًا في الدار الآخرة، والرب منزَّه من أن يُضاف إليه شر وظلم (المِلَل، ج١، ص٦٧). وجوب الثواب على الأعمال (الإرشاد، ص٢٧٢). وإثبات الاستحقاق على هذا النحو في الحركة السلفية الإصلاحية المعاصرة عند محمد بن عبد الوهاب؛ الخوف من الفرائض، ثواب من فعله، عقاب من تركه (الكتاب، ص١٠٦).
١٤  الوعد حق العباد عليه تعالى، وهو لا يتنافى من أنه لا حق لأحد عليه إلا أن لا مكان غير الجواز. الاستحقاق المنفي هو الاستحقاق عقلًا لا الاستحقاق وعدًا أو وعيدًا في مجاري العادات والعقول (حاشية الكلنبوي، ص١١٩–٢٠١؛ حاشية المرجاني، ص٢٠١-٢٠٢). الواجب في حق الله غير معقول على الإطلاق، والاستحقاق للرب على العبد غير مستحيل عمله (النهاية، ص٣٨٢–٣٨٤).
١٥  وأما الاستدلال على أنه تعالى لا يفعل القبيح بالسمع فبعيد؛ لأن ثبوت السمع دلالةً هو بعد تقدُّم العلم بحكمته؛ لأنه كلام أو يتعلق بكلام الإجماع وغيره، وصورة الصدق والكذب في ذلك سواء؛ فلا يُعلَم تميُّز الصدق فيه عن الكذب إلا بما يقترن به من العلم بحال فاعله، وهو مخصوص مِن بين سائر الأدلة بأن يعتبر فيها حال الفاعل. ويلحق بباب القول في المعجزات التي ما لم يُعرَف حال فاعلها لا يُعلَم صِدق الرسل. وكما لا يصح الاستدلال بالقرآن على هذه المسألة فكذلك ما يلزمهم من الأمور التي لو لم يتقدم العلم بحكمته تعالى كُنَّا لا نعرف ذلك. وهذا نحو ما نُلزِمهم من تجويز ظهور المعجزات على الكذابين، وأنه لا يوثق بوعده ووعيده وبالشرائع، وأنه يجوز أن يدعونا إلى ما هو ضلال، وأن يعاقب الصالحين ويُثيب الفراعنة؛ لأن كل هذه الأمور نُورِدها عليهم علمًا منا بأنهم لا يرتكبونها، ولو ارتكبها مرتكب لاحتجنا إلى الاستدلال بما تقدم. وكذلك إلزامنا إياهم ألا يكون جل وعز إلهًا حكيمًا تليق به العبادة حكمه ما تقدَّم؛ لأنه ما لم تعرفه عدله وحكمته لا نعلم حسن العبادة، وإذا لم تعلم أنه مُنعِم يستحق الشكر، فكيف تعلم أنه يستحق العبادة وهي غاية الشكر، فلا تُستحقُّ إلا على غاية النعمة؟ وكل هذه الوجوه يوردها شيوخنا وغير ذلك من الآيات التي في القرآن من ضروب الإلزامات؛ اقتدارًا منهم على الكلام وبيانًا لهم أنهم كما خرجوا من قضية العقل، فكذلك عن طريق موجبات السمع، وما عرف من دين النبي ضرورة؛ فهذا طريق القول فيه (المحيط، ص٢٥٩؛ انظر أيضًا الباب الثالث: الإنسان المتعين؛ الفصل الثامن: العقل الغائي، رابعًا: العقل والنقل).
١٦  هذا هو موقف المعتزلة. إذا أتى العبد الطاعة وقام بأداء الفرائض، وجب على الله أن يُثيبه على ذلك (المسائل، ص٣٧٧-٣٧٨). وعند المعتزلة البصرية، الثواب على الطاعة حق الله واجب عليه؛ لأنه إنما شرع التكاليف الشاقة لغرضنا لاستحالة العبث عليه وعود الفائدة إليه، وذاك الغرض إما حصول نفع أو دفع ضرر (الطوالع، ص٢٢٠). الثواب أوجبه معتزلة البصرة؛ لأن التكاليف ليست إلا لنفعنا وهو الثواب عليها؛ لأنها ليست إلا لغرض وهو قبيح، أو لنفع على الله وهو منزَّه؛ فهي إلى العبد في الدنيا مشقة تلاحظ، أو في الآخرة بتعذيبه وهو قبيح، أو نفعه وهو المطلوب (المواقف، ص٣٧٦). ويدل على وجوب الاستحقاق السمع والعقل؛ فالدلالة السمعية أن الله وعد المطيعين بالثواب وتوعَّد العصاة بالعقاب، فلو لم يجب لكان لا يحسن الوعد والوعيد، وهناك حجتان للعقل: (أ) أوجب علينا القديم الواجبات والاجتناب على المقبَّحات، وعرفنا بوجوب الحسن والقبح، ولا بد أن يكون لذلك وجه الاستحقاق. (ب) خلق القديم فينا شهوة الحسن ونفرة القبح، فلا بد أن يكون في مقابلته العقوبة ما يزجرنا عن المقبَّحات وما يرغِّبنا في الواجبات (الشرح، ص١١٩–١٢١).
١٧  هذا هو دليل الجبائي وابنه؛ فالعبد المطيع بالطاعة والمعصية يستحق ثوابًا أو عقابًا؛ فمنعه من الثواب ظلم، وترك العقاب تسوية بين المطيع والعاصي وهو قبيح، والكل مُحال في حقه تعالى (المِلَل، ج١، ص١١٧).
١٨  إذا كُلِّفنا الأفعالَ الشاقة فلا بد أن يكون في مقابلها من الثواب ما يُقابله، بل لا يكفي هذا القدر حتى يبلغ من الكثرة حدًّا لا يجوز الابتداء بمثله ولا التفضل به، وإلا كان لا يحسن التكليف لأجله. إن هذا هكذا لأنه لو لم يكن في مقابلة هذه الأفعال الشاقة ما ذكرناه، كان يكون القديم ظالمًا عابثًا. فإن قيل: هلَّا كفى أن يستحق المكلَّف في مقابلة هذه الأفعال الشاقة المدح؟ قيل: لا؛ لأن المدح لا يقع به الاعتداد متى تجرَّد عن نفعٍ يتبعه، وأيضًا فإن المدح لا يُستحقُّ من الله على الخصوص، بل القديم وغير القديم سواءٌ في استحقاق المدح من جهته، وما يستحق في مقابلة التكليف فلا بد من أن يكون من فعل الله. ومتى قالوا: هلَّا كفى المدح من جهة الله؟ قلنا: لا يقع الاعتداد به أيضًا. فإن قيل: ومعلوم أن أحدنا يبذل جهده حتى يحمد السلطان أمره ويمدحه، ولا يُبالي بما يتحمله من المشاق في ذلك. قيل له: إنما يرغب في ذلك لما يرجوه من الجاه والحشمة، حتى ولو تجرَّد المدح فإنه لا يرضى به ولا يختاره. فإن قيل: أوَليس العرب بذلوا مُهَجهم وأموالهم طلبًا للمدح والذِّكر حتى عدُّوا الذكر عمرًا ثانيًا؟ قلنا لهم: إن ذلك أحد مجالاتهم التي يوصفون بها. وعلى كل حال فلا بد أن يكونوا اعتقدوا في ذلك نفعًا يزيد على ما يلحقهم من المشاق. وبعد، فلو لم يكن في هذه الأفعال مشقة، وكُنَّا نأتي بالواجبات ونتجنب القبائح لاستحققنا المدح، وإذا اعتراك في الواحد منا شك فلا شبهة من أنه تعالى يستحق المدح على فعل الواجب وترك القبيح. وإن كان لا تلحقه مشقة فلا بد إذن من أن يكون بإزاء المشقة ما يقابلها وهو الثواب. وبعد، فإن المدح مما يمكن إيصاله إلى مستحِقِّه من دون الإعادة، فكان لا يثبت للأحياء بعد الإماتة وجه، وفي علمنا بأنه تعالى يُعيد الأحياء بعد الإماتة قطعًا دليلٌ على أنه لا بد من استحقاق الثواب الذي لا يمكن إيصاله إليهم إلا بالإعادة. فإن قيل: كيف يصح قولكم إن الثواب إنما يُستحقُّ على الأفعال الشاقة ومعلوم أن أحدنا يستحق الثواب على ما لا مشقة فيه نحو معرفة الله؟ قيل له: إنا لم نوجب أن يكون في الفعل نفسه مشقة، بل يجوز أن يكون فيه أو في سببه أو في مقدمته أو فيما يتبعه ويتصل به، ولا شبهة في أن معرفة الله بهذه المنزلة. وقولهم إن البر التقي ربما لا يلحقه مشقة في أداء هذه الطاعات واجتناب المعاصي، فكيف استحق عليه الثواب بما لا معنى له؛ فإن هذه الأفعال مما لا تعرى عن مشقة أو فيما يتصل بها. قولهم: إن أحدنا يُؤمَر على قضاء وطره من الحلال، ومعلوم أنه لا مشقة في ذلك. إنا نقول: ليس يجب أن تكون المشقة في ذلك نفسه، بل يكفي أن تتعلق بتوطين النفس على الاقتصار عليها، وألا يتجاوزها إلى من هي أشهى منها. وأما شيخنا أبو القاسم فقد خالف في هذه الجملة، وقال: إن القديم إنما كلَّفنا هذه الأفعال الشاقة لما له علينا من النِّعم العظيمة، فإن ذلك غير ممتنع. والأصل في الجواب: إن القديم إذا جعل هذه الأفعال الشاقة علينا، وكان يمكنه ألا يجعلها كذلك، فلا بد من أن يكون ذلك من الثواب (شرح الأصول، ص٦١٤–٦١٩).
١٩  الأصلح عند معتزلة البصرة، واللطف عند معتزلة بغداد، ثم بنَوا على وجوب رعاية الصلاح والأصلح باتفاق منهم ووجوب الثواب على الطاعات والآلام غير المستحَقَّة، كما في حق البهائم والصبيان، ووجوب العقاب وإحباط العمل على العصيان، ووجوب قبول التوبة والإرشاد بعد الخلق، وإيصال الفعل على وجوه المصالح بالإقدار عليها، وإقامته الآيات والحجج الداعية إليها (الغاية، ص٢٢٤-٢٢٥). المعتزلة يوجبون اللطف والعوض والثواب، والبغداديون يوجبون العقاب والأصلح في الدنيا (المِلَل، ج١، ص١٤٧-١٤٨). الطاعات والتكاليف لو كانت إزاء نِعَم الله لكان المثاب هو الله، تنزَّه عن أن يُنعِم ليأخذ عوضًا عن نعمه، إنما النِّعم تفضُّل منه، والثواب جزاء التكليف، وإبطال الثواب من غير تكليف الطاعة غير ممكن؛ لكون الثواب مشتملًا على التعظيم والإجلال، ذلك في غير المستحِق قبيح. أما في العقاب فتقول المرجئة والوعيدية في الوعيد إنه لطف، وهو واجب، والوفاء بالقول واجب وإلا لكان الكذب حسنًا (شرح الأصول، ص١٤٨-١٤٩). استحالة تعذيب المحسن الذي استغرق عمره في طاعة مولاه مخالفًا لنفسه وهواه، بمعنى أنه يتعالى عن ذلك؛ لأنه غير لائق بمكوثه؛ إذ ليست التسوية بين الحسن والسيئ لائقة بالحكمة في نظر سائر العقول (التحقيق، ص١٤٨).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤