رابعًا: شمول الاستحقاق

كما أن الاستحقاق ثابت ودائم، فهو أيضًا شامل لا يفرِّق بين مكلَّف ومكلَّف، ويظل العمل وحده هو مقياس الاستحقاق دون موافاة الله لأحد؛ أي دون موالاة للبعض أو عداوة للبعض الآخر. فالموافاة تحيُّز لو كانت قبل الفعل، وهي لا تتجاوز كونها استحقاقًا بعد الفعل، والبشارة هي استباق للحوادث، وحكمٌ مُسبَق بالاستحقاق ثوابًا لبعض الأفراد دون البعض الآخر، والاستحقاق عام وليس خاصًّا. أما الشفاعة فإنها نقص للاستحقاق، وانقطاع للعقاب للعاصين دون المؤمنين؛ فشمول الاستحقاق إذن موجَّه ضد الموافاة، ولاية وعداوة، وضد البشارة وضد الشفاعة.

(١) الموافاة (الولاية والعداوة)

لما كان الاستحقاق أساسًا أخرويًّا محضًا، فإنه لا يمكن أن تحدث موافاة فيه بعد أن تتم الأعمال، وينقضي العمر، وينتهي التكليف؛ فالثواب والعقاب لا يكونان استحقاقًا إلا في الآخرة؛ فإذا ما حدث توفيق أو خذلان في الدنيا، أي ولاية وعداوة من الله، فإن ذلك يكون تدخلًا في حرية أفعال الشعور الداخلية قاضيًا عليها؛ وبالتالي نرجع إلى أصل العدل من جديد. والفعل الحسن يولِّد طاقاته من ذاته، ويصبح أكثر قدرة على التحقيق، في حين أن الفعل القبيح يفرِّغ الطاقات، ويقضي على الذات، ويؤدي إلى الخذلان؛ لذلك قد يدخل موضوع الموافاة، أي الولاية والعداوة، في حرية الأفعال مع أفعال الشعور الداخلية.١
الموافاة في الدنيا ولاية أو عداوة، سواء قبل الفعل أو مع الفعل أو بعد الفعل، ليست فقط تدخلًا في حرية الأفعال، بل هي أيضًا قضاء على التوبة، وسلب الإنسان قدرته على الفعل المتجدِّد. وسواء كان هذا التدخل بالعلم أو بالقدرة، فإنه في كلتا الحالتَين قضاء على شمول الاستحقاق بتخصيصٍ وقتي؛ الإيمان والكفر، وهما لحظتان متجدِّدتان طبقًا لاستمرار التكليف. وإن التبرئة المُسبَقة أو الإدانة المُسبَقة لَقضاء على الاستحقاق كنتيجة لم تتحقق بعد، وكمسار للفعل لم تتحدد وجهته بعد؛ نظرًا لحرية الأفعال. وإن الولاية من الله للبعض والعداوة للبعض الآخر لَقضاء على شمول الله؛ وبالتالي على شمول الاستحقاق، كما أن الرضا من الله على البعض بصرف النظر عن كفرهم مثل سحرة فرعون، وسخطه على البعض الآخر بصرف النظر عن إيمانهم مثل المنافقين، لهُو اهتزاز لكل شيء للاستحقاق على الفعل، ولكن الفعل وحده مَناط الاستحقاق. إن رضا الله عن المؤمنين مهما عصوا، وسخطه على الكافرين مهما أطاعوا، لهُو نقض أساسًا لقانون الاستحقاق، وتصوُّر الثبات في الله مهما تغيَّرت الأفعال، بل إن هذا الثبات يدل على محاباة وتحيز؛ محاباة المؤمنين لإيمانهم به بصرف النظر عن العصيان، والتحيز ضد الكافرين لعدم إيمانهم به مهما كانت طاعاتهم، وكأن الله لا يراعي إلا ذاته؛ الإيمان به من دونه بصرف النظر عن أفعال الخير أو الشر للعباد.٢ وقد يُقال بالموافاة نظرًا لعلم الله الشامل الذي يعلم المآل، فيرى الحال من خلال المآل، ويرى الحاضر والماضي من خلال المستقبل. وفي هذه الحال يُرَد أصل العدل إلى أصل التوحيد، ويُضحَّى بالفعل الإنساني من أجل العلم الإلهي، ولا فرق في ذلك بين الإرادة عند الأشاعرة والعلم عند المعتزلة.٣ وقد ينشأ القول بالموافاة، ليس من تغليب الإرادة والعلم الإلهيَين على الفعل الإنساني في فِرقة السُّلطة، ولكن من الظروف النفسية لفِرق المعارضة؛ فالموافاة تعطي المعارضة العلنية الجهرية تأييدًا لها من الله ضد السُّلطة، تقوية للمقاومة، وتبريرًا نظريًّا لها من العقيدة. وسرعان ما يُوجَد المبرِّر في العلم المُطلَق والإرادة الشاملة، وكأن أفعال المقاومة وقراراتها مصيرٌ محتوم مقدَّر مِن قبل، بل إن أفعال الشعور نفسها من اعتقاد وإيمان قدرٌ مُسبَق يأخذ الله فيه بيد الإنسان، يدبِّر أمره، وينسج له مصيره، ويقوده إلى غايته مهما كانت أفعال الإنسان. فالموافاة إذن هي هذا الجبر الفعَّال الذي يوجِّه أفعال الإنسان إلى غايتها، ينصر بها المظلومين وهم أولياء الله على الظالمين وهم أعداء الله.٤ وقد تتحول الولاية والعداوة من مجرد فعلَين لله تعبيرًا عن الإرادة والعلم إلى صفتَين له في ذاته؛ فالحق الإنساني مؤيَّد بالولاية الإلهية، والباطل الإنساني مهدَّد بالعداوة الإلهية. الولاية أخذ الإنسان لله في صفه، والعداوة أخذ الإنسان لله ضد أعدائه. وماذا لو فعل العدو ذلك أيضًا، وجعل الولاية من جانبه، والعداوة ضد عدوه؟ يكون الإنسان في كلتا الحالتَين قد أخذ المؤلَّه من جانبه ضد أعدائه، سواء كان هو نفسه أم خصمه؛ وبالتالي يتحول الله كسلاح في معارك الخصوم. وأن إثبات الولاية والعداوة كصفات ذات أو حتى كصفات فعل يؤدي إلى القضاء على الحرية الإنسانية؛ إذ تحدِّد الصفات مصائر الناس فيما يتعلق بأفعال الشعور.٥ وفي جماعةٍ مضطهَدةٍ أخرى ولكن سرِّية تتحول الولاية والعداوة أيضًا إلى سلاح لتقوية الجماعة؛ فالولاية للإمام والعداوة لأعدائه؛ فالولاية للذات والعداوة للغير؛ وبالتالي يتحول الله إلى سلاح لتقوية الفرد ضد الخصوم. ولما كثر المتخاصمون أصبح الله سلاحًا ضد الكل يضرب في كل اتجاه.٦ إن الولاية والعداوة على هذا النحو ضد الشرع والعقل معًا؛ فكثيرًا ما يتغير حكم الشرع طبقًا لأفعال الناس وانتقالهم من الإيمان إلى الكفر، أو من الكفر إلى الإيمان، كما أن الرضا والسخط من الله تابعان لأفعال الإنسان ومتغيِّران بتغيرها. ولا ينال ذلك من شمول العلم الإلهي؛ لأن تغيُّر الأحكام الشرعية طبقًا للأفعال موجود في العلم الإلهي، فهو علمٌ ثابت بالتغير.٧ إن الولاية والعداوة ممكنان بعد حال الإيمان والكفر، وبعد أفعال الحسن والقبح، كنتيجة وليس كمقدمة، كنهاية وليس كبداية. وإن كل وضع للولاية والعداوة في البداية لهُو إنكار لقيمة الفعل ولقانون الاستحقاق؛ تبريرًا لأفعال الحاكم اللامشروطة، والذي يرعاه الله بولايته، ويحفظه بالعداوة لأعدائه.٨

(٢) البشارة

كما أن الموافاة لا تحدث في الدنيا قبل الأفعال وإلا كانت قضاءً على الحرية، ولا في الآخرة وإلا كانت خرقًا للاستحقاق، فكذلك البشارة؛ فالبشارة حكمٌ مُسبَق على الأفعال قبل اكتمالها، وقبل انقضاء العمر، وقبل نهاية الزمان؛ هي تثبيت للحكم بالرغم من سريان الفعل. والحقيقة أن الأحكام تالية للأفعال، وليست سابقة عليها. وإذا كانت البشارة نوعًا من إثبات التخصيص والاستثناء، فكيف يمكن إثباتها وفي الوقت نفسه رفض التخصيص في الوعيد؟٩ الفرق بينهما في الإغراء؛ فالتخصيص في الوعيد إغراء على فعل القبائح، لكن البشارة ليست كذلك، ولا أيضًا إغراء على فعل الحسنات؛ لأن المبشَّرين معلومون بأسمائهم وصفاتهم في بدايتهم، وإن كانوا في النهاية يصلون إلى عامة الناس. يبدءون بالعشرة، ثم يصبحون أهل بدر، ثم أهل أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية، ثم سبعين ألفًا من الأمة يتسع كلٌّ منهم في سبعين آلفًا آخرين، وفيهم أشخاص بعينهم إن لم يكن واحدًا بعينه، وكأنه يساويهم كلهم! وربما يتسع الأمر، فيبلغ كل من بلغته دعوة الإسلام؛ وبالتالي تذهب الأمة كلها إلى الجنة، بشرى للجميع، ويضيع الاستحقاق. وبعد أن يعيِّن الرسول ضمن العشرة الأوائل وهو الذي بشر بهم، قد يدخل في ذلك أيضًا آل البيت نساءً ورجالًا، ممَّن ظُلموا قهرًا وعنوةً، وممَّن استُشهدوا مقاومةً للظلم ودفاعًا عن الحق؛ وقد يدخل في ذلك زوجات الرسول، بالرغم من نقد الوحي لهن، واشتراك إحداهن في الحرب وسفك الدماء، خاصةً وأن الفريق المختار لم يكن هو أصوب الفرقاء. وماذا لو كان في العشرة المبشرين بالجنة أغنياء القوم في مجتمع أغلبيته من الفقراء؟ وماذا لو كان فيهم من اعتزل الفتنة حتى لا يُزاد من سفك الدماء، لا نصرة للظالم، ولا دفاعًا عن المظلوم؟ وهل يمكن تعيين المبشَّرين بالجنة بالاسم، سواء كانوا عشرة، أم ثلاثمائة، أم سبعين ألفًا؟ وماذا لو تغيَّر فعلهم بعد البشرى؟ هل تظل البشارة حكمًا؟ أليس في ذلك أيضًا حكر على الإرادة الإلهية؟ ألا يعطي ذلك نوعًا من الرخصة في فعل أي شيء حلالًا كان أم حرامًا ما دام الحكم قد صدر؟ ربما يكون الهدف من ذلك هو الإعلاء من شأن الأعمال العظيمة، مثل الشهادة والتضحية بالنفس والوجود في الطلائع والتصدي للمخاطر ونصرة الحق والمحافظة على وحدة الجماعة. ومع ذلك فهي كلها أفعال استحقاق، وليست أفعالًا ضد الاستحقاق، بل إن الأنبياء أنفسهم أيضًا يخضعون لقانون الاستحقاق، إنما يدخلون الجنة بأفعالهم. وفي النهاية لا يمكن للرواية بنفسها أن تستقلَّ في تأصيل النظر؛ فالمبشَّرون بالجنة رواية تصطدم بقانون الاستحقاق دوامًا وشمولًا، وطبقًا لنظرية العلم الروايةُ ظن والعقل يقين.١٠
كما يتضح أن المبشَّرين بالجنة هم عادةً أهل السُّلطة ودعاة السلطان، في حين أن المبشَّرين بالنار هم أهل المعارضة ودعاة الثورة الذين سُمُّوا أهل الأهواء، ومعظمهم من الفِرق المعارضة. وما أسهل من قيادة العامة من المبشَّرين بالجنة، ومن حصار المعارضة باتهامها بأنها من أهل النار تنفيرًا للعامة منهم، خاصةً وأن العامة من أهل الجنة ومن المبشَّرين بها مع أهل السلطان سواء بسواء. فإن لم تكن هناك بشارة، فهناك على الأقل القطع بإيمان البعض مثل الملائكة أو الأنبياء؛ لأنهم مختوم لهم بالإيمان، ومشهود لهم بالعصمة. والحقيقة أن الاستحقاق لا يكون إلا للمكلَّفين من البشر، لا ينطبق إلا على الإنسان الذي حمل أمانة التكليف، والنبي كذلك. أما غير البشر من الملائكة والجن فلا ندري عنهم بالعقل شيئًا.١١ قد يكون المؤمن المقطوع بإيمان هو ما سمَّاه القدماء «شاهد الحال»، الذي يُعذَّب في معتقده، ويتحمل الأذى لأجله، هو المؤمن قطعًا. هنا يكون الإيمان هو التضحية بالذات في سبيل المعتقد، بصرف النظر عن مضمونه. أما إذا كان المضمون عاقلًا مستمَدًّا من أصلَي التوحيد والعدل، فيكون «شاهد الحال» هو صاحب الاستحقاق.١٢

(٣) الشفاعة

الشفاعة أيضًا، وربما أكثر من الموازنة والبشارة، تُنال من شمول قانون الاستحقاق. وقد ارتبطت الشفاعة بالعفو؛ فكلاهما يعطيان مغفرة عن غير استحقاق لأصحاب الكبائر. وكما أن العفو والإحباط نقيضان، فالشفاعة والتوبة أيضًا نقيضان، ومن جوَّز المغفرة بلا توبة جوَّز الشفاعة، ومن منعها منع الشفاعة. كما ترتبط الشفاعة بالوعد والوعيد؛ نظرًا لأنها أحد شُبَه المرجئة في تخصيص الوعيد والاستثناء منه فيما يتعلق بدوام عقاب الفساق. وهي موضوعٌ سمعيٌّ خالص لا يعتمد على الحسن والقبح العقليَّين، بل على النقل وحده، وعلى مُطلَق المشيئة. وقد زاد الموضوع أهميةً في العقائد المتأخِّرة، مثل حال كل الموضوعات السمعية كفرصة لإظهار الغيبيات، وكل ما هو ما مُضادٌّ للعقل، حتى في الحركة الإصلاحية الحديثة. وكانت أهميتها قد زادت منذ البداية بعد ظهور البدع والحاجة إلى العفو كغطاء من الإيمان على قبح الأفعال.١٣
والشفاعة من الشفع، وهو ضد الوتر؛ أي الثاني مع الأول، الآخر في مصاحبة الذات. فالشفاعة تدل على الجماعة والصحبة والتعاون واتجاه الفرد نحو الآخر والآخر نحو الفرد، كما تدل على حاجة الإنسان إلى الغير، فكأن صاحب الحاجة بالشفيع صار شفعًا. وفي الاصطلاح مسألة الغير أن ينفع غيره أو يدفع عنه مضرَّة. فالشفاعة بهذا المعنى هي اختيار الأصلح من أجل الإنقاذ، وموضوعها وصول المشفوع له إلى حاجته، وهي إما طلب نفع أو دفع ضرر.١٤ ولكن يظل السؤال: هل هو اعتمادٌ كلي على الغير، وتشفُّع به، وتسلُّق عليه؛ أم اعتمادٌ أساسي على الذات، وثقة أولى بالنفس، ثم بعد ذلك توسُّع الفعل وامتداده نحو الآخرين؟
وتنقسم الشفاعة أربعة أركان: المشفوع إليه وهو الله، الشفيع وهو الرسول، المشفوع له وهو المؤمن، المشفوع فيه وهو الكبيرة. وتتضمن الشفاعة عُلوَّ رتبة المشفوع إليه والشفيع عن المشفوع له، وهذا أيضًا في طلب الحاجة؛ لذلك كانت فائدة الشفاعة رفع مرتبة الشفيع، والدلالة على منزلة المشفوع إليه، والمشفوع إليه يكرِّم الشفيع.١٥ ولما كان المشفوع إليه هو الله، فإنه يدخل في العقليات في أصل التوحيد. بقي إذن المشفوع فيه وهو الكبيرة، والمشفوع له وهو المؤمن، والشفيع وهو الرسول.
فالمشفوع فيه هو الكبيرة؛ فالشفاعة أحد حلول قضية التخليد والدوام في النار لصاحب الكبيرة؛ إذ إنه يكون في النار استحقاقًا، ثم يخرج منها بشفاعة الرسول.١٦ ولما كانت الكبيرة عصيانًا وفسقًا وفجورًا، فالشفاعة تكون أيضًا للعصاة وللفساق وللفجار، ولكن لماذا الشفاعة لأهل الكبائر وهناك التوبة؟ وهل تجبُّ الشفاعة التوبة؟ وإذا كانت الشفاعة قادرة على إخراج مُرتكِب الكبيرة من النار وقطع العقاب، فإن التوبة قادرة على عدم إدخاله النار أصلًا. وقد تكون الشفاعة لأهل الأعراف الذين تساوت حسناتهم مع سيئاتهم ويمرُّون أمام النار، فإذا رجحت حسناتهم سيئاتهم فإنهم يدخلون النار ولا يخرجون إلا بشفاعة الرسول ورحمة الله. فالشفاعة هنا تدخل في الموازنة، وتُبطِل الإحباط والتكفير، وتكون حاملًا مرجِّحًا في حالة الاستواء بين الطرفَين. وهي حالةٌ افتراضية أساسًا؛ نظرًا للطبيعة الخيِّرة كعاملٍ مرجِّح فيها. ولماذا تتقدم الشفاعة على رحمة الله أو تساويها وتعادلها؟ أليست رحمة الله كافية كعاملٍ مرجِّح دون شفاعة؟١٧ وقد تكون الشفاعة للكفار لتعجيل فصل القضاء، وتخفيف أهوال يوم القيامة!١٨ لذلك كان مكانها يوم الإراحة من الوقف. فهل الله بطيء في العقاب، مُتباطئ في الحساب، فرِحٌ بإطالة الانتظار له ليزيد عذابًا نفسيًّا حاضرًا على العذاب البدني المتوقَّع؟ ولماذا يخفِّف الله عنهم الأهوال إذا كانت جزءًا من العذاب؟ ولماذا يستعجل الرسول، والعجلة في القضاء ضد العدل، كما أن العجلة من الشيطان؟ وقد تكون الشفاعة في الجن والإنس! وماذا فعل الجن؟ هل له رسل وتكليف؟ وهل قبِل الأمانة طوعًا واختيارًا كما قبِلها الإنسان؟١٩
فإذا كانت الكبيرة أساسًا هو المشفوع فيه، فمَن المشفوع له؛ المؤمن أم الموحِّد أم التائب؟ ولماذا الشفاعة؟ هل لرفع الدرجات في الجنة، أو لعدم دخول النار، أو لدخول الجنة بغير حساب؟ هل هي لهذه الأمة أم لكل الأمم بلا استثناء؟ قد تكون الشفاعة لمن استحقَّ دخول النار كي لا يدخلها، وهذا في الحقيقة قضاء على الاستحقاق وعلى دوامه، وقول بانقطاع العذاب أو بعدم وقوعه دون شرط التوبة. وماذا يكون رد فعل من دخل النار عن استحقاق؟ أليس ذلك عدم مساواة في العقاب؟ أليس ذلك إثارة ضغائن في الجنة وثورة في النار لمن لم ينالوا الشفاعة؟ وماذا يكون رد فعل أهل الجنة الذين عملوا الحسنات، ودخلوا الجنة بعد دخول النار، وغيرهم لم يدخل النار شفاعة؟ وأين يذهبون إن لم يدخلوا النار؟ هل يدخلون الجنة أم يبقون في الأعراف؟ وقد تكون الشفاعة لإخراج الموحِّدين من النار، لمن له ذرة إيمان في قلبه. وهذا أيضًا تفضيل للنظر على العمل، مع أن الاستحقاق يقوم على العمل، وليس على النظر، وهو أيضًا ظلم الكفار الذين لهم أعمال صالحة. وهو مُناقِض لقانون الموازنة، الإحباط والتكفير، كما أنه ضد التوبة، وإلغاء لوظيفتها، وقضاء على الهدف منها. وإذا كانت الشفاعة تخفيفًا عن بعض الكفار في أوقاتٍ مخصوصة، فهذا تخصيص بلا استحقاق، واستثناء دون حق، وتحيُّز ومجاملة تُناقِض العدل.٢٠ وإذا كانت الشفاعة لأطفال المشركين، فهل الأطفال عقلاء بالغون أحرار حتى يكونوا مكلَّفين؟ وإذا كانت الشفاعة للمؤمنين المطيعين، فإن في توبتهم كفاية لانقطاع العقاب ودوام الثواب.٢١ وإذا كانت الشفاعة لصلحاء الأمة ليتجاوز عنهم في تقصيرهم في الطاعات، فإن الأعمال العظيمة تجبُّ المعاصي، والتضحية بالعمر وبالنفس تجبُّ اللمم. أما إذا كان المقصود من الشفاعة رفع الدرجات، وبلوغ مراتب أعلى في الجنان، فإن ذلك طمع، ورغبة في المزيد أسوة بما كان يحدث في الدنيا من زيادة غنى الغني، ورفاهية المُترَف، ويسر المُوسِر، بمزيد من الطاعات والعبادات. فالدرجات العليا في الدنيا لا بد وأن يُقابلها رفيع الدرجات في الآخرة؛ حتى تستمرَّ مزايا الدنيا بدعوى دوام الثواب! كما يؤدي ذلك إلى إثارة الأحقاد والضغائن والمنافسة في الجنة عند من لم تنَلهم الشفاعة. وهل في الجنة رغبات وأطماع وهي دار السلام والصفاء؟٢٢ وتتم الشفاعة لدفع العذاب ولرفع الدرجات ضد قانون الاستحقاق. لا يُرفَع العذاب إلا بالموازنة أو التوبة؛ لأن الشفاعة دونهما، إعطاء نفع لمن لا يستحق. والدعاء لا يرفع العذاب؛ فالدعاء قول والتوبة عمل، وما أكثر القول وأقل العمل! ولماذا تتم الشفاعة لعددٍ معيَّن ٧٠٠٠٠ كل واحد منهم يشفع في ٧٠٠٠٠ ألفًا مثلهم؟٢٣ فيكون مجموع المشفَّع لهم ٤٩٠٠٠٠٠٠٠٠؛ أي أقل من خمسة مليارات بقليل، وهم أقل من عدد سكان الأرض حاليًا بمليارٍ واحد! ولماذا هذا العدد بالذات؟ هل عددٌ رمزي به الرقم ٧، وبه الأصفار والآلاف زيادةً في التعظيم والمبالغة؟ أليس هذا العدد أكثر من مسلمي الأرض؛ وبالتالي يتطلب ذلك الشفاعة لغيرهم؟ وهل الرسول على علمٍ مُسبَق بأفعال العباد المستقبَلة، أم هو قانونٌ عام للتاريخ يمكن التنبؤ به؟ وإذا كانت الشفاعة لأهل الجنة من هذه الأمة، فهم ليسوا بحاجة إليها ما داموا في الجنة. وإذا كانت للناس جميعًا بصرف النظر عن الأمة تصبح عامة للكل؛ وبالتالي تفقد خصوصيتها للبعض، وفي عموميتها يكون إثباتها مساويًا لنفيها.٢٤ إن إدخال قوم الجنة بغير حساب ضد قانون الاستحقاق، وعدم مساواة بين من دخلها بحق وبين من دخلها بغير حق. وما فائدة العمل لمن دخلها بحق؟ وفيمَ كان الجهد والتعب والنصب؟ وهل لم يعُد العمل هو مقياس الجزاء؟ على الأقل لا بد من وجود مراتب في الجنة لمن دخلها بجهد عرقه، ولمن دخلها شفاعة. وقد يُثار خلاف حول أيهما يكون في مرتبةٍ أعلى من الآخر؟ ويُلاحَظ في المشفوع لهم التضادُّ في المجموعات بين إدخال قوم الجنة بغير حساب، وبين عدم إدخال قوم النار استحقُّوا دخولها؛ أو بين إدخال المؤمنين المُذنِبين الجنة، وبين إخراج العصاة الموحِّدين من النار. أما باقي الشفاعات فلا حد لها، إنما صاغتها أحاديث من نسج الخيال الشعبي حول البطل والبطولة الفردية، وحاجة الدهماء إلى مُخلِص. وهنا يبدو الرسول زعيمًا لأمة، وشيخًا لقبيلة، ورئيسًا لجماعة.
أما فيما يتعلق بالشفيع وهو الرسول، فإن شفاعته تأتي بطلب الناس بعدما يتقاعس الجميع، ويرفض باقي الرسل؛ إذ يسأل الناس الرسل، فيعتذرون ولا يتقدم إلا سيد الخلق، فيقول أنا لها، ويسجد ويشفع؛ فهو الذي يتصدر الجمع، ويسبق الرسل، ويشهد على جميع الشهداء.٢٥ وللرسول شفاعتان: شفاعة خاصة وشفاعة عامة. الأولى لمن يستحقُّ من مُرتكِبي الكبائر، والثانية مقامٌ محمود للناس جميعًا. إذا كانت الأولى نوعًا من الاستحقاق، فالثانية نوع من التفضل، لا يبدأ الرسول في طلبها إلا بعد أن يسجد، فإذا أذِن له الله شفع من أسعد الناس بها، ولا تكون لمن أشرك بالله.٢٦ فإذا كانت الشفاعة الصغرى خاصة لأهل الكبائر، فإن الشفاعة الكبرى تكون لكل من دخل في قلبه ذرة إيمان، بل لكل مخلوق من البشر إنقاذًا له من هول الموقف. فإذا كانت الصغرى زيادة على التوبة، فإن الكبرى قضاء على الاستحقاق كليةً، وتغليب للنظر على العمل. وكيف تكون الشفاعة من هول الموقف والحساب لم يتم بعد، وكأن الشفاعة هنا ضد الحساب؛ أي مناقضة لتطبيق قانون الاستحقاق؟ وقد تكون للنبي شفاعاتٌ أخرى غير هاتَين الشفاعتين، يُكثِر من ذِكرها الخيال الشعبي الذي ينطلق لتحديد زمانها ومكانها وأشخاصها كلما زاد الإحساس بالبطولة الفردية، واشتدَّت حاجة الإنسان إلى مُخلِّص بعيدًا عن فعلهم وخارج أنفسهم.٢٧ وكيف يشفع الرسول لغيره وهو نفسه بشر ينطبق عليه قانون الاستحقاق، وهو نفسه مُحاسَب مثل غيره من البشر؟ كيف يكون له هذا القدر من الشفاعة وهو أيضًا محكوم عليه وليس حاكمًا، وهو متَّهَم وليس قاضيًا؟
والأخطر من ذلك كله هو تعميم الشفاعة لغير الرسول؛ وبالتالي لا تصبح خاصةً به وحده وميزةً له باعتباره آخر الأنبياء والمرسلين، وتصبح عامة للملائكة والأبناء والرسل والأولياء والصحابة والشهداء والعلماء وصلحاء الأمة والمؤمنين ولكل الناس على قدر منازلهم والفقراء وأطفال المؤمنين. إن تعميم شفاعة النبي له ولغيره يقضي على الخاص فيصبح عامًّا؛ وبالتالي يضيع كليةً قانون الاستحقاق، ووقوع الجزاء طبقًا للأعمال، كما أنه يُسقِط شفاعة النبي كخصوصية له، وهو القصد من الشفاعة، بل إنه ينفي الشفاعة كليةً طالما غاب القصد منها، وتوقَّف معناها الأول، كما أن تعميم الأوقات والأماكن والأشخاص هو قضاء على وقت الحساب وخصوصية المكان وأصحاب الكبائر. وإن إثبات الشفاعة في الدنيا ولكل الناس ليجرُّ إلى الوساطة والمحاباة والتحيز، ويقضي على العمل، وهو أساس الاستحقاق في الدنيا. وكيف تكون الشفاعة لملَك والملَك غير مكلَّف أساسًا، والإنسان أعظم منه؟ وطبقًا لأي مقياس سيشفع الملَك؟ كيف نشفِّع الملائكة في البشر؟ أليس الإنسان أفضل منها بتقبله الأمانة؟ ألم تسجد الملائكة لآدم؟ ألم تعارض الملائكة إرادة الله كما فعل إبليس؟ وهل الملائكة لها رسل وتكليف، خاطبها الله ونادى عقلها واستثار حريتها كما فعل مع الإنسان؟ لا يشفع للإنسان إلا عمله؛ فالاستحقاق أحد مظاهر التكريم. وهل يشفع نبي لنبي آخر مثله؟ وإذا كانت الشفاعة لصاحب الكبيرة، فهل من الأنبياء من ارتكب الكبائر؟ وإذا كان قد حدث فلماذا يُشفَع للنبي ولا ينال استحقاقه ثوابًا بحسناته وعقابًا بسيئاته، وهو بشر، أسوةً بباقي البشر؟ أليس محمد سيد المرسلين وخاتم الأنبياء والشفاعة خاصةً به وتكريم له؟ كيف يشفع له نبي آخر وهو شاهد الشهداء، «فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا»؟ وكيف يشفع موسى وهو الغاضب الكاره؟ كيف يشفع نوح وهو اللاعن المدمر؟ كيف يشفع عيسى وهو الحنون القابل لكل الشرور والآثام عن رضًا وطيب خاطر؟ كيف يشفع يحيي وهو المقطوع الرأس؟ كيف يشفع النبي وهو يستسلم للقضاء، ويرى أن كل ما يقع من شرور في العالم إنما يتم بإذن الله وبكامل إرادته ومشيئته؟ وهل يشفع الأولياء؟ ألا يضع ذلك الأولياء في مصافِّ الأنبياء والرسل والملائكة؟ وما مقياس صدق الولاية؟ لقد فرَّق الفقهاء مِن قبل بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن؛ من أجل التفرقة بين الكذب والادعاء والسحر والشعوذة، وبين الولاية الحقة. وهل هناك ولاية أساسًا؟ أليس ذلك إدخالًا لعلوم التصوف في علم أصول الدين؟ إن الاعتماد على شفاعة الأولياء هو تدمير للعقل وللفعل، وهما دعامتا قانون الاستحقاق. وهل تشفع الصحابة وهم أولى بالشفاعة؟ وهل الصحابة في مكانة الملائكة والأنبياء والرسل كشفعاء؟ ألا يخطئ الصحابة ويصيبون؟ الصحابة مُحاسَبون مشفوع لهم مثل غيرهم. كيف يكون المشفوع له شفيعًا؟ وهل يشفع عمر إن شفع عثمان؟ ومن يشفع لأبي سفيان؟ وهل يشفع عمر لخالد بن الوليد أو خالد بن الوليد لعمر؟ وهل يشفع الشهداء؟ إن الطليعة قد ضحَّت بنفسها، وطالما حاولت تجنيد الجماهير معها. فبعد ذلك هل تشفع الطليعة في الخانعين والهابطين والمثبِّطين والقاعدين والمخلَّفين الذين اثَّاقلوا إلى الأرض؟ هل يشفع الشهداء فيمن أعطاهم الشهادة؛ القتلة والظلمة والحكام والسلاطين؟ صحيحٌ أن منزلة الشهادة في منزلة النبوة، ولكن الشهادة عمل، فكيف يشفع العامل فيمن لا عمل له؟ وهل يشفع العلماء؟ والعلماء عكس الشهداء؛ هم أصحاب نظر، والشهداء أصحاب فعل. ألا يعطي ذلك أولوية للنظر على العمل، أو على الأقل يكون النظر مساويًا للعمل؟ صحيحٌ أن النظر قيمة، ولكن العمل قيمةٌ أعظم. كيف يشفع العلم للجهل، والمعرفة للشك، واليقين للظن؟ ألمْ يخشَ العلماء غير الله، فباعوا علمهم على موائد الحكام؟ وهل يعمل كل العلماء بعلمهم، أم إنهم هم العاملون وحدهم؟ وهل يشفع اجتماع النظر والعمل في أحد أجزائه؛ أي النظر وحده أو العمل وحده؟ وهل يشفع صلحاء الأمة وأتقياء القوم؟ وهل يشفع الأصل في الأقل صلاحًا؟ ألا يمنع ذلك الصالح أن يكون أصلح ما دام الأصلح سيشفع له، وما فقده الإنسان في الدنيا يجده في الآخرة، وما لم يحصل عليه في البداية يحصل عليه في النهاية؟ وهل يشفع المؤمنون بعضهم لبعض وكأن الأمر مجاملة، أو بتعبيرٍ شعبي «شيلني وشيلك»؟ وكيف يشفع مؤمن لنبي، ويشفع الأقل درجة للأعلى درجة؟ هل المؤمن أعلى درجة من النبي؟ هل يشفع أحد من الصحابة وهم في ذروة الإيمان لمحمد؟ هل يتشفع مؤمن منهم في باقي الأنبياء والرسل في إبراهيم وموسى وعيسى؟ وكيف يتشفع مؤمن لمؤمن آخر؟ في هذه الحالة لن تكون الشفاعة كرامة للأنبياء، وخاصة لخاتم المرسلين، بل تكون عامة لجميع المؤمنين؛ وبالتالي تضيع الشفاعة باعتبارها كرامة للأنبياء. وإن الشفاعة بهذا المعنى لتعطي الإنسان المؤمن أكثر مما يستحق، ويعطى المشفوع له أقل ما يستحق، وتُحيل البشر إلى قسمَين؛ يدًا عليا تعطي ويدًا سفلى تأخذ. وكيف يشفع الناس قدر منازلهم؛ وبالتالي تصبح الشفاعة عامة للكل، وتفقد خصوصيتها لواحد بعينه؟ وإذا كانت المنزلة هي التي تحدِّد قدر الشفاعة، فالعمل أساس المنزلة والشفاعة معًا. وهنا تسقط الشفاعة باعتبارها بديلًا للفعل. وكيف يشفع الفقراء؟ ولماذا لا يأخذ الفقراء حقهم في الدنيا بدل أن يكونوا وسيلة لدفع العقاب عمَّن سلبوهم حق الحياة ونهبوا ثرواتهم؟ أليس ذلك إرضاءً للفقراء في الآخرة عن طريق الإيهام، وتحويل عبوديتهم إلى سيادة، وضعفهم إلى قوة، وعجزهم إلى إرادة، فينسوا فقر الدنيا أمام غنى الآخرة؟ بعد أن كان الفقير محكومًا أصبح حاكمًا، وبعد أن كان عبدًا أصبح سيدًا، وبعد أن كان مشفوعًا له أصبح شفيعًا! وكيف يشفع أطفال المؤمنين الصابرين على البلاء؟ وأي بلاء يُصيب الأطفال في الجنان؟ وكيف يُرفَع الظلم عن الأطفال المذبوحين المعذَّبين المبتوري الأطراف المبقوري البطون بإيهام الشفاعة لهم، وبأنهم شفعاء لجلاديهم؟٢٨
لذلك كله كانت الشفاعة مستحيلة؛ بناءً على عدم جواز العفو والمغفرة قبل التوبة.٢٩ وإذا كانت التوبة واجبة فلمَ الشفاعة؟ وإذا كانت الشفاعة واجبة فلمَ التوبة؟ الشفاعة على عكس التوبة؛ فالشفاعة لا تُحدِث تغييرًا في القلوب أو الجوارح، في الأفعال الداخلية أو الأفعال الخارجية، في حين أن التوبة تحقِّق الهدف منها، وهو إحداث التغير الفعلي في حياة الإنسان، والاعتماد على النفس، والتعليم، وتغير الرؤية، وتحسين السلوك. الشفاعة كسب بلا جهد، وثمرة بلا غرس، وجني بلا زرع، ومعلول بلا علة، ونتيجة بلا مقدمات. تقضي الشفاعة إذن على التوبة وقدرة الإنسان على إنقاذ نفسه بنفسه، بفعله المتجدد، وتعلُّمه عن طريق المحاولة والخطأ. قد يركن الإنسان إلى الشفاعة ما دام يعرف النتيجة مُسبَقًا، أو يهدف إليها قصدًا، أو يتاجر بها، ويترك الجهد والتدبير والإرادة والعقل. وقد يُصاغ ذلك في حجةٍ جدلية مؤدَّاها أن الرسول إما أن يشفع لصاحب الكبيرة وهو ما لا يجوز؛ لأنه إثابة من لا يستحق، وإما لا يشفع وهو ما يجوز؛ لأنه يقدح بإكرامه. ولما كان المكلَّف لا يدخل الجنة تفضلًا، بل عن استحقاق، وكانت العقوبة على الدوام، فكيف يدخل المطيع الجنة أو يخرج المسيء من النار بشفاعة الرسول مع تأكيد الوحي أنه لا شفيع للظالمين؟ ففي حالة استواء الطرفَين بين جواز الشفاعة وعدمها يبرز الاستحقاق ليرجع نفي الشفاعة.٣٠ إن الشفاعة تُثير عِدة إشكالات حتى لمُثبِتيها؛ فإذا لم يشفع الرسول لم تكن له كرامة، وإن شفع فإنه ينقض قانون الاستحقاق، خاصةً إن لم تسبقها توبة. وهل الشفاعة أعلى من قانون الاستحقاق؟ أليست الشفاعة نقضًا للاستحقاق؟ أليس الله قادرًا على الرحمة بلا شفاعة؟ أليست الشفاعة إعطاء النبي أكثر مما يستحق من حيث كونه بشرًا، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا؟ ألا تجعل الشفاعة واسطة بين العبد والرب؛ وبالتالي يقضي على أهم خصائص الإسلام؟ إن الشفاعة تقضي على الفعل وعلى الجهد الذاتي، وتجعل الاستحقاق مجرد تفضل. وإذا كانت الشفاعة للحصول على المراتب العليا، فإنها تقوم حينئذٍ على الطمع من جانب المشفوع لهم، بل وعلى الدنية في الدين وعلى الشحاذة، واليد العليا خير من اليد السفلى. إن الشفاعة أقرب إلى الأخلاق اليهودية، نظرية البقية الصالحة التي لأجلها يغفر الله خطايا باقي الأمة، والتي سمحت لها بفعل ما تشاء وعصيان القانون بفضل شفاعتها لها. وهي أقرب أيضًا إلى نظرية نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. والعلاقة الخاصة بين العبد والرب التي لا تقوم على أساس الاستحقاق. وتُشبِه أيضًا عقيدة حمل المسيح لآثام البشر، والتي تسمح للمؤمن أن يفعل ما يشاء ما دام المسيح سيحمل وزر أخطائه بدلًا عنه، ويكفِّر عنه بدمه، ولا يمحوها فقط بشفاعته. وقد تصبح الشفاعة مجرد موضوع شخصي صِرف، طلب الشفاعة للنفس وإنكارها على الخصوم. وإن دعاء المرجئة أن يكونوا من أهل الشفاعة هو سماح لهم بأن يكونوا من العصاة أصحاب الكبائر. ومن حق من لم يشفع لهم الغضب والتمرد ما دامت الشفاعة لا تقوم على استحقاق. ولا يمكن اتهام من ينكر الشفاعة بأنه يفعل ذلك لأنه ليس له حظ منها؛ فهذا إسقاط إثبات الشفاعة لسببٍ شخصي، وهو العفو عن الأخطاء والمعاصي بلا توبة وعن غير استحقاق على من يقوم بإنكارها حرصًا على تجدد الفعل في الدنيا بالتوبة، وعلى نتائج الفعل في الآخرة بالاستحقاق،٣١ بل إنه في إحدى الحركات الإصلاحية الحديثة لا يُستشفَع بالله على خلقه. فما بال الاستشفاع بالرسول على الله؟٣٢
وهناك أدلةٌ نقليةٌ مُعارِضة على عدم جواز الشفاعة عند القدماء، أو على تعميمها في الرسول وفي غيره، في وقت الحساب وفي غيره من الأوقات؛ فدلالتها على العموم من حيث الأشخاص والأزمان، وليست على الخصوص. ولم يبقَ عند المعتزلة إلا العفو عن الصغائر مُطلَقًا، وعن الكبائر بعد التوبة، والشفاعة لزيادة الثواب.٣٣ وهناك شبهاتٌ أخرى ضد الشفاعة يذكُرها القدماء تجمع بين النقل والعقل، ويصعب تفنيدها؛ فروايات الشفاعة مُعارَضة بمثلها، وتضعيفها لا يزيد على تضعيف روايات الشفاعة ذاتها، خاصةً وأنها وردت في رواياتٍ أخرى تمنع الشفاعة عن قاتل النفس ومُدمِن الخمر وعاقِّ الوالدَين، وهي أمهات الكبائر التي تقضي على الحياة. وتعارض هذه الروايات أخبارًا أخرى تُسقِط الفعل من الحساب، مثل: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة.» أو: «وإن زنى، وإن سرق.» أو «وإن قتل وشرب الخمر رغم أنف أبي ذر.» وهو ما يُعارِض أيضًا روح الوحي وأصل العدل. وإذا كان العمل جزءًا من الإيمان، فكيف تتم الشفاعة فيمن لا عمل له؛ أي لا إيمان له؟ وكيف تكون الشفاعة لكل مؤمن وإن لم يكن له عمل؟ إن فصل الإيمان عن العمل، وإخراج العمل عن الإيمان، إغراء على إتيان المعاصي، ودافع على ارتكاب الذنوب. ليس الظلم هو الشرك والكفر النظري، بل هو الظلم العملي؛ ظلم الأفعال: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ. ولا شفاعة تنفع الكافر لأجل أعماله، وليس لأجل نظره. وإن إخراج العذاب من أصل الإيمان والتوحيد وجعله في الكفار وحدهم مجرد نرجسية؛ حبًّا للذات وعداوة للآخر.٣٤
والحقيقة أن آيات الشفاعة تُشير إلى النفي أكثر مما تُشير إلى الإثبات؛٣٥ فالشفاعة لله وحده، وليس لدونه أية شفاعة.٣٦ وفي حال الإثبات لغيره تكون مشروطة برضاء الله وبإذنه، أو بعهدٍ اتخذه الله مع الشفيع، أو لمن يشهد بالحق.٣٧ وتُنكَر الشفاعة بأسلوب السخرية والتساؤل، وكأن إنكار الشفاعة أمرٌ بديهي لا يحتاج إلى إنكار.٣٨ وإن وُجدت بصرف النظر عن الشفيع، فإنها لا تنفع في شيء، إما لفوات الأوان، أو لعدم استحقاقها.٣٩ وهي لا تكون على الإطلاق للظالمين أو للتابعين أو للمشركين الذين أشركوا في فعلهم آخرين مُعتمِدين عليهم، تابعين لهم.٤٠ أما الشفاعة في الدنيا أهي خير أم شر، فذلك أمرٌ إنسانيٌّ خالص؛ أي من عمل خيرًا أو شرًّا فجزاؤه من جنس ما عمل.٤١
١  القول في ثواب الدنيا: اختلفت المعتزلة في ذلك على مقالتَين: (أ) عند النظَّام، لا يكون الثواب إلا في الآخرة، وأن ما يفعله الله بالمؤمنين في الدنيا من المحبة والولاية ليس بثواب؛ لأنه إنما يفعله بهم ليزدادوا إيمانًا، وليمتحنهم بالشكر عليه. (ب) عند سائر المعتزلة، قد يكون الثواب في الدنيا، وأن ما يفعله الله من الولاية والرضا على المؤمنين فهو ثواب (مقالات، ج١، ص٣٠٢-٣٠٣؛ انظر الفصل السابع، خلق الأفعال، خامسًا: أفعال الوعي الفردي والاجتماعي). (١) أفعال الوعي الفردي. (أ) التوفيق والسداد (ب) النصر والخذلان. (ﺟ) الهداية والضلال (د) العون والتيسير. (ﻫ) الطبع والختم (و) العصمة. (ز) الاستثناء في الإيمان.
٢  يقول أهل السنة إن الله لم يزَل مُواليًا لمن علِم أنه يكون وليًّا له إذا وُجد، ومُعاديًا لمن علِم أنه إذا وُجد كفر ومات على كفره يكون معاديًا له قبل كفره وفي حال كفره وبعد موته (الفِرَق، ص١٥٧). وكل من قال من أهل الحديث بأن جملة الطاعات من الإيمان قال بالموافاة، وقال كل من وافى ربه على الإيمان فهو المؤمن، ومن وافاه بغير الإيمان الذي أظهره في الدنيا عُلم في عاقبته أنه لم يكن قط مؤمنًا. والواحد من هؤلاء يقول: أعلم أن إيماني حق وضده باطل، وإن وافيت ربي عليه كنت مؤمنًا حقًّا. فيستثني في كونه مؤمنًا، ولا يستثني في صحة إيمانه. واستدلوا بأن الله ما أمر بإيمان ينقطع، وإنما أمر بإيمان يدوم إلى آخر العمر. وإذا قطع القاطع إيمانه عُلم أن الذي أظهره قبل القطع لم يكن الإيمان المأمور به، كما أن الصلاة التي يقطعها صاحبها قبل تمامها لا تكون صلاة على الحقيقة، وإنما تكون صلاة إذا تمَّت على الصحة. وقد رُوي عن ابن مليكة أنه قال: أدركت أكثر من خمسمائة من أصحاب النبي، كلٌّ منهم يخشى على نفسه النفاق؛ لأنه لا يدري ما يُختَم له (الأصول، ص٢٥٣-٢٥٤). الإيمان ثابت في الحال قطعًا لا شك فيه، ولكن الإيمان الذي هو علَمُ الفوز وآية النجاة، إيمان الموافاة، فاعتنى السلف به وقرنوه بالمشيئة، ولم يقصدوا التشكك في الإيمان الناجز (الإرشاد، ص٣٩٩-٤٠٠). ولا فرق بين الإرادة والمشيئة والاختيار والرضا والمحبة، والاعتبار في ذلك كله بالمآل لا بالحال؛ فمن رضي سبحانه عنه لم يزَل راضيًا عنه، لا يسخط عليه أبدًا، وإن كان في الحال عاصيًا؛ ومَن سخط عليه فلا يزال ساخطًا عليه، ولا يرضى عنه أبدًا، وإن كان في المآل مطيعًا. ومثال ذلك أنه سبحانه لم يزَل راضيًا عن سحرة فرعون، وإن كانوا في حال طاعة فرعون على الكفر والضلال، لكن لما آمنوا في المآل بان بأنه تعالى لم يزَل راضيًا عنهم، وكذلك الصدِّيق والفاروق لم يزَل راضيًا عنهما في حال عبادة الأصنام؛ لعِلمه بمآل أمرهما، وما يصير إليه من التوحيد ونصر الرسول والجهاد في سبيل الله، وكذلك لم يزَل ساخطًا على إبليس وبلعم وبرحيص. ويقول عبد الله بن كلاب: لم يزَل الله راضيًا عمَّن يعلم أنه يموت كافرًا، وإن كان أكثر عمره مؤمنًا محبًّا مبغضًا مواليًا معاديًا قاتلًا برضًا وسخط وحب وبغض، فموالاة ومعاداة (مقالات، ج١، ص٢٢٩). وقال إن الله لم يزَل راضيًا عمَّا يعلم أنه يموت مؤمنًا وإن كان أكثر عمره كافرًا، ساخطًا على من يعلم أنه يموت كافرًا وإن كان أكثر عمره مؤمنًا. وإرادة الله لكون الشيء هي الكراهة ألا يكون (مقالات، ج٢، ص٢٠٣). ويقول أصحاب عبد الله بن سعيد القطان: إن الله لم يزَل راضيًا عمَّن يعلم أنه يموت مؤمنًا، ساخطًا على من يعلم أنه يموت كافرًا. وكذلك قوله في الولاية والعداوة والمحبة (مقالات، ج١، ص٣٢٥).
٣  العجيب أن يشارك بعض المعتزلة مثل هشام بن عمرو الفوطي الأشاعرة في ذلك؛ فقد اختلف المتكلِّمون في معنًى عبَّروا عنه بلفظ الموافاة، وهو أنهم قالوا في إنسانٍ مؤمنٍ صالحٍ مجتهد في العبادة ثم مات مرتدًّا، وآخر كافر متمرِّد أو فاسق ثم مات مسلمًا تائبًا، كيف كان حكم كل واحد منهما قبل أن ينتقل إلى ما مات عليه عند الله؟ فذهب هشام بن عمرو الفوطي وجميع الأشعرية إلى أن الله لم يزَل راضيًا عن الذي مات مسلمًا تائبًا، ولم يزَل ساخطًا على الذي مات كافرًا أو فاسقًا، واحتجوا في ذلك بأن الله لا يتغير علمه، ولا يرضى ما سخط، ولا يسخط ما رضى. وقالت الأشعرية: الرضا من الله لا يتغير من صفات الذات لأين ولآن ولا يتغايران (الفصل، ج٤، ص٨٠). وكان هشام بن عمرو الفوطي يقول بالموافاة، وأن الإيمان هو الذي يوافي الموت (المِلَل، ج١، ص١٠٩). القول في الولاية والعداوة. اختلفت المعتزلة في ذلك على مقالتَين. قالت المعتزلة، إلا بشر بن المعتمر وطوائف منهم، إن الولاية من الله للمؤمنين مع إيمانهم، وكذلك عداوته للكافرين مع كفرهم. والولاية عندهم الأحكام الشرعية والمدح وأحداث الألطاف، والعداوة ضد ذلك، وكذلك قالوا في الرضا والسخط. وقال قائلون منهم الولاية مع الإيمان، والعداوة مع الكفر، وهما غير الأحكام والأسماء، وكذلك الرضا والسخط غير الأحكام والأسماء (مقالات، ج١، ص٣٠٢).
٤  هذا هو موقف عديد من فِرق الخوارج؛ فتقول المكرمية (الثعالبة العجاردة) بالموافاة، وهي أن الله يتولى عباده ويُعاديهم على ما هم صائرون إليه، لا على أعمالهم التي هم فيها (مقالات، ج١، ص١٦٩). الموافاة هي الحكم بأن الله إنما يوالي عباده ويعاديهم على ما هم صائرون إليه من موافاة الموت، لا على أعمالهم التي هم فيها؛ فإن ذلك ليس بموثوق به إصرارًا عليه ما لم يُصرَّ المرء إلى آخر عمره ونهاية أمله، فحينئذٍ إن بقي على ما يعتقده فذلك هو الإيمان، فيُواليه وإن لم يبقَ فيُعاديه، وكذلك في حق الله حكم الموالاة والمعاداة على ما عُلم منه حال الموافاة (المِلَل، ج٢، ص٥١). قالت المكرمية بالموافاة، وهي أن الله إنما يتولى عباده ويعاديهم على ما هم صائرون إليه، لا على أعمالهم التي هم فيها (مقالات، ج١، ص١٦٩). وقالت بالموافاة في الولاية والعداء (الفِرَق، ص١٠٣). وتقول الخازمية (العجاردة) أيضًا بالموافاة، وأن الله إنما يتولى العباد على ما علِم أنهم صائرون إليه في آخر أمرهم من الإيمان، ويتبرأ منهم على ما علِم أنهم صائرون إليه في آخر أمرهم من الكفر، وأنه لم يزَل محبًّا لأوليائه مبغضًا لأعدائه (المِلَل، ج٢، ص٤٧-٤٨؛ اعتقادات، ص٤٩). وعند الشعيبية (العجاردة)، لا يستطيع أحد أن يعمل إلا ما شاء الله، وأن أعمال العباد مخلوقة لله (مقالات، ج١، ص١٦٥).
٥  عند الخازمية والمكرمية (العجاردة الخوارج)، الولاية والعداوة صفتان لله في ذاته، وأن الله يتولى العباد على ما هم صائرون إليه وإن كانوا في أكثر أحوالهم مؤمنين (مقالات، ج١، ص١٦٦). الولاية والعداوة من صفات الذات، وكذلك الرضا والسخط (مقالات، ج١، ص٣٠٢). خالفت الخازمية أكثر الخوارج في الولاية والعداوة، وقالوا إنهما صفتان لله، وإن الله إنما يتولى العبد إلى ما هو صائر إليه من الإيمان وإن كان في أكثر عمره كافرًا، ويرى منه ما يصير إليه من الكفر في آخر عمره وإن كان في أكثر عمره مؤمنًا، وإن الله لم يزَل محبًّا لأوليائه ومبغضًا لأعدائه. وهذا القول منهم مُوافِق لقول أهل السنة في الموافاة، غير أن أهل السنة ألزموا الخازمية على قولها بالموافاة أن يكون علي وطلحة والزبير وعثمان من أهل الجنة، وقالوا لهم: إذا كان الرضا من الله على العبد أن يكون ممَّن علِم أنه يموت على الإيمان، وجب أن يكون المبايعون تحت الشجرة على هذه الصفة (الفِرَق، ص٩٤-٩٥). عندما أثبتت الخازمية الولاية والعداوة كصفتَين لله في ذاته أثبتوا القدر، وقالوا بأن الله يتولى العباد على ما هم صائرون إليه وإن كانوا في أكثر أحوالهم مؤمنين (مقالات، ج١، ص١٦٦).
٦  هذا هو الحال عند الشيعة التي تقول بموالاة الحسن والحسين، والمشهودين من أسباط الرسول، وسائر أولاد علي من صلبه، وسائر من درج على سنن آبائه الطاهرين دون من مال منهم إلى الاعتزال أو الرفض، دون من انتسب إليهم وأسرف في عداوته وظلمه، كالبرقعي الذي عدا على أهل البصرة ظلمًا وعدوانًا، وقالوا بموالاة أعلام التابعين للصحابة بإحسان، وكل من أظهر أصول السنة، وإنما تبرءوا من أهل المِلل الخارجة عن الإسلام ومن أهل الأهواء الضالة مع انتسابها إلى الإسلام، كالقدرية والمرجئة والرافضة والخوارج والجهمية والنجارية والمجسِّمة (الفِرَق، ص٣٦٠-٣٦١).
٧  هذا هو موقف ابن حزم في الهجوم على الأشاعرة؛ فمِن شنعهم (المرجئة الأشعرية) قولهم إن من كان الآن على دين الإسلام مُخلِصًا بقلبه ولسانه، مجتهدًا في العبادة، إلا أن الله يعلم أنه لا يموت إلا كافرًا، فهو الآن عند الله كافر؛ وإن من كان الآن كافرًا يسجد للنار وللصليب، أو يهوديًّا أو زنديقًا مصرِّحَين بتكذيب الرسول، إلا أنه في علم الله أنه لا يموت إلا مسلمًا، فإنه الآن عند الله مسلم. ما قال هذا مسلم قط قبل هشام الفوطي، وهذه مكابرة للعيان وتكذيب لله. ولقد سمَّى الله مؤمنين ثم أخبر بأنهم كفروا، ومسلمين ثم ارتدُّوا. ويرفض ابن حزم قول الباقلاني إن الله لا يرضى لعباده المؤمنين أن يكفروا، وإن كان قد رضيه لأهل الكفر والفساد، فهذا تكذيب لله مجرد. وكيف يقول الباقلاني إن الكفار فعلوا من الكفر أمرًا رضيه الله منهم وأحبه منهم؟ كيف يدخل هذا في عقل مسلم؟ (الفصل، ج٥، ص٦٢-٦٣). ويُبطِل ابن حزم قول الأشاعرة بأن عِلم الله لا يتغير، وهو مثل قول اليهود، واحتجاجهم بذلك على إبطال النسخ، إنما المعلومات تتغير. وقول الأشاعرة إن الله لا يسخط ما رضي ولا يرضى ما سخط باطل وكذب عند ابن حزم؛ فقد رضي الله ليهود السبت، ثم سخط عليهم لعصيانهم له؛ فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه لا يمكن أن يحبط عمل إلا وقد كان غير حابط، ومن المُحال أن يحبط عمل لم يكن محسوبًا قط؛ فصحَّ أن عمل المؤمن الذي ارتدَّ ثم مات كافرًا أنه كان محسوبًا ثم حبط إذا ارتد، وقد أخبر الله بالأعمال على أنها سيئات ثم بدَّلها حسنات، وقد سخط الله أكل آدم من الشجرة وذهاب يونس مغاضبًا، ثم تاب عليهم، واجتبى يونس بعد أن لامه. ولا يشك كل ذي عقل أن اللائمة غير الاجتباء (الفصل، ج٤، ص٨٠-٨١). وذهب سائر المسلمين إلى أن الله كان ساخطًا على الكافر والفاسق، ثم رضي عنهما إذا أسلم الكافر وتاب الفاسق، وأنه كان راضيًا عن المسلم وعن الصالح، ثم سخط عليهما إذا كفر المسلم وفسق الصالح (الفصل، ج٤، ص٨٠).
٨  هذا هو موقف بشر بن المعتمر؛ فالولاية والعداوة تكونان بعد حال الإيمان والكفر (مقالات، ج١، ص٣٠٢). والعجيب تكفير أهل السنة والأشاعرة لبشر لذلك، واعتبار مقالته بدعة شنعاء؛ لأنه يقول بأن الله ما والى مؤمنًا في حال إيمانه، ولا عادى كافرًا في حال كفره. ويجب تكفيره في هذا على قول جميع الأئمة. أما على قول أصحابنا فلأنَّا نقول: إن الله لم يزَل مواليًا لمن علِم أنه يكون وليًّا له قبل كفره، وفي حال كفره، وبعد موته. وأما على أصول المعتزلة غير بشر فلأنهم قالوا: إن الله لم يكن مواليًا لأحد قبل وجود الطاعة منه، فكان في حال وجود طاعته مواليًا له، وكان معاديًا للكافر في حال وجود الكفر منه؛ فإن ارتد المؤمن صار الله معاديًا له بعد أن كان مواليًا له عندهم. وفي رأي الأشاعرة أن بشرًا قد زعم أن الله لا يكون مواليًا للمطيع في حال وجود طاعته، ولا معاديًا للكافر في حال وجود كفره، وإنما يوالي المطيع في الحالة الثانية من وجود طاعته، ويعادي الكافر في الحالة الثانية من وجود كفره، واستدل على ذلك بأن قال: لو جاز أن يوالي المطيع في حال طاعته، وجاز أن يعادي الكافر في حال وجود كفره، لجاز أن يُثيب المطيع في حال طاعته، ويعاقب الكافر في حال كفره. فقال الأصحاب: لو فعل ذلك لجاز. فقال: لو جاز ذلك لجاز أن يمسخ الكافر في حال كفره. فقالوا: لو فعل ذلك لجاز في حال عبادتهم لعِلمه بمآلهم، وما يصير إليه حالهم (الفِرَق، ص٥٧). وقد سُئل الجنيد عن قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى. فقال: هم قوم سبقت لهم العناية في البداية، فظهرت لهم الولاية في النهاية (الإنصاف، ص٤٤-٤٥).
٩  الشرح، ص٦٣٦-٦٣٧.
١٠  قال أهل السنة بموالاة العشرة المبشَّرين بالجنة، وقطعوا بأنهم من أهل الجنة، وهم: الخلفاء الأربعة، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح. وقيل هو فيهم على شريطة أن لم يتغيروا عما كانوا عليه حتى يموتوا وإن ماتوا على الإيمان. وقال أهل السنة والجماعة: هو في العشرة، وهم في الجنة لا محالة (مقالات، ج٢، ص١٤٥؛ الفصل، ج٤، ص٩٧-٩٨؛ النسفية، ص١٤٧). وقالوا بموالاة كل من شهد بدرًا مع النبي، وقطعوا بأنهم من أهل الجنة، وكذلك القول فيمن شهد معه أحدًا إلا رجلًا اسمه قزمان؛ فإنه قُتل بأحد جماعة من المشركين وقتل نفسه، وكان يُنسَب إلى النفاق، وكذلك كل من شهد بيعة الرضوان بالحديبية من أهل الجنة (الفِرَق، ص٣٥٢-٣٥٣، ص١٦٠–٣٥٩؛ مقالات، ج١، ص٣١٨؛ العضدية، ج٢، ص٢٨١). وهم الذين حاربوا مع الرسول بقريب قليب بدر، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر شخصًا، والكفار تسعمائة وخمسين (الدواني، ج٢، ص٢٨١). وقالوا: صح الخبر بأن سبعين ألفًا من هذه الأمة يدخلون الجنة بلا حساب، وأن كل واحد منهم يشفع في سبعين ألفًا. وقد دخل في هذه الجملة عكاشة بن محصن (الفِرَق، ص٣٥٢-٣٥٣، ص١٦٠–٣٥٩). وقالوا بموالاة أقوام وردت الأخبار بأنهم من أهل الجنة، وأن لهم الشفاعة في جماعة من الأمة، منهم أويس القرني، والخبر فيهم مشهور (الفِرَق، ص٣٥٩). وقالوا أيضًا بموالاة كل من مات على دين الإسلام، ولم يكن قبل موته على بدعة من ضلالات أهل الأهواء الضالة (الفِرَق، ص٣٥٢-٣٥٣). ويُقال كذلك في الأئمة الذين تدور عليهم الفتاوى في الحلال والحرام، من الصحابة والتابعين إلى بعدهم كمالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة، الذين لم يشُب مذهبَهم بدعُ الخوارج والرافضة والقدرية والجهمية والنجارية والمشبِّهة المجسِّمة، وهم إجماع الأمة الذين لم يكفِّروا أحدًا من الصحابة، ثم عوام المسلمين الذين لم تظهر عليهم بدعة (الأصول، ص٢٦٤-٢٦٥). وقد يُعيَّن شخص بعينه من الصحابة مثل عثمان، أو الصحابة أو أزواج الرسول عامة أو خاصة؛ فقالوا بموالاة جميع أزواج رسول الله، وكفَّروا من كفَّرهن أو كفَّر بعضهن (الفِرَق، ص٣٥٩-٣٦٠؛ الفصل، ج٤، ص٩٧-٩٨). وكذلك نشهد بالجنة لفاطمة والحسن والحسين وسائر الصحابة، لا يُذكَرون إلا بخير، ويُرجى لهم أكثر ممَّا يُرجى لغيرهم من المؤمنين. ولا نشهد بالجنة أو النار لأحد بعينه، بل نشهد بأن المؤمنين من أهل الجنة، والكافرين من أهل النار (التفتازاني، ص١٤٧). وفاطمة وخديجة والحسن والحسين وعائشة، بل سائر أزواج الرسول (الدواني، ج٢، ص٢٨١). وقد أنكر الروافض الرواية (مقالات، ج٢، ص١٤٥). بينما توقَّف آخرون (الفصل، ج٤، ص٩٤).
١١  في بيان من يُقطَع بإيمانه من أهل الإيمان. أجمع الأصحاب على القطع بإيمان الملائكة والأنبياء، وعلى أن كل واحد منهم مختوم له بالإيمان يوافي ربه به، ويكون معصومًا عن التبديل والكفر والنفاق. وقالوا في هاروت وماروت إنهما كانا ملكَين، وتابا عن ذنوبهما، وسيُختَم لهما بالسعادة إن شاء الله. وأبطلوا قول من زعم أنهم كانا عجلَين من بابل؛ لأنهما مذكوران في القرآن بأنهما ملكان (الأصول، ص٢٦٤).
١٢  بعض الأصحاب يذهب إلى شيءٍ يسمِّيه «شاهد الحال»، وهو أن من كان مظهر الشيء من الديانات متحمِّلًا للأذى فيه، غير مستجلِب بما يُلقى من ذلك حالًا، فإنه مقطوع على باطنه وظاهره قطعًا لا شك فيه. رفضوا من الدنيا ما لو استعملوا لما حطَّ من وجاهتهم شيئًا، واحتملوا من المضض ما لو خفَّفوه عن أنفسهم لم يقدم ذلك فيهم عند أحد؛ فهؤلاء مقطوع على إسلامهم عند الله، وعلى خيرهم وفضلهم. وكذلك نقطع على أن عمرو بن عبيد كان يدين بإبطال القدر بلا شك في باطن أمره، وأن أبا حنيفة والشافعي كانا في باطن أمرهما يدينان بالله بالقياس، وأن داود بن علي في باطن الأمر يدين بالله بإبطال القياس بلا شك، وأن أحمد بن حنبل كان يدين بالله بالتدين والحديث في باطن أمره بلا شك، وبأن القرآن غير مخلوق بلا شك. وهكذا كل من تناصرت أحواله، وظهر جِده في معتقدٍ ما، وترك المسامحة فيه، واحتمل الأذى والمضض من أجله. وهذا قولٌ صحيح لا شك فيه؛ إذ لا يمكن البتة في بِنية الطبائع أن يحتمل أي أذًى ومشقة لغير فائدة يتعجَّلها أو يتأجَّلها. ولا بد لكل ذي عقد من أن تبين عليه شاهد عقده، ممَّا يبدو منه من مسامحة فيه أو صبر عليه. وأما من كان بغير هذه الصفة فلا نقطع على عقده (الفصل، ج٤، ص٨٤-٨٥).
١٣  الإرشاد، ص٢٩٣–٣٩٥. شفاعة النبي وردت سمعًا (النهاية، ص٤٣٦).
١٤  الشفاعة لغةً هي الوسيلة، وعرفًا سؤال الخير للغير (الإتحاف، ص١٤٦). وقالت المرجئة إن موضوعها دفع الضرر عن المشفوع له (الشرح، ص٦٨٩-٦٩٠).
١٥  الشرح، ص٦٨٨-٦٨٩.
١٦  أجمعت الأمة على أصل الشفاعة، وهي لأهل الكبائر من الأمة، لقول الرسول وقول الله؛ أي لذنب المؤمنين لدلالة القرينة، وطلب المغفرة شفاعة (المواقف، ص٣٨٠). الشفاعة ثابتة للرسل بالأخبار في حق أهل الكبائر (النسفية، ص١١٢). الشفاعة حق لمن أذِن له الرحمن، وشفاعة الرسول لأهل الكبائر من أمته، وهو مشفَّع فيهم، ولا يُرَد مطلوبه (العضدية، ج٢، ص٢٧٠-٢٧١). أجمع أهل السنة والجماعة على صحة الشفاعة من الرسول لأهل الكبائر من هذه الأمة (الاتصاف، ص١٦٨–١٧٠). يُقرُّون بشفاعة الرسول، وأنها لأهل الكبائر من أمته (مقالات، ج١، ص٣٢٢). عند أهل السنة والاستقامة، شفاعة الرسول لأهل الكبائر من أمته (مقالات، ج٢، ص١٤٧-١٤٨). وتكون الشفاعة للعصاة والفساق. القول بشفاعة الرسول في حق فساق الأمة خلافًا للمعتزلة (المعالم، ص١٤٣-١٤٤). يُثبِتها أهل السنة والأشاعرة والكرامية وبعض الرافضة (الفصل، ج٤، ص٨٥-٨٦). ومن أقوال المرجئة في فُجَّار أهل القِبلة في موضوع «هل يجوز أن يخلِّدهم الله في النار أبدًا إن أدخلهم النار؟» إن الله يُدخِل قومًا من المسلمين إلا أنهم يخرجون بشفاعة الرسول، ويصيرون إلى الجنة لا محالة (مقالات، ج١، ص٢١١-٢١٢). لا خلاف بين الأمة في أن الشفاعة ثابتة للنبي، إنما الخلاف في ثبوتها لمن؟ هي ثابتة للتائبين من المؤمنين، وعند المرجئة للفساق من أهل الصلاة (الشرح، ص٦٨٧-٦٨٨). الشفاعة للفساق الذين ماتوا على الفسق ولم يتوبوا، وتقبح عند قاضي القضاة، وتحسن عن أبي هاشم مع إصرار المُذنِب على الذنب كما في العفو. يُخرِج الله قومًا من النار بعد أن امتُحشوا بشفاعة محمد؛ تصديقًا لما جاءت به الروايات (الإبانة، ص١٠). شفاعة محمد مقبولة في حق عصاة أمته يوم القيامة، والدليل أمر النبي بالاستغفار، وغفر الله لمن استغفر له النبي (المسائل، ص٣٨٢-٣٨٣). الشفاعة للمؤمن العاصي ممكن في نفسه، وورد عن القواطع السمعية والأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وإجماع الأمة من السلف ومن تابعهم من الخلف، ممَّا اشتهاره مُغنٍ عن ذِكره، فوجب التصديق به والإذعان لقبوله والانقياد إليه والتعويل عليه، على وفق ما اشتهر عن النبي وصحابته والعلماء من أمته (الغاية، ص٣٠١-٣٠٢).
١٧  الفصل، ج٤، ص٦٩.
١٨  حاشية الخلخالي، ص٢٧٠.
١٩  الإرشاد، ص٣٩٣–٣٩٥.
٢٠  يُقال ذلك في مثل أبي لهب وأبي طالب، أو في بعض الكفار من بيت الرسول (حاشية العقباوي، ص٧٣-٧٤).
٢١  عند الأشاعرة، شفاعة الأنبياء حق، وشفاعة نبينا للمؤمنين المُذنِبين ولأهل الكبائر منهم المستوجِبين حقٌّ ثابت (الفقه، ص١٨٦). وبالرغم من إنكار المعتزلة الشفاعة إلا أنه عند البعض منهم الشفاعة للمطيعين من المؤمنين؛ لأن الفاسق إذا خرج من الدنيا من غير توبة خُلِّد في النار؛ لأنه قد استوجب النار بفسقه، ومن دخل النار كان مغضوبًا عليه، ومن كان مغضوبًا عليه لا يدخل الجنة (النهاية، ص٤٧٠؛ الغاية، ص٣٠٦–٣٠٩). الشفاعة ثابتة للمؤمنين دون الفساق من أهل الصلاة، خلاف المرجئة (الشرح، ص٦٩٠–٦٩٢).
٢٢  قال بعض المعتزلة: الشفاعة للمؤمنين أن يزدادوا في منازلهم من باب التفضيل (مقالات، ج٢، ص١٤٧-١٤٨). الشفاعة لزيادة الثواب لا لدرء العقاب، وهو عام في شفاعة النبي وغيره (المواقف، ص٣٨٠). لا شفاعة في الكبائر، وردوا العقاب بها. الشفاعة لا تكون إلا لزيادة الثواب ورفع الدرجات (حاشية الخلخالي، ص٢٧٠؛ شرح الفقه، ص٨٤).
٢٣  رُوي أن النبي خُيِّر بين أن يدخل نصف أمته الجنة وبين الشفاعة، فاختار الشفاعة، وأن ٧٠٠٠٠ سيدخلون الجنة بلا حساب، كل واحد منهم يشفع في ٧٠٠٠٠. وسأله عكاشة بن محصن أن يجعله واحدًا منهم فدعا له (الأصول، ص٢٤٤؛ الفِرَق، ص٣٥٢-٣٥٣؛ الإبانة، ص٦٥-٦٦؛ شرح الخريدة، ص٦٠-٦١؛ التحفة، ج٢، ص٨٨-٨٩؛ الإتحاف، ص١٤٦-١٤٧).
٢٤  شفاعة محمد حق لكل من هو من أهل الجنة وإن كان صاحب كبيرة، وهي ليست مختصة بأهل الكبائر من هذه الأمة، فإنه بالنسبة إلى جميع الأمم كاشف الغمة ونبي الرحمة. شفاعته ثابتة للرسول والأخيار في حق الكبائر بالمستفيض من الأخبار (شرح الفقه، ص٨٤).
٢٥  يذكر القدماء أداةً نقلية على صحة الشفاعة من الكتاب والسنة، مثل: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (١٧: ٧٩). ومن الحديث: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.» أو: «أشفع إلى ربي، فيجد لي حدًّا، فأُخرِجهم من النار، ثم أشفع فيجد لي حدًّا، فأُخرِجهم من النار حتى لا يبقى أحد في النار، ولو كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» (الإنصاف، ص٥٣، ص١٦٨–١٧٠). الرسول له ثلاثة أشياء: (أ) كونه شافعًا. (ب) كونه مشفَّعًا؛ أي مقبول الشفاعة. (ﺟ) كونه مقدَّمًا على غيره (التحفة، ص٨٧-٨٨). ويمكن أيضًا ذِكر: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤: ٤١). وقد كثرت الاستشهادات بها في العقائد المتأخِّرة شعرًا، مثل:
وخُصَّ النبي بالمزايا
كفتحه شفاعة البرايا
وبعد يشفع كل ذي يدِ
طويلة عند الإله في غدِ
(الوسيلة، ص٦٩؛ القول، ص٦٩-٧٠)
وأيضًا:
وواجب شفاعة الشفع
محمد مقدَّمًا لا تمنع
(الجوهرة، ج٢، ص٧٧-٧٨)
وغيره من مرتضى الأخبار
شفيع كما جاء في الأخبار
٢٦  صفة ما يفعله الرسول أنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد. فإذا أذِن الله له شفع من أسعد الناس بها، ولا تكون لمن أشرك بالله (الكتاب، ص٣٧–٤٠؛ حاشية الخلخالي، ص٢٧٠). ثم بعد اشتداد هول الموقف يشفع محمد الشفاعة العظمى، وهي شفاعة في فصل القضاء بين جميع الخلائق عندما يشتد الهول عليهم ويطول وقوفهم، فيستشفعون به فيشفع لهم عند ربه في ذلك (الحصون، ص٨٧).
٢٧  ويجب الإيمان بشفاعة نبينا محمد العظمى في الموقف، وله شفاعاتٌ غيرها (العقيدة، ص٧٤).
٢٨  الشفاعة حق وصدق، وأعلاها شفاعة نبينا، ومَن أُذِن له من ملك ونبي ومؤمن (الإنصاف، ص١٤٣). إثبات الشفاعة للنبي ومن صلحاء أمته للمُذنِبين، ولمن كان في قلبه ذرة من الإيمان (الفِرَق، ص٣٤٨؛ الحصون، ص٨٧؛ شرح الفقه، ص٨٤؛ الأصول، ص٢٤٤).
٢٩  أنكرت المعتزلة والخوارج الشفاعة في أهل الذنوب، وأنهم لا حظ لهم منها، كما يُنكِرون القضاء والقدر والرؤية والشفاعة (الإنصاف، ص٧٠-٧١) (وكأنها سلسلةٌ متوالية من الجرائم، من قام بواحدة سهل عليه بالتعود القيام بالأخرى). أنكرها قوم من المعتزلة والخوارج، وكل من قال بألا يخرج أحد من النار بعد دخوله فيها (الفصل، ج٤، ص٨٥-٨٦). وأنكرت المعتزلة الشفاعة لأهل الكبائر (مقالات، ج٢، ص١٤٧-١٤٨). والمعتزلة فرقتان: (أ) إنكار الشفاعة اصلًا ورأسًا، ورد الأخبار فيها. (ب) للأنبياء والملائكة شفاعة لثلاث فِرق من المؤمنين: (١) أصحاب الصغائر. (٢) أصحاب الكبائر التائبين عنها والنادمين عليها. (٣) المؤمنون الذين لم يعملوا ذنبًا أصلًا (ولماذا الشفاعة لهم إذن؟) (الإنصاف، ص١٦٨–١٧٠). كما أنكرتها الجهمية (الرد، ص٩٩، ص١٣٤).
٣٠  وذلك مثل: إذا شفع الرسول لصاحب الكبيرة، فإما أن يشفع أو لا؛ فإن لم يشفع لم يجُز لأنه يقدح بإكرامه، وإن شفع لم يجُز لأن إثابة من لا يستحق الثواب قبيح. والمكلَّف لا يدخل الجنة تفضلًا، والعقوبة تُستحقُّ على الدوام، فكيف يخرج الفاسق من النار بشفاعة النبي، وقد نفى الله أن يكون للظالمين شفيع البتة (الشرح، ص٦٨٨-٦٨٩).
٣١  الشرح، ص٦٩٢-٦٩٣؛ التوبة، ص٤٣٤-٤٣٥؛ الأصول، ص٢٤٤-٢٤٥.
٣٢  عند محمد بن عبد الوهاب لا يُستشفَع بالله على خلقه، وإنكار من قال نستشفع بالله عليه (الكتاب، ص١٧٦-١٧٧).
٣٣  شرح التفتازاني، ص١٢٢-١٢٣؛ حاشية الخلخالي، ص١٢٢.
٣٤  يحاول الباقلاني في «الإنصاف» تفنيد هذه الشبهات، وهي: (أ) لا ينال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي. (ب) تأويل ذلك يستبعد الكفار. (ﺟ) من تسمَّى سمًّا وقتل نفسه فهو يتسمَّاه في نار جهنم خالدًا فيها أبدًا. ورُوي مثله فيمن قتل نفسه بحديدة. وكذلك «لا يدخل الجنةَ مُدمِن خمر وعاقٌّ والدَيه.» (د) «لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق وهو مؤمن.» «ليس منَّا من يأتينا بطينًا وجاره خميصًا.» «من غشَّنا فليس منَّا.» «لا إيمان له لمن لا أمانة له.» (ﻫ) «ولا يشفعون إلا لمن ارتضى.» (و) مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ(٤٠: ١٨). (ز) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٤٣: ٧٥)، وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا (٣٥: ٣٦)، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ (٤: ٥٦)، فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (٧٤: ٤٨). (ح) من حلف بالطلاق أنه يفعل فعلًا يشفع له بالرسول، هل يكون عاصيًا أم مطيعًا؟ (الإنصاف، ص١٧٠–١٧٦).
٣٥  ذُكرت الشفاعة ومشتقاتها في القرآن ٣١ مرة، ليس منها للرسول استعمالٌ واحد! وذُكرت فعلًا ٥ مرات، والباقي أسماء؛ أي إن الشفاعة ليست فعلًا لأحد. وذُكر لفظ «شافعين» مرتَين، «شفيع» ٥ مرات، «شفعاء» ٥ مرات. أما لفظ «شفاعة» فقد ذُكر١٣ مرة، منها ١١ مرة بلا ضمير؛ أي إنها غير مضافة إلى أحد. وذُكر لفظ شفع مرةً واحدة وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (٨٩: ٣-٤)، وهو المعنى اللغوي للشفاعة.
٣٦  وذلك مثل: قُلْ لِلهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ (٣٩: ٤٤)، لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦: ٥١)، لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ (٦: ٧٠)، مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (٣٢: ٤).
٣٧  وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ (٣٤: ٢٣)، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ (٢: ٢٥٥)، مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ (١٠: ٣)، يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ (٢٠: ١٠٩)، لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ (٥٣: ٢٦)، وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى (٢١: ٢٨)، وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ (٤٣: ٨٦).
٣٨  وذلك مثل: قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا (٧: ٥٣)، أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ (٣٩: ٤٣).
٣٩  فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (٧٤: ٤٨)، أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ (٢: ٢٥٤)، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ (٢: ٢٢٣)، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٢: ٤٨).
٤٠  مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (٤٠: ١٨)، إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا (٣٦: ٣٣)، فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (٢٦: ١٠٠)، وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ (١٠: ١٨)، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (٣٠: ١٣)، وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ (٦: ٩٤).
٤١  مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا (٤: ٨٥).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤