ويعني قانون الاستحقاق ثواب المطيع وعقاب المسيء، أو أن
الجزاء من جنس الأعمال. وهو قانون يشمل العقليات والسمعيات
معًا؛ فالله لا يكذب ومن صفاته العلم لا الجهل؛ فالقانون تعبير
عن الذات والصفات؛ أي عن أصل التوحيد. كما أن الله عادل لا
يظلم؛ وبالتالي يكون القانون أيضًا تعبيرًا عن العدل ومن
مقتضيات العقول استنادًا إلى الحسن والقبح العقليَّين. كما
يشمل السمعيات؛ فهو جزء من رسالة الأنبياء، وعليه سيتمُّ
الجزاء في المعاد. كما أنه يقوم على ربط الإيمان بالأعمال،
سواءٌ في الفرد أو في الحاكم؛ وبالتالي فإنه يشمل أيضًا موضوع
الأسماء والأحكام وموضوع الإمامة آخر موضوعَين في
السمعيات.
(١) هل يُمكِن نفي الاستحقاق؟
إن نفي قانون الاستحقاق هو في واقع الأمر نفيٌ للارتباط
الضروري بين الفعل ونتائجه، بين العلة والمعلول، وهو ما
يُنافي الأمور العامة في نظرية الوجود في المقدمات النظرية الأولى.
١ فكل فعل يؤدي إلى نتيجة، كما أن كل علة تؤدي
إلى معلولها. وتكون نتائج الأفعال المقصودة من نوع الأفعال
ذاتها، كما تكون المعلولات من جنس عِلَلها. الثواب إذن
نتيجة طبيعية للطاعة، والعقاب نتيجة طبيعية للمعصية، كما
أن الاحتراق نتيجة طبيعية للنار، والتجمد نتيجة طبيعية
للبرودة، لا فرق في ذلك بين قانون العقل وقانون الطبيعة.
قانون الاستحقاق إذن قانون عقلي، وهو في نفس الوقت قانون
طبيعي، ولا يُمكِن قلب القانون أو عكسه أو خرقه أو إيقافه
أو إبطاله، طالما أن هناك عقلًا وطبيعة. ولا يعني ذلك
حتمية في السلوك الإنساني؛ فحرية الاختيار وخلق الأفعال
أحد مُكتسَبات العدل وهو من العقليات، ولا يُمكِن هدم
العقليات بالسمعيات، بل تتأسس السمعيات بالعقليات.
٢ هدم قانون الاستحقاق إذن هو تدمير للطبيعة
وقضاء على السلوك الإنساني وإيقاع الاضطراب والعشوائية
فيه، وتأسيس الحياة الإنسانية على عدم الثقة والضياع ونقص
التوجيه وغياب التطلع إلى المستقبل. فكيف يُعاقَب المطيع
ويُثاب العاصي؟ وكيف يُوثَق بالعقل وبالقانون إذا ما تم
تدميره في المستقبل؟ كيف يُوثَق بأي شيء؟ كيف يُقضى على كل
ضمان ويُنزَع كل اطمئنان؟ ليس المهم هو الإثابة أو العقاب،
بل أثر ذلك على الحاضر، وضياع ثقة المطيع بطاعته فيعصي،
واعتزاز المسيء بإساءته فيستمر فيها. وما دام الحال في
النهاية سواءً بين المطيع والمسيء، وما دام الأمر سيقلب
فينال المثيب عقابه والمسيء ثوابه، ففيمَ الاستمرار في
الطاعة أو ترك العصيان؟ أليس ذلك استخفافًا بالعقل وهدمًا
للحكمة الإلهية وقضاءً على الشرائع؟ كيف يستطيع الإنسان أن
يعيش في عالمٍ لا يحكمه قانون؟ كيف يعيش الإنسان حياته وهو
لا يضمن نتائج أعماله؟
٣ كيف يُترَك مصير الإنسان لمُطلَق المشيئة
والإرادة؟ كيف تُترَك الأفعال أمام احتمال تطبيق قوانين
مُتعارِضة ومُتناقِضة، لو طُبِّق أحدها كان ظلمًا ولو
طُبِّق الآخر كان عدلًا؟ صحيحٌ أن الله حر الإرادة، ولكن
الإنسان أيضًا قد فعل واجتهد ويريد أن يعرف مصيره طبقًا
لعالمٍ يحكمه قانون ثابت وعدل. وإذا كان ذلك معروفًا في
الدنيا فيما يتعلق بالديات والكفارات، فالأولى أن يكون
معروفًا في الآخرة حيث لا خطأ هناك ولا جور. وهل علاقة
الله بالإنسان علاقة المالك بالعبد؟ ألا تُوجَد خطورة في
أن تتحول هذه العلاقة من المستوى الديني إلى المستوى
السياسي والاجتماعي، ويتحول كل مالك أو حاكم إلى إله وكل
إنسان إلى عبد مملوك يتصرف فيه المالك أو الحاكم كما يشاء؟
أليس التصور، تصوُّر السيد والعبد، تصورًا إقطاعيًّا
خالصًا، يفعل السيد مع العبد ما يشاء وليس للعبد أي حق،
حتى حق الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية؟ وأين حق
الثورة؛ ثورة العبيد على الأسياد أو على الأقل حق حرية
العبيد وحق المساواة بين الناس؟ وكيف تكون العلاقة بين
القوي والضعيف مجرد إرادة القوي دون حقوق الضعيف؟
٤ وكيف يكون الثواب فضلًا وليس استحقاقًا، في
حين يكون العقاب عدلًا واستحقاقًا؟ ولماذا يتم التفضل على
الإنسان إذا ما أُعطي حقه أداءً لواجبه، في حين يُعطى إليه
استحقاقه من العقاب إذا ما تهاون فيه؟ وهل من شيمة الإله
التصدق بالثواب وفرض العقاب؟ ولماذا يجوز الابتداء بالثواب
دون الاستحقاق، في حين يكون الاستحقاق للعقاب فقط؟ بهذا
التصور يكون الله أقرب إلى الانتقام منه إلى العفو، وأكثر
رغبةً في العقاب منه في الثواب، وكأن الله يتضجر بالطاعة
فيُعطي الثواب تفضلًا، ولكنه يتنعَّم بالمعصية فيُعطي
العقاب استحقاقًا وتشفيًا! لماذا يكون الثواب فضلًا
والعقاب عدلًا؟ هذا تصوُّر سوداوي وقاسٍ لله. فلماذا لا
يكون كلاهما عدلًا واستحقاقًا؟ لماذا يقتر الله في الثواب
ويكون كريمًا في العقاب؟ أو لماذا يكون الثواب طبقًا للكرم
والجود والإرادة، والعقاب طبقًا لقانون الاستحقاق؟ إن
الأقرب إلى الألوهية هو العكس؛ أن يكون الثواب عن استحقاق،
أما العقاب فيتنازل الله عنه بالعفو. والعجيب أن يُعرَف
الأشاعرة بأنهم أهل الرحمة لا أهل العدل، في حين أنهم
أخذوا العدل فيما وجبت فيه الرحمة، وجعلوا الرحمة فيما وجب
فيه العدل. ولو أُدخِلنا الجنة من غير عمل لا نكون
مستحِقين لها. والذي لا عمل له ولكن له كرامة لا يقبل
ثوابًا تفضلًا على شيءٍ لم يفعله، كما يأخذ الجائزة الأولى
في سباق وهو آخر الفائزين! إن الثواب لا يكون تفضلًا أو
إنعامًا أو إحسانًا، بل يكون استحقاقًا، وإلا أصبح الإنسان
عبيد إحسانات الآخرين، ولأصبح الناس عبيد إحسانات الحاكم
«وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا»! إن نتائج أفعال الإنسان لا
تأتي من أعلى هبةً ومِنَّة، بل تأتي من أسفل كسبًا
واستحقاقًا، وإن حقوق الشعوب لا تكون مِنَّة وهبة من
الحكام، بل تكون استخلاصًا لها منهم عنوةً وقسرًا بعد نضال
لأجله يطول لعدة أجيال وفي أعمار لعدة حضارات. هناك ارتباط
ضروري بين الطاعة والثواب لا يُمكِن فصله، وإلا لما كانت
هناك طاعة، ولما وجد الثواب طريقًا إلى شيء يكون جزاءً له.
ليس العقاب انتقامًا من الله، بل مجرد نتيجة للفعل تحدث في
الدنيا، سواء قبل الموت أو بعده، لما كانت الحياة مستمرة.
وما الموت إلا نقطة بداية جديدة، وانتقال من فعل الفرد إلى
فعل الجماعة من خلال السنة والقدوة، والأثر والفكر. ومع أن
العقوبة إيلام إلا أنها زجر في الحاضر ورعاية مصلحة في
المستقبل، مع أنها إيلام للجاني إلا أنها تخفيف عن آلام
أخرى؛ إرشاد وإصلاح. فالعقاب من أجل العقاب إيلامٌ وتشفٍّ
وغيظ. إنه ليصعب الخروج على تصوُّر العدل، بأن يُعاقِب
الله بغير ذنب؛ فالواقعة لا تخرج من المبدأ ولا تعتمد
عليه. ولما كانت الواقعة لم تحدث بعدُ يظل المبدأ قائمًا
مُعلَنًا عنه في الخطاب. إن الفضل والعدل مبدآن متعارضان؛
الفضل كرم، والعدل استحقاق.
٥
وكيف لا يكون العمل علة الاستحقاق؟ وما البديل؟ الكرم
والجود؟ النسب والحسب؟ الإيمان الذي لا يتحقق في عمل؟ لا
يوجد مقياس آخر للاستحقاق أكثر عدلًا من العمل. وإن كل
الحجج التي تُقال لنفي العمل كمقياس للاستحقاق إنما
تُصوِّر قدرة الله فوق عدله، وإرادته فوق حكمته؛ فكيف تكون
قدرة الله على الترك مقياسًا للعظمة والقدرة؟ كيف تغلب
الإرادة والقدرة على العدل؟ كيف يقضي التوحيد على العدل،
والعدل أحد مُكتسَباته؟ وإذا كانت الطاعة شكرًا على
النِّعم، فإن الشكر فعلٌ يستلزم الثواب. وليس الشكر بالفم
وحده، بل يكون بالفعل والطاعة والتمتع بالنِّعم دون
الإضرار بالنفس، ويكون الجحود فعلًا يستوجب العقاب؛ فشكرُ
الله على النِّعم إذن لا ينفي العمل كأساس للاستحقاق بل
يؤكِّده؛ لأنه فعلٌ يستحق الثواب كما أن الجحود فعلٌ يستحق
العقاب. ولا يكون شكر الله مكافأة على النِّعم؛ إذ لا
يُمكِن مكافأة الله؛ فالله لا ينتظر مكافأة من أحد، وهي
مكافأة ضئيلة بالنسبة لعِظَم النِّعم، كما أن حياة الإنسان
ووجوده ليسا هبة من أحد عليه. إن الإنسان لا يعمل من أجل
النعم السابقة واستبقاءً لها؛ فمهما عمل الإنسان فإنه لن
يوفِّي نعمة الحياة والوعي والعقل والإبداع حقها. وهذان
مستويان مختلفان بين المتناهي في الكِبَر وهو النعم،
والمتناهي في الصغر وهو شكر الإنسان. ونِعَم الحياة ليست
معطاة بل موجودة، ليست في مقولة الملكية بل في مقولة
الوجود؛ فهي أضخم بكثير من أن يمتلكها إنسان أو يهبها أحد.
ويُخشى من التصور التجاري المحض: ما دام الإنسان قد استلم
البضاعة فعليه دفع الثمن، حتى ولو كان ثمنًا بخسًا لا يتفق
مع عظمة المشتريات. وهل الله في حاجة إلى شكر النعم؟ وهل
أفعال الإنسان شكر على النعم أم أداء للرسالة وتحقيق
للأمانة؟ إن فعل الإنسان لا يكون فرضًا على الله، بل هو
احترام الله لفعل الإنسان واكتساب الإنسان لفعله من الله،
وهو أحد مُكتسَبات العدل من التوحيد. الإنسان حبيب الله
ومعشوقه، وخليله وصفيه، مخلوقه وكليمه، بدليل إرسال الوحي
إليه، وخلق الكون له، وجعله سيدًا له، وتكريمه إياه في
البر والبحر، وتسخير المخلوقات لأجله.
٦ إن وضع الإنسان في الحياة في حالة الثقة
بالنفس وضعٌ من ذاته وليس كرمًا أو جودًا من أحد، نتائج
عمله تأدية لواجباته ولا شكر على واجب. إن قانون الاستحقاق
لا يجوز إلا بين مُتكافئَين، أما نِعَم الله والثواب عليها
فغير مُتكافئَين؛ هذا شكر المُنعِم وليس الاستحقاق. لا
يعني الاستحقاق أن الثواب والعقاب يعودان على الله بنفع أو
ضرر، ولكن تزداد ثقة الإنسان بفعله وبنتائجه وبقوانين
الطبيعة وسنن الكون، فالله غني عن العالمين، وإنما أتى
الوحي لمصلحة الإنسان.
٧ إن التكليف لا يتطلب بالضرورة القضاء على صفات
الأفعال الذاتية وموضوعية القيم، بل قد يكون التكليف
تأكيدًا وإثباتًا لها؛ مما يدل على ارتباط الأصول بعضها
ببعض. ولا تقضي موضوعية القيم على الحرية، بل على العكس هي
شرط لها؛ فموضوعية القيم تُعطي الحرية ثباتًا عمليًّا
واستقلالًا نظريًّا، وتجعلها مباشرة في مواجهة موضوعها.
ولماذا يضيع جهد الإنسان ومشقته وتعبه بلا جزاء؟ ولماذا
تقع النتائج ابتداءً دون مقدمات، كرمًا دون استحقاق، هبةً
ومنَّة لا كسبًا وتحصيلًا؟ والعجيب أن يتجه إلى ذلك أنصار
الكسب، وإثبات الكسب هنا أولى من أجل الاستحقاق، وليس لسلب
الإنسان حريته وخلقه لأفعاله. كيف يحصل الإنسان على نتائج
فعله من غير تعب ولا نصَب؟ ليست المشكلة هي القدرة على
العطاء، بل استحقاق العطاء. ليس الأمر من وجهة نظر الله،
بل من وجهة نظر الإنسان. وما فائدة العطاء لو كان جبرًا
ومنة؟ وما قيمته لو كان من السيد إلى العبد؟
٨ لذلك ارتبط الاستحقاق بحرية الأفعال؛ ومن ثَم
فثواب الملائكة ليس كثواب البشر، فالملائكة ليسوا أحرارًا
وليسوا مكلَّفين مأمورين وطائعين، في حين أن البشر
مكلَّفون مأمورون ومنهيون بناءً على تمتُّعهم بشروط
التكليف؛ حرية الأفعال وكمال العقل. فالإنسان وحده هو
الموجود الحر العاقل الذي اختار الرسالة لحملها، والأمانة
لتبليغها، والكلمة لتحقيقها.
٩
وقد تُؤخَذ حلول وسط؛ إما باستحقاق العقاب والتفضل
بالثواب، أو باستحقاق الثواب والتنازل عن العقاب! والأول
انتقام وسوداوية وحقد وتشفٍّ وغضب، وكأن قانون العقل هو
قانون العقاب وحده، والثواب تفضُّل وتنازُل وعطاء ومِنة لا
يُعرَف إلا بالسمع. قد يكون ذلك في حق الغير ممكنًا؛
فالغير المسيء لي عقابه واجب عقلي لا تسامُح فيه، في حين
أن ثوابه على فعل الطاعة لا يؤثِّر كثيرًا فيها؛ لأن
الطاعة حسنة لذاتها وليس لثوابها، ولا يعفو الإنسان عن
المسيء له إلا بسمع، ولكن ألا يجعل ذلك السمع مُعارِضًا
للعقل ومناقضًا له، بل وهادمًا إياه؟ وهل يكون أساس العقاب
وحده في العقل في حين أساس العفو أو الثواب بالسمع؟ وإذا
كان الأمر بالنسبة إلى النفس، فهل تود النفس توقيع العقاب
عليها عقلًا وإرجاء الثواب إلى السمع؟ ألا يكون ذلك
تعذيبًا للنفس إيلامًا للذات؟ ولماذا لا يتنازل العقل عن
العقاب في حين يتنازل عن الثواب وكأن حق الآخر لا تنازل
فيه ولا يكون التنازل إلا في حق الذات؟ إذا كان العقل لا
يقبل الإساءة، فإنه قد يقبل التنازل عن الثواب إذا ما جاء
السمع به. هل هذه تضحية بالذات في سبيل الغير، أم أنه
تعذيب للذات بالإبقاء على عقابها والتنازل عن ثوابها؟
١٠ أما الثاني وهو استحقاق الثواب والتنازل عن
العقاب فهو أقرب إلى الطبيعة الخيِّرة، وهو من شِيَم
القدرة على العفو، فالعفو عند المقدرة. والعقاب في النهاية
ليس غاية في ذاته بل وسيلة للإصلاح، وإذا ما تم صلاح الناس
يُصبِح العقل بلا داعٍ أو هدف. فإذا ثبت الثواب بالعقل
فالعقاب يُنظَر فيه بالعفو؛ نظرًا لإمكانيات الندم
والتوبة، وإن لم يتم الصلاح فالعقاب لا فائدة منه، وغرض
التكليف هو النفع، فإن لم ينتفع المكلَّف وعصى فقد فوَّت
على نفسه النفع وهو أكبر عقاب له، وتتوقف الغاية من العقاب
الأول. والله منزَّه عن إنزال العقاب بالناس إن فوَّتوا
صلاحهم في الدنيا، ولن يعود عليه شيء بالنفع إذا ما تم
العقاب. التعذيب في حد ذاته ضررٌ خالٍ من المنفعة، والله
منزَّه عنه أو حتى عن النفع، بل العقاب والنفع إنما هما
لصالح الإنسان، وليس الدافع لتوقُّف العقاب هو خلق الله
للأفعال، فذاك ضد مُكتسَبات العدل؛ الحرية والعقل؛ فالعقاب
من نتائج التكليف. وقد يكون التنازل عن العقاب فضلًا أو
تعبيرًا عن الرحمة والقدرة.
١١ ولكن في هذه الحالة تظهر عدة اعتراضات رئيسية،
منها افتراض الكذب في الخبر، أو تأويله بحيث يتبدل القول،
وتجويز عدم خلود الكفار في النار. وهي اعتراضات عقائدية
صِرفة، جدلية دينية.
١٢ ولكن المهم هو الاعتراضات في التجربة
الإنسانية؛ فإذا كان إبقاء الثواب وإيقاف العقاب يعبِّران
عن نزعة إنسانية، وهي تجربة التسامح والعفو، فإنه أيضًا
يكشف عن جانب آخر فيها، وهو رفض الإنسان العفو عن الظالم
والقاهر والمُعتدي والقاتل، فذلك كله ضد العدل؛ فبقدر ما
يتضمن شعور المطيع العفو عن العاصي يتضمن أيضًا الفرح
لعقابه، وبقدر ما في نفسه من رحمة وعطف بالناس بقدر ما
يحزُّ في نفسه أيضًا مرور الظالم بلا عقاب، والقاتل بلا
قصاص. صحيحٌ أن المطيع أخذ ثوابه في الدنيا من تقدير الناس
واحترامه له، كما أخذ العاصي عقابه في الدنيا من تصغير
الناس له واحتقاره إياه، ولكن ماذا عن المؤمن المصاب
والعاصي الذي خلا من العقاب؟
(٢) إثبات الاستحقاق
الاستحقاق إذن قانون عقلي ثابت مثل القانون الطبيعي،
يُثبِته العقل وتؤكِّده التجربة البشرية، ولا تهم جهة
الوجوب هل هو وجوب شرعي أو وجوب عقلي؛ فالشرع يقوم على
العقل، والعقل أساس النقل.
١٣ وثبوت الاستحقاق شرعًا من الأدلة الشرعية من
الكتاب والسنة والإجماع تأكيدٌ على ثبوته عقلًا وهو
القياس؛ فالاستحقاق ثابت نصًّا، وخطاب الله صادق لا كذب
فيه، بل تبدو الذات نفسها متحقِّقة بصفاتها ومنها الرحمة؛
كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ؛ ومن ثَم لا خوف من وجوب
الاستحقاق على أنه إيجاب على الله وفرض عليه. وإن إثبات
الوجوب السمعي وحده يقضي على الغاية من التكليف، وهو إلحاق
النفع بالإنسان ودفع الضرر عنه، ويجعل التكليف بلا غاية
ولا غرض. ولا يُقال لو أبقانا الله على العدم لاسترحنا،
فالإنسان بمحض حريته اختار الأمانة وحمل الرسالة، فهو أفضل
من السموات والأرض والجبال التي استراحت من عبء الرسالة
ومشاقِّ التكليف. إن استحقاق العقاب يدل عليه السمع والعقل
معًا. ولما كان العقل أساس السمع فوجوب الاستحقاق وجوب
عقلي، والوعد والوعيد قانون عقلي ثابت. وليس الوجوب الشرعي
والعقلي مجرد عادة أو تجربة بشرية متكررة، فالعادة تأكيد
لوجوب الشرع والعقل وليست بديلًا عنهما. الشرع والعقل
تأكيد للطبيعة، والطبيعة تأكيد للشرع والعقل.
١٤ ولكن يظل العقل هو الأساس الذي ينبني عليه
العقل، والذي تؤكده الطبيعة.
١٥ فالاستحقاق لنفع الإنسان، إثابةً المطيع
وعقابًا للعاصي، به صلاح الإنسان، والله لا يفعل إلا
الصلاح، وهو منزَّه عن جلب النفع لنفسه ودفع الضرر عن
ذاته. وإذا كان الإنسان قادرًا على إدراك الحسن والقبح في
الأفعال، وقادرًا على الاختيار بينها، فالاستحقاق واجب
عقلي نتيجةً لحرية الاختيار وللحسن والقبح العقليَّين.
وتجتمع الحرية والعقل في الطبيعة؛ فقد خلق الله فيها شهوة
الحسن ونفرة القبح من أجل وجوب الاستحقاق.
١٦
إن منع المطيع من الثواب والمسيء من العقاب ظلم، والظلم
ضد العدل، والعدل أصلٌ عقليٌّ مثل أصل التوحيد.
١٧ وإذا كان التكليف مع القدرة فترك الثواب قبيح،
وإذا كُلِّف الإنسان الأفعالَ الشاقة فإنه يستحق عليها
الثواب، ولا يجوز التفضل بالثواب ابتداءً، وإلا لما تمَّت
الأفعال الشاقة، ولما حسن التكليف بها. ولا يكفي المدح
كثواب، بل لا بد من نفع فيه، وكل مدح إنما يُخفي وراءه طلب
نفع أو دفع مضرة. وإذا كان المدح يتم في الدنيا فإن الثواب
يتم في الآخرة؛ وبالتالي ثبتت ضرورة إعادة الأموات
واستمرار الحياة بعد الموت لوقوع الثواب، كما يثبت الثواب
برجعة الأموات وثبوت حياة بعد الموت، حتى الأفعال النظرية،
مثل معرفة الله، بها مشقة الفكر ومعاناة النظر وجهد
القريحة، كما أن الخيِّر بطبعه الذي يطيع طبقًا لطبيعته
يستحق الثواب، ثواب الطبيعة وازدهارها وكمالها والحرص على
استقامتها؛ فالطبيعة حرة، والحرية إدراك وجهد. وليس
التكليف بالأفعال الشاقة من النِّعم العظيمة فحسب، بل
أيضًا لأجل الإثابة عليها استحقاقًا ليحيا مَن حيي عن بينة
ويهلك من هلك عن بينة. فالإنسان لم يُكلَّف عبثًا، وحياته
امتحان واختبار له بفعله وجهده. إن جهد الفعل يؤدي إلى
تقوية الذات وتحقيق إمكانياتها بفعل الإنسان؛ فهو خلق
أفعال، وإبداع وجوب يُثاب عليه.
١٨ والاستحقاق أيضًا تعبير عن الأصلح، وإن لم يكن
تعبيرًا عن الأصلح فإنه يكون تعبيرًا عن اللطف.
١٩
والحقيقة أن نتائج الأفعال قد تكون مباشرة في الحال وغير
مباشرة في المآل. قد تظهر في الدنيا وقد تتولد بعد انقضاء
العمر. قد لا تكون نتائج الأفعال بالضرورة بعد الموت وعلى
نحوٍ مادي، بل قد تكون في هذه الدنيا على نحوٍ معنوي. وإن
كانت نتائج مادية فقد لا تكون نفعًا ماديًّا مباشرًا
للفاعل، بقدر ما تكون تحقيقًا لمصلحة الجماعة وخلودًا في
ذِكراها. وقد لا يكون الثواب بالضرورة هو الجنة أو العقاب
حتمًا هو النار، ولكن تكون نتائج الأفعال من جنسها دون
تحديد أشخاصها. وإذا كانت الأفعال حسنة وقبيحة في ذاتها،
وكانت أفعال الإنسان تتم بلا إلزام ولا جزاء، فعليه أن
يسعى، وليس عليه إدراك النجاح. وكل استباق للمستقبل خارج
بِنية الفعل ذاته، فإنه يكون رجمًا بالغيب، وتجديفًا على
الله، ودخولًا للإنسان فيما لا يخصُّه، وقد يكون المستقبل
أكثر غنًى وثراءً من رؤية الحاضر له.