ثالثًا: دوام الاستحقاق

فإذا ما ثبت قانون الاستحقاق من حيث المبدأ، فإنه يكون في حاجة إلى إثباتٍ آخَر من حيث الدوام حتى يتضمن الاستحقاق دوام الثواب والعقاب. وهل ينقطع الثواب والعقاب؟ هل الاستحقاق على التخليد أم على العفو؟ وقد طُرح السؤال بمناسبة عقاب مُرتكِب الكبيرة. فالكبيرة هي الفعل الذي يكون عقابه أكثر من ثوابه، على عكس الصغيرة؛ هي الفعل الذي يكون ثوابه أكبر من عقابه. تبيِّن الكبيرة قلة الاكتراث بالفعل وحطة العدالة، في حين تبقى الصغيرة على حسن الظن ولا تحطُّ بالعدالة. الكبيرة ما قُرن بها حد أو لعن أو وعيد بنص الكتاب والسنة، ما توعَّد به اللهُ والرسول، وما دون ذلك فهو صغير.١ يدخل في تعريف الكبيرة إذن الوعد والوعيد لما كانت الكبيرة ما قُرن بها الوعيد؛ لذلك كان دوام الاستحقاق هو لب الكلام في الوعد والوعيد، وهي المسألة المعروفة باسم «بيان أجَل الوعيد»، كما يدخل في تعريفها العمد والإصرار، ويتحدد العمل الكبير الخارج على النظر بمقدار الأثر السيِّئ الذي يحدث منه بعد تحقُّقه، والحكم السيِّئ التابع له. وهذا هو معنى الفسق؛ فالفسق في اللغة هو الخروج، وفي الشرع الخروج عن الاستقامة؛ أي عن طاعة الله بارتكاب الكبيرة، باشتراط عدم التأويل. ولا يهم معرفة الكبائر؛ فذاك موضوع علم الفقه. وقد يُوضَع الموضوع أيضًا في الأسماء والأحكام؛ أي المنزلة بين المنزلتَين، ولكنه هنا يكون بالنسبة لاستحقاق الثواب والعقاب، وليس لمعرفة الإيمان والعمل والدرجة المتوسِّطة بينهما. والتمييز بين الكبيرة والصغيرة واردٌ في تحليل الأفعال الإنسانية، ولكن السؤال الأهم هو: هل تصبح الصغائر بانضمام بعضها إلى البعض من الكبائر؟ هل يتحول التراكم الكمي إلى تغيُّرٍ كيفي؟ إن خروج الفعل من النظر مراتٍ عِدة لا يتراكم فيصبح فعلًا واحدًا أكبر؛ فكل فعل له وجوده الخاص القائم على بناءٍ شعوريٍّ خاص؛ فاجتماع عِدة أفعال عملية حسابٌ عقلي، وليست عملية تحقُّق شعوري، كما أن اجتماعَ أفعالٍ كبيرة لا تجعل صاحبها كافرًا؛ لأن تكرار الكبائر كأفعالٍ لا يقضي على صحة النظر.٢ ولا تُعرَف الصغائر بأعيانها، بل بمبادئها؛ فالصغائر لا مُتناهية من حيث الكم، في حين يمكن إدراك مَعانيها من حيث الكيف.

(١) دوام الاستحقاق وشرطه

ويُعرَف الدوام والانقطاع في الاستحقاق بالعقل قبل ورود السمع، وقد يُعرَفان بالسمع أيضًا تأكيدًا لوجوب العقل؛ فالتوحيد والعدل أصلان عقليان تستحقُّ معرفتهما الثواب. أما إذا عُرفا بالسمع وحده فاحتمال نقضه بسمعٍ آخَر واردٌ؛ وبالتالي ينقطع الاستحقاق. إذا كان العقل أساسًا للنقل فإن الوحي يتحول إلى وحيٍ إنسانيٍّ خالص، وقانونٍ عقليٍّ دائمٍ يستحيل فيه الانقطاع، فيدوم الاستحقاق، ثوابًا وعقابًا. أما إذا كان النقل أساس العقل، فاحتمال التأويل واردٌ؛ وبالتالي التخصيص والاستثناء في الوعيد. بالعقل تكون أحكام الأفعال عامةً شاملة على التخليد، وبالنقل تكون خاصةً مُستثناة على العفو. ولا فرق في العقل بين الأفعال؛ أفعال الجوارح أم أفعال القلوب، أفعال الحسن والقبح أم أفعال الإيمان والكفر. وقد تُستثنى أفعال الشعور الداخلية، ولا تبقى إلا أفعال الشعور الخارجية موضوعًا للاستحقاق. ولا يهم في الاستحقاق كمُّ العذاب، بل المهم هو وقوعه كنتيجة للأفعال القبيحة. ويستوي في المعرفة العقلية الثوابُ والعقاب خشيةَ أن تكون معرفة الثواب بالعقل وحده، في حين أن معرفة العقاب وهي الأخطر لا تتم إلا بالسمع. وقد يُصاغ السؤال بطريقةٍ أخرى، وذلك بالتمييز بين التنزيل والتأويل؛ فالتنزيل حكم العقل والتأويل حكم السمع.٣ دوام الاستحقاق إذن عقلي ونقلي معًا، والعقل أساس النقل؛ فكل فعل له رد فعل، وكل فعل له نتائجه من نوعه. وقد أخبر الله بدوام الاستحقاق، فإن انقطع كان خبرًا كاذبًا وهو مُحال. وإذا علِم المستحِقُّ بانقطاع الاستحقاق ثوابًا أم عقابًا، فقد يكون ذلك تثبيطًا لعزيمة المُطيع، وتشجيعًا للعاصي على العصيان وإغراءً له به، وهو قبيحٌ مُناقِض لقصد الدعوة وهدف الرسالة. وإذا كان استحقاق الثواب منفعة، واستحقاق العقاب مضرَّة، فإنه يستحيل الجمع بينهما في فعلٍ واحد. وينطبق الحكم على الأفعال وحدها، وليس على أُسُسها النظرية (الإيمان والكفر)؛ فالاستحقاق للأفعال وليس للتصورات، والنيات تدخل مع الأفعال وليست مع التصورات؛ فالأفعال لها صفاتها الموضوعية في ذاتها، بصرف النظر عن التصورات التي تقوم عليها، والحكم على التصورات هو مُزايَدة في الاستحقاق، بل وإنكار للأفعال المستحَقَّة إذا ما قامت على تصوراتٍ نظريةٍ مُخالِفة، وقد تُصاغ حُججٌ عقليةٌ جدليةٌ تقوم على القسمة، واستحالة وجود قسمة لانقطاع الاستحقاق. فإما أن يُعفى عن العاصي أم لا؛ فإن لم يُعفَ عنه دخل النار أبدًا، وإن عُفي عنه؛ فإما أن يدخل الجنة أم لا، ولا يصح أن يدخل الجنة لأنه ليس مطيعًا، ولا وسط بين الجنة والنار، ولأن دخول الجنة لا يكون إلا عن استحقاق، ولو لم يستحقَّ العقاب على الدوام لما قبُح عذاب الفساق وخلودهم في النار. والعقاب كالذم يثبتان معًا في الاستحقاق، ويزولان معًا، ولا يجوز إثبات أحدهما دون الآخر. ولما كان الذم يُستحقُّ على الدوام، فكذلك يكون العقاب مستحَقًّا على الدوام. وقد تُصاغ حُججٌ لغويةٌ مستمَدَّة من عموميات الوعيد.٤ والحقيقة أن الأمر لا يتعلق بحججٍ عقليةٍ جدلية، بل يعتمد أساسًا على التجربة البشرية، وإنما أتت الحُجج العقلية لتعقيل الموقف الإنساني؛ فهناك تجارب إنسانية تجعل الاستحقاق أقرب إلى الدوام والتخليد منه إلى الانقطاع والعفو، مثل ضرورة عقاب الظالم والطاغي، وضرورة القصاص من القاتل، وضرورة عقاب الناهب لثروات الناس والقاضي على وحدة الأمة. وليس ذلك فقط ردعًا للمُسيء أو إيجابًا على الله، بل هو شعورٌ إنسانيٌّ دفين، خاصةً لو كان الإنسان قد وقع تحت الإساءة، وناله منها الأذى. ويأتي السمع مؤيِّدًا لهذه التجربة الإنسانية.٥ وشرط الدوام هو العناد والإصرار، وإتيان الأفعال عمدًا عن رويَّة وتدبر، وبِنيَّة وقصد، بل إن العمد والإصرار هما أحد معاني الكبيرة. وليست العبرة بكم الأفعال وتكرارها، بل بالفعل الواحد دون التكرار، ولكن التكرار يُفيد أكثر معاني العمد والإصرار.٦ وإن صاحب الكبيرة إن مات مُصرًّا عليها فإنه مخلَّد في النار؛ تطبيقًا لقانون الاستحقاق، ومن مات ولا كبيرة له فإنه لا يدخل النار أصلًا، ويخلَّد في الجنة. الاستحقاق هنا يقتضي الدوام؛ دوام الثواب والعقاب، وشرط الدوام الإصرار والعناد؛ أي دوام القصد والنية والإرادة. أما صاحب الكبيرة عن اجتهاد فيسقط منه دوام العقاب؛ لسقوط شرط العناد والقصد. ولا ينقطع دوام الاستحقاق إلا بالتوبة؛ فالتوبة رويَّة وقصد، وفعل ونية؛ وبالتالي تكون فعلًا. ولا عفو ولا مغفرة قبل التوبة، وإلا وقعنا في العفو غير المشروط بالاستحقاق، كما هو الحال في الأخلاق اليهودية القديمة.٧

(٢) هل ينقطع الاستحقاق؟

إذا كان الاستحقاق دائمًا على التخليد، فهل ينقطع بالعفو أو بغيره؟ الحقيقة أنه قد ينقطع الاستحقاق، ولكن الإشكال كيف ومتى؟ هل ينقطع الاستحقاق لوجودِ فرقٍ نوعي بين الطاعة والمعصية؛ أي بين الوعد والوعيد، وذلك بتحقيق الوعد وإرجاء الوعيد؟ فالثواب نتيجةٌ حتمية للطاعة، في حين أن العقاب نتيجةٌ محتملة للعصيان، والمطيع يودُّ جزاءه ثوابًا، ولكن العاصي لا يودُّ جزاءه عقابًا. وهي نظرةٌ إنسانيةٌ خالصةٌ تقوم على الرحمة، وليست نظرةً قانونيةً تقوم على العدل. تعتمد على رواياتٍ ظنية، أخبار آحاد، أكثر من اعتمادها على العقل، ومُعارَضة برواياتٍ أخرى تتفق مع دوام الاستحقاق، وتُطابِق قانون العقل. وإن تعلُّق آيات العقاب بدوام السموات والأرض، وهما منقطعتان، ينطبق على العقاب والثواب معًا، كما أن مغفرة الله لكل شيء إلا التوحيد كلها آياتٌ مُجمَلة في حاجة إلى بيان؛ فالعدل مُنبثِق من التوحيد ونابع منه، وكلاهما من العقليات. وقد يعني ذلك تأكيدًا للإرادة المُطلَقة وإثباتًا للصفات، وقد يكون ذلك للصغائر دون الكبائر أو للبعض دون البعض، وقد يغفر الله الذنوب جميعًا للمؤمنين وحدهم دون الكافرين. والمغفرة مشروطة بالتوبة، وليست مجانية بلا مُقابِل، وإلا كانت إغراءً على المعصية، وتساوى فيها المطيع والعاصي.٨ وقد تُعطى رواياتٌ أخرى تتحول إلى حججٍ عقليةٍ نقلية، مثل انقطاع العقاب لصاحب الأفعال العظيمة، كالسبق في الإيمان، والشهادة في أول المعارك. والحقيقة أن السبق في الإيمان فعل استحقاق، وليس مجرد استحقاق بلا فعل، بما في ذلك الأنبياء. أما الأطفال والسقط فهم خارج أفعال التكليف. وأما الشفاعة فضد الاستحقاق وخرق له، وإعطاء فعل إنسان لآخر بغير استحقاق. ويزداد الأمر صعوبة بمعرفة أصحاب الشفاعة بالاسم، وكأنها تزكيةٌ دنيوية لهم وقبول لأفعالهم مهما كانت، ما داموا من المبشَّرين بالجنة. أما أصحاب اليمين؛ أي الذي تفوق حسناتهم سيئاتهم، فإن انقطاع العقاب عندهم مشروط بأفعال الطاعة، وموافاتها أفعال المعصية؛ فانقطاع العقاب هنا دوام للثواب. وعلى النقيض من ذلك يكون أصحاب الشمال الذين تفوق سيئاتهم حسناتهم، فينقطع الثواب ويدوم العقاب. إن الأعمال العظيمة أفعال استحقاق تطوي الصغائر في داخلها وتصبح من اللمم؛ إقالةً لذوي العثرات، واعترافًا بالضعف الإنساني.٩
ولكن هل يكون التصور وحده سببًا للدوام، حتى ولو كانت هناك أفعال سببًا للانقطاع؟ هل لا يضرُّ مع الإيمان معصية، ولا ينفع مع الكفر طاعة؟ وأيهما أكثر استحقاقًا من حيث الدوام والانقطاع؛ التخليد أو العفو، المؤمن العاصي أم الكافر المطيع؟ أيهما أكثر استحقاقًا، نظر بلا عمل أم عمل بلا نظر؟ إن كثيرًا من المسلمين قد لا يدخلون الجنة؛ لأنهم لا يستحقُّونها نظرًا لمعاصيهم، وإن كثيرًا من الكفار ليدخلون الجنة نظرًا لطاعاتهم. وإن جعل الخلود للكفرة وحدهم دون المؤمنين تعذيب للآخرين، وإنقاذ للذات، وجعل مقياس الاستحقاق النظر دون العمل. إن التصور وحده ليس فعلًا للاستحقاق؛ فالتصور هو أساس للسلوك وموجِّه له، وما دام السلوك قد خرج عن التصور يصبح التصور فارغًا من غير مضمون. وإن تعدُّد الأُطر النظرية شرعي ما دام يؤدي إلى وحدة العمل؛ لذلك كان خبر الآحاد يُورِث الظن في النظر، واليقين في العمل. ليس النظر وحده مقياس الاستحقاق دون العمل. والقول بأن المؤمن العاصي لن يذوق النار، وأن الكافر المطيع لن يذوق الجنة، قسوة وأنانية وغرور، مثل قول اليهود بأنهم أبناء الله وأحبَّاؤه، يُنكِر العمل الصالح، ويخلط بين الظن النظري واليقين العملي. ولا يمكن أن تكون الحجة في ذلك نفي الاستحقاق، وإلا عُدنا على بدء؛ فالاستحقاق ثابت عقلًا وسمعًا. ولا تكون الحجة إثبات الاستحقاق في الثواب دون العقاب، قبل التوبة والتخلي عن شرط استحقاق العقاب، وهو العناد والإصرار. أما التفضل فهو إلغاء للاستحقاق وإنكار للفعل. إن أقصى ما يمكن عمله هو دوام الاستحقاق ثوابًا إذا كان الترجيح للحسنات على السيئات، أو عقابًا إذا كان الترجيح للسيئات على الحسنات. وقد تُقام حُججٌ جدلية لإثبات انقطاع عقاب المؤمنين ودوام عقاب الكافر، مثل الحجة التي تُعطي احتمالاتٍ ثلاثة: دخول صاحب الكبيرة الجنة بإيمانه وهو باطل، أو دخوله النار بكبيرته وهو باطل، أو دخوله النار بكبيرته ثم الجنة بإيمانه وهو الحق. فالفعل هو المنقطِع، والتصور هو الدائم. العمل هو الجزء، والنظر هو الكل. وكذلك حجة إثبات انقطاع العقاب على الفعل بدوام الثواب على التصور. وهذا كله يجعل الدوام والانقطاع خاضعَين لقوانين فرعية، مثل الإحباط والتكفير والموازنة وغيرها، وهي كلها تقوم على حساب الأفعال، وليس على مجرد التصورات.١٠ وقد يُترَك الأمر كله جوازًا عند الله دون فرض للدوام أو الانقطاع، وهو إرجاع للسمعيات إلى العقليات، وعود بالعدل إلى التوحيد. وقد تُخفَّف النار ويُخفَّف العذاب إيثارًا لانقطاع العقاب ودوام الثواب، وقد يصل حد تخفيف العذاب إلى أن يكون العصاة المؤمنون في النار دون عذاب ودون استمتاع بالجنة. وقد يتقرر مبدأ الانقطاع للعقاب كمبدأ لا لأشخاصٍ معيَّنة.١١
وقد ينقطع العقاب ويدوم الثواب عن طريق التخصيص والاستثناء، واعتبار آيات الوعد من المُحكَمات، وآيات الوعيد من المُتشابِهات بها عموم وخصوص. صحيحٌ أن ذلك أقرب إلى التفسير الإنساني؛ فالغاية من الوحي مصلحة الإنسان لا عقابه، ومع ذلك فالخطورة هو التأويل بالتخصيص والاستثناء لحساب فئة دون فئة، ويكون سلاحًا ذا حدَّين، توجِّهه كل فئة إلى خصومها. وإن تعميم النصوص أو تخصيصها إنما يخضع في حقيقة الأمر إلى البواعث والأفكار وإلى المصالح والأهواء أكثر من خضوعه لقواعد اللغة. تأتي قواعد اللغة لتأييد الباعث والفكرة، وليس لطردها؛ لذلك يستحيل أن يكون في العموم استثناء أو تخصيص؛ لأن ذلك يقضي على قانون الاستحقاق؛ فالاستثناء أو التخصيص يدل على الأثرة والأنانية، أخذ الثواب وترك العقاب، دوام الثواب وانقطاع العقاب، ثواب الأنا وعقاب الغير. ولماذا لا يكون في الثواب أيضًا تخصيص واستثناء، وأن يكون الهدف من ذلك التشجيعَ على الخير وتقوية الباعث عليه؟ ولو كان الوعيد منقطِعًا أو غير واقع، لكان ذلك دافعًا للناس إلى الإثم، وتشجيعًا لهم عليه. وما هي أنواع الأفعال التي يكون فيها التخصيص؛ حقوق الله أم حقوق العباد؟ لو جاز في حق الله، فهل يجوز في حق العباد؟ وأي نوع من أفعال العباد يجوز فيها الاستثناء؛ القتل، أكل أموال الناس بالباطل، والظلم والطغيان؟ وهل أهل الصلاة كلهم مُستثنَون بصرف النظر عن أعمالهم؟ وهل القرآن أساس على الخصوص ثم بعد ذلك يُحمَل على العموم، أو إنه على العموم ثم يُحمَل بعد ذلك على الخصوص؟١٢ وقد يعني الخصوص الاستثناء والمحاباة والتحيز، وهو نقض لقانون الاستحقاق؛ فإذا غفر الله لواحد غفر للجميع، وإذا عُوقِب واحد عُوقِب الجميع، فلا مجال للاختصاص ما دام الكل في المقياس النظري واحدًا، إلا إذا تصوَّرنا اختلافًا في درجات المعرفة والفهم. وهنا يكون الحساب على أعمال الشعور الخالصة، وليس على أعمال الجوارح؛ أي الأفعال في العالم. وكيف يُغفَر للجميع، فيستوي صاحب الذنوب الكثيرة مع صاحب الذنوب القليلة؟ على أقصى تقدير يُغفَر للأكثر ثوابًا والأقل عقابًا، وهو أقرب إلى العقل. وإن إرجاع الموضوع إلى مشيئة الله لهُو وقوع في الإرجاء دون حل للإشكال العقلي، وعود بالعدل إلى التوحيد، بل ناقض التخصيص والاستثناء التوحيد؛ لجعلهما المشيئة خاصة بفرد دون فرد، في حين أنها عامة لكل الأفراد. والعدل يقتضي معاملة الأفراد جميعًا تحت قانونٍ واحد، مع الأخذ بعين الاعتبار المواقف الخاصة لكل فرد، المراعاة ضمن القانون العام، والتي تكون فيها الأولوية أيضًا للفعل الإنساني في التوبة.١٣ والحقيقة أنه لا يمكن رد كل شيء إلى المشيئة الإلهية كما هو الحال في الإرجاء، وفي الوقت نفسه إصدار أحكام على منع التخليد للكفرة وعدم تخليد المؤمنين في النار، كما أن الإرجاء وقوع في مقياسٍ مزدوج بالنسبة للكافرين وللمؤمنين، إثباتًا لدوام العقاب للكافرين، وبانقطاعه عن المؤمنين. ولما كان الإرجاء يعتمد أساسًا على روايات، وليس على براهين عقلية، فقد ظهر عدم اتساق بين إدخال الجنة للمؤمنين العصاة في النهاية وبين تعذيبهم؛ بين دوام الثواب وانقطاع العقاب، بين التخفيف والتخليد، بين القول بانقطاع العقاب ورفض الإحباط والتكفير، والموازنة التي تحاول فهم الانقطاع من داخل الدوام حتى ينقطع العقاب ويدوم الثواب؛١٤ لذلك كان الأقرب إلى العقل هو إثبات الدوام للاستحقاق ثوابًا كان أم عقابًا؛ إيثارًا للعدل حتى ولو أدَّى ذلك إلى التضحية بالعفو.١٥ كما أن اعتبار الآيات للترغيب والترهيب قضاءٌ على موضوعية الوعيد وشموله واستقلاله، وإن كان يدل على أن الهدف منها هو التأثير في النفوس وتوجيه السلوك، وليس الاستحقاق المادي ثوابًا كان أم عقابًا. وليس القصد من العقاب منفعة الله أو الإضرار بالإنسان والإجحاف به؛ لأنه ليس مسئولًا عن أفعاله، بل القصد منه التأكيد على نتائج الأفعال كجزء من الأفعال ذاتها ومسئولية الإنسان عنها. فلو وقع الضرر بالإنسان من أفعال الغير فإن الغير يتحمل مسئولية هذا الضرر، ولا يرضى الإنسان إلا بأن يُوقَع العقاب على من أساء إليه.١٦ قد يكون التخليد في النار يأسًا وتشاؤمًا وقسوة، خاصةً إذا كان رفض التخليد للمؤمنين والكفار على السواء، ولكنه يكون استحقاقًا، ودوام الاستحقاق أكثر دفعًا للإنسان وحثًّا له على تجدد الفعل عن طريق التوبة؛ أي قطع العقاب ودوام الثواب.١٧ وهل مِن الصالح العام التشكك في عقاب مرتكب الكبيرة، وما أكثر القتلة وسفاكي الدماء، وناهبي أموال اليتامى ظلمًا، والمستعبِدين رقاب الناس؟ إن العقاب على الكبائر نتيجة للفعل وليس حقًّا للمالك؛ فالإنسان لا يملكه أحد، بل هو فعله، وإلا ضاعت العلاقة الضرورية بين الفعل والأثر، أو بين العلة والمعلول. إن إبطال عقاب فاعل الكبيرة يُناقِض العقل والعدل، ويُثبِت اللامعقول والظلم. وهو مُناقِض أيضًا للعادة ولحكمة الشعوب ولطبائع الأشياء كما بدَت في الأمثال العامية وخبرات البشر، وهو مُناقِض للشرع؛ لأن الشرع يستلزم التوبة قبل العفو، والندم قبل المغفرة. وإن العفو قبل التوبة والمغفرة قبل الندم ليس مظهرًا من مظاهر الكرم والمروءة، بل هو جور وظلم وعطاء لمَن لا يستحق. إن الغاية من عقاب المسيء هي التربية والإعداد، وإن إبطال العقاب ينقض التربية، ويجعل الإساءة طبيعة. صحيحٌ أن العفو أقرب إلى الطبيعة الخيِّرة من العقاب، ولكن ليس قبل تربية الشعور. إن العفو عن المسيء قبل إدراكه معنى الإساءة قد يُلجِئه إلى الإساءة من جديد؛ لأنها لم تكلِّفه شيئًا من ضرر أو عقاب ما دام العفو قائمًا، كما هو الحال في الأخلاق اليهودية التي تجعل بني إسرائيل أبناء الله وأحباءه؛ وبالتالي لن يُعاقِبهم الله مهما بلغت إساءاتهم ومعاصيهم. إن إثبات دوام العقاب للمسيء ليس موجَّهًا ضد الخصوم؛ ضد الكافرين من المؤمنين، وضد الفِرق الهالكة من الفِرق الناجية؛ وبالتالي ليس سلاحًا دينيًّا في خصوماتٍ سياسية، بل هو إقرار للعدل وإثبات للاستحقاق.١٨

(٣) متى يسقط الاستحقاق؟

لا يسقط الاستحقاق إلا في حالتَين؛ الأولى طبقًا لقانون الموازنة بشِقِّيه، الإحباط والتكفير؛ والثانية في حالة التوبة.١٩ ولا يكون الإسقاط للثواب على الإطلاق حرصًا على منفعة العباد، لكن يكون الإسقاط للعقاب وحده، بل إن الإحباط والتكفير ليسا إسقاطًا للثواب، بل هو إسقاط للعقاب برفع ما يُعادِله من الثواب. العفو إذن بهذا المعنى وفي هاتَين الحالتَين ممكن بعد الموازنة والتوبة، وليس قبلهما؛ وبالتالي يكون مشروطًا بالحسنات التي تُوافي السيئات في حالة التكفير، أو في حالة عقد العزم والنية في حالة التوبة. وما فائدة التوبة إذا تمَّت المغفرة دونها؟ لا يحدث العفو قبل الندم، ولا تقع المغفرة قبل التوبة؛ لأن فِعل الله مشروط بفعل الإنسان وتالٍ له. وإذا جاز العفو عن الصغائر بلا توبة، فإنه لا يجوز العفو عن الكبائر دونها.٢٠ ولا يكون العفو بإطلاق، بل بتخصيص كل حالة على حِدة. وإذا جاز العفو في ذنب في حق الله فهذا حق الله في العفو عنه. أما الذنب في حق العباد فالعفو عنه لا يكون بلا تعويض.٢١ وهل يستوي العفو عن الحاكم والمحكوم، وعن الغني والفقير، وعن القوي والضعيف، وعن الظالم والمظلوم، وعن القاهر والمقهور؟

(أ) الموازنة (الإحباط والتكفير)

ويعتمد القول بالموازنة على ربط آيات الوعيد بآيات العفو،٢٢ وتعني وضع الحسنات والسيئات، الطاعات والمعاصي، في ميزانٍ واحد؛ فإذا رجحت الحسنات والطاعات يُخصَم منها السيئات والمعاصي، وهذا هو التكفير؛ وبالتالي يسقط العقاب ويدوم الثواب. أما إذا رجحت السيئات والمعاصي فإنه يُخصَم منها الثواب، فينقطع الثواب ويدوم العقاب، وهذا هو الإحباط. وقد تدخل التوبة مع الموازنة في التكفير الشامل. والإحباط والتكفير هما أساس مغفرة أهل الكبائر، وهما للأعمال وليسا للتصورات؛ فالإيمان لا يكفِّر السيئات، والكفر لا يُحبِط الأعمال. وكلاهما يحدثان في حياة الإنسان وليس بعد الموت، في الدنيا وليس في الآخرة؛ فالدنيا دار استحقاق. وكلاهما يحدث بالنسبة لاستحقاق الثواب والعقاب في الآخرة وليس في الحدود الدنيوية، وإلا لتعطَّلت الحدود.٢٣ ويثبت الإحباط والتكفير نتيجةً للتخليد والدوام؛ فالمكلَّف إما أن يستحقَّ الثواب فيُثاب، أو يستحقَّ العقاب فيُعاقَب، أو لا يستحق الثواب ولا العقاب، فلا يُثاب ولا يُعاقَب، وهذا مُحال، وقد يستحقُّ الثواب والعقاب، فيُثاب ويُعاقَب دفعةً واحدة، وهو مُحال أيضًا؛ وبالتالي لم يبقَ إلا أن يؤثِّر الأكثر في الأقل، وهو المطلوب.٢٤ ويتداخل قانون الموازنة مع قانون العِوض في العقاب؛ فالتكفير عِوض عن العقاب، والإحباط عِوض عن الثواب.٢٥
وللإحباط والتكفير عِدة موازين طبقًا للكم والكيف؛ إذ لا يمكن إحباط الطاعات كلها بمعصيةٍ واحدة، ولا يمكن التكفير عن المعاصي كلها بطاعةٍ واحدة. هناك مقاييس عِدة للموازنة طبقًا للعدد؛ أي الكم المنفصل، وطبقًا للمقدار؛ أي الكم المتصل، وطبقًا للشدة والتوتر والعمق؛ أي الكيف، وربما أيضًا طبقًا للجهة؛ أي الضرر والنفع المادي والمعنوي، وطبقًا للإضافة؛ أي مقدار الضرر والنفع بالنسبة للفرد والجماعة.٢٦ وتدخل التوبة والشفاعة كعنصرَين في الموازنة؛ فالتوبة من الكبائر تغفر كل السيئات مهما بلغت، ويكون صاحبها من أهل الجنة، فالكبير يجبر الصغير. وإذا لم تتم التوبة من الكبائر فالموازنة، ومن رجحت حسناته على سيئاته وكبائره فإنها تسقط، وهو من أهل الجنة لا يدخل النار؛ وإن استوت حسناته على كبائره وسيئاته فهؤلاء أهل الأعراف، وقَفةٌ أمام النار ولا يدخلونها ثم يدخلون الجنة؛ ومن رجحت كبائره وسيئاته حسناتِه فهم مجازون بقدر ما رجح لهم من الذنوب من لفحةٍ واحدة إلى خمسين ألف سنة في النار، ثم يخرجون إلى الجنة بالشفاعة للرسول وبرحمة الله! وكلهم يُجازون بالجنة بما فضل لهم من الحسنات، ومن لم يفضل له حسنة من أهل الأعراف فدونهم، وكل من خرج من النار بالشفاعة وبرحمة الله فهو سواء في الجنة ممَّا رجحت له حسنة فصاعدًا. فالشفاعة هنا بعد الاستحقاق وليس قبله، وتغليب للخير على الشر، وللعفو على العقاب، وللرحمة على العدل.٢٧ ولا يعني القول بالإحباط أنه لو جمع المكلَّف بين الطاعات والمعاصي أن يكون مُثابًا مُعاقَبًا في حالةٍ واحدة؛ وذلك لأن كل واحد منهما يُسقِط الآخر، فإذا سقط الأقل بالأكثر لم يجب ذلك؛ فالقانون هو إسقاط الأقل بالأكثر، ولكن ما العمل إذا استوى الطرفان؟ هؤلاء هم أهل الأعراف، لهم وقفة أمام النار ولا يدخلونها، بل يدخلون الجنة. ومن رجحت كبائره وسيئاته بحسناته فهم مجازون بقدر ما رجح لهم من الذنوب من لفحةٍ واحدة إلى بقاء ٥٠٠٠٠ سنة في النار، ثم يخرجون منها إلى الجنة بشفاعة الرسول ورحمة الله بقدر ما بقي لهم من حسنات! وما لم يفضل له حسنة من أهل الأعراف فمن دونهم. وكل من خرج بالنار بالشفاعة وبرحمة الله فهم كلهم سواء في الجنة، حسنة فصاعدًا! فهل هذه الحالة واردة؛ حالة تساوي الحسنات والسيئات، أم إنه إذا حدث ذلك فالإنسان بطبيعته إلى الخير أقرب لما كان الشر طارئًا عليه؟ وماذا تعني الوقفة أمام النار دون دخولها؟ هل ذلك جزاء لاستواء الطرفَين؟ وقد تحرق الوقفة ثم يكون المسار إلى الجنة بلا استحقاق.٢٨ وفي رواياتٍ أخرى يُترَك الأمر للمصادفة المحضة بعد أن يسير الإنسان على خيطٍ رفيعٍ أحدَّ من السيف وأدقَّ من الشعرة، إن وقع يمينًا ففي الجنة وإن وقع يسارًا ففي النار! وكأن جهد الإنسان وعمله ونيته ينتهي به الأمر إلى المصادفة العشوائية! وكيف يسير الإنسان على هذا الخيط الرفيع الأحدِّ من السيف والأدق من الشعرة؟ وكيف يسير البشر كلهم عليه الذين وقعوا في هذا التساوي، وكأنه اختيارٌ آخر ومحنة أخرى، وقد انتهت دار التكليف وهم في دار الجزاء؟ وكيف يكون الترجيح طبقًا لشفاعة الرسول بلا مبرِّرٍ عقلي من قانون الاستحقاق؟ وهل سيشفع الرسول لكل أهل الأعراف؟ وإذا كان هناك مقياس للشفاعة فلماذا لا يكون منذ البداية مقياسًا للترجيح بزيادة الثواب؛ وبالتالي دخول الجنة عن استحقاق؟ كما أن الترجيح طبقًا لرحمة الله أيضًا بلا مبرِّرٍ عقلي، وكسر لقانون الاستحقاق بالتفضل، وقضاء على العدل بالرحمة. وكيف تُوضَع شفاعة الرسول مع رحمة الله كعلةٍ مرجِّحة على المستوى نفسه، وكأن الله أصبح رسولًا أو الرسول إلهًا؟
ومهما يكن من شيء، فإن الإحباط والتكفير لا يكونان إلا في الصغائر. أما الكبائر فإن عقابها لا يزول بكثرة الطاعات، ولا ينقطع إلا بالتوبة. وإن تراكُم الصغائر لا يجعلها كبيرة، وكأن التراكم الكمي لا يؤدي إلى تغيرٍ كيفي. ومن عمل الكبائر ومات عليها قبل التوبة وله حسنات رجحت كبائره عند الموازنة. أما من همَّ بسيئة ثم تركها مختارًا فتُكتَب له حسنة، فإن تركها مغلوبًا لم تُكتَب حسنة ولا سيئة تفضلًا من الله، ولو عملها كُتبت له سيئة واحدة؛ ولو همَّ بحسنة ولم يعملها كُتبت له حسنة واحدة، فإن عملها كُتبت له عشر حسنات. كل ذلك لأن الأعمال بالنيات، وأن الأفعال مرهونة بمقاصدها؛٢٩ فأفعال الشعور أقرب إلى الخير، فإذا ما تحقَّقت إلى أفعالٍ خارجية تضاعف الخير. أما النوايا السيئة إذا لم تتحول إلى أفعالٍ خارجية عن طريق حرية الإرادة، فإنها تظل أقرب إلى الخير بفضل ممارسة الحرية. إن المهم في ذلك كله هو تطبيق العدل بعد ممارسة الحرية. ولا يهمُّ في ذلك قياس الأفعال إيجابًا وسلبًا على نحوٍ كميٍّ متخارج، بل دلالتها على الأفعال على نحوٍ متداخل؛ فقد يكون في عملٍ واحد نيةٌ وصدق، وفي أعمالٍ كثيرة ضعفٌ وتكاسل. لا يعني الإحباط والتكفير إذن مجرد إلغاء الأكثر للأقل إلغاءً كميًّا، بل يعني احتواء النفع للضرر، والحسن للقبيح، والإحسان للإساءة، والخير للشر. ليس المهم في ذلك وقائعها الأخروية، بل آثارها ونتائجها الدنيوية في دفع الناس نحو الخير تطابقًا مع الطبيعة، وحرصًا عليها من الزيف، وتأكيدًا على تجدد الأفعال، والقدرة على تجاوز الأفعال السيئة طالما وُجد الزمان واستمر التكليف.

(ب) التوبة

والتوبة هي الحالة الثانية التي يسقط فيها الاستحقاق؛ فإن لم يسقط العقاب بالإحباط والتكفير فإنه يسقط بالتوبة. ولا تزول آثار الأفعال السلبية إلا بعقد العزم والإصرار على التغيير، وليس بمجرد تداخل الأفعال، وإلغاء النفع للضرر، والإحسان للإساءة. ومن لقي الله مسلمًا تائبًا من كل كبيرة، أو لم يكن عمل كبيرة قط، فسيئاته كلها مغفورة، وهو من أهل الجنة، ولو بلغت سيئاته ما شاء الله لها أن تبلغ. التوبة من الكبيرة عاملٌ مرجِّح في الموازنة.٣٠ وقد تكون التوبة بالقول إذا كان الفعل قولًا، وقد تكون بالفعل إذا ما تحوَّل الفعل السيئ إلى بناءٍ واقعيٍّ دائم. التوبة هنا هدم للبناء القبيح، ومعاودة لبناءٍ جديدٍ أفضل؛ لذلك تأتي التوبة آخر فصل في الكتاب؛ كي تكون خاتمة الأعمال التوبة؛ أي تجدد الفعل إلى ما لا نهاية، والبداية المستمرة من جديد على البراءة الأصلية.٣١
والتوبة لغةً تعني الرجوع والإنابة؛ أي الإبطال؛ واصطلاحًا التراجع عن الزلات. ويتضمن تعريف التوبة ثلاثة أشياء: ترك الزلة في الحال، والندم على ما فات، وعقد العزم في المستقبل على عدم العودة إليها. فهي فعل من أفعال الشعور الداخلة، أفعال القلب، قبل أن تكون فعلًا من أفعال الشعور الخارجية، أفعال الجوارح. التوبة إذن معرفة درجات الفعل ومراتبه بين الأعلى والأدنى، وترك الأدنى إلى الأعلى طبيعةً واختيارًا.٣٢ لذلك كانت للتوبة شروطٌ ثلاثة: الأول ترك المعصية في الحال، على الفور دون تأخير، وفي اللحظة وليس في الديمومة، كفعلٍ حرٍّ طبيعيٍّ دونما مقارنة أو انتظار أو تدبر أو حساب، وإلا كان الأمر مجرد إعادة حساب وليس توبة؛ فهي أقرب إلى الفعل الحدسي منه إلى الفعل الاستدلالي. ولا يهمُّ أن يكون عيب التأخير هو تراكم الذنوب، وزيادة الذنب الأول ذنبًا ثانيًا، بل المهم هو عدم تحول الإدراك إلى فعلٍ فوري؛ وبالتالي عدم تجدد الفعل في الحال. كما يتضمن التغير الفوري رد المظالم، وإعادة الحق إلى أصحابه؛ فالتوبة ليست فقط فعل نقاء للضمير، بل هو فعلٌ اجتماعي؛ تصحيح للواقع الفعلي، وإلا كانت التوبة فعل شعور فارغ لا مضمون له؛ مجرد ستار على الظلم وتبرئة للذمة أمام النفس.٣٣ لذلك انقسمت التوبة إلى حق الله وهو الجانب المعنوي، وإلى حق البشر وهو الجانب المادي الذي تُرَد فيه المظالم.٣٤ والثاني الندم على ما فات. والندم فعل شعور يتعلق بفعلٍ واقعٍ خرج على مبدأٍ عقلي وعلى بناءٍ واقعي، ويتضمن جانبَي الفعل المعنوي والمادي، ويكون مُصاحَبًا بالتألم والأسى والحزن على ما وقع من معاصٍ؛ لذلك كانت التوبة تقع من فعلٍ مضى، وليس من فعلٍ مستقبل؛ فالمعصية لا يُعقَد العزم على إتيانها في المستقبل مقرونة بالتوبة منها؛ فذاك سوء نية. ويمكن للندم أن يتجدد كالتوبة، وكلما تجدَّد زالت آثار المعصية من النفس، وانتُزعت من جذورها وآثارها.٣٥ وهو فعل عاقل يتم به إدراك وجه القبح في الفعل الماضي، ووجه الحسن في الفعل الحاضر والمستقبل، في الفعل الجديد. وقد يظهر الندم في صورة الاعتذار كفعل من أفعال اللسان أو الشعور. والاعتذار هو إصدار حكم خلقي على النفس أمام الآخر مع رد المظالم، وإرجاع الحق إلى أصحابه، وهو فعلٌ فردي في حق من وقعت الإساءة في حقه؛ من فرد إلى فرد، ومن فعل لفعل. وإن وقع للجماعة فالاعتذار يكون لها، وهو فعلٌ طبيعيٌّ ناتج عن الندم، يسقط بموت المُساء إليه؛ وبالتالي يخالف البدل والعِوض العجِلَين في الدنيا.٣٦ والثالث العزم على عدم العودة إلى الفعل المسيء في المستقبل. والعزم من أفعال القلوب والجوارح، نيةً وفعلًا، وهو آخر فعل في التوبة؛ فترك الزلة في الحال والندم وحدهما لا يكفيان لإتمام فعل التوبة دون التزامٍ شعوري وفعلي في الزمان؛ فترك الزلة في الحال وحدها كفعلٍ وقتيٍّ غير ممتد في الزمان لا يكون توبة، والندم وحده دون أن يكون مُصاحِبًا للعزم على أمثال ما ندم عليه في المستقبل لا يكون توبة.٣٧ وتتجدد التوبة أكثر من مرة، حتى ولو عاد الفعل بعد عقد العزم، بشرط توافر الشروط الثلاثة في التوبة الأولى. التوبة فعلٌ متجدِّد بتجدد الأفعال وتغير المواقف وتوتر الإنسان، في موقف يجمع بين الحرية والضرورة؛ بين الاختيار والحتمية. وإن الخوف من التوبة الثانية هو فقدان التوبة لمضمونها، فتصبح فعلًا آليًّا يضمن به الإنسان تجاوز المعصية. أما إذا توافر حسن النية فتجديد التوبة نتيجةٌ طبيعية لتجديد الفعل. وقد تكون التوبة عن ذنب بعينه، في أضعف الأحوال، وهي التوبة الجزئية، وقد تكون عن كل الذنوب، وهي التوبة الشاملة، وهي أحسن الأحوال. التوبة الجزئية ينقصها خلوص النية، ولا تسدُّ كل ثغرات تسرب الطاقة على الأفعال، في حين تكون التوبة الشاملة أكثر قدرة على تجديد الشعور كله، وليس فعلًا واحدًا بعينه، بحيث يُعاد بناء الوجود الإنساني كله من جديد، نظرًا وعملًا، تصورًا وسلوكًا.٣٨
لذلك، التوبة واجبة ليس فقط كفرضٍ شرعي، بل كضرورةٍ وجودية وواقعةٍ طبيعية؛ تعبيرًا عن رغبة الإنسان في التجدد المستمر. وسبب الوجوب دفع الضرر عن النفس. ولما كانت الأضرار في الكبائر وجبت التوبة عنها؛ لأن الأضرار من الصغائر لا تأثير لها إلا تقليل الثواب. وتجب التوبة لأن المكلَّف لا يخلو حاله من أمور ثلاثة: أن تكون طاعاته أكثر من معاصيه، فالمعاصي صغيرة لا يجب التوبة عنها عقلًا بل سمعًا. أن تكون معاصيه أكثر من طاعاته، وهنا تجب التوبة؛ لأنه صاحب كبيرة، فتسقط العقوبة. أن تكون طاعاته مساوية لمعاصيه، وهو مُحال. التوبة إذن هي الطريق إلى التجدد المستمر، والتقدم الدائم نحو الأفضل.٣٩ ولا يهمُّ في التوبة قبولها؛ لأنها من أفعال الشعور؛ تطهيرًا للنفس وتجديدًا للروح. فقبولها ليس من طرفٍ خارجي، بل من حدوث التجدد نفسه؛ وبالتالي فإن السؤال عن غفران الكبائر بالتوبة هل هو استحقاق أم تفضيل يفترض الإجابة في طرفٍ آخر يقبل التوبة أم رفضها دون أن يقصُرها على أفعال الشعور. ولا يهمُّ أيضًا إذا كانت التوبة تُسقِط العقوبة أم لا؛ فالتوبة كتجديد للفعل في الزمان من طرف الشعور التائب، وليست من طرفِ شعورٍ آخرَ مستقبل للتوبة أو للاعتذار.٤٠ ومع أن التوبة فعلٌ فردي لا يتعدى فعل الغير، إلا أن لها أحكامًا عامة تحضُّ الفرد والجماعة، وتتعلق بالجانبَين الشعوري والمادي؛ فالتوبة واجبة من جميع الذنوب، لا خلاف بين ذنب وآخر. لا تجوز التوبة من ذنب دون ذنب، بل تصحُّ التوبة من جميع الذنوب دون نوعية للأفعال. وإن تنوُّع أفعال الشعور لا حدود لها، وإذا كانت التوبة من الصغائر فالتوبة عن الكبائر أولى. وتكون صحة التوبة من المعاصي إجمالًا من غير تعيين للذنب المتوب عنه؛ فالتوبة فعلٌ كيفي، وليست فعلًا كميًّا، فعلٌ نوعي للشعور، وليست فعلًا خاصًّا له. ولا تصحُّ التوبة مؤجَّلة حتى آخر الزمان في البعد وعلى الأمد الطويل حتى لا يبقى زمان للعزم، وإلا لأجَّل الإنسان التوبة إلى وقت الاحتضار. أما لو حدث ذلك عن حسن نية وقصد فهي فعل، وإن كان يفتقد إلى الشرطَين الأول والثالث؛ ترك الزلة في الحال؛ لأنه لم يعُد في القوس مَنزع؛ وعقد العزم على عدم العودة إلى مثله في المستقبل، فقد انقضى الزمان. ولم يبقَ من التوبة إلا الندم. وتصحُّ التوبة من كل الناس، مؤمنين وكفارًا، مطبوعين ومهديين. وإيمان الكافر توبة وندم، إن لم يكن على مستوى الفعل فعلى الأقل على مستوى النظر؛ ففعل الإدراك في نهاية الأمر أحد أفعال الشعور، والتائب يعلم بما يلزمه أن يتوب عنه، ببعضه أو كله، وإلا لما تحقَّق تجدُّد الفعل في الزمان، وتطهير الشعور، وصفاء السريرة، وخلوص النية. وما دامت التوبة فعلًا من أفعال الشعور فهي فعل عاقل حر. ولا تجوز التوبة من القول القبيح إن لم يكن مولِّدًا. أما الأفعال المولِّدة فالتوبة منها تحدث بإبطال التوليد نفسه. ولا يكفي هنا الترك والندم والعزم؛ إذ تكون التوبة من الأفعال الواقعة المسبَّبة القصدية، وإبطال التوليد يحتاج إلى علم بقبح الأفعال المتولِّدة من الفعل القبيح الأول، وذلك يتم إما بسكون النفس أو بدليل العقل. لا تصحُّ التوبة من فعل مع استمرار قيام سببه المولِّد؛ ومِن ثَم يكون القضاء على السبب هو شرط التوبة. ولا يمنع التراخي بين السبب والمسبَّب من وقوع التوبة، بل تقع على قدر الوُسع، وعلى قدر احتواء الزمان. كما تلزم التوبة أيضًا عن فعلٍ صدر من فعلٍ آخَر عن طريق العادة، وليس عن طريق التولد؛ فالعادة فعلٌ جبري في حاجة إلى ضمه إلى نسيج الأفعال الحرة. وأخيرًا لما كانت التوبة فعلًا متعديًا إلى الخارج، كما أنها فعلٌ لازم إلى الداخل، استلزمت أحكام التعويض. وهنا يتحول علم التوحيد إلى علم الفقه لمعرفة هذه الأحكام؛ فالتوحيد أساس الشرع، وتختلف الأحكام الفقهية طبقًا للأحكام العقلية في التوبة. والقاعدة العامة أنه لا تُقبَل التوبة إلا بعد رد مظالم العباد، ثم يفعل الله ما يشاء في حقه؛ فالمهم هو حياة الناس في الدنيا، وليس حياتهم في الآخرة. إذا كانت التوبة من فعلٍ واقعي أدَّى إلى وضع اليد والاستحواذ، فيجب رفع اليد والتخلي عنه حتى تصحَّ التوبة. وتكون توبة السماسرة والمُضارِبين بإرجاع الأموال العامة، وردِّها إلى أصحابها. وصحة الملكية في النفع العام لا في الإضرار العام، ورد الحقوق جزء من أداء الواجبات.٤١
١  معنى الكبيرة والصغيرة: الكبيرة شرعًا ما يكون عقاب فاعله أكثر من ثوابه، إما محقَّقًا وإما مقدَّرًا؛ وأما الصغيرة فهي ما يكون ثواب فاعله أكثر من عقابه، إما محقَّقًا وإما مقدَّرًا (والجزء الأخير ضد الكافر الذي لم يُطِع مُطلَقًا، فإن ثوابه مُحبَط وعقابه مُكفِّر) (الشرح، ص٦٣٢). الفرق بين الصغيرة والكبيرة أن الكبيرة كل جريرة تُؤذِن بقلة اكتراث مُرتكِبها بالدين ورِقبة الديانة وتحطُّ العدالة، والصغيرة تبقى على حسن الظن ولا تحطُّ العدالة (الإرشاد، ص٣٩١-٣٩٢). الكبيرة ما قُرن بها حد أو لعن أو وعيد بنص الكتاب والسنة، ما توعَّد اللهُ به على لسان الرسول فهو كبير، وكل ما نص الرسول على استعظامه فهو كبير، وما لم يأتِ نص باستعظامه أو جاء فيه وعيد بالنار فليس بكبير (الفصل، ج٤، ص٧١–٨٠).
٢  أنكرت الخوارج أن يكون في المعاصي صغيرة، وحكمت بأن الكل كبير (الشرح، ص٦٣٢). ورفضُ ابن حزم لمفهوم الخوارج ناتجٌ عن أن التفرقة بين الصغيرة والكبيرة واردةٌ في القرآن والسنة. هل تصبح الصغائر بانضمام بعضها إلى البعض من الكبائر، وهل تصبح الكبائر بانضمام بعضها إلى البعض كفرًا؟ (الشرح، ص٨٠٠). واختلفت المعتزلة بين الجواز والاستحالة (مقالات، ج١، ص٣٠٦-٣٠٧). لا يجوز أن يعرِّفنا الله الصغائر بأعيانها (الشرح، ص٦٣٥).
٣  هل يُعلَم عقلًا اشتمال المعاصي على صغير وكبير أم لا يُعلَم ذلك إلا شرعًا؟ يُعلَم ذلك شرعًا عند أبي علي، وعقلًا عند أبي هاشم (الشرح، ص٦٣–٢٣٤). وعند ابن المبشر، استحقاق العقاب والخلود في النار بالكفر يُعرَف قبل ورود السمع، وعند سائر أصحابه بالسمع (المِلَل، ج١، ص٩٠). وعنده أن تأبيد المُذنِبين في النار من مُوجِبات العقول، وخالف بذلك أسلافه الذين قالوا إن ذلك معلوم بالشرع دون العقل (الفِرَق، ص١٦٨). وعند أبي موسى المردار، إن قصَّر ولم يعرفه ولم يشكره، عاقبه عقوبةً دائمة، فأثبت التخليد واجبًا بالعقل (المِلَل، ج١، ص١٠٥). والحقيقة اختلفت المعتزلة، هل يُعلَم وعيد الكفار بالعقل أو بالخبر دون العقل، على ستة أقاويل: (أ) العذاب على الكبائر كلها، الكفر وغير الكفر، واجب في العقول، وكذلك إدامته. (ب) لا يجب ذلك كله في الذنوب، بل في الكفر خاصة. (ﺟ) لا يجب في العقول إلا التفريق بين المُحسِن والمُسيء والولي والعدو، وتكون التفرقة بضروبٍ شتى، منها: تعذيب المعذَّب بعذابٍ لا ينقطع وسلامة المطيع، إخفاؤه وإبقاء المُطيع، تفضيل المُطيع في النعيم، ولله أن يعفو عن جميع المُذنِبين ويُديم نعيمهم تفضلًا. (د) لا يجوز العفو عن مظالم العباد وإلا يعد عفو أهلها، وإن لم يقع العفو منهم فالقصاص واجب. (ﻫ) يعلم أهل العفو أن الله يُجازي كل ذنب، ولا يعلمون ما الجزاء إلا بالسمع (عباد بن سليمان). (و) لا يُعلَم عقاب الكفار إلا بالخبر (مقالات، ج١، ص٣٠٨-٣٠٩). واختلفت المعتزلة بأي شيء يُعلَم وعيد أهل الكبائر: (أ) من جهة التنزيل (أبو الهذيل). (ب) من جهة التأويل (الفوطي) (مقالات، ج١، ص٣١٠-٣١١). وعند الجبائي وابنه، التأقيت والتخليد بالسمع، والاستحقاق بالعقل (المِلَل، ج١، ص١١٧).
٤  أوجبت المعتزلة والخوارج عقاب صاحب الكبيرة لوجهَين: (أ) أوعد الله بالعقاب وأخبر به، فلو لم يُعاقِب لزم الخُلف والكذب في الخبر، وهو مُحال. (ب) إذا علِم المُذنِب أنه لا يُعاقَب كان ذلك تغريرًا له على ذنبه وإغراءً عليه، وهذا قبيحٌ مُناقِض لمقصود الدعوة (المواقف، ص٣٧٦؛ شرح الدواني، ج٢، ص٢٦٩-٢٧٠). وافق المعتزلة الخوارج في المصير إلى استحقاق الخلود (الإرشاد، ص٣٨٦). وعند المعتزلة والخوارج يجب عقاب الكافر وصاحب الكبيرة؛ لأن العقوبة تسوية بين الميطع والعاصي، ولأن شهوة الفسوق مركَّبة فينا، فلو لم تنقطع بالعقاب كان ذلك إغراءً عليه، ولأنه أخبر بأن الكافر والفاسق في النار، والخُلف مُحال (الطوالع، ص٢٢٠). وعند الفريقَين، استحقاق الفاسق العذاب دومًا لا ينقطع، واستحقاق المطيع الثواب، والجمع بينهما مُحال (حاشية الخلخالي، ج٢، ص٢٦٩). وعند الخوارج، كل ذنب صغير أو كبير مُخرِجٌ من الإيمان والإسلام، فإن مات عليه فهو غير مسلم، وغير المسلم مخلَّدٌ في النار (الفصل، ج٤، ص٦٨–٧٠). ويقول كلاهما بتخليد كل من دخل فيها، يُخلَّدون في النار ولا يخرجون منها (الفِرَق، ص٣١٨). وقد وافق واصل وعمرو الخوارجَ في تأبيدهما صاحب الكبيرة في النار، مع قولهما بأنه موحِّد وليس بمشرك ولا كافر؛ ولهذا قيل للمعتزلة إنهم مخانيث الخوارج؛ لأن الخوارج رأوا لأهل الذنوب الخلود في النار وسمَّوهم كفرة، والمعتزلة رأت لهم الخلود في النار دون تسميتهم كفرة، ولا جسرت على قتالهم (الفِرَق، ص١١٩؛ الإرشاد، ص٣٨٦). وعند عمرو بن عبيد، ورد من الله الوعد والوعيد، والله يصدق وعده ووعيده؛ فالعصاة المؤمنون خالدون مخلَّدون في النار (الفِرَق، ص٣٦٤-٣٦٥). ويُعطي القاضي عبد الجبار حُججًا جدليةً ثلاثًا: (أ) إما أن يُعفى عن المعاصي أولًا، فإن لم يُعفَ فقد دخل النار خالدًا، وإن عُفي فإنه إما أن يدخل الجنة أولًا، ولا يصح أن يدخل الجنة إما عن تفضل أو ثواب، ولا يجوز سواهما. (ب) لو لم يستحقَّ العقاب على الدوام لكان لا يحسن من الله عذاب الفساق بالنار، ويخلِّدهم فيها. (ﺟ) العقاب كالذم يثبتان في الاستحقاق معًا، ويزولان معًا؛ فلا يجوز أن يثبت أحدهما ويسقط الآخر. ولما كان الذم يُستحقُّ على الدوام فكذلك العقاب (الشرح، ص٦٦٦–٦٧٠). الفاسق يستحقُّ العقوبة (الشرح، ص٦٤٧–٦٤٩). الفاسق يُخلَّد في النار، ويُعذَّب فيها أبدًا. يدل على ذلك عموميات الوعيد وقانون الاستحقاق والتأبيد والخلود (مقالات، ج١، ص٣٠٨؛ ج٢، ص١٤٨). وحُجَج المعتزلة عموميات الوعيد (المعالم، ص١٣٩–١٤٣).
٥  عند الأشاعرة يُعرَف دوام الاستحقاق سمعًا. يُخلَّد أهل الجنة في الجنة، وأما الكافر فيُخلَّد في النار مُطلَقًا (العضدية، ج٢، ص٢٦٨؛ شرح الدواني، ج٢، ص٢٦٨؛ الدر، ص١٧٣-١٧٤). ولا يفنى عقاب الله وثوابه سرمدًا (الفقه، ص١٨٧). قال الإمام في الوصية: وأهل الجنة في الجنة خالدون، وأهل النار في النار خالدون (شرح الفقه، ص٨٩). أحكام الوعد والوعيد والثواب والعقاب دائمة (الفِرَق، ص٣٤٨). وعند المعتزلة والخوارج أيضًا، وعيد صاحب الكبيرة لا ينقطع كوعيد الكفار بالأدلة النقلية (ص٦٣٤)، وأن العقاب مُعارِض للثواب (الطوالع، ص٢٢٠).
٦  عند جعفر بن بشر، كل عمد كبيرٌ، وليس الكبير فقط ما أُقرَّ فيه الوعيد، ودونه يكون الصغير، أو يكون بعضه صغيرًا وبعضه كبيرًا (مقالات، ج١، ص٣٠٦). وعند جعفر بن حرب، كل عمد كبيرٌ، وهو مذهب بعض السلف (الشرح، ص٦٣٤). وعند كثير من معتزلة بغداد، العفو غير جائز، وحتمٌ على الله أن يُعاقِب كلَّ مُصرٍّ على الأبد (الإرشاد، ص٣٩٢-٣٩٣). ليس مؤمنًا، ولكنه كافر أو فاسق، وإن كل من مات مُصرًّا على كبيرة من الكبائر لم يمُت مسلمًا، وإذا لم يمُت مسلمًا فهو مخلَّد في النار أبدًا. وإن من مات ولا كبيرة له أو تاب عن كبائره قبل موته، فإنه مؤمن من أهل الجنة لا يدخل النار أصلًا (الفصل، ج٤، ص٦٨). وعند الجاحظ والعنبري، دوام العذاب حق الكافر العاند (حاشية الإسفراييني، ص١٢٠-١٢١). وعندهما أن وعيد الكافر العاند دائم، أما الكافر الذي بالغ في الاجتهاد ولم يصِل إلى المطلوب معذور (المحصل، ص١٧٣-١٧٤؛ شرح الدواني، ج٢، ص٢٩٨). وعند الجبائي، من زادت زلَّاته على طاعاته في المقدار، واختُرم على الإصرار من غير توبة، كان مسلوب الإيمان مخلَّدًا في النار. وعند المعتزلة، من اقترف كبيرةً واحدةً وجب عليه العقاب. والخوارج تكفِّر من اقترف ذنبًا واحدًا (الغاية، ص٣٠٣). وعند جعفر وثمامة، كل من مات من أهل الإسلام والإيمان المحض والاجتهاد في العبادة، مُصرًّا على كبيرة ولو مرة واحدة في العمر، مخلَّدٌ بين أطباق النيران أبدًا مع فرعون وأبي لهب وأبي جهل (الفصل، ج٥، ص٣٧، ص٤٣). عند ابن عباس وابن عمر، يغفر الله لمن يشاء من أصحاب الكبائر ويعذِّب من يشاء منهم، إلا لقاتل عمدًا، فإنه مخلَّد في النار أبدًا (الفصل، ج٤، ص٦٩-٧٠). ويُشترَط في الصغائر الإصرار (الدر، ص١٧٣-١٧٤).
٧  وفي ذلك يتفق المعتزلة والأشاعرة. فالثواب حتمٌ على الله، والعقاب واجب على مُقترِف الكبيرة إذا لم يثب عنها (الإرشاد، ص٣٨١). وقد اختلفت المعتزلة في غفران الصغائر على ثلاثة أقاويل: (أ) إذا ما اجتُنبت الكبائر تفضلًا. (ب) إذا ما اجتُنبت الكبائر باستحقاق. (ﺟ) لا يغفر إلا بالتوبة (مقالات، ج١، ص٣٠٦؛ ج٢، ص١٥٠). أوجب المعتزلة والخوارج عقاب صاحب الكبيرة إذا مات بلا توبة، وحرَّموا عليه العفو، وإلا لزم الخلق على الله (شرح الدواني، ص١٩٣–٢٠٢). التأبيد للكافرين، أما أصحاب الذنوب من المسلمين إذا ماتوا قبل التوبة، منهم مَن يغفر الله له قبل تعذيب أهل العذاب، ومنهم من يعذِّبه في النار مدة، ثم يغفر له ويردُّه إلى الجنة برحمته (الأصول، ص٢٤٢–٢٤٤). إن كل من كفر فيجب على الله أن يُعاقِبه أبدًا ويُخلَّد في النار، بل كل من اقترف كبيرة ومات قبل التوبة يُخلَّد في النار (الاقتصاد، ص٩٦-٩٧).
٨  هذا هو موقف المرجئة في انقطاع الاستحقاق للعقاب دون الثواب وللوعيد دون الوعد، وحُجَج المرجئة رواياتٌ لم تثبت صحتها؛ أخبار آحاد لا تُورِث إلا الظن دون العلم، وهي مُعارَضة بأخبارٍ أخرى، إما تعلِّق العقاب بدوام السموات والأرض وهما منقطعتان، فذاك يدل على انقطاع العقاب والثواب معًا. وآية إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ فإنها ليست تفضلًا، أو تعلقًا بالمشيئة، أو إضافة المغفرة إلى البيان. وآية إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا لا تكون للكفرة والمؤمنين سواءً. وقوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ هذا عزاء على الظلم، ولا بد للتأويل وإدخال التوبة. وآية فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى في حاجة أيضًا إلى تأويل. أما آية وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ لا تسوِّي بين الكافر والفاسق (الخيالي، ص١٤٩؛ التفتازاني، ص١٤٩). اليأس من الله كفر، والأمن من الله كفر (النسفية، ص١٤٩). والخلاف أيضًا مع مقاتل بن سليمان وجماعة من الخراسانية والكرامية، يذهبون إلى عدم عقاب الفاسق ولا المشرك، ويدل على فساد مذهبهم العقل والشرع (الشرح، ص٦٤٩-٦٥٠). ويرفض القاضي عبد الجبار قول الخالدي بأن للطاعة مزية على المعصية، من حيث إن ما يُستحقُّ على الطاعة يجب فعله، ولا يجوز الإخلال به، وليس كذلك ما يُستحقُّ على المعصية، فإنه يجوز التفضل بإسقاطه وعفوه؛ فلهذا صح أن تردَّ طاعات الفاسق عقاب معاصيه من الدوام إلى الانقطاع. ويُرَد بأن هذه المزية ثابتة لسائر الطاعات على المعاصي (الشرح، ص٦٧٠–٢٧٢).
٩  قال الأصحاب: الناس في الآخرة ثلاثة أصناف: (أ) سابقون مقرَّبون يدخلون الجنة بلا حساب، مثل الأنبياء وأطفال المؤمنين والسقط، بالإضافة إلى ٧٠ ألفًا، كل واحد يشفع في ٧٠ ألفًا فيهم عثمان وعكاشة بن محصن! (ب) أصحاب اليمين كلهم مؤمنون، وصاحب الذنب من المسلمين، كلهم إلى الجنة. ومنهم من يُحاسَب حسابًا يسيرًا وعذابًا في مدة قصيرة، ثم يذهب إلى الجنة. (ﺟ) أصحاب الشمال كفرة، كلهم كذَّبوا بالقيامة والبعثة، وهم في النار (الأصول، ص٢٤٢–٢٤٤). عند بكر بن أخت عبد الواحد بن يزيد، طلحة والزبير كافران من أهل الجنة؛ لأنهما من أهل بدر، فأهل بدر وإن كفروا فمغفور لهم؛ لأنهم بخلاف غيرهم (الفصل، ج٤، ص٦٨).
١٠  عند الأشاعرة، العصاة من أهل الشهادة لا يُخلَّدون في النار أبدًا بدليل النقل القطعي (المسائل، ص٣٨١-٣٨٢). من كان مؤمنًا لا يُخلَّد في النار (الإنصاف، ص٥٣-٥٤). كما رفض ابن حزم القول بالتخليد، وبقول مَن قال بإسقاط الوعيد جملة، والصحيح لديه إجمال جواز المغفرة وجواز العقاب (الفصل، ج٤، ص٧٠–٧٤). وعند بعض المرجئة لا تضرُّ مع الإسلام سيئة، كما لا ينفع مع الكفر حسنة؛ فكل مسلم ولو بلغ على معصية فهو من أهل الجنة لا يرى نارًا، وإنما النار للكفار، ومن دخل النار فإنه مخلَّد فيها، ومن كان من أهل الجنة فإنه لا يدخل النار (الفصل، ج٤، ص٦٨). وعند بعض المرجئة لا يضرُّ مع الإيمان معصية، وأن الله لا يعذِّب الفاسقين (اعتقادات، ص٧٠). الخلود في النار للكفرة خلافًا للقدرية والخوارج بخلود كل من دخل فيها (الفِرَق، ص٣٤٨). ويقول بعض المرجئة من أصحاب بشر المريسي إنه مُحال أنه يخلِّد الله الفجار من أهل القبلة في النار، وإنهم يصيرون إلى الجنة إن أدخلهم الله النار لا محالة (ابن الراوندي) (مقالات، ج١، ص٢١١-٢١٢). وقال صنفٌ من أهل السنة بدوام نعيم أهل الجنة على أهلها، ودوام عذاب النار على الكفرة، والخلود في النار لا يكون إلا للكفرة (الفِرَق، ص٣٤٨). وعند الأصحاب، الله يخلِّد المؤمن الموفَّق للطاعات، ويعذِّب الكافر، وينقطع وعيد المؤمن (الطوالع، ١٢٣). عند أهل السنة، والحسين النجار وأصحابه، وبشر بن غياث المريسي، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن كيسان الأصم البصري، وغيلان بن مروان الدمشقي وأصحابه، ومحمد بن كرام وأصحابه، الكفار مخلَّدون في النار، والمؤمنون كلهم في الجنة وإن كانوا أصحاب كبائر ماتوا مُصرِّين عليها. وهم طائفتان: طائفة تدخل النار ثم تخرج منها إلى الجنة، وطائفة لا تدخل النار أصلًا. لله أن يعذِّب من شاء من المؤمنين أصحاب الكبائر ثم يُدخِلهم الجنة، وله أن يغفر لهم ويُدخِلهم الجنة دون أن يعذِّبهم (الفصل، ج٤، ص٦٨). والذين سلَّموا بأن الفاسق من أهل الصلاة يدخل النار اختلفوا؛ فقال أهل السنة إن الله يعفو عن البعض، والذين يُدخِلهم النار لا بد وأن يُخرِجهم منها. وقالت المعتزلة عذاب الفاسق مؤبَّد (المعالم، ص١٣٩–١٤٣). وعند أهل السنة والاستقامة أن الله يُخرِج أهل القبلة الموحِّدين من النار ولا يخلِّدهم فيها (مقالات، ج١، ص١٤٨). غير الكفار من العصاة ومُرتكِبي الكبائر لا يُخلَّد في النار، ولكنه يدخل النار (المواقف، ص٣٧٨-٣٧٩). وعيد الكبائر عند الأشاعرة منقطِع خلافًا للمعتزلة، والدليل على ذلك: (أ) إما أن يدخل صاحب الكبيرة الجنة بإيمانه ثم يدخل النار وهو باطل، أو لا يدخل أحدهما وهو باطل، أو يدخل النار بكبيرته ثم الجنة بإيمانه وهو الحق. (ب) إن فعل الكبيرة فالاستحقاق إما أن يبقى أو لا؛ فإن بقي وجب اتصال الثواب؛ وبالتالي الانتقال من النار إلى الجنة، وإن لم يبقَ فهو مُحال؛ لأن انتفاء الباقي لطريان الحادث ليس بأولى من اندفاع الحادث لوجود الباقي، ولو كانا ضدَّين لزم الدَّور، ولأن قانون الكم يقتضي عشرة أنصبة ثواب في مُقابِل خمسة أنصبة عقاب، ويسبِّب الإحباط والتكفير (المحصل، ص١٧٢-١٧٣).
١١  يقول بعض الأشاعرة إن المؤمن لا تضرُّه أو لا يدخل النار أو يُخلَّد فيها وإن كان فاسقًا بعد أن يخرج من الدنيا مؤمنًا. لا نقول حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة كقول المرجئة، ولكن مَن عمل حسنة بشرائطها فإن الله يقبَلها منه ويُثيبه عليها، وما كان من السيئات دون الشرك والكفر ولم يتُب عنها حتى مات، فهو لمشيئة الله؛ إن شاء عذَّب، وإن شاء عفا (الفقه، ص١٨٦). ندين بأنه لا نُنزِل أحدًا من أهل التوحيد والمتمسِّكين بالإيمان من جنة ولا نار إلا من شهد له الرسول بالجنة، ونرجو الجنة للمُذنِبين، ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذَّبين (الإبانة، ص١٠). وعند الأشعري، صاحب الكبيرة إذا خرج من الدنيا من غير توبة يكون حكمه إلى الله؛ إما أن يغفر له برحمته، وإما أن يشفع فيه النبي؛ لقوله: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.» وإما أن يعذِّبه بمقدار جرمه، ثم يُدخِله الجنة برحمته. ولا يجوز أن يُخلَّد في النار؛ لما ورد به السمع بإخراج كل من في قلبه ذرة إيمان من النار. ولو تاب قد يقبَل الله توبته لا عقلًا بل سمعًا، فلو أدخل الله الخلائق جميعًا الجنة لم يكن حيفًا، ولو أدخلهم النار لم يكن جورًا؛ لأنه المالك يتصرف فيما يشاء (المِلَل، ج١، ص١٥٣-١٥٤). مذهب أهل السنة والجماعة: سيعفو الله عن بعض الفساق دون القطع على شخصٍ معيَّن (اعتقادات، ص٧١). مَن مات مُصرًّا على المعصية فلا يُقطَع العقاب، بل أمره مفوَّض إلى ربه؛ فإن عاقب فبعدله، وإن تجاوز عنه فبفضله، وليس ذلك يقبح عقلًا ولا شرعًا. وهذا مذهب البصريين وبعض البغداديين (الإرشاد، ص٣٩٢-٣٩٣). عند المرجئة الأوائل، يجوز لله أن يعفو عن الفاسق ويجوز أن يُعاقِب، وهو رأيٌ فاسد عقلًا وشرعًا (الشرح، ص٦٥–٣٦٣). ويقولون إن أهل النار يكونون في النار بلا عذاب، والفرق بينهم وبين أهل الجنة هو أن هؤلاء يستمتعون (شرح الفقه، ص٦٥). والمرجئة أتباع ثوبان (الثوبانية) يقولون إن العصاة يلحقهم على الصراط شيء من حرارة جهنم، ولكنهم لا يدخلون النار (اعتقادات، ص٧٠-٧١). وتقول الخالدية أتباع خالد إن الله يُدخِل العصاة نار جهنم، لكنه لا يتركهم فيها، بل يُخرِجهم ويُدخِلهم الجنة (اعتقادات، ص٧١). وما اتفق عليه الأشاعرة بوجهٍ عام في العقائد المتأخِّرة أن المسلمين لا يُعذَّبون، كل فوج يدخل النار ويخرج منها؛ لأنه يؤمن بالله (المعالم، ص٢٣٨-٢٣٩). والله لا يغفر أن يُشرَك به، ويغفر لنا دون ذلك لمن يشاء من الصغائر والكبائر (النسفية، ص١٢؛ شرح التفتازاني، ص١٢٠-١٢١؛ حاشية الإسفراييني، ص١٢٠-١٢١). ويجوز العقاب على الصغيرة والعفو عن الكبيرة إذا لم تكن عن استحلال، والاستحلال كفر (النسفية، ص١٢١-١٢٢). لا يُخلَّد المسلم صاحب الكبيرة في النار، بل يخرج آخرًا إلى الجنة (العضدية، ج٢، ص٢٦٩؛ شرح الدواني، ج٢، ص٢٦٩). أهل الكبائر من المؤمنين لا يُخلَّدون في النار (النسفية، ص١٢٣). وقد عُبِّر عن ذلك أيضًا شعرًا:
إذ جائزٌ غفران غير الكفرِ
فلا تكفِّر مؤمنًا بالوزرِ
ومن يمُت ولم يتُب من ذنبه
فأمرُه مفوَّض إلى ربه
وواجبٌ تعذيبُ بعضٍ ارتكبْ
كبيرة ثم الخلود مجتنَبْ
(الجوهرة، ج٢، ص٨٨–٩٠؛ التحفة، ص٨٩-٩٠؛ الإتحاف، ص١٥١؛ الأصول، ص١٩٧–١٩٩؛ الإرشاد، ص٣٨٩).
١٢  هذا هو أيضًا موقف المرجئة بوجهٍ عام؛ فقد اختلفت المرجئة في الأخبار إذا وردت مِن قِبل الله، وظاهرها ظاهر العموم على سبع فِرق: (أ) إذا جاء الخبر من الله أن يعذِّب القائلين والآكلين أموال اليتامى ظلمًا وأشباههم من أهل الكبائر وقفنا في عذابهم، فجائزٌ أن يُخبِر الحكيم الصادق بالخير ثم يستثني منه، فيكون له أن يفعل وألا يفعل الاستثناء ويكون صادقًا. وإن هو لم يفعل لا يكون مُستنكَرًا في اللغة ولا كذبًا، وهؤلاء هم الذين يزعمون أن الاستثناء ظاهرة. (ب) الوعد ليس فيه استثناء، والوعيد فيه استثناءٌ مُضمَر، وذلك جائز في اللغة عند أهلها؛ لأن الرجل قد يُوعِد عبده أن يضربه ثم يعفو عنه. (ﺟ) الأخبار إذا جاءت ومَخرجها عام، فسمِعها السامع وكان الخبر وعدًا أو وعيدًا، ولم يسمع القرآن كله، والأخبار المجتمع عليها كلها؛ فالخبر عام، ويجوز أن يكون خلاف ذلك. إذا انفرد الوعد وانفرد الوعيد، فكلٌّ منهما عام. وإذا لم ينفردا فأحدهما مُستثنًى من الآخَر، فلا يجتمعان في رجلٍ واحد؛ لأن ذلك تناقُض. (د) عند محمد بن شبيب أجازت اللغة الخبر العام، وقد تكون آية الوعيد خاصة في بعض أهل الطباق من القاتلين والقاذفين وأكلة أموال الأيتام، ولا يجوز أن يعفو عن جرم، ويعفو عما هو أعظم جرمًا. (ﻫ) ليس في أهل الصلاة وعيد، وإنما الوعيد في المشركين. الوعد من الله واجب للمؤمنين، والله لا يُخلِف وعده، والعفو أولى بالله والوعد لهم. لا ينفع من الشرك محل، ولا يضرُّ مع الإيمان معصية، ولا يدخل أحد من القبلة في النار. وطبقًا لعلماء اللغة من أخبر الله أنه يُثيبه أثابه، ومن أخبر أنه يُعاقِبه من أهل القبلة لم يُعاقِبه ولم يعذِّبه كرمًا منه. وكانت العرب تمدح إنجاز الوعد والعفو عما توعَّدت عليه؛ فخلاف الوعيد حسن عند العرب. قال أبو عمر بن العلاء: قالت العرب إن الكريم إذا أوعد عفا، وإذا وعد أوفى؛ فهذا من الكرم، وليس من الخُلق المذموم:
وإني وإن أوعدته أو وعدته
لمُخلِفٌ إيعادي ومُنجِزٌ موعدي
(ز) القرآن على الخصوص إلا ما أجمعوا على عمومه، وكذلك الأمر والنهي (الفصل، ج٤، ص٧٦-٧٧؛ الفِرَق، ص٣٦٤-٣٦٥). كما اختلفت المرجئة في الأمر والنهي؛ هل هما على العموم؟ على مقالتَين: (أ) على الخصوص حتى تأتي دلالة العموم. (ب) على العموم إلا ما خصَّته دلالة (مقالات، ج١، ص٢١٠). وعند زهير الأثري هما على الاستثناء مثل المرجئة (مقالات، ج١، ص٣٢٦). إذا تعارضت الآيات في الوعد والوعيد خصَّصنا آيات الوعيد بآيات الوعد أو جمعنا بينهما، فيُعذَّب العاصي مدة ثم يُغفَر له ويدخل الجنة. لا يُقال فاسق على الإطلاق، بل فسق (الأصول، ص٢٤٢-٢٤٣). الآيات مخصوصاتٌ عموماتها (النهاية، ص٤٧٦-٤٧٧). لا تخصيص في آيات الوعيد؛ إذ لا شبهة في آيات الوعد بدخول المؤمنين في الجنة (حاشية الكلنبوي، ص١٩٧). هي مقيَّدة بشروطٍ شرطها الله، وتقارير في علمه وإرادته (حاشية المرجاني، ص٢٠٠). التركيز على ألفاظ الخصوص (اللمع، ص١٢٧–١٣١).
١٣  عند محمد بن شبيب ويونس والناشئ، إن عذَّب الله واحدًا من أصحاب الكبائر عذَّب جميعهم ولا بد، ثم أدخلهم الجنة، وإن غفر لسواه غفر لجميعهم ولا بد. وعند طائفة أخرى، يعذِّب من يشاء، ويغفر لمن يشاء، وإن كانت ذنوبهم كثيرة مستوية، وقد يغفر لمن هو أعظم جرمًا، ويعذِّب من هو أقل جرمًا (الفصل، ج٤، ص٦٨–٧٠). وعند المرجئة أصحاب أبي شمر ومحمد بن شبيب، جائزٌ أن يُدخِلهم الله النار، وجائزٌ أن يخلِّدهم فيها إن أدخلهم، وجائزٌ ألا يخلِّدهم. وقال أصحاب غيلان: جائزٌ أن يعذِّبهم الله، وجائزٌ أن يعفو عنهم، وجائزٌ ألا يخلِّدهم. فإن عذَّب أحدًا عذَّب من ارتكب مثل ما ارتكبه، وكذلك إن خلَّده، وإن عفا عن أحد عفا عن كل من كان مثله. وقال البعض من المرجئة: جائزٌ أن يعذِّبهم، وجائزٌ ألا يعذِّبهم، وجائزٌ أن يخلِّدهم ولا يخلِّدهم، وأن يعذِّب واحدًا ويعفو عمَّن كان مثله. كل ذلك لله أن يفعله! (مقالات، ج١، ص٢١١-٢١٢). واختلفت المعتزلة: هل يجوز في العقل أن يغفر الله لعبده ذنبًا ويعذِّب غيره على مثله؟ أجازه الجبائي، وذمَّه أكثرهم (مقالات، ج١، ص٣٠٩).
١٤  عند أبي مروان، وغيلان الدمشقي، وأبي شمر، ويونس بن عمران، والفضل الرقاشي، ومحمد بن شبيب، والعتابي، وصالح قبة، لو عفا الله عن عاصٍ في القيامة عفا عن كلِّ مؤمنٍ عاصٍ هو في مثل حاله، وإن أخرج من النار واحدًا أخرج من هو في مثل حاله. ومن العجيب أنهم لم يجزموا بأن المؤمنين من أهل التوحيد يخرجون لا محالة من النار. وعند مقاتل بن سليمان، المعصية لا تضرُّ صاحب التوحيد والإيمان، وأنه لا يدخل النار مؤمن. وعند بشر المريسي، إن أُدخِل أصحاب الكبائر النار فإنهم سيخرجون عنها بعد أن عُذِّبوا بذنوبهم، وأما التخليد فمُحال وليس بعدل (المِلَل، ج٢، ص٦٣-٦٤). وجملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة أنهم لا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحِّدين؛ إن شاء عذَّبهم وإن شاء غفر لهم. والله يُخرِج قومًا من الموحِّدين من النار (مقالات، ج١، ص٣١٢). كان أصحاب الرسول يقولون: لا يُنزَل أحد من أهل التوحيد جنةً ولا نارًا (الرد والتنبيه، ص١٥). الكفار لا ينفعهم إحسان مع الكفر، ولا يخرجون من النار، والموحِّد لا تضرُّه سيئة مع إثبات التوحيد، ولا يُخلَّد في النار (الإنصاف، ص٥٤). وعند ابن حزم، مَن لقي مسلمًا تائبًا عن كل كبير، أو لم يكن عمل كبيرة قط، فسيئاته كلها مغفورة، وهو من أهل الجنة لا يدخل النار، ولو بلغت سيئاته ما شاء الله أن يبلغ (الفصل، ج٤، ص٦٩).
١٥  هذا هو موقف المعتزلة؛ فعند واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، المُحكَمات ما أعلم اللهُ من عقابه للفساق وما أشبه ذلك من آيات الوعيد، والمُتشابِهات ما أخفى الله عن العباد عقابه عليها، ولم يبيِّن أنه يعذِّب عليها كما بيَّن في المُحكَم (مقالات، ج١، ص٢٦٩؛ الأصول، ص٢٢١-٢٢٢). وأجمعت المعتزلة القائلون بالوعيد أن الأخبار إذا جاءت من عند الله ومخرجها عام فليس بجائز إلا أن تكون عامة في جميع أهل الصنف الذي جاء فيهم الخبر من مستحِلِّهم ومحرِّمهم. وقالوا إنه لا يجوز أن يكون الخبر خاصًّا أو مستثنًى منه، والخبر ظاهر الإخبار، والاستثناء والخصوصية ليسا بظاهرَين. لا يجوز أن يكون الخبر خاصًّا وقد جاء عامًّا إلا ومع الخبر ما يخصِّصه، أو تكون خصوصية في العقل. ولا يجوز أن يكون خاصًّا ثم تجيء الخصوصية بعد الخبر (مقالات، ج١، ص٣٠٩-٣١٠). ويدافع المعتزلة عن العموم ضد الاستثتاء والتخصيص باعتبارهما إخراجًا للكلام عن معناه. وألفاظ العموم مثل: «من» (الشرح، ص٦٥١–٦٦٠). والمخالفة تقتضي إما في أصل الوعيد أو أن الله يخلق وعيده؛ وبالتالي يجوز في الوعد (الشرح، ص١٣٦-١٣٧). واختلف المعتزلة إذا سمع السامع الخبر وظاهره العموم وليس في العقل ما يخصِّصه على مقالتَين: (أ) أن يقِف في عمومه حتى يتصفح القرآن والإجماع والأخبار، فإن لم يجد قضى بعمومه (النظَّام). (ب) الإبقاء على العموم في جميع ما يلزم الاسم اعتمادًا على اللغة، فلو كانت خاصة للزِم نزول خصوصها معها (مقالات، ج١، ص٣١٠). ويشارك بعض أهل السنة في عموميات الوعيد من حيث المبدأ، والدليل عموم آيات الوعد والوعيد والأحاديث (حاشية الكلنبوي، ص١٩٤؛ شرح التفتازاني، ص١٠٣). ويرفض بعض أهل السنة خصوص الآيات، ويقولون بالعموم مثل المعتزلة؛ فعند الخلخالي أن هذا القول في غاية الفساد؛ لأن الوعيد قِسم مِن أقسام الخبر، فإذا جُوِّز على الله الخلق فيه فقد جُوِّز الكذب على الله. وهذا خطأٌ عظيم، بل يقرب أن يكون كفرًا؛ فإن العقلاء أجمعوا على أنه تعالى منزَّه عن الكذب، ولأنه إذا جاز عليه الخُلف في الوعيد كرمًا فلِمَ لا يجوز الخُلف في وعيد الكفار والقصص والأخبار لغرض المصلحة؟ ومعلومٌ أن فتح هذا الباب يقضي إلى الطعن في القرآن وكل شريعة (حاشية الخلخالي، ص١٩٨).
١٦  القول بأنها إنشاءات وترغيب خروج عن السبيل، ورَوم لتحريف الكلم عن مواضعه، وأي ضرر في أن تعتقد أن الحق صادق فيما أخبر به، وأنه لا محالة واقع لما أنه قد علمه فأخبر به (حاشية محمد عبده، ص١٧٧). من الناس من قال إن الوعيد للتخويف دون فعل الإيلام؛ لوجوه: (أ) العقاب جزءٌ خالٍ من النفع، فيكون قبيحًا. (ب) يقول الإنسان يوم القيامة: إن كانت التكليفات التي عصيت فيها خالية من الحكمة، والغرض كان التعذيب على تركها، لا يليق بالرحمة، وإن اشتملت على الحكمة والغرض العائد إلى الله فهو محتاج إلى الإنسان، وإن عادت المنفعة إلى الإنسان فإن التقصير في حق الإنسان، ولا يليق بالحكم تعذيب من قصَّر في حق نفسه. (ﺟ) كل أفعال العباد من مُوجِبات أفعال الله، فكيف يحسن التعذيب؟ وهي حجة الجبرية (المعالم، ص١٣٦–١٣٨). وقد شارك الرازي المعتزلة في أن الله واجب الصدق وممتنع الكذب في الوعد والوعيد، وفساد القول بأن خلف الوعيد مدح لله، فجواز الخُلف تجويز للكذب في كل شيء (المسائل الخمسون، ص٣٧٨).
١٧  وقنَّطوا الناس من رحمة الله، وآيسوهم من رَوحه، وحكموا على العصاة بالنار والخلود فيها (اللمع، ص٧-٨). شدة الوعيد في القنوط (الكتاب، ص١١٠).
١٨  يضع أهل السنة خصومهم من القدرية والخوارج في النار مع الكفار مخلَّدين في النار، وكذلك تفعل باقي الفِرق مع خصومهم؛ فقد اختلفت المعتزلة بأي شيء يُعلَم أهل الكبائر على ثلاثة أقاويل: (أ) بالتنزيل. (ب) بالتأويل. (ﺟ) من قِبل أن أهل الفسوق مستحقون عند أهل الصلاة؛ أي أعداء الله؛ أي من أهل النار (مقالات، ج١، ص٣١٠-٣١١). وأجاز الشبيب والخالدي من القدرية المغفرة لأهل الكبائر في موافقهم (الأصول، ص٢٤٢–٢٤٤). وقال الخوارج إن مخالفيهم كفرة في النار، كما أن أصحاب الذنوب من موافقيهم كفرة في النار. وتُثبِت فِرقة من الروافض الوعيد على مخالفيهم، ويقولون إنهم يُعذَّبون، ولا يقولون بإثبات الوعيد فيمن قال بقولهم، ويزعمون أن الله يُدخِلهم الجنة، وإن أدخلهم النار أخرجهم منها. ورووا في ذلك عن أئمتهم أن ما كان بين الله وبين الشيعة من المعاصي سألوا الله منهم فصفح عنهم، وما كان من الشيعة وبين الأئمة تجاوزوا فيه، وما كان بين الشيعة وبين الناس من المظالم شفعوا إليهم حتى يصفحوا عنهم (مقالات، ج١، ص١٢٠).
١٩  ما يؤثِّر في إسقاط الثواب والعقاب. اعلم أن الثواب يسقط بوجهَين؛ أحدهما بالندم على ما أتى به من الطاعات، والثاني بمعصيةٍ هي أعظم منه، ولا ثالث لهذَين الوجهين؛ إذ لا يسقط الثواب بإسقاط الله البتة. أما العقاب المستحَقُّ من جهة الله فإنه يسقط بالندم على ما فعله من المعصية، أو بطاعةٍ هي أعظم منه (الشرح، ص٦٤٢–٦٤٤). لا يجبُّ العقاب عند الأكثرين. وجوب الثواب؛ لأن الثواب لا يجوز حبطه، والعقاب يجوز إسقاطه عند البصريين وطوائف من البغداديين، ولكن المعنى بكونه مستحَقًّا عندهم أن يحسن لوقوعه مستحقًّا، ولو لم يكن كذلك لما حسن العقاب على التأبيد (الإرشاد، ص٣٨١).
٢٠  عند الأشاعرة، يجوز العفو عن الصغائر والكبائر بلا توبة (العضدية، ج٢، ص٢٧٠). والمراد بالعفو ترك عقوبة المُجرِم، والستر عليه بعدم المؤاخذة (شرح الدواني، ج٢، ص٢٧٠). في أن الله يعفو عن الكبائر (المواقف، ص٣٨٠). وعند محمد بن شبيب البصري، والصالحي، والخالدي من شيوخ المعتزلة وهم واقفية في وعيد مرتكب الكبائر، يجوز من الله مغفرة ذنوبهم من غير توبة (الفِرَق، ص١١٦). والعفو يتحقق بترك العقاب المستحَق؛ فقد أمر الله النبي بالاستغفار لذنوب المؤمنين، وهو غير عام في الأعيان ولا في الأزمان (الطوالع، ص٢٥). والبخارية وأهل السنة متَّفِقان في أبواب الوعيد، وجواز المغفرة لأهل الذنوب، وفي أكثر أبواب التعديل والتجوير (الفِرَق، ص٢٠٨). أما عند باقي المعتزلة فإذا كان العفو عن الصغائر قبل التوبة فإن العفو عن الكبائر بعدها (المواقف، ص٣٨؛ الطوالع، ص٢٢٥). وعند البغداديين، لا يحسن من الله إسقاط العقاب، بل يجب عليه أن يُعاقِب المستحِقَّ للعقوبة لا محالة (الشرح، ص٦٤٤). وقد أوجبت البغدادية على الله أن يفعل بالعصاة ما يستحقُّونه لا محالة، وقالت لا يجوز أن يعفو عنهم. فصار العقاب عندهم أعلى حالًا في الوجوب من الثواب؛ فإن الثواب لا يجب إلا من حيث الجود، وليس هذا في العقاب، فإنه يجب فعله بكل حال (الشرح، ص٤٦٤–٤٦٧). وشبهة البغداديين أن العقاب لطف من الله، واللطف مفعول بالمكلَّف؛ إذن العقاب واجب. وعند القاضي عبد الجبار، يحسن من الله أن يعفو عن العصاة وألا يُعاقِبهم، غير أنه أخبرنا أنه يفعل بهم ما يستحقُّونه (الشرح، ص٦٤٤).
٢١  اختلفت المرجئة في عفو الله عمَّا بينه وبين العباد من مظالم على مقالتَين: (أ) ما كان من مظالم العباد فإنما العفو من الله عنهم وفي يوم القيامة إذا جمع الله بينه وبين خصمه، أن يعوِّض المظلوم بعِوض، فيهبُ لظالمه الجرم فيغفر له. (ب) العفو عن جميع المُذنِبين في الدنيا جائز في العقول؛ ما كان بينهم وبين الله، وما كان بينهم وبين العباد (مقالات، ج١، ص٢١٤).
٢٢  وذلك عند المعتزلة والخوارج، ورفض ابن حزم لذلك؛ فالسيئة لا تُحبِط الحسنة، والإيمان لا يُسقِط الكبائر (الفصل، ج٤، ص٧٠–٧٣). الأعمال لا يُحبِطها إلا الشرك أو الموت (الأصول، ص٤٤). كما رفض الشهرستاني قانون الإحباط ضد المرجئة والوعيدية؛ فالقول بأن المعاصي تُحبِط الطاعات ليس بأولى من أن الطاعات ترفع المعاصي.
٢٣  بنى المعتزلة الإحباط على استحقاق العقاب ومنافاته للثواب؛ إحباط الطاعات بالمعاصي (المواقف، ص٣٧٦–٣٨٠؛ الفصل، ج٤، ص٦٩-٧٠). واتفقت معتزلة البصرة وبغداد على وجوب إحباط الطاعات بالفسوق وقبول التوبة (الإرشاد، ص٢٨٩؛ الأصول، ص٢٤٢–٢٤٤). يثبت الثواب بطريقة الكثرة، حتى ولو كان العقاب أكبر لحبِط به الثواب، ولو تساويا سقطا جميعًا (الشرح، ص٢٧٠–٢٧٢).
٢٤  تلك حجة الشيخَين أبي علي وأبي هاشم، ولا يختلفان إلا في كيفية الوجوب سمعًا وعقلًا أو سمعًا فقط (الشرح، ص٦٢٥-٦٢٦).
٢٥  سوَّى أبو علي بينهما، بينما فرَّقهما أبو هاشم؛ فالثواب يُحبَط بالعقاب؛ لأنهما يُستحقَّان على الدوام، وإن كان الأول على سبيل التعظيم والإجلال، والثاني على سبيل الاستحقاق والاتكال. وهذا غير ثابت في العِوض مع العقاب؛ فالعوض لا يُستحقُّ دائمًا، وليس مستحقًّا على سبيل التعظيم والإجلال. والعِوض والعقاب كلاهما يُستحقَّان من الله إن شاء الله، وفرع على ما يُستحقُّ من العِوض في الدنيا، وإن شاء في عرصات القيامة، إن شاء جعله تخفيفًا من عقابه (الشرح، ص٦٢٦-٦٢٧). الإحباط والتكفير يُقدَّمان في الطاعة والمعصية عند أبي علي، وفي الثواب والعقاب عند أبي هاشم. وعند هشام بن عمرو والفوطي وعباد، من اطلع الله جميع عمره، وقد علِم أنه يأتي بما يُحبِط أعماله ولو بكبيرة، لم يكن مستحقًّا للوعد، وكذلك على العكس (المِلَل، ج١، ص١٠٩-١١٠).
٢٦  يتفق الخوارج مع المعتزلة في قانون الإحباط؛ فمَن قارف ذنبًا واحدًا ولم يُوفَّق للتوبة حبِط عمله، ومات مُستوجِبًا للخلود في العذاب الأليم (الإرشاد، ص٣٨٥). قال جمهور المعتزلة: معصيةٌ واحدةٌ تُحبِط جميع الطاعات، حتى إن مَن عبد الله طول عمره ثم شرب جرعة خمر فهو كمن لم يعبده أبدًا! أما أبو هاشم فيُوازِن بين الطاعات والمعاصي؛ فأيهما أرجح أحبط الآخر (المواقف، ص٣٧٩-٣٨٠). وكانت الإسماعيلية تقول بإحباط الحسنات مع السيئات (التنبيه، ص٣٢). وذهب المعتزلة إلى أن الكبيرة الواحدة تُحبِط ثواب الطاعات وإن كثرت؛ نظرًا لإحباط الكبيرة لثواب الطاعات. وعند الجبائي وابنه، الزلَّات تُحبِط ثواب الطاعات إذا أربت عليها، وإن أربت الطاعات درأت السيئات وأحبطتها. لا ينظرون إلى أعداد الطاعات والزلات، وإنما إلى مقادير الأجور والأقدار؛ فرُبَّ كبيرة يغلب وزرها أجر طاعات كثيرة العدد. ولا مانع أن يتساءل المعتزلة: هل يبلغ ثواب الطاعات حدًّا يصير عقاب الكبيرة مكفِّرًا في جزيها؟ هل يبلغ أحدنا ثواب بعض الأنبياء؟ (الشرح، ص٨٠٠-٨٠١).
٢٧  اختلفت المرجئة في الموازنة على مقالتَين: (أ) عند مقاتل بن سليمان، الإيمان يُحبِط عقاب الفسق لأنه أوزن منه، وأن الله لا يعذِّب موحِّدًا. (ب) عند أبي معاذ، يجوز عذاب الموحِّدين، وأن الله يُوازِن حسناتهم بسيئاتهم، فإن رجحت حسناتهم أدخلهم الجنة، وإن رجحت سيئاتهم كان له أن يعذِّبهم وله أن يتفضل عليهم، وإن لم ترجح حسناتهم على سيئاتهم، ولا رجحت سيئاتهم على حسناتهم، تفضَّل عليهم بالجنة (مقالات، ج١، ص٢١٣). ويُنكِرها أبو علي، ويُثبِتها أبو هاشم. وصورته أن يأتي المكلَّف بطاعةٍ استحق عليها عشرة أجزاء من الثواب، وبمعصيةٍ استحق عليها عشرين جزءًا من العقاب. فعند أبي علي يحسن من الله أن يفعل به في كل وقت عشرين جزءًا من العقاب، ولا يثبت لما كان قد استحقه على الطاعة التي أتى بها تأثير بعدما ازداد عقابًا عليه. وعند أبي هاشم يقبح من الله ذلك، ولا يحسن منه أن يفعل به من العقاب إلا عشرة أجزاء، وتسقط العشرة الأولى بالثواب، وهو الصحيح. وحجة أبي علي استحقاق العقاب من الفاسق (الشرح، ص٦٢٨–٦٣٢).
٢٨  اتفقت المعتزلة على أنه لا يتساوى الثواب والعقاب وإلا تساقطا. عُرف ذلك عقلًا عند الجبائي، وإجماعًا عند أبي هاشم (الرد، ص٣٢). ومنع الجبائي تساوي الحسنات والسيئات، وكل ذلك لا يعلمه إلا الله (الإرشاد، ص٣٨٩-٣٩٠). وعند أبي علي وأبي هاشم، لا يستويان أبدًا. والخلاف هل يُعلَم ذلك عقلًا وسمعًا (أبو علي)، أو لا يُعلَم إلا سمعًا (أبو هاشم). فإذا تساوت الطاعات والمعاصي فإما أن يدخل النار وذلك ظلم، وإما أن يدخل الجنة ثوابًا وهو لا يستحق، أو تفضلًا كما يتفضل الله على الأطفال والمجانين والولدان المخلَّدين، وذلك لا يصح؛ ومِن ثَم لا تتساوى الطاعات والمعاصي. خالف بعض الصوفية والسادات، وقالوا بين الجنة والنار الأعراف. وذلك خرق للإجماع؛ فالأعراف في القرآن مواضع مُرتفِعة في الجنة (الشرح، ص٦٢٣-٦٢٤). المكلَّف لا يخلو إما أن تخلص طاعاته ومعاصيه، أو يكون قد جمع بينهما. حينئذٍ إما أن تتساوى طاعاته ومعاصيه، أو يزيد أحدهما على الآخر؛ فإنه لا بد من أن يسقط الأقل بالأكثر (الشرح، ص٦٢٤-٦٢٥). ولا يرفض ابن حزم الأعراف، ولكن يقبلها نقلًا؛ فقد صح عن الرسول أن محشر الناس من محشرهم إلى الجنة إنما هو بخوضهم وسط جهنم، فينجِّي الله أولياءه من حرِّها، وهم الذين لا كبائر لهم، أو لهم كبائر تابوا عنها، ورجحت حسناتهم بكبائرهم، أو تساوت كبائرهم وسيئاتهم بحسناتهم، وأن الله يمحص من رجحت كبائره وسيئاته بحسناته، ثم يُخرِجهم منها إلى الجنة بإيمانهم، ويمحق الكفار لتخليدهم في النار (الفصل، ج٤، ص٧٣–٧٦).
٢٩  ما يستحقُّ المرء على الكبيرة من العقاب يُحبِط ثواب طاعاته، وما يستحقُّه على الصغيرة مكفِّر في جنب ما له مع الثواب (الشرح، ص٦٣٢، ص٦٤٢–٦٤٤؛ الفصل، ج٤، ص٧٤–٧٦). واختلف العلماء في تكفير السيئات بالقربات؛ فالصغائر هي التي تكفِّرها القربات دون الكبائر، بشرط اجتناب الكبائر؛ لوجوه: (أ) الكبائر لا تُكفَّر إلا بعد التوبة. (ب) الكبائر تشمل حقوق العباد. (ﺟ) يلزم الفساد، وهو عدم خوف العباد من المعاد. (د) أسباب النزول تخصِّص الصغائر دون الكبائر (القول، ص٨٢–٨٤). واختلف القائلون بتكفير الصغائر فقط بالقربات؛ هل هو مشروط باجتناب الكبائر؟ وعند الباقلاني لا يغفر الله الصغائر باجتناب الكبائر (الفصل، ج٥، ص٦١). والمسألة سمعيةٌ محضة لا دخل للعقل فيها، والنصوص فيها مُتعارضةٌ مُتكافئة (القول، ص٨٤–٨٦).
٣٠  عند كثير من المرجئة وعباد بن سليمان الصيرمي، لا تزول العقوبة إلا بالتوبة، فأما كثرة الطاعات فلا تأثير لها في ذلك (الشرح، ص٦٢٥؛ الفصل، ج٤، ص٦٩).
٣١  الشرح، ص٧٨٩.
٣٢  التوبة اسم للفعل الذي يُزيل العقاب والذم المستحَقَّ على توبة منه (المغني؛ التوبة، ص٣١١؛ التحفة، ص٩٦-٩٧؛ الإتحاف، ص١٥١-١٥٢). التوبة في اللغة الرجوع والإنابة، وإذا أُضيفت إلى العبد أُريد بها الرجوع من الزلات إلى الندم عليها، وإذا أُضيفت إلى أفعال الله فاطراد رجوع نعمه وآلائه إلى عباده (الإرشاد، ص٤٠١). التوبة إذنْ الندم على معصية مع عزم ألا يعودوا إذا قدر عليها (المواقف، ص٣٨٠). التوبة في اللغة الرجوع إذا أُسند إلى الله؛ فالمراد الرجوع بالنعمة واللطف على العبد، وإذا وُصف بها العبد كان المراد الرجوع عن المعصية؛ وفي الشرع الندم على المعصية من حيث هي كذلك، والإقلاع عنها في الحال، والعزم على ألا يعود إليها إذا قدر عليها (شرح الدواني، ص٢٩٣-٢٩٤؛ الغاية، ص٣١٣-٣١٤). وهي تتضمن ثلاثة أشياء: (أ) الندم بالنسبة إلى ما صدر عنه في الماضي. (ب) تركه بالنسبة إلى الحال. (ﺟ) العزم على الترك بالنسبة إلى المستقبل (المعالم، ص١٤٩-١٥٠؛ المغني، ج١٤؛ التوبة، ص٣٨١–٣٨٤). والتوبة عند الفلاسفة اطلاع النفس على قبح الجسمانيات. فبعد الموت لا يحصل العذاب؛ بسبب العجز عن الوصول إليها (المعالم، ص١٥٠-١٥١).
٣٣  الشرط في صحة التوبة عن مظلمة هو الخروج منها؛ رد حقوق الناس، والإقلاع عن المعصية في الحال لا يكون بدون رد المظالم (حاشية الخلخالي، ج٢، ص٢٩٤-٢٩٥). وعند المعتزلة، يمكن التأخر؛ إذ تتعدد التوبة بتعدد الزمان، ولو أخَّرها لآخر لحظة، ولكن يتضاعف الذنب؛ الذنب الأول، وذنب التأخير في اللحظة الأولى ثم في اللحظة الثانية. التوبة من جميع المعاصي واجبة على الفور ولا يجوز تأخيرها، سواء كانت المعاصي صغيرة أم كبيرة (التحفة، ج٢، ص٩٦؛ الإتحاف، ص١٥١؛ الوسيلة، ص٨١-٨٢). وقد قيل شعرًا في العقائد المتأخِّرة:
توبة الشخص من الذنوبِ
جميعها فورية الوجوبِ
ولا يجوز تأخيرها عند الأشعري وإمام الحرمين (القول، ص٨٠-٨١).
٣٤  تنقسم التوبة إلى ما يتعلق بحق الله على التمحص، ومنها ما يتعلق بحق الآدميين. الأول يصح مراعاة غيره، والثاني منه ما لا يصح دون الخروج على حق الآدميين، ومنه ما يصح دونه، وهو كل ما يُتصوَّر منه الندم مع دوام وجوب حق الآدميين (الإرشاد، ص٤٠٤–٤١٥؛ الشرح، ص٧٩٨-٧٩٩).
٣٥  في العُرف الندمُ على ما وقع به التفريط من الحقوق (الغاية، ص٣١٣-٣١٤). في أن الندم لا يكون توبة دون أن يتلق بالقبيح على وجهٍ مخصوص (المغني، ج١٤؛ التوبة، ص٣٥٠–٣٦٩؛ الإرشاد، ص٤٥٧–٤٥٨، ص٣٩١؛ الشرح، ص٧٩٨).
٣٦  الاعتذار اسم لما يُزيل الذم المستحَقَّ بالإساءة إلى من هو اعتذر إليه، وهو من جنس التوبة وإن اختلف الاسم، ولهما الحكم نفسه (المغني، ج١٤؛ التوبة، ص٣١١). في وجوب الاعتذار وبيان وجوبه، في صفة الاعتذار المُزيل للندم، في تحديد ما يلزم منه الاعتذار مما لا يلزم ذلك فيه (المقتدر دونما عداه) (التوبة، ص٣١٢–٣٣٤).
٣٧  صورتها (التوبة) أن يندم على القبيح، ويعزم على ألا يعود إلى مثله (الشرح، ص٧٨٩؛ الغاية، ص٣١٣-٣١٤؛ التوبة، ص٤٣٨). في أن الندم وحده لا يكون توبة (التوبة، ص٣٤٤–٣٤٩؛ الشرح، ص٧٩١–٧٩٤). في أن العزم المقترِن بالندم في التوبة يجب أن يتعلق بحسب تعلقه (التوبة، ص٣٧٠-٣٧١). في أن التوبة هي الندم والعزوف دونما عداهما (التوبة، ص٣٧١–٣٧٣، ص٤٢٩–٤٣٤؛ الإرشاد، ص٤٠١–٤٠٣؛ المواقف، ص٣٨٠–٣٨٢). فإن رُوي «الندم توبة» قيل إن من حق السمع أن يرتِّب على ما يدل عليه العقل. فإذا ثبت وجوب مقارنة العزم المخصوص للندم في كونه توبة، فالواجب أن يُحمَل الخبر على ما يوافقه. وإنما أراد إن صح الخبر أنه لا بد من الندم في التوبة، ليس أنه بانفراده يكون توبة (التوبة، ص٣٤٦).
٣٨  من تاب وصحَّت توبته ثم عاود الذنب، فالتوبة الماضية صحيحة (الإرشاد، ص٤٠٩؛ الفصل، ج٤، ص٨٣-٨٤). يجب تجديد التوبة (التحفة، ص٩٧؛ الدردير، ص٧٨-٧٩). وقد اختلفت المعتزلة في التائب يتوب من الذنب ثم يعود إليه؛ هل يؤخذ به؟ على مقالَين: (أ) يُؤخَذ بالذنب الذي تاب منه إذا عاد إليه. (ب) لا يُؤخَذ بما سلف لأنه قد تاب. وعند بشر بن المعتمر، قد يؤخِّر الله للإنسان ذنوبه، ثم يعود فيما غفر له، فيعذِّبه عليه إذا عاد إلى معصية (الفِرَق، ص١٥٨). وعند أبي هاشم الجبائي، لا تصحُّ التوبة عن ذنب مع الإصرار على قبيح آخر يعلمه قبيحًا أو يعتقده قبيحًا وإن كان حسنًا (الفِرَق، ص١٩٠-١٩١). لا تُقبَل توبة أحد من ذنبٍ عمِله حتى يتوب عن جميع الذنوب (الفصل، ج٥، ص٤٣). فإذا كانت بعض المعتزلة تنتقص التوبة الأولى بعودة الذنب، فمِن شرط التوبة عدم العودة إلى الذنب، فعند الصوفية معاودة الذنب بعد التوبة أقبح من سبعين ذنبًا بلا توبة، ص٩٧.
٣٩  دفع المضار واجب؛ فإذا استحقَّ المكلَّف عقابًا على فعل، فالواجب إزالته بالتوبة (التوبة، ص٣٣٥–٣٣٧). اختلفوا في وجوب التوبة؛ فالتوبة عن المعاصي فريضة، وأنكر ذلك آخرون (مقالات، ج٢، ص١٥١). التوبة واجبة للعقلاء؛ لأنها حكمٌ شرعي، بل إجماع (الإرشاد، ص٤٠٤). وكذاك تجب سمعًا عند أبي هاشم. أما عند أبي علي فتجب عقلًا وسمعًا (الشرح، ص٧٨٩؛ العضدية، ج٢، ص٢٩٣-٢٩٤).
٤٠  اختلفت المرجئة في غفران الكبائر بالتوبة؛ هل هو تفضل أم لا؟ على مقالتَين: الأولى عن تفضل لا عن استحقاق، والثانية عن استحقاق لا عن تفضل (مقالات، ج١، ص٢١٢-٢١٣). عند الأشاعرة مقبولة سمعًا، وعند المعتزلة عقلًا. مقبولة قطعًا نقلًا فلا يجب على الله شيء، وعند المعتزلة عقلًا (المعالم، ص١٥٠-١٥١). التوبة مقبولة لطفًا ورحمة وإحسانًا من الله (العضدية، ج٢، ص٢٩٣-٢٩٤). لا يجب على الله قبول التوبة عقلًا، وعند المعتزلة وجوب قبول التوبة على الله حتمًا (الإرشاد، ص٤٠٣-٤٠٤؛ المواقف، ص٣٨١). عند أهل السنة لا يجب قبولها على الله، وعند المعتزلة يجب قبولها عقلًا، وعند إمام الحرمين يجب قبولها سمعًا ووعدًا لكن بدليلٍ ظني، وعند الأشعري بدليل قطعي. ويدل الإجماع على أنها مقبولة بالسمع؛ لوجود النص المتواتر (القول، ص٨٢؛ التحفة، ج٢، ص٩٧-٩٨؛ الإتحاف، ص١٥٢). والأصل فيها مثل الاعتذار (التوبة، ص٣٣٧–٤٤٠؛ شرح الفقه، ص٦٧؛ الفصل، ج٤، ص٨٤؛ الإرشاد، ص٣٨٩). هل التوبة تُسقِط العقوبة؟ عند البغداديين، لا تأثير لها في إسقاط العقاب، وإنما الله يتفضل بإسقاطه عند التوبة. وعند القاضي عبد الجبار، تسقط العقوبة مثل الاعتذار (الشرح، ص٧٩٠-٧٩١).
٤١  تختلف الفِرق فيما بينها في أحكام التوبة. فمِن شنع المرجئة، وهم متقدِّمو الأشعرية، من كان على معاصٍ خمسة من زنا وسرقة وترك صلاة وتضييع زكاة، ثم تاب عن بعضها دون بعض، فإن توبته لا تُقبَل (ويقول السمناني إنه قول الباقلاني، وهو قول أبي هاشم الجبائي) (الفصل، ج٥، ص٦١). وعند أبي الهذيل، من سرق خمسة دراهم أو قيمتها فهو فاسقٌ منسلِخ من الإسلام مخلَّد في النار إلى أن يتوب. وعند بشر بن المعتمر، من سرق عشرة دراهم غير حبة فلا إثم عليه ولا وعيد، فإن سرق عشرة دراهم خرج عن الإسلام، ووجب عليه الخلود إلى أن يتوب. وعند النظَّام، إن سرق ٢٠٠ درهم غير حبة فلا إثم عليه ولا وعيد، وإن سرق ٢٠٠ درهم خرج عن الإسلام ولزمه الخلود إلى أن يتوب (الفصل، ج٥، ص٤٤-٤٥). وعند بكر بن أخت عبد الواحد بن يزيد، القاتل لا توبة له (مقالات، ج١، ص٣١٧). وعند الإباضية، يجب استتابة مخالفيهم في تنزيل أو تأويل، فإن تابوا وإلا قُتلوا، سواء كان ذلك الخلاف فيما يسع جهله أو لا. وقالوا مَن زني أو سرق أقبح عليه الحد ثم استُتيب، فإن تاب وإلا قُتل (الفِرَق، ص١٠٧). وإن تميَّزت الصغائر من الكبائر كما هو الحال للأنبياء، فالتوبة واجبة سمعًا، وإلا لزمت التوبة من كل معصية لتجويز أن تكون كبيرة (الشرح، ص٧٩٤، ص٨٠١؛ التوبة، ص٤٠٦–٤٠٩، ص٣٩٣–٣٩٦؛ القول، ص٨٠-٨١). وترى بعض المالكية أنه لا بد من التفضيل، ولا يكفى الإجمال في التوبة (القول، ص٨٢). توبة الكافر بالإيمان (الإرشاد، ص٤٠٨-٤٠٩؛ التحفة، ج٢، ص٩٨؛ الإتحاف، ص١٥٢). وعند الجبائي، لا تجوز التوبة عن معصية دون البعض الآخر (الشرح، ص٧٩٤–٧٩٨؛ الفِرَق، ص١٩٠-١٩١؛ الفصل، ج٥، ص٤٣). في أن التوبة لا تصحُّ مع إقامة التائب على ما يعلمه أو يعتقده قبيحًا (التوبة، ص٣٧٦–٤٠٦). في التوبة عن البعض دون البعض (الإرشاد، ص٤٠٥–٤٠٧). في العلم بالتوبة (التوبة، ص٣٨٨-٣٨٩). قال الأكثرون: التوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على البعض صحيحةٌ، وليس عند أبي هاشم (المعالم، ص١٥١-١٥٢؛ الغاية، ص٣١٤). السبب المولِّد للتوبة (التوبة، ص٤١٦–٤٢٠). التوبة والاحتضار (التوبة، ص٣٧٣–٣٧٥). وعند الزيادية (الخوارج)، كل من سلب شيئًا من العباد لا تسقط عنه بالتوبة إلا بعد ردِّها (الفِرَق، ص١٠٢). في بيان حكم ما يحصل في يده مِن ملك وغير ملك وما يتصل بذلك. قد بيَّنَّا حقيقة الملك، وأنه ليس المعتبَر فيه بالتمكن واحتواء اليد عليه فقط، فإذا ثبت ذلك فالواجب على التائب أن ينظر فيما حازه، فإن كان مما يحلُّ له أن يُمسِكه ويتصرف فيه، صحَّت توبته، وإن كان مما يجب فيه إزالة أو إتلاف، فالواجب أن يفعله (التوبة، ص٤٥١–٤٥٦). التملك من الإرث، والغنيمة. في بيان حكم الحقوق إذا وُجد المستحق، وبيان حكمها إذا فُقد وغاب (التوبة، ص٤٥٧–٤٦١).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤