رابعًا: تطور النبوة

لم يظهر الوحي مرة واحدة، بل وقع على مراحل؛ لا توجد إذن نبوة واحدة، بل عدة نبوات مُتتالِية منذ أول الأنبياء وهو أول البشر، آدم، حتى آخر الأنبياء، دون أن يكون آخر البشر، محمد. فما الصلة بين مراحل الوحي السابقة؟ وما الصلة بين هذه المراحل جميعًا وآخر مرحلة التي بها خاتم النبوة؟ ما صلة السابق باللاحق واللاحق بالسابق؟ هل صلة تقدُّم واكتمال، تغيُّر وثبات، تطوُّر وبناء؟

وقد سمَّى القدماء ذلك «النسخ»، ولا يعني النسخ فقط تبديل آية بدل آية، كما هو الحال في آخر مرحلة من مراحل الوحي، بل ظهور وحي تابِع لوحي آخر، وظهور نبوة بعد نبوة. يُعَد النسخ هنا بين مرحلة وأخرى، وليس بين آية وآية داخل نفس المرحلة. هو النسخ العام وليس النسخ الخاص، نسخ النبوة وليس نسخ الآية، نسخ المسيحية لليهودية، ونسخ الإسلام للمسيحية مثلًا. والنسخ لا يكون إلا في الشرائع والنُّظم والعبادات والأعراق، أما في العقائد فلا يوجد نسخ؛ فالقوانين النظرية واحدة لا تتبدل، أما كيفية ممارساتها وتطبيقاتها وصياغاتها في قوانين وتشريعات، فهي التي يقع فيها النسخ. لا يعني النسخ إذن الإبطال والإزالة، بل يعني التطور والتقدم وتكييف الشريعة طبقًا لدرجة تقدُّم الوعي البشري في الأصول والفروع، ودفعها درجة أخرى إلى الإمام إسهامًا في عملية الإسراع في التطور؛ من أجل الوصول إلى تحقيق الغاية من الوحي، وهو استقلال الوعي الإنساني عقلًا وإرادة، في حين أن النسخ في آخر مرحلة يتوجه فقط إلى الفروع دون الأصول.

ولم يقتصر القدماء على ديانات الوحي المذكورة فيه فحسب، بل ضموا إليها الديانات البشرية الأخرى، التي قد تكون في أصلها نبوات إلهية، أو تكون نبوات إنسانية صرفة؛ لذلك لا يقتصر القدماء على الحديث عن اليهودية والمسيحية والإسلام كبرى المراحل، بل أيضًا عن البراهمة والصابئة والمجوس، خاصةً وأن لهم مواقف بالنسبة لديانات الوحي، ويعترفون بأنبيائهم ويُقِرون بنبواتهم.١ وقد تعرَّض القدماء للفِرَق والديانات التي عرفها العرب والمسلمون؛ فاليهودية والمسيحية فِرَق عربية، ولا شأن لها باليهودية والمسيحية كما عرفها الغرب بعد ذلك، ثم نقلنا نحن معرفتها بهم منه، اللهم إلا إذا كان هناك استمرار بين الفِرَق العربية القديمة والفِرَق الغربية الحديثة. الفِرَق اليهودية والمسيحية هي الفِرَق داخل الحضارة وليس خارجها، وكذلك البراهمة والصابئة والمجوس هي الفِرَق التي عرفتها الحضارة وانتشرت داخلها بعد أن تحوَّل أصحابها إلى الدين الجديد، أو بقى البعض منهم على دياناتهم القديمة، أو عرفها المسلمون فقط تاريخيًّا إثر الترجمة ومعرفة ديانات الأمم السابقة ومِلَلها، سواء كانت بلادها مفتوحة أو لم تُفتَح بعد، واقتصر الأمر على نقل تراثهم. وأخذ القدماء معارفهم عن الديانات القديمة من مصادرها الأولى؛ أي من الكتب المقدَّسة لكل دين وملة، وليس من كتب تاريخ الفِرَق القديمة، أو رواية وسماعًا دون التحقق من المصادر؛ وبالتالي فإن معرفتهم بها موثَّقة، وليست كمعرفتنا نحن بآراء الخصوم وفِرَق المعارضة، التي لا نعلمها في الغالب إلا مِن كتب تاريخ الفِرَق التي كتبتها الفِرَق الناجية. ويُثبِت القدماء نبوة كل الأنبياء وكل مراحل الوحي السابقة؛ دفاعًا عن اكتمال الوحي وشموله ضد مُنكِري إحدى مراحله نيابةً عن باقي الفرَق، فكأنهم يقومون بعملهم وبعمل غيرهم، وكأن آخر مرحلة هي الأمينة على شمول الوحي واكتمال النبوة، وهي القادرة على تبني الوحي في تمامه وكماله حرصًا عليه، وليس دفاعًا عن قوم أو ملة أو عنصر أو جنس، وتنكرًا للأقوام والمِلَل والشعوب الأخرى؛ فكلُّ ملة تقطع مراحل الوحي وتُوقِفه عندها، وآخر مرحلة تعترف بالمراحل جميعًا، ولا تُوقِف الوحي إلا عند اكتمال النبوة وتحقُّق غاية الوحي في التاريخ، وقد قام بذلك البعض دون البعض، سواء في نشأة الحضارة أم في ذروتها، في المشرق أو في المغرب؛ فقد بدأت الأمم المغلوبة بعد الفتح التوجه إلى الدين الجديد من الخلف، بعد أن عجَزت عن مواجهته من الأمام بنشر دياناتها السابقة وعقائدها القديمة في حضارةٍ تقوم على التسامح الديني والحوار الفكري وتعدُّد الأديان.٢

(١) هل يستحيل النسخ بين المراحل؟

إذا كان من المُمكِن تناوُل موضوع النبوة إمكانًا ووقوعًا على نحوٍ نظري خالص، فإنه يصعب فِعل ذلك حين الحديث عن تطور النبوة؛ فما دام الأمر مع التاريخ فلا بد من أسماء أنبياء وأسماء فِرَق ومذاهب، ويتحول علم أصول الدين بالضرورة من علم للعقائد إلى علم للفِرَق. وتطوُّر النبوة إنما يعني بتعبيرٍ اصطلاحيٍّ «النسخ»؛ فالتطور يعني المراحل، والنسخ هو أحد أشكال العلاقات بين هذه المراحل. ولما كانت النبوة متطوِّرة، وكان الوحي قد وقع على مراحل عدة، كان من الضروري أولًا إثبات النسخ ضد مُنكِريه وهم اليهود، وتُنكِر اليهود النسخ لأنها تتضرر منه مرتَين؛ مرة بنسخ المسيحية لليهودية، ومرة بنسخ الإسلام للمسيحية؛ ومن ثَم كانت المحاولات لإثبات النسخ (بالإضافة إلى التحريف الذي تُشارِك فيه المسيحية) موجَّهة أساسًا ضد اليهود مع تعديد فِرَقهم المختلفة، وهم قسمان؛ القسم الأول أبطل النسخ ابتداءً كاستحالة عقلية ولم يجعله مُمكِنًا؛ إذ يستحيل أن يأمر الله بشيء وينهى عنه، فينقلب الحق باطلًا والباطل حقًّا، وتتحول الطاعة إلى معصية والمعصية إلى طاعة، ويُوقَع الله في الجهل والندم، ويُحدِث تغيرًا في العلم الإلهي، وتقلبًا في الإرادة الإلهية، وهو سؤال البداء: هل يجوز البداء على الله؟ ولكن نظرًا لاختلاف الفِرَق اليهودية فيما بينها حول النسخ فيما يتعلق بأي النبوات تنسخ، فلم تفصِّل في هذه الحجة الأولى، حجة البداء، ولكن فصَّلت فيها الفِرَق الإسلامية المُنكِرة للنسخ طبقًا لهذه الحجة النظرية المبدئية.٣ والقسم الثاني أجاز النسخ، ولكنه أنكر وقوعه في نبوته وإن وقع في نبوات الآخرين، واعتمادًا على حجة نقلية من موسى يحرِّم فيها وقوع النسخ في التوراة. الفِرَق اليهودية كلها تُثبِت النسخ، ولكنها تختلف في المنسوخ ومداه ووجهته.
إن جواز النسخ عقلًا وعدم وقوعه نقلًا يجعل العقل مُعارِضًا للنقل، كما يجعل الجواز العقلي فارغًا بلا مضمون ما دام لا يقع، في حين أن الجواز العقلي والإمكان الواقعي شيء واحد، والاعتماد في ذلك على النقل يُضعِف من الجواز العقلي، فالمُعارِض العقلي أقوى من النقل؛ وبالتالي إن نُقِل عن موسى قوله إن شريعته آخر الشرائع فإنه يكون مُعارَضًا بالعقل؛ لأن نبوة موسى إحدى مراحل الوحي، وهناك فرق بين وقوعه سمعًا وعدم وقوعه نقلًا؛ فقد يقع سمعًا ولا يُنقَل، وعدم نقله لا ينفي عدم وقوعه، فإن وقع ونُقِل؛ أي فإن قاله بالفعل فقد يعني ذلك مجازًا بأن شريعته شريعة عظيمة، وأنه ليس في الشرائع أعظم من التوراة. والتوراة بالفعل لا تُنسَخ؛ لأنها تحتوي على مجموع القيم الإنسانية العامة، وأعيد تثبيتها في شريعة عيسى كليًّا وفي شريعة الإسلام جزئيًّا. ويمثِّل هذا القول خطورةً أعظم إذا ما تم الانتقال من نسخ الشرائع إلى نسخ النبوات، ومن عظمة التوراة وشريعتها التي لا تُنسَخ إلى إنكار النبوات التالية لموسى، مثل نبوة عيسى ونبوة الإسلام. ويبدو أن الهدف من إنكار النسخ ليس التمسك بشريعة التوراة اعتمادًا على قول موسى، بل إنكار لنبوتَي عيسى والإسلام؛ لأن مِن اليهود مَن يُقِر بنبوات تسعة عشر نبيًّا بعد موسى. وقد يكون الدافع الأول والأخير هو إنكار نبوة الإسلام، وليس نبوة عيسى الذي يثبت شريعة التوراة ويعمل بها، ولكن فقط يجدِّدها من الداخل ويُعيد إليها روحها وتقواها الباطنية، فلو جازت نبوة الإسلام لجاز نسخ الشرائع قبله؛ وبالتالي تبطل شريعة التوراة مع أن نبوة الإسلام تُثبِتها. والنسخ في الحقيقة ليس رفعًا، بل تبديل حُكم بحكم آخر مثله أو خير منه، وكل نظرة تراثية تأخذ بأقوال الأحبار فإنها ترفض النسخ، فالنسخ تجديد في حين أن أقوال الأحبار تقليد.٤
وقد يُنكَر نسخ الشرائع عقلًا وسمعًا؛ فنسخ الشرائع محال عقلًا وجاء السمع بتأكيد حكم العقل. وهو موقف أكثر اتساقًا من جواز النسخ عقلًا وامتناع نقله سمعًا. وتقوم الاستحالة العقلية على بعض المقولات الإسلامية التي كانت سائدة بالأندلس، سواء عند بعض الفِرَق الإسلامية، مثل البداء وتجويز الجهل على الله، أو في علم أصول الفقه باستحالة نسخ الأشياء قبل امتثاله وقت فِعله، فالشريعة اليهودية كانت متمثَّلة منذ موسى، وكان وقت فِعلها قد حان، ومثل نسخ الأخف بالأثقل على سبيل العقوبة للمكلَّف، وشريعة عيسى وشريعة الإسلام ليست بأثقل من شريعة التوراة إن لم تكن أخف. ويظهر الأثر الإسلامي على هذه الفِرقة اليهودية في أخذها التوراة وحدها وما في كتب الأنبياء، وتكذيب أقوال الأحبار. أما النقل عن موسى فسنده ضعيف، وإن صح فمعناه مشروط بعدم خلو نبي آخر، فإن بطل استحالة النسخ عقلًا وشرعًا صح جوازه.٥
وقد يكون الهدف من النسخ التوقف عند مرحلة دون مرحلة، والاعتراف بنبي وإنكار نبي آخر، وهو ما يُعارِض مسار التطور والهدف من توالي النبوات. قد تعظُم مرحلة بالنسبة إلى أخرى، وقد تُشير مرحلة إلى تغيُّر كيفي بينما تُشير الأخرى إلى مجرد تغير كمي؛ لذلك كانت نبوة موسى وهارون ويوشع لا يُمكِن إنكارها؛ فموسى صاحب التوراة، وهارون صاحب المعبد والخلافة، ويوشع غازي الأرض والآخذ بيد اليهود من التيه والمستقر في فلسطين. فبينما تُقصَر النبوة لقصورها على أنبياء «الشريعة والأرض» تُوسَّع لتُصبِح كل مَن تظهر عليه المعجزات من أجل رد الاعتبار لباقي الأنبياء من بني إسرائيل، ثم تُعتبر المعجزات في حالة عيسى ومحمد حِيلًا ومخاريق تُبطِل نبوتَيهم، ثم يُستثنى عيسى كنبي صادق بأنه لم يظهر بعد، وأنه سيظهر في نهاية الزمان. ونهاية الزمان على الأرض؛ لأنه لا يوجد بعث وحياة بعد الموت. ونظرًا للخلاف التاريخي حول التوراة، فقد يكون لكل فرقة توراتها، تقرأ فيها عقائدها، وترى فيها نفسها، فالتوراة هي السجل التاريخي لكل فرقة. أما أرض المعاد فالشام وليس فلسطين، ونابلس وليس القدس، ما دام سليمان ليس نبيًّا؛ مما يدل على أن القدس لم يكن لها هذه الدلالة التي لها الآن في اليهودية، لا قبل سليمان ولا بعده.٦
ويُمكِن الاعتراف بنبوات المراحل السابقة، بشرط ألا تكون نسخًا لبعضها البعض، وكأن نبوة وحي مُستقِل بذاته، وليست حلقة في مسلسل النبوات؛ وبالتالي تنتفي الحكمة من التسلسل، ألا وهو تطوُّر البشرية وارتقاؤها من مرحلة إلى أخرى. كل نبوة مستقلة بذاتها؛ وبالتالي لا يحدث تراكُم كمي يؤدي إلى تغيُّر كيفي، ولا يحدث تواصُل بين النبوات، وتبدأ كل نبوة من الصفر ومن حيث بدأت الأولى لدى شعب آخر؛ وبالتالي ينتهي خط التقدم الذي يخترق النبوات، أو على الأقل يغيب التصور الحلزوني لها الذي يجمع بين الدائرة والخط، بين العود الأبدي والتقدم. وكل نبوة محدودة بقوم وجنس، وليست عامة للبشر جميعًا، ولا توجد نبوة واحدة قادرة على اختراق حدود القومية والجنس بما في ذلك اليهودية؛ فالنبوة خاصة وليست عامة، فإذا كان النسخ جائزًا عقلًا ولكن غير واقع عملًا، فإنه يكون بلا فائدة، ويكون الجواز العقلي مجرد افتراض صوري لا أثر له ولا فاعلية فيه، فإذا ما تم الاعتراف بنبوتَي عيسى ومحمد، كلٌّ منهما لقومه، عيسى لبني إسرائيل، ومحمد لبني إسماعيل (وأيوب لبني عميص، وبلعام لبني مواب)، فإنهما لا ينسخان شريعة موسى، فلا تواصُل بين النبوات، ولا أثر لأحدهما على الأخرى. ولما كان عمر الدنيا قصيرًا لا يتحمل التغيير والتبديل، ونسخ شريعة وإحلال أخرى، ظلت شريعة موسى باقية، وكأن الحياة تعني الثبات دون التغير، وكأن حياة الإنسان وسيلة وبقاء الشريعة غاية. والحقيقة أن التواصل بين النبوات، ونسخ الشريعة المتقدمة للشريعة السابقة، اعتراف بوحدة الوحي وتطوُّره حتى اكتماله في خاتم النبوة التي تصبح عامة للناس كافة. إن عموم الرسالة لا ينقض خصوص النبوة، كما أن خصوص النبوة لا يُعارِض عموم الرسالة، فما من قوم إلا وفيهم نذير، وقد يكون لقوم واحد رسولان، وفي هذه الحالة يتفقان في الشريعة، وقد يكون رسول في قوم دون قوم، وقد يظهر رسول عند قوم ورسول آخر عند آخرين، وفي هذه الحالة لا يؤدي اختلاف الزمان إلى اختلاف في الواجبات العقلية، فإذا كان عموم الرسالة مشروطًا بالتبليغ بالرغم من خصوصية النبي وقومه، إلا أن هناك رسالات عامة حملها أنبياء للناس جميعًا؛ فقد كانت نبوة آدم إلى جميع ولده الذين أدركوه، وكانت نبوة إدريس لجميع الناس في عصره، وكانت نبوة نوح أيضًا كذلك، وإلى ما بعد الطوفان، إلى أوان النبي الذي بعده، حتى لا يخلو البشر من رسالة، وكانت نبوة إبراهيم إلى الناس كافة، ومنها رسالة محمد إلى البشر كافة والذين نعرفهم في الدنيا.٧
وقد يُثبَت النسخ لأن فيه فائدة للملة، وتُنكَر نبوة محمد لأن فيها إنكارًا لها. وهذا موقف مُتناقِض تتعارض نتائجه مع مقدماته؛ فإثبات النسخ يتضمن التسليم بتطور الوحي وباكتمال النبوة؛ أي بنسخ كل مرحلة لاحقة للمرحلة السابقة، وبنسخ المرحلة الأخيرة للمراحل السابقة كلها، ونفي النسخ يجعل من المراحل السابقة مجرد تمهيدات وإرهاصات لها، وأن أنبياء بني إسرائيل ما هي إلا صور مكرَّرة ومصغَّرة للصور الكبرى الفريدة، السيد المسيح.٨
ويُمكِن اختيار إحدى مراحل النبوة، واعتبارها هي النبوة كلها طبقًا للاتفاق في المزاج والهوى، وتقوم بذلك الديانات التاريخية التي تختار النبوات التي تتفق معها، ثم تختزل باقي المراحل فيها؛ فقد تكون النبوة لآدم وحده دون غيره من الأنبياء، فآدم هو الإنسان الأول وهو النبي الأول، وبعد ذلك تستطيع الإنسانية أن تسير بمفردها برسالة التوحيد والعدل؛ أي بالعقليات دون السمعيات، والعقليات جوهر العقيدة وأساسها، ودون أن يتلقى آدم رسالة، فقد يكون معذورًا إذا كان جَحودًا ناكرًا؛ لأنه لم يأتِه نذير. أعطت النبوة الأولى دفعة أولى للإنسان علمًا وخلقًا؛ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا. وإذا كانت النبوات جوهرها واحد فلمَ التكرار؟ ليست الشرائع جوهر التوحيد، والإنسان قادر على صياغة شرائعه طبقًا للظروف، ولكن التوحيد غير متطوِّر؛ وبالتالي فلا نبي إلا آدم.٩ والحقيقة أنها نظرة مثالية طوباوية، تجعل الخاص عامًّا، وترى أن الإنسانية قادرة على التعليم من نبوة واحدة، وأن الحقيقة النظرية لها الأولوية على التشريع العملي، ولكن في واقع الأمر تحتاج الإنسانية إلى نبوات مُتتالِية؛ حتى تتعلم من تجارب الصواب والخطأ، وحتى تتراكم عندها الخبرات، وحتى تتسع دائرة الخاصة أكثر فأكثر، وتقل دائرة العامة. وقد يتم اختيار إبراهيم وحده دون غيره؛ فإبراهيم أبو الأنبياء، صاحب التوحيد الطبيعي ومؤسِّس دين الفطرة؛ دين العقل والحنفاء، دين الأخلاق والعمل الصالح والتقوى الباطنية. ولما كان الإسلام دين إبراهيم، الحنيفية السمحة، كان الدين واحدًا، والنبوة واحدة؛ الدين الشامل للإنسانية جمعاء، وإن إبراهيم بمفرده كان أمة، ومن يرغب عن دينه فإنه لا يكون موحِّدًا.١٠ وهي نظرة طوباوية توحِّد بين الخاصة والعامة، بين الحكيم والناس. وكم في البشر من إبراهيم؟ وكم من الناس يوحِّدون على الطبيعة اعتمادًا على العقل واستئناسًا بالفطرة؟ وإذا كان البراهمة يرفضون نبوة موسى وعيسى، فالتوحيد الطبيعي ليس في حاجة إلى خلاص ولا إلى تشريع، فإن المانوية تُثبِت نبوة عيسى لإشراقه في النفس، كمعلِّم داخلي، والذي لا يحتاج الإنسان معه إلى تشريع. والحقيقة أن كل محاولة لإثبات النبوات اللاحقة بعد النبوة السابقة هي في نفس الوقت دليل لإثبات تطوُّر النبوة في آخر مراحلها حتى خاتم النبوة.١١ وقد تتوقف النبوة على شيث وإدريس وعلى كتابَيهما، بالرغم من التظاهر بالاعتراف بنبوة عيسى، حتى يُعتبَروا كالنصارى في الحقوق الاجتماعية.١٢ وقد تقتصر النبوة على زرادشت. ولما ضاع معظم أجزاء كتابه التي بها الشرائع، تحوَّل الدين المجوسي إلى دين سري لا يُباح منه بشيء، ودخلت فيه الأساطير التي تتحدث عن وحدة أول البشر وأول الرسل مثل آدم. فلما قتله الشيطان خرج من صلبه نطفةٌ غاصت في الأرض ونبتت منها يباستان، فصارتا ذكرًا وأنثى؛ أصل البشر جميعًا. فإذا سهل فهم اختزال النبوات على بعض الأنبياء العظام، آدم وإبراهيم، فإنه يصعب قَصرها على أنبياء للديانات التاريخية تُعارِض العقل والطبيعة، وتكون أكبر حجة على حاجة الإنسانية إلى نبوات حتى يرقى وعيها ويستقل عقلًا وإرادة.١٣

(٢) جواز النسخ بين المراحل

وقد تحوَّل موضوع النسخ بين المراحل في العقائد المتأخِّرة إلى أحد موضوعات الإيمان، من حيث الكم وإن لم يكن من حيث الكيف، من حيث العدد وإن لم يكن من حيث الدلالة، من حيث التراكم والتكرار وإن لم يكن من حيث المعنى والتطور. فيجب معرفة الرسل المذكورة في القرآن تفصيلًا وغيرهم إجمالًا. هناك إذن مجموعتان من الأنبياء والرسل، مجموعة لم يذكرها القرآن ومجموعة أخرى ذكرها، فعدد الأنبياء والرسل في الواقع أكثر بكثير مما ورد في القرآن، فلا توجد أمة إلا خلا فيها نذير، ولكن القرآن قص البعض ولم يقصص البعض الآخر.١٤ ربما قص ما هو مخزون في الوعي العربي، وما يتناقله الناس، وما ترسَّب في أذهانهم، خاصةً إذا كانوا موضع تبجيل واحترام مثل إبراهيم، وربما قص ما له دلالة أكثر من غيره حتى يتم التركيز على بعض النماذج المثالية، كما هو الحال في أصول الأحكام، ثم قياس الفروع عليها لاشتراك معها في العلة أو الدلالة، وربما قص البعض رغبةً في الاختصار، فيستحيل ذِكر عشرات الآلاف من الأنبياء والرسل، وإلا كان مجرد سجل تاريخي لا يستوعبه الناس، ولا يُدرِكون دلالته، واستحال حفظه، وتحوَّل الوحي إلى سجل للتاريخ وحوليات له.١٥ فإذا أمكن معرفة مجموعة الأنبياء والرسل التي ذكرها القرآن، فكيف يُمكِن معرفة المجموعة الأخرى خارج الإشارة العامة عن وجودهم استنباطًا من القرآن، وخارج الإشارة إلى عددهم في الأحاديث رغم تفاوتها في درجة الصحة التاريخية؟ هل للأرقام المذكورة مثل ١٠٠٠٢٤ صحيح؟ هل له دلالة رمزية؟ وهل يُمكِن استنباط أن عدد الأمم السابقة هو مثل هذا العدد، ما دامت كل أمة لها نبي أو رسول؟ وما هي هذه الأمم والأقوام والمجتمعات وأين كانت؟ وماذا كانت نبوات الأنبياء ورسالات الرسل؟ وهل اندثرت كليةً أم ما زالت باقية آثارها؟ وهل منها خارج بني إسرائيل والعرب؟ هل منهم من ظهر في شعوب آسيا؛ الصين والهند وفارس؟ هل منهم لاوتزي وكونفوشيوس وبراهما وماني؟ هل منهم حكماء الصين والهند وأنبياء فارس الذين نادَوا بالتوحيد وبالعمل الصالح وعزفوا عن الدنيا وزكَّوا الروح؟ هل ظهر البعض في أفريقيا أو في الأمريكتَين؟ وما أكثر الديانات في القارات الثلاث والحضارات التي قامت على أُسُسها؟ وإذا كان أولو العزم من الرسل المذكورة في القرآن، فهل يمتد الأمر ويتسع ويُصبِح كلُّ زعيمٍ وقائد ومرشد وكبير للقوم وساحر ومعلِّم وفاضلٍ نبيًّا أو رسولًا؟ هل يُصبِح كلُّ من يحمل دعوة أو رسالة نبيًّا، وكل مُحارِب ومُقاتِل ومُجاهِد وقائد ورئيس رسولًا؟
والخلاف عند القدماء في عدد الأنبياء والرسل يتراوح بين ١٠٠٠٢٤ على أكثر تقدير، وبين خمسة وعشرين على أقل تقدير، فالعدد الأول لا سند له إلا الرواية التي قد تصح وقد تضعف تاريخيًّا، وقد يكون للعدد مدلول رمزي غير مألوف بتركيبه وإن كان مألوفًا بجمع أعداده؛ ٤ + ٢ + ١ = ٧، والرسل منهم ٣١٣ معتمدًا على نفس السند الظني، وله نفس الدلالة الرمزية؛ ٣ + ١ + ٣ = ٧، وقد يكون لذلك سند تاريخي آخر، وهو عدد الذين جاوزوا النهر مع طالوت في قتل جالوت، وعدد أصحاب النبي في غزوة بدر، وإلى هذا الحد تبلغ نسبة الرسل من الأنبياء ١ : ٣١٩٥ تقريبًا، وكأن العقائد النظرية وفي مقدمتها التوحيد أصعب بكثير في الاقتناع بها من الشرائع العملية، ولكن هناك اتفاق على أن أولهم آدم وأن آخرهم محمد، وعلى أن الكتب أربعة؛ التوراة على موسى، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى، والفرقان على محمد،١٦ وهناك شِبه إجماع على أن العدد الأصغر وهو ٢٥ هم الأنبياء والرسل المذكورة في القرآن تفصيلًا، وكأن نسبة ما ذكر القرآن إلى نسبة ما لم يذكُر القرآن ١ : ٤٠٠١، وكأن القرآن لم يذكر شيئًا على الإطلاق، وذلك يدعو إلى مزيد من التشكك في صحة العدد الكبير الأول.١٧
ولا يوجد تفضيل نبي على آخر أو رسول على آخر، بل هناك مراحل كمية وكيفية، أساسية وفرعية، تطوُّر مستمر وتطوُّر منكسِر؛ أي تطوُّر وثورة في تاريخ النبوة ومسار الوحي. ليس التفاضل بين أشخاص الأنبياء، بل بين رسالاتهم كمراحل متتالية لتطوُّر وحي واحد؛ فتفاضُل الرسالات ليس من حيث القيمة، بل من حيث درجتها في تطوُّر الوحي في التاريخ، وقد يُتجاوَز التفضيل إلى إنكار النبوات أو بعضها، أو يخف إنكارها ويتحول إلى تفضيل، وفي كلتا الحالتَين يدل الاختزال أو التفضيل على شعوبية أو قومية، وتعصُّب كل ملة لأنبيائها والتضحية بكمال الوحي ووحدته من خلال التطور. ومن الطبيعي أن تعتبر كل ملة نبيها آخر الأنبياء وأن لا نبي بعده، أو أن نبيها أفضل الأنبياء وأن لا نبي أفضل منه، وهو على رءوسهم يوم القيامة شهيدًا عليهم جميعًا. وما هو مقياس التفضيل؟ هل هي طريقة مخاطبة الله للنبي سواءٌ مباشرة أو بواسطة وأفضلية الأولى على الثانية؟ النبوة الرأسية؛ أي صلة الله بالنبي وطريقة الاتصال به لا شأن لنا بها، ولا يُمكِن معرفتها أو التحقق من صدقها، وما يهمنا هو النبوة الأفقية؛ أي صلة النبي بالأجيال التالية وتبليغها الرسالة وحفظها صحيحة تاريخية بمناهج نقل مضبوطة شفاهًا أم كتابة، وقد تكون الواسطة أفضل؛ لأنها تدل على رُقيٍّ أعظم من حيث التنزيه لله ودرجة التطور في النبوة؛ فالاتصال بلا واسطة يعني التشبيه (النار مثلًا) في حين أن الواسطة تعني التنزيه (الملك). وهل يكون مقياس التفضيل الأبوة والبنوة ونسب الرسول وسلالته؟ قد يخرج الابن الكافر من الأب المؤمن، أو الابن البار من الأب العاق. ولا يكون المقياس المعجزات أو الكرامات كيفًا أو كمًّا؛ فخاتم الأنبياء ليس له معجزات، وليست المعجزة بالمعنى القديم؛ أي خرق قوانين الطبيعة دليلًا على صدقه، وإلا كان عيسى من هذه الناحية صاحب أكبر قدر مُمكِن من المعجزات، واعتبار خاتم الأنبياء صاحب معجزات بالمعنى القديم هو قراءة للماضي في الحاضر، وليس قراءة الحاضر في الماضي، وإسقاط المعنى القديم للمعجزة على المعنى الجديد لها، وليس قراءة المعنى القديم للمعجزة وتفسيره بالمعنى الجديد لها. المعجزة الجديدة في الإبداع الأدبي الفكري في النُّظم والتشريع، في النظر والعمل، في العقيدة والشريعة. ولا يكون مقياس التفضيل أيضًا درجات الثواب، ومراتب الجنة التي لم تقع بعد، والتي لا نعلم عنها شيئًا، والتي هي نتيجة للأعمال، ولكن قد تكون مقاييس التفضيل الخصوص والعموم في الرسالة طبقًا لمراحل الوحي؛ فالمرحلة السابقة للخاصة والمرحلة اللاحقة للعامة. قد تكون درجة الانتشار ومقدار النفع الذي تحقِّقه النبوة في التاريخ؛ فكلما كان انتشارها أوسع ونفعها أكبر كانت أقرب إلى الفطرة والعقل، وبالتالي أقرب إلى خاتم النبوة واكتمال الوحي. وقد يكون المقياس هو رتبة النبوة وليس النبي، ودرجة الرسالة وليس الرسول في تطوُّر الوحي، في البداية أم في النهاية، أبعد عن الاكتمال أو أقرب إليه؛ فالفضل يرجع إلى الرسالة وليس إلى شخص الرسول، وأواخر الأنبياء أقرب إلى اكتمال النبوة من أوائل الأنبياء.١٨
وقد يكون التفضيل أحد وسائل تقليص عدد الأنبياء والرسل في خمسة وعشرين نبيًّا ورسولًا إلى خمسة فقط، وهم أولو العزم من الرسل، وهم الأنبياء والرسل الذين أصبحوا قادة أمم وزعماء شعوب، وحوَّلوا الرسالة من النظر إلى العمل، من العقيدة إلى الشريعة، وجعلوا الوحي دولة ونظامًا للعالم. هم أكثر من الصابرين على البلاء، ذوو الحزم والجِد والصبر، نجباء الرسل، بل هم المأمورون بالجهاد وبالقيادة، والقادرون على الزعامة المؤهَّلون للرياسة، أصحاب السياسة، ومنهم خاتم النبوة، وقد كانت القيادة لشعبَين؛ اليهود، فلما فشلت أصبحت للعرب؛ لذلك قد يكون عشرة منهم أولو العزم؛ خمسة عند اليهود وخمسة عند العرب.١٩ فإذا كان نوح وإبراهيم وموسى ومحمد أنبياءً زعماء، ورسلًا قادة، فهل الأمر كذلك عند عيسى؟ يبدو أن أُولي العزم ليسوا فقط أنبياءً زعماء، ورسلًا قادة، بل هي مراحل أساسية في تطور النبوة؛ عيسى للحقيقة، ونوح وموسى للشريعة، وإبراهيم ومحمد للدين الطبيعي. وقد يُستبعَد آدم؛ لأنه لم يكن له عزم بسبب الغواية. وقد يوضع يوسف وأيوب ضمن الخمسة؛ لأن كلًّا منهما صاحبُ بلاء وصمود. ويخضع ترتيب الخمسة إلى التطور الزماني للوحي في التاريخ.
وآخر الشرائع ناسخة لكل الشرائع السابقة، بفعل التطور وارتقاء التاريخ واكتمال النبوة. ولما كانت لا توجد شريعة بعدها فهي ناسخة لا منسوخة، وباقية في التاريخ كبناء بعد اكتمالها كتطور، ولا يعني ذلك استمرار تغيُّر المصالح والمنافع وبقاء الشريعة على ثباتها الأول، بل يعني أن أُسُسها العامة أصبحت تعبِّر عن كمال العقل وازدهار الطبيعة، وأن التغير بعد الاكتمال إنما هو في التفاصيل وطرق التطبيق، وذلك متروك للاجتهاد وطرق الاستنباط. أما العقائد النظرية فلا نسخ فيها، مثل التوحيد والعدل والمضمون الاجتماعي للرسالة، ومستقبل الإنسانية (المعاد).٢٠ ولماذا يخرج عمل الفرد ونظام الدولة، وهما الموضوعان الأخيران في السمعيات، من العقائد النظرية؟ أما سؤالُ على أي شرع كان خاتم الأنبياء قبل البعثة فهو سؤال شخصي لا يمس جوهر الرسالة، فحياة الرسول قبل البعثة ليست جزءًا منها، وحياته بعد البعثة تطبيق لها وليست جزءًا من البعثة بذاتها. ومع ذلك فالإجابة على السؤال هي أنه لم يكن على شريعة سابقة، بل كان على دين الفطرة، دين العقل والطبيعة، أصل دين إبراهيم، فشريعة موسى أصبحت منسوخة بشريعة عيسى، وشريعة عيسى لم يتم نقلها نقلًا صحيحًا ووقع التحريف فيها، والصحيح منها نقله رواةٌ لم تسلم عقائدهم النظرية أيضًا من التبديل والتحريف، وفي مقدمتها استبدال التثليث بالتوحيد، والذين سلِموا من التحريف النظري قلةٌ لا يبلغ عددهم يقين التواتر.٢١
ولا يعني اكتمال الوحي إلغاء الرسالات وإعدام الأنبياء، بل يعني أن العقل هو وريث الوحي، وأن الوحي قد أكمله وبه استقل الشعور، فلا يُقال إن الأنبياء اليوم ليسوا أنبياء ولا إن الرسل رسل، وإن رسول الله ليس كذلك الآن؛ لأن ذلك خلطٌ بين مراحل التاريخ. كان الأنبياء أنبياء وكان الرسل رسلًا، وأدَّوا أدوارهم في التاريخ، وتحقَّقت غاية الوحي المرحلية، وهم كذلك الآن تاريخيًّا، ولكن بطبيعة الحال، لا يظهرون اليوم كأنبياء وكرسل من جديد؛ فقد تطوَّر الزمان، وتحقَّقت الغاية، واكتملت النبوة، وأصبح العقل قادرًا على التمييز بين الحسن والقبيح، والإرادة حرة قادرة على الاختيار؛ فالقول إذن خلطٌ في مراحل التاريخ بين الماضي والحاضر، بين الوسيلة والغاية، بين الوقوع والاكتمال، بين التطور والبناء. وإذا كانت الحجة في ذلك أن الروح عرَض، وأن العرَض يفنى أبدًا ولا يبقى زمانَين، فإن ذلك يكون خلطًا بين المستوى الطبيعي والمستوى الإنساني؛ فالروح ليست عرَضًا بل هي جوهر مُستقِل، وهي ليست فانية، بل باقية من حيث هي فكر، كما أنه خلط بين المُرسَل إليه والرسالة، بين الشخص والمبدأ، فإن فني المُرسَل إليه فالرسالة باقية تواترًا عبر الأجيال، شفاهًا أو كتابة، نظرًا أو عملًا، عقيدة أو شريعة، وإن انقضى الشخص فالمبدأ يتمثله الإنسان، وتحقِّقه الجماعات، وتطبِّقه الأمة، ويكون أساس الدولة.٢٢
وقد استطاعت الحركة الإصلاحية الحديثة إدراك تطوُّر الوحي، من خلال مفهوم التقدم، وأن مراحل الوحي الكبرى تنتهي إلى كمال الإنسانية ممثَّلة في استقلال العقل وحرية الإرادة، وتشبيه الإنسانية بالكائن الحي وأدواره من الطفولة إلى الصبا ثم إلى الرجولة. هناك إذن توازٍ بين تطوُّر الوحي ورُقيِّ الإنسان واكتمال كلَيهما في آخر مرحلة فيه. أخذ الوحي طابعًا تجريبيًّا تعليميًّا للإنسان تأكيدًا على أهمية التجربة وتكييفًا للشريعة طبقًا لقدرات الإنسان وطاقته، فإذا ما تحقَّقت غاية النبوة اكتملت؛ فالنبوة وسيلة لا غاية، والوحي طريق وليس نهاية، وتلك كانت الحكمة من التطوُّر والتدريج والمراحل؛٢٣ لذلك تُخاطِب الأديان العقل والحس والوجدان؛ حتى تكتمل إدراكات الإنسان، وتزدهر وسائل معرفته. تُخاطِبه بالعقل وتُطالِبه بالبرهان، وتجمع بين الحس والعقل، بين التجربة والمنطق، وترفض التقليد واتِّباع الآباء والأجداد بلا برهان، وتدعو إلى الاجتهاد وإلى إعمال النظر، وتحث على العلم والتفقه، وتجعل العلماء ورثة للأنبياء. ووصل العقل إلى درجة من الكمال في المرحلة الأخيرة، حتى إدراك الذات والصفات والأفعال، وصل إلى أعلى درجة في التنزيه ضد مظاهر التأليه والتجسيم والتشبيه في المراحل السابقة. لقد كان من أهم مَهام الوحي توضيح اللَّبس في النظر، وإزالة الخلط في المبادئ العامة، ورفض الشرك والتوسط والأسرار والتقاليد، وكل ما يُعارِض العقل من وهم وظن وشك، والتأكيد على الوضوح والتميز والبداهة في النظر والعمل، في العقيدة والشريعة؛ مما يفسِّر سهولة الإسلام ويسر أحكامه وعدالة شريعته. أصبح الإسلام لذلك دين الفطرة، دين العقل والطبيعة والحرية، ينتشر بسهولة ويسر دون غزو أو قوة أو سيف، وفي نفس الوقت أصبح الإنسان قادرًا على التأثير في الطبيعة، وقادرًا على الاختيار الحر؛ فاستقلال العقل مُطابِق لحرية الإرادة، وإعمال النظر مُتزامِن مع الالتزام وتحمُّل المسئولية. وقد ظهرت ممارسات الحرية في الواقع في نُظُم الحكم التي سادت في الأندلس، حتى هاجَر إليها يهود أوروبا هربًا من الاضطهاد الديني، كما ظهر في الحركات الإصلاحية الحديثة الإحساس بالتماثل بين الوحي وبين ما ظهر في أوروبا في عصر التنوير، من إعلاء لمبادئ استقلال الفكر وحرية الإرادة، واعتماد على العقل والطبيعة، وحرص على التقدم ورؤية للإنسان وللمجتمع، وبالرغم من حملة الغرب على الشرق حملة واحدة إبان الحروب الصليبية لمدة مائتَي عام، إلا أنهم رجعوا منه بالعلم والفكر، ثم أصلحت أوروبا حالها، واعترف الغرب بفضل الإسلام وما نهل منه، وما كان وراء نهضته الحديثة من عقلانية وتنوير.٢٤ انتشر الإسلام بسرعة لم يُعهَد لها نظير في التاريخ؛ لحاجة الأمم إلى الإصلاح، وتعبير الإسلام عن حاجات الجزيرة العربية للوحدة والعدالة، وحاجة العالم القديم إلى مُثُل جديدة قادرة على إعادة بناء نُظُمه بعد تهاوي الإمبراطوريتَين القديمتَين، نتيجة للحروب المتبادلة، وبسبب السيطرة والقهر والتدمير المتبادل. لقد ثبَّتت الأديان مصالح الناس، وكانت دافعًا على تقدُّمهم وبقائهم في التاريخ، وأصبحت التجارب الإنسانية كلها رصيدًا لرُقيِّ البشرية، وتحوَّلت الشعائر والطقوس من رموز في الديانات القديمة وحركات صورية، إلى أفعال للأمة؛ للفرد وللجماعة، إلى إصلاح في الأرض ومواجهة الإفساد فيها، إلى أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وحفاظ على وحدة الأمة، ومنع للفتن والشِّقاق والحروب.
ومع ذلك فلم تسلَم الحركات الإصلاحية الحديثة من بعض النقائص، بالرغم من تركيزها على دور النبوة في التاريخ كعامل للتطور الإنساني والرقي البشري. فليست النبوة الآن في حاجة إلى إثبات؛ فلا أحد يُنكِر النبوات، سواء في مراحلها أو في المرحلة الأخيرة، والتحدي الأعظم اليوم هو في تخلُّف الأمة، التي غاية الوحي فيها هو تحقيق التقدم في مقابل أمم توقَّفت عند مراحل الوحي السابقة، اليهود والنصارى، وأنكرت خاتم النبوة، ومع ذلك تقدَّمت اعتمادًا على العقل والطبيعة، وممارسة لحرية الإرادة، وإثباتًا لحقوق الإنسان والمجتمع. التحدي الآن هو الإجابة على الاعتراض المشهور؛ كيف تخلَّف المسلمون وتقدَّم غيرهم؟ أو هو الفَرق بين الإسلام والمسلمين وكأنهما نقيضان. لقد عرف الغرب الإنسان ووجوده في التاريخ، وهو لبُّ علم أصول الدين في بابَيه الرئيسيَّين؛ العقليات والسمعيات. ما زالت الحركة الإصلاحية الحديثة في حاجة إلى مزيد من الأحكام؛ التركيز على الرسالة دون الشخص، وإعادة اكتشاف الإنسان والتاريخ يتجاوز الأسلوب الأدبي والطرق الخطابية، والتحول الجذري من الأشعرية إلى الاعتزال، ثم من الاعتزال إلى واقع المسلمين؛ حتى لا يظل سوء توزيع ثرواتهم مؤسَّسًا على التفاوت في الرزق بقدر من الله، ولا يبقى للإنسان إلا الإحسان لأخيه الإنسان.٢٥

(٣) النسخ في آخر مرحلة

ويمتد موضوع النسخ من تطوُّر الوحي وعلاقة كل مرحلة سابقة بمرحلة لاحقة، إلى آخر مرحلة وتطوُّرها على مدى ثلاث وعشرين سنة، منذ بداية الوحي حتى آخره. فإذا كان النسخ الأول بين المراحل هو النسخ الخارجي، فإن النسخ داخل آخر مرحلة يكون هو النسخ الداخلي. غاية النسخ بين المراحل هو إحداث تقدُّم في البشرية، بينما غاية النسخ في آخر مرحلة هو الإسراع في التطور داخل مجتمع واحد، وفي وعي بشري محدَّد؛ فقد أصبح الإسراع في التطور من أجل اللحاق بالبناء ضروريًّا، لدرجة أن يحدث النسخ في مرحلة واحدة؛ مما يدل على سرعة التغير والتطور في المرحلة الأخيرة، كالعدَّاء الذي يُسرِع في آخر الخُطى لينال السبق والفوز. والنسخ في المرحلة الأخيرة موضوع رئيسي في علم الأصول بشقَّيه، علم أصول الدين وعلم أصول الفقه، في الحديث عن الأدلة الشرعية الأربعة؛ الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وفي الحديث عن الدليل الأول خاصة، كما ظهر في موضوع التعادل والتراجيح لحل مشكلة تعارُض النصوص، فلربما كان أحدهما ناسخًا والآخر منسوخًا، بل إنه يكون موضوعًا مستقلًّا باسم علم الناسخ والمنسوخ في علوم القرآن، أو كبابٍ في علم أصول الفقه فيما يتعلق بالأخبار، إلا أن للفِرق الكلامية عدةَ آراء فيه، ولكن النسخ هنا مستمَد من مادة علم أصول الدين وحده نظرًا للتمايز بين العلوم.

والنسخ في آخر مرحلة من مراحل تطوُّر النبوة ليس فقط جائزًا، بل هو واقع بالفعل. فهو جائز إسراعًا في التطور، وتكييفًا للشرائع طبقًا لها. وهو واقع بالفعل، يرصده علماء النسخ كشرط لاستنباط الأحكام.٢٦ ومع ذلك فقد يتم إنكار النسخ إلى أنه «البداء»؛ أي إن الله يبدو له شيء ثم يبدو له شيء آخر، فيتغير علمه وتتغير إرادته، وهو ما لا يجوز على الله. وتغيُّر العلم يعني الجهل، وتغيُّر الإرادة تعني الخديعة، وكلاهما ضد الحسن والقبح العقليَّين، وضد مصالح الناس؛ قلب الحق باطلًا والباطل حقًّا.٢٧
والحقيقة أن البداء ليس مشكلة موجودة في الواقع، بل هو وضع لمشكلة المعرفة الإنسانية، مشكلة المظهر والحقيقة. هل العلم مُطابِق للمَظهر أم للحقيقة؟ ولما كان العلم مدفوعًا إلى حد الإطلاق بدافع عواطف التأليه، فإنه يكون بطبيعة الحال مُطابِقًا للواقع وللحقيقة، سواء عن وعي وهو تطور العلم بناءً على اكتشاف واقع جديد، أو عن لا وعي كما يحدث في الإدراك الخاطئ. فإذا ثبت العلم متغيِّرًا تكون الصفات حادثة، والحدوث في الصفات أقل شرفًا من القِدم. النسخ أمر شرعي يتعلق بأفعال العباد، وليس بصفات الله، مثل العلم أو القدرة؛ لذلك كان موقف أصول الفقه أسلم بالحديث عن النسخ حديثًا وضعيًّا صرفًا؛ أي التطور في الأحكام، لا شأن له بالتغير أو الحدوث في صفات الله. البداء ليس مشكلة في الصفات وافتراض حدوث تغيُّر في العلم، بل هو مشكلة إنسانية خالصة تتعلق بصلة الفكر بالواقع، كما هو معروف في تاريخ العلم، وفي التجارب الإنسانية القائمة على المحاولة والخطأ. فإنكار البداء إنما يُبقي في الحقيقة التنزيه، ولا شأن له بالنسخ، أو بآثار هذا الإنكار على النسخ؛ أي على تطوُّر الحياة الإنسانية. إنكار البداء دفاع عن العلم الإلهي ضد الجهل، ودفاع عن الله وعلمه الضروري غير المكتسَب أو المستفاد، دفاع عن العلم الاستنباطي، واعتبار العلم الاستقرائي حطة في شأن العلم الإلهي، دفاع عن العلم الثابت؛ لأن العلم المتجدِّد تغيُّر ونقص.٢٨
فإذا كان عِلم الله تابعًا لتغير الواقع يكون السؤال: هل عِلم الله على شرط؟ والإجابة نفيًا تُثبِت العلم المُطلَق وتنفي التغير منه، وتضع الشرط في المعلوم لا في العالم، ويكون العلم هنا صفة أزلية، علمًا مُطلَقًا يحتوي على كل شيء، الماضي والحاضر والمستقبل، لا يتغير بتغيُّر الحوادث، يحتوي على جميع المعلومات؛ وقائع ومُمكِنات، الظاهر منها والباطن.٢٩ والإجابة إثباتًا تُثبِت تغيُّر العلم تبعًا لتغيُّر الواقع، أو يكون العلم أوسع نطاقًا من الواقع حتى يستطيع أن يتقبل كل احتمالاته؛ ومن ثَم تكون الأولوية للواقع ولفعل الإنسان؛ وبالتالي يكون العلم الإلهي والفعل الإلهي تابعَين لفعل الإنسان؛ فالإنسان هو الذي يحدِّد بفعله نتيجة العلم والفعل الإلهيَّين. الفعل الإنساني هو الشارط والفعل الإلهي هو المشروط. والشرط هنا لا يعني شرط الوجود، بل يعني أولوية الفعل؛ لا يعني الشرط هنا شرطًا منطقيًّا، بل يعني مجرد أولوية الفعل من حيث العمل.٣٠ والحقيقة أنه لا توجد بداوات، بل تحقُّق أولًا حتى تتم المعرفة التجريبية وتتحقق الغاية من البداء؛ فلا يعني البداء الجهل، أو نفي الحسن والقبح العقليَّين، أو قلب الحق باطلًا والباطل حقًّا. ليس البداء مجرد تغيير الرأي بلا سبب تعبيرًا عن مُطلَق القدرة وعظمة المشيئة، بل هو درس تعليمي في العلم التجريبي، وقدرة الفكر حسب الواقع بعد نداء الواقع للفكر في «أسباب النزول»، ولا يحدث خارج الوقت، أو في أيِّ وقتٍ اتفُق في تطوُّر الزمن والتغير في التاريخ من السابق إلى اللاحق. يُشير البداء إلى مشكلة التغير في الزمان، وأن العلم يتغير بتغير الواقع؛ كلما تغيَّر الواقع تغيَّر العلم طبقًا له، وهو معنى النسخ عند الأصوليين. إثبات البداء وجهة نظر إنسانية خالصة تُعطي الأولوية للإنسان، وإلى تغيُّر العلم حسب الواقع ودرجة تطوره. فالوحي تجريبي بمعنى أنه لا يكون وحيًا نهائيًّا إلا إذا تطابق مع الواقع. الواقع هو وسيلة تحقيق صدق الوحي؛ ضِيقه أو اتساعه. كان الوحي قديمًا مُتسِعًا بالنسبة للواقع، كان يحتاج إلى تطوير وإلى دفعة خارجية له، ثم ترك الواقع لتطوُّره الطبيعي ومساره التاريخي، وأصبح الوحي بعد ذلك مُتحِدًا مع التطور الطبيعي للواقع. والواقع هنا ليس هو الواقع المُصمَت الخالص، بل هو الواقع التاريخي الذي يشمل البشر وممارسة الشعوب وإرادة الجماعات. وقد تصوَّر البعض أن إثبات البداء فيه خطورة على الفعل الإنساني الذي تحقَّق بالرأي الأول، ثم عليه الآن أن يتغير طبقًا للرأي الجديد؛ لذلك يُمكِن إثبات البداء فيما لم يعلمه الإنسان، ونفيه عما يعلمه ويطلع عليه؛ خشيةَ أن يفعل الإنسان طبقًا للعلم الأول، فيفشل فعله، فيرفض العلم كله. وهي تفرقة أقرب إلى نفي البداء منها إلى إثباته؛ لأن ما لم يطَّلع عليه الإنسان لا يعلمه، وما دام لا يعلمه فلا يحدِّد سلوكه بالنسبة إليه.٣١ وكما يُمكِن إنكار البداء لإطلاقية العلم وثبوته وقِدمه، يُمكِن إنكاره أيضًا بالتمييز بين صفة العلم وصفة الإرادة، التمييز بين النظر الثابت الذي لا يتغير وبين العمل الذي يتغير من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، إثباتًا للتنزيه وللعلم المُطلَق الذي لا يتغير.٣٢ يُشير البداء إذن إلى الفرق بين العلم والإرادة؛ فقد يكون هناك علم لا تتبَعه إرادة، وقد تكون هناك إرادة تابعة لعلم جديد. وقد عبَّر القدماء عن هذه الصلة في سؤال: هل يجوز على الله الترك؟ فالإجابة نفيًا إثبات لعدم تغيُّر العلم والإرادة معًا؛ وبالتالي إثبات قوانين عامة في الطبيعة وفي الحياة الإنسانية، والإجابة إثباتًا تعني أن التغير مُمكِن في العلم والسلوك، إما مما أخبر عنه من ثواب وعقاب قد لا يحدث، ما دامت الغاية منه، التأثير على النفوس وإقامة حياة خلفية كاملة، قد تحقَّقت، وإما أن الرحمة قد تفرض العفو دون العدل، وكلاهما من الصفات.٣٣ وبالرغم من أن القول بالبداء نشأ في ظرف تاريخي معيَّن، كتبرير لحدوث شيء غير متوقَّع، وبالتالي يُمكِن رده إليه، إلا أن رد الأفكار إلى مجرد الوقائع التاريخية وقوعٌ في النزعة التاريخية الخالصة؛ لذلك يظل البداء دلالة نظرية لتجربة شعورية.٣٤
إن النسخ أمر وضعي يتعلق بالشريعة والقدرة الإنسانية، وليس بالعلم والإرادة الإلهية، فتوالي النصوص في الزمان يجعل بعضها ناسخًا وبعضها منسوخًا؛ لذلك يكون من عيوب منهج النص استعمال المنسوخ بدل الناسخ، سواء داخل كل مرحلة، أو داخل آخر مرحلة يكتمل فيها الوحي. ويعني النسخ بهذا المعنى تطوُّر الوحي في الزمان وبيان مدة العبادة؛ فالعبادة تتم في الزمان، والزمان وقت، والوقت تطوُّر، والتطور تاريخ، ولا يهم بعد ذلك رفع الحكم أو عدم رفعه؛ فالمهم هو بيان وقته. وسواء كان ذلك رفعًا أم غير رفع؛ فذلك خارج عن نطاق الحكم؛ لذلك كان من شروط النسخ انفصال الناسخ عن المنسوخ بمدة من الوقت. فالزمان هو الأساس «الأنطولوجي» للنسخ، وكأن الإنسان يحدث في حياة الإنسان، فهو تطوُّر في الزمان الوجودي وليس في التاريخ، فالغاية من تطوُّر الوحي في التاريخ هو تطوُّر الشعور وارتقاؤه نحو الكمال، وكأن الناسخ أقوى من المنسوخ، وتتحدد قوته بمدى احتوائه العلم والعمل على السواء، ولكن يتم النسخ بالفعل في العمل وليس في النظر. لا يوجد نسخ للعلم النظري، بل في كيفية التطبيق العملي، وإن تغيُّر الأساس النظري للسلوك ليس نسخًا، بل تغيُّر له من حيث الامتداد والاحتواء.٣٥
والنسخ أمر لا يتعلق بالتلاوة، بل يتعلق بالأحكام وبالسلوك البشري؛ فالنص مع أنه عمل أدبي يُتذوَّق بالتلاوة، إلا أن النصوص كلها أدب على هذا النحو، لا فضل لنص على نص من الناحية الجمالية، ولكن نص الوحي جمال وتشريع، تذوُّق وسلوك، كما لا يعني النسخ تغيير الفكر المسجَّل في لوح أبدي، فتلك صورة فنية الغايةُ منها إثبات تدوين العلم؛ فالعلم المدوَّن أكثر حفظًا من العلم المروي شفاهًا، أو المحفوظ في الذاكرة، أو المتصوَّر في الذهن؛ لذلك قامت المعاملات على التدوين في وثائق، ودوِّنت العهود والمواثيق، وكان حظ الكتب المقدَّسة التي لم تدوَّن ساعةَ إعلانها، أقلَّ بكثير من ناحية الصحة التاريخية من الكتب المقدَّسة الأخرى التي دوِّنت ساعةَ تبليغها. فأم الكتاب أو اللوح المحفوظ صورتان فنيتان للتدوين، وتشخيصان للوحي، وتشبيهان له.٣٦ وقد يقع النسخ في حكم كلي أو في حكم جزئي؛ طبقًا لحاجة التغير ومقدار التكيف مع الواقع؛ فلو كانت الحاجة جذرية والتكيف أساسيًّا حدث النسخ الكلي، أما لو كانت الحاجة ضئيلة والتكيف صغيرًا كان النسخ جزئيًّا.٣٧ فالنسخ رفعٌ، وليس تبديلًا، كي يأتي حكم آخر خير من الأول، من حيث النفع أو مثله من حيث الكمال، ولكن هل يجوز النسخ في الأخبار كما هو جائز في الأحكام؟ إذا احتوى الخبر على تصوُّر نظري فالنسخ لا يتعلق بالتصورات، فالمبادئ العامة التي يقوم عليها الوحي ثابتة لا تتغير، وإنما التغير في كيفية تطبيق هذه المبادئ في الزمان والمكان، حسب درجة استعداد الواقع، وطبقًا لدرجة تحمُّل الطاقة الإنسانية، أما إذا احتوى الخبر أحكامًا فإن النسخ يقع فيها. والنسخ لا يعني البداء؛ أي تغيُّر العلم الثابت أو وقوع الخطأ فيه، بقدر ما يعني تكييف الحكم حسب الواقع، والوحي حسب التطور؛ من أجل تثبيت الشريعة، والمحافظة على التقدم الذي أحرزه الشعور الإنساني بفعل الوحي ودفعاته الأولى.٣٨
وإذا كان الوحي نوعين، قرآن وسنة، وهناك دليلان آخران إجماع وقياس، فهل يجوز لكل من الأدلة الأربعة أن يكون ناسخًا والآخر منسوخًا؟ إن الوحي ثابت لا يتغير بإرادة، حتى ولو كانت إرادة المُرسَل إليه؛ لذلك لا ينسخ القرآن إلا قرآنًا، ولا يُنسَخ القرآن بالسنة على الإطلاق؛ فذاك بيان وتخصيص وليس نسخًا. الوحي كما هو موجود في الكتاب قائم لا يُمكِن نسخه، إما بنفسه أو بسنة.٣٩ فالنسخ قضية خاصة بتطور الوحي في التاريخ، وقياس النُّظُم على أساس القدرات الإنسانية واستعدادات الواقع، وقد اكتمل الوحي في آخر مرحلة؛ فالمنسوخ الموجود في الكتاب لا يزال قائمًا، كواقعة، أو كمثل، أو كنموذج، كقانون رخو مُماثِل لطبيعة رخوة. المنسوخ والناسخ إذن معًا واقعة مثالية، وهي تكيُّف النُّظم والتشريعات طبقًا لدرجة استعداد الواقع. إذا وقع النسخ فإنما يتم داخل كل درجة، الكتاب داخل بعضه بعضًا، أو السنة داخل بعضها بعضًا، ولكن السنة لا تنسخ القرآن؛ وكيف ينسخ الفرع الأصل؟ والقرآن لا ينسخ السنة؛ فكيف ينسخ الأصل الفرع؟ كيف ينسخ اللاحق السابق، وكيف ينسخ النظر العمل؟ القرآن لا ينسخ السنة؛ لا لأن السنة أصل عليه، بل لأن السنة توضيح عملي لا تحتاج إلى نسخ، والعمل يتغير بتغير الظروف، والسنة لاحقة على القرآن في الزمان. يكون النسخ هنا بيان تفصيل ووجه عبادة، ولا يُمكِن للقرآن أن ينسخ السنة فكلاهما وحي، وإن حدث فيكون القرآن تصحيحًا للسنة وليس نسخًا، ولكن يُمكِن أن تنسخ السنةُ السنة، ويُمكِن اعتبار ذلك بيانًا مُغايرًا للبيان الأول، تغيير النُّظم بتغيير الواقع، وتظل واقعة التغيير نفسها هي النموذج. ولا ينسخ المتواترَ إلا متواترٌ مثله، ولا ينسخ الواحدَ إلا متواترٌ أقوى منه، ولا يُمكِن نسخ المتواتر بالواحد أو الواحد بالواحد؛ فالواحد قد يكون منسوخًا، ولكنه لا يكون ناسخًا، في حين أن التواتر قد يكون منسوخًا بتواتر، ويكون باستمرار ناسخًا.٤٠ ولا يُمكِن نسخ شيء من القرآن والسنة بالإجماع أو بالقياس؛ فدليل النص، قرآنًا أو سنة، أصلٌ، والإجماع والقياس كلٌّ منهما فرع، والفرع لا ينسخ الأصل،٤١ ولكن يُمكِن تخصيص عموم النص بالقياس الجلي.٤٢
ويُستعمَل النسخ كحلٍّ لمشكلة تعارُض النصوص. ومع أن التعارض بين النصوص جزء من مادة علم أصول الفقه فيما يتعلق بالتعارض والتراجيح، إلا أنه يبدو أيضًا كأحد مشاكل منهج النص. والتعارض لا يكون بالضرورة نسخًا، بل قد يكون مُجمَلًا ومبيَّنًا، عامًّا وخاصًّا، مُطلَقًا ومقيَّدًا، مستثنًى منه ومستثنًى تأكيدًا على البعد الشخصي للنص. فالسلوك منه ما تشترك فيه الجماعة، ومنه ما لا يكون إلا شخصيًّا فرديًّا خالصًا. وقد ينشأ التعارض من وصف لنفس الفعل الفردي، ولكن في حالتَين أو في ظرفَين مختلفَين؛ وهو ما يدل على أن الوحي ليس نظرًا فحسب، بل هو وصف للنظر في مواقف عملية، وهو ليس نصًّا فحسب، بل هو نص يتحقق في واقع؛ فإذا كان النظر هو الإنسان والوضوح، فإن العمل هو القدرات الشخصية والمتغيِّرات الفردية.٤٣ ومع ذلك فقد كان التعارض بين النصوص في حد ذاته موضوعًا كلاميًّا مستقلًّا، ولكن من ناحية وحدة الوحي وعدم وقوع التناقض فيه دفعًا للخلاف بين الفِرَق، وتمسَّك كلٌّ منها بنصوص لتأييد مذهبها؛ فانتقل الخلاف بين المذاهب نظرًا لاعتمادها على الحُجَج النقلية، إلى تعارُض بين النصوص، وضرب الكتاب بعضه ببعض، وتجزئته والقضاء على وحدته في المعارك الكلامية بين الفِرَق. والتشابه في الآيات له قصد عملي في السلوك؛ فيُئوَّل طبقًا لحاجة كل عصر وظروفه، والتعارض إنما هو مسك للأطراف جميعًا في بؤرة واحدة، وتجميع لوجهات النظر المختلفة في رؤية شاملة، كدرس تعليمي في الوحدة والتعدد، ما دمنا في إطار الثبات والتغيُّر ومجرى التاريخ.٤٤
١  من أهل هذه الملة (اليهود)، وأهل هذه النحلة؛ أي من أنكر التثليث موافقون لنا في الإقرار بالتوحيد بالنبوة، وبآيات الأنبياء، وبنزول الكتب المقدسة من عند الله، إلا أنهم فارَقونا في بعض الأنبياء دون بعض، وكذلك وافقنا الصابئة والمجوس على الإقرار ببعض الأنبياء (الفصل، ج١، ص٨٧).
٢  أفرد الباقلاني في «التمهيد» وابن حزم في الفصل مكانًا بارزًا للنبوة، وكأنها هي الموضوع الرئيسي في علم التوحيد، باب الكلام على اليهود في الأخبار (التمهيد، ص١٣١–١٤٧)، كما رد عليهم لإثبات النسخ، كما أسهب ابن حزم في الفصل في بيان وجوه النقل وإثبات التحريف والتبديل في الكتب المقدسة، وقد كان لوجود ابن حزم في الأندلس أثر كبير في تناوُله موضوع النبوة بهذا الإسهاب والتفصيل، حيث يسود نوع من العقلانية، ووجود نصوص الفِرَق غير الإسلامية خاصةً اليهودية والنصرانية ومصادرها الأولى، وتعاوَن الجميع على البحث والتحصيل نظرًا لجو التسامح الديني والإخاء المذهبي الذي كان يميِّز الأندلس إبان الحكم الإسلامي.
٣  أرجأنا ذلك إلى رابعًا: تطوُّر النبوة، (٣) النسخ في آخر مرحلة.
٤  هذه هي فِرق الشمعينية اليهودية، التي تقول بأن نسخ الشرائع وإرسال نبي بعد موسى لنسخ شريعته جائزٌ عن طريق العقل، وليس على جهة النقل؛ فقد صرَّح موسى في التوراة بأن شريعته لا ينسخها أحد بعده (التمهيد، ص١٣١). وقد أنكر جمهور اليهود صدق نبوة محمد، لا بخصوص نظر في معجزاته، بل لزعمهم أنه لا نبي بعد موسى، فأنكروا نبوة محمد وعيسى طبقًا لشبهتَين: (أ) النسخ مُحال في نفسه لأنه يدل على البداء والتغيير. (ب) قول موسى بعدم نسخ شريعته (الاقتصاد، ص١٠٣–١٠٥). ولو جاز أن يكون محمد نبينا لجاز نسخ الشرائع، والنسخ محال (الغاية، ص٣٤٩). استحالة أن يكون الشيء حسنًا وقبيحًا (الغاية، ص٣٥٨-٣٥٩). قول موسى ضد النسخ (المحصل، ص١٥٤–١٥٧؛ التحقيق، ص١٧٥-١٧٦). وأقر اليهود بتسعة عشر نبيًّا بعد موسى ومن قبله من الأنبياء، وأنكروا عيسى ومحمدًا (الأصول، ص١٥٧–١٥٩). وزعم أكثرهم أن الأمر إذا ورد مُطلَقًا لم يجز ورود نسخ حكم بعده، وأجاز آخرون منهم النسخ عن طريق العقل، وقالوا إنما لم نُقِر بنسخ شريعة موسى؛ لأنه أمرنا بالتمسك بها (الأصول، ص٢٢٧-٢٢٨؛ الإرشاد، ص٣٣٨–٣٤١). والربانية، وهم الأشعثية، يأخذون بأقوال الأحبار ومذاهبهم، وهم جمهور اليهود (الفصل، ج١، ص٧٨).
٥  هذه هي فِرَق العنانية التي تقول بأن نسخ الشرائع محال عقلًا، والسمع ورد بتأكيد العقل، وعند فريق منهم أن نسخ الشيء قبل امتثاله ووقت فِعله بداءٌ ودلالة على الجهل، وعند فريق آخر النسخ بما هو أشق على سبيل العقوبة للمكلَّف (التمهيد، ص١٣١)، وهم أصحاب عنان الداوودي، وتسميتهم اليهود العراس والمس. لا يتعدون شرائع التوراة، وما جاء في كتب الأنبياء، ويتبرءون من قول الأحبار ويكذِّبونهم. فِرقة منهم بالعراق ومصر والشام وبالأندلس بطليطلة وطلبيرة (الفصل، ج١، ص٧٨؛ الغاية، ص٣٤٩). ويرد عليهم أهل السنة بضعف السند عن موسى، وبأن المعنى مشروط بعدم خلو نبي آخر (الغاية، ص٣٥٧-٣٥٨؛ الشرح، ص٥٧٩–٥٨٣)؛ وبالتالي فإن النسخ عند أهل السنة والمعتزلة جائز سمعًا وعقلًا (الشرح، ص٤٧٦، ص٥٨٥-٥٨٦).
٦  هذه هي فِرق السامرية؛ فقد أثبتت نبوة موسى وهارون ويوشع بن نون، وأنكرت غيرهم والرسل بعدهم، كسليمان وحزقيال واليشع وغيرهم (التمهيد، ص١٣١). أقروا نبوة موسى وهارون ويوشع ومَن قبلهم من الأنبياء، وأنكروا منهم بعد ذلك (الأصول، ص١٥٧–١٥٩). وقال آخرون بنبوة كل من ظهرت الأعلام على يده بعد موسى، وأن محمدًا وعيسى ليسا أنبياءً، ومعجزاتهم إما لا أصل لها، أو حِيَل ومخاريق، وأن عيسى الذي أُخبِروا بنبوته لم يأتِ بعد، بل سيأتي، وهو نبي صادق (التمهيد، ص١٣١). ولا يُقِرون بالبعث، لهم توراة مستقلة، ومدينة القدس هي نابلس، وهو بيت المقدس، ولا يقدِّسون بيت المقدس، وهم بالشام لا يستحلُّون الخروج منها (الفصل، ج١، ص٧٨، ص٨٣–٨٥). ويُثبِت أهل السنة ضدهم نبوة عيسى، ووجه الدلالة في ذلك تواتُر الأخبار على أعلامه المُناقِضة للعادة، مثل إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وأن تكذيب اليهود مثل تكذيب الدهرية (الأصول، ص١٦٠-١٦١، ص١٨١-١٨٢).
٧  هذه هي العيسوية أصحاب أبي عيسى الأصبهاني، يقولون بأن محمدًا وعيسى نبيان صادقان، ولكن أُرسِلا إلى قومهما وليس إلى كل البشر، ولم يُرسَلا بنسخ شريعة موسى (التمهيد، ص١٣١)، وهم شرذمة من اليهود، أخذوا من ابن الراوندي أن النسخ جائز، ولكن قالوا بأن شريعتهم باقية نظرًا إلى قِصَر عمر الدنيا، كما أخبر موسى بتأييد شريعته (الإرشاد، ص٣٤٣-٣٤٤). أُرسِل عيسى إلى بني إسرائيل، ومحمد إلى بني إسماعيل، كما كان أيوب نبيًّا في بني عميص، وكان بلعام في بني مواب، ثم يُعطي ابن حزم تاريخًا للفِرقة وموقعها (الفصل، ج١، ص٧٨-٧٩، ص٩٠-٩١؛ الاقتصاد، ص١٠٣–١٠٥؛ التمهيد، ص١٤٧-١٤٨؛ الطوالع، ص١٧٦-١٧٧؛ الغاية، ص٣٥٠، ص٣٥٩-٣٦٠؛ المواقف، ص٣٥٧-٣٥٨؛ الشرح، ص٥٨٣؛ التحقيق، ص١٧٦-١٧٧). ويرد أهل السنة عليهم بأن محمدًا مبعوث إلى الناس كافة. فصلٌ في أن الرسول مبعوث إلى الناس كافة (المغني، ج١٥، ص٤٢٤). في التخصيص والتعميم في الرسالة، يجوز أن يُرسِل الله إلى قوم دون قوم، وأن يُرسِل رسولَين إلى أمة واحدة، وفي هذه الحالة يتفقان في الشريعة، أو واحدًا إلى قوم وآخر إلى آخرين، وفي هذه الحالة يختلف الزمان دون اختلاف في الواجبات العقلية. أجمعت المعتزلة بجواز أن يُرسِل الله نبيًّا إلى قوم دون قوم (مقالات، ج١، ص٢٧٢). ويجوز إرسال واحد إلى الكافة؛ فقد أُرسِل آدم إلى جميع ولده الذين أدركوه، وإدريس إلى جميع الناس في عصره، ونوح كذلك، وإلى ما بعد الطوفان، إلى أوان النبي بعده، وإبراهيم إلى الناس كافة، ومحمد إلى أهل الثقلَين، الإنس والجن، إلى يوم القيمة، بدليل قتال اليهود، وأخذ الجزية واسترقاقهم (الإرشاد، ص٣٣٨–٣٤١؛ الأصول، ص١٦٣-١٦٤؛ الحصون، ص٧٩). ويعرض ابن حزم لفِرَق يهودية أخرى ليس لها رأي في النسخ وإن كان لها رأي في العقائد، مثل الصدوقية نسبة إلى رجلٍ يُقال له صدوق، قال بأن عزيرًا ابن الله، قبل التثليث في المسيحية، وقد عاشوا باليمن (الفصل، ج١، ص٧٨).
٨  هذا هو موقف النصارى من إنكارهم نبوة محمد (الأصول، ص١٥٧–١٥٩). ويتجاوز النقد من النسخ إلى العقيدة؛ ففريق منهم رفعوا عيسى من درجة النبوة، وادعوا أنه إله أو ابن الإله. وفساد قولهم بالأدلة على حدوث الأجسام، وعلى فساد الحلول والانتقال في الأماكن (الأصول، ص١٦٠-١٦١).
٩  هذا هو موقف البراهمة (الغاية، ص٣١٨؛ المواقف، ص٣٤٤؛ الأصول، ص١٥٧–١٥٩).
١٠  هذا هو موقف فريق آخر من البراهمة (الغاية، ص٣١٨؛ المواقف، ص٣٤٤؛ الأصول، ص١٥٧–١٥٩). فلم يُثبِتوا بعد إبراهيم نبيًّا، وأنكروا نبوة موسى وعيسى (الأصول، ص١٦٠-١٦١).
١١  هذا هو موقف المانوية الذين أقروا بنبوة عيسى وأنكروا نبوة موسى، وزعموا أن الشياطين أرسلوا موسى إلى الناس، والخلاف مع المانوية في التوحيد وحدوث الأجسام قبل أن يكون خلافًا على النبوة، وكل دليل يثبت به نبوة موسى يثبت به نبوة محمد (الأصول، ص١٦٠، ص١٨١).
١٢  هؤلاء هم الصابئة؛ فقد اعترفوا برسالة شيث وإدريس (الغاية، ص٣١٨؛ المواقف، ص٣٤٤؛ الفصل، ج١، ص٧٨، ص٩١). أقرَّت صابئة واسط بنبوة إدريس وشيث، وزعموا أن معهم كتاب شيث، وأنكروا ما بعدهما (الأصول، ص١٥٧–١٥٩؛ الغاية، ص٣٣٩). زعمت صابئة واسط أن آخرهم شيث، ولكنهم يُظهِرون للمسلمين الإيمان بعيسى ليعدوهم في عدد النصارى (الأصول، ص١٥٩-١٦٠).
١٣  هم المجوس، ومَن أقر بنبوة زرادشت، وأنكر من سواه من الأنبياء (الفصل، ج١، ص٧٨-٧٩)، وهم مُعترِفون ومُقِرون بأن كتابهم أحرقه الإسكندر وذهب منه الثلثان، وأن الشرائع كانت فيما ذهب، بطل الدين لذهاب جمهوره وكتابه، ومنعوا التكلم في شيء فلا يُباح بشيء، يحتوي ما بقي على ٢٣ سفرًا، نقله فاسد (الفصل، ج١، ص٩١-٩٢). زعمت المجوس أن أول البشر والرسل كيكومرت (كيومرس) الملقَّب بكل شاه؛ أي ملك الطين، قتله الشيطان فخرج من صلبه نطفةٌ غاصت في الأرض، ونبتت منها يباستان، فصارتا ذكرًا وأنثى ازدواجًا فجميع الناس من نسلهما (الأصول، ص١٥٩-١٦٠).
١٤  ويُشير القرآن إلى ذلك في عدة آيات، مثل: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (٣٥: ٢٤)، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (٤٠: ٧٨)، وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ (٤: ١٦٤)، كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ (٢٠: ٩٩).
١٥  ويُشير إلى ذلك القرآن أيضًا في عدة آيات، مثل: قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ (٥: ١٩)، وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ (١١: ١٢٠)، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ (١٢: ٣)، فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٧: ١٧٦)، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٢: ١١١).
١٦  في بيان عدد الأنبياء والرسل، أجاز أصحاب التواريخ من المسلمين أن عدد الأنبياء ١٠٠٠٢٤، كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة؛ أولهم آدم وآخرهم محمد، الرسل منهم ٣١٣، وهو عدد الذين جاوزوا مع طالوت النهر ولم يشربوا منه وثبتوا معه في قتال جالوت، وعدد أصحاب بدر مع النبي يوم بدر (الأصول، ص١٥٧–١٥٩). في ترتيب الرسل أولهم وآخرهم، أجمع المسلمون وأهل الكتاب أن أولهم آدم وآخرهم محمد (الأصول، ص١٥٩-١٦٠)، وأن عددهم ١٠٠٠٢٤ للأنبياء، ٣١٣ للرسل، أو ٣١٤، أو ٣٢٥. والأسلم الإمساك عن حصرهم، ١٦٤ على شيث، ٣٠ على إبراهيم، ١٠ على موسى قبل التوراة، وقيل ٥٠ على شيث، ٣٠ على إدريس، ٢٠ على إبراهيم وموسى بالسروية، وقيل ١١٤، ٥٠ على شيث، ٣٠ على إدريس، ٢٠ على إبراهيم، واختُلف في ١٠ قبل آدم. والكتب أربعة؛ التوراة لموسى، والزبور لداود، والإنجيل لعيسى، والفرقان لمحمد (الجامع، ص٢٦-٢٧). أول الأنبياء آدم وآخرهم محمد (النسفية، ص١٣٤–١٣٦).
١٧  يجب على كل مكلَّف من ذكر وأنثى أن يعرف الرسل المذكورة في القرآن تفصيلًا، ويصدِّق بهم تفصيلًا، وأما غيرهم فيجب الإلمام بهم إجمالًا. وقد قيل في ذلك شعرًا:
حتمٌ على كل ذي التكليف معرفة
بأنبياء على التفصيل فعُلمِوا
في تلك حجتنا منهم ثمانية
من بعد عشر ويبقى سبعة وهمُ
إدريس هود وشعيب صالح ذو الكفـ
ـل آدم بالمختار قد خُتِموا
(الكفاية، ص٧١؛ الباجوري، ص١٣-١٤)
وأيضًا:
أسماء رسل الله في القرآن
خمس وعشرون فخُذ بيان
هم آدمٌ إدريس نوحٌ هود
يونس إلياس اليسع داود
إسحق إبراهيم لوطٌ موسى
ذو الكفل يحيى زكريا عيسى
شعيب ثم صالحٌ أيوب
هارون ثم يوسفٌ يعقوب
ثم سليمان وإسماعيل
محمدٌ ختمهم الجليل
(الحصون، ص٣٥)
وأيضًا:
تفصيل خمسة وعشرين لزِم
كلَّ مكلَّف فحقِّق واغتنم
هم آدمٌ إدريسُ نوحٌ هودُ مع
صالح وابْراهيم كلٌّ متَّبَع
لوط وإسماعيل إسحق كذا
يعقوب يوسف وأيوب احتذى
شعيب هارون موسى واليسع
ذو الكفل داودٌ سليمان اتبع
إلياس يونس زكريا يحيى
عيسى وطه خاتمٌ دع غيَّا
عليهم الصلاة والسلام
وآلهم ما دامت الأيام
(العقيدة، ص١٣–١٥)
١٨  جواز تفضيل الرسل بعضهم على بعض في درجات: (أ) مَن خصَّهم بالإرسال كافة أفضلُ ممن أرسلهم إلى أمة مخصوصة. (ب) مَن كلَّم الله بلا واسطة أفضل من الذي كلَّمه الله بواسطة. (ﺟ) الابتداء والانتهاء ليس فضلًا للنبي، بل في خطة الوحي وتقدم الوعي. (د) درجات الثواب ومراتب النبوة في الجنة لا نعلم عنها شيئًا، وأكثر الأمة والأشاعرة يجوِّزون تفضيل بعضهم على بعض (الأصول، ص١٦٤). وبالنسبة للمقياس الثاني يُذكَر القول المأثور: «أنا سيد ولد آدم ومن دونه تحت لوائي» (الأصول، ص٢٩٧-٢٩٨). نبينا لم يكن أفضل من إبراهيم ولا نوح ولا آدم؛ لأنهم آباؤه، وفضَّلوه على موسى وعيسى، وقياسًا لا يكون أفضل من إدريس وإسماعيل، ويرفض القرآن هذا المقياس الإرثي الدموي للنبوة في آية: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (٢: ١٢٤). وبالنسبة للمقياس الثالث المعجزات والكرامات فذكر ريح سليمان ولمحمد البراق، وانفجار الماء من حجارة موسى، ومن بين أصابع محمد لوضوء جيشه، ومشي عيسى على الماء، ومشي محمد في الهواء عند المعراج، بالإضافة إلى انشقاق القمر، ورجم الشياطين بالنجوم، شريعته مُستنبَطة من كتابه (الأصول، ص١٦٥–٢٦٦). ومقياس الانتشار دليل عقلي للتوحيد والعبادة؛ فقد توصَّلت رسالة محمد إلى أكثر بلاد العالم بخلاف سائر الأنبياء، أكثر من وصول رسالة موسى بني إسرائيل، ولم تبقَ دعوة عيسى وضاعت، كما انتفعت الأمم برسالة محمد (المعالم، ص١٠٩-١١٠). نبينا أفضلهم (الأصول، ص٢٩٧-٢٩٨). أفضلهم خاتمهم (الجامع، ص٥٠). في تفضيل نبينا على سائر الأنبياء (الأصول، ص١٦٥-١٦٦). أفضل الرسل محمد (الفصل، ج٥، ص٩١). أفضل الأنبياء محمد (النسفية، ص١٣٧). وأفضل الخلق على الإطلاق نبينا محمد، فهل من شقاق؟ (الجوهرة، ص١٢). أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ، ويرفض قوم من غلاة الروافض موضوع التفضيل؛ فالأنبياء مُتساوُون في الدرجات، ولكلٍّ منهم دوره من الفضل ما للآخر في دوره، وخلاف هؤلاء معدِّدون أحكام الشريعة لإلحادهم في وصف الأئمة (الأصول، ص١٦٤). وعند ضرار بن عمرو لا يجوز تفضيل بعضهم على بعض بعينه واسمه (الأصول، ص١٦٥-١٦٦، ص٢٩٧-٢٩٨). انظر فيما بعدُ سادسًا: ختم النبوة، وأيضًا سابعًا: الإعجاز، ثامنًا: الشخص أم الرسالة؟ وأولو العزم من الرسل مشار إليهم في آية: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ (٤٦: ٣٥) دون تعيين.
١٩  وهم عند القدماء خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد. وهم أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تأسيسها، وقد وُصِف آدم في القرآن بأنه لا يوجد عنده عزم بسبب الغواية: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (٢٠: ١١٥)، ويُقال إنهم الصابرون على البلاء، وهم: نوح وإبراهيم ويوسف وأيوب وموسى. ويُقال إن كل الأنبياء ذوو العزم من الرسل إلا يونس لعجلته. وهم ذوو الحزم وذوو الجهد وذوو الجِد والصبر، فكل نبي ذو حزم وكمال وعقل، وقد يبلغ عددهم ١٨ أو ٦، ولكن الغالب أنهم خمسة، وهم نجباء الرسل المأمورون بالجهاد (الدر، ص١٥٥-١٥٦). فإذا صح أن الرسل ٣١٣، فخمسة منهم أولو العزم المذكورون في القرآن: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد. وهم أفضل من غيرهم (الأصول، ص١٥٧–١٥٩). وقد يكون خمسة منهم عند العرب: هود، وصالح، وإسماعيل، وشعيب، ومحمد (الأصول، ص١٦٥-١٦٦). ومما يجب اعتقاده أن أفضل المخلوقات على الإطلاق هو نبينا، يليه أولو العزم من الرسل: إبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح على هذا الترتيب. ويُقال إن أولي العزم بقية الرسل وبقية الأنبياء ثم الملائكة (الكفاية، ص٧٠). اتفقوا بالإجماع على أن نبينا أفضل الخلق أجمعين، بعده إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم نوح، وهؤلاء أولو العزم من الرسل، ثم بقية الأنبياء (الحصون، ص٧٩-٨٠). وقد قيل شعرًا:
وأفضل الخليقة الرسول
يليه في الفضيلة الخليل
ثم الكليم فالمسيح نوح
يليه باقي الرسل يا نجيح
(الوسيلة، ص٧٣)
٢٠  لا مانع من ورود النسخ على الشرائع المتقدمة على ما تدَّعيه اليهود (المغني، ج٥، ص٩٧). بيان فساد تعلُّقهم بأن موسى قد منع من نسخ شريعته، في أن نسخ شريعة موسى بشريعة نبينا قد صح، وثبت في كون نبينا خاتم الأنبياء والرسل، ومنع نسخ شريعته (الإنصاف، ص٦٢؛ الكافية، ص٧٠-٧١، ص١١٦، ص١٣٨). شرعُه لا يُنسَخ إلى آخر الزمان، بل وناسخ لسائر الشرائع المتقدمة، ناسخٌ أكثر أحكامها غير العقائد مثل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فهي ثابتة في سائر الشرائع. وحكمة نسخ شريعة بأخرى هي اختلاف المصالح بحسب الأزمنة، مثلًا المصلحة في زمن الأمم السابقة اقتضت تكليفهم بشرائعهم، والمصلحة في زماننا إلى آخر الدهر اقتضت تكليفنا بشريعة نبينا. لا توجد مصلحة خفية على الله، فهو عالم من الأزل بمصلحة كل أمة وزمانها، رتَّب قديمًا لكل أمة شريعة، وأرسل رسولًا لكل منها، وجعل المتأخرة ناسخة للمتقدمة، ولا خفاء على الله (الحصون، ص٧٩؛ الفصل، ج١، ص٦٢). نسخ شريعة محمد لمن يسبقها (المغني، ج١٥؛ النبوات، ص٧-٨). محمد خاتم الأنبياء ولا نبي بعده (العضدية، ج٢، ص٢٧٦–٢٨٢). وقد قيل شعرًا:
هو الخاتم للنبوة
وإن له عموم الدعوة
فشرعُه باقٍ مدى الزمان
وناسخ لسائر الأديان
(الوسيلة، ص٧٠)
وبعثه فشرعُه لا يُنسَخ
بغيره حتى الزمان يُنسَخ
ونسخُه لشرعِ غيره وقع
حتى أذلَّ الله من له منع
(الجوهرة، ص١٣)
٢١  الحق أن محمدًا قبل نزول الوحي ما كان على شرع أحد من الأنبياء؛ وذلك لأن الشرائع السابقة على شرع عيسى صارت منسوخة بشرع عيسى، أما شريعة عيسى فقد صارت مُنقطِعة؛ بسبب أن الناقلين عندهم النصارى، وهم كفار بسبب القول بالتثليث، فلا يكون نقلهم حجة، وأما الذين بقوا على شريعة عيسى مع البراءة من التثليث فهم قليلون، فلا يكون نقلهم حجة. وإذا كان كذلك ثبت أن محمدًا ما كان قبل النبوة على شريعة أحد (المعالم، ص١١١).
٢٢  هناك من زعم أن الأنبياء ليسوا أنبياء اليوم ولا الرسل رسلًا، وأن محمدًا ليس الآن رسول الله، ولكنه كان رسول الله. وهو قول الأشعرية الآن، فقد قال الأشعري إن النبي الآن في حكم الرسالة، وحكم الشيء يقوم مقام أصل الشيء (البحر، ص٦٠-٦١). وربما قال ذلك أيضًا الحسن بن فورك الأصبهاني (رواية سليمان بن خلف الباجي لابن حزم)، وقتله بالسم محمد بن سبكتكين. فالروح عرَض، والعرَض يفنى أبدًا ويحدث ولا يبقى وقتَين، وروح النبي فنيت وبطلت، ولا روح له الآن عند الله، وجسده في قبره موات، فبطلت نبوته؛ وبذلك رسالته. كما ينسب إلى المتقشِّفة والكرامية بأن العرَض لا يبقى زمانَين؛ ولهذا قالوا إن نبينا ليس برسول (الفصل، ج١، ص٦٩–٧١).
٢٣  عند الكرامية لو اقتصر الله على رسول واحد من أول زمان التكليف إلى القيامة، وأدام شريعة الرسول الأول، لم يكن حكيمًا؛ في حين قال أهل السنة لو فعل ذلك لجاز دوام شريعة خاتم النبيين إلى يوم القيامة (الفِرَق، ص٢٢٣).
٢٤  قبس من الإسلام أضاء الغرب كما نقول، وضوءه الأعظم وشمسه الكبرى في الشرق (الرسالة، ص١٨٥–١٨٩). انظر أيضًا لمحمد عبده: «الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية»، وأيضًا مقالنا: «نحن والتنوير»، «الدين والثورة في مصر، ١٩٥٢–١٩٨١م، الجزء الثاني: الدين والتحرر الثقافي».
٢٥  يقول محمد عبده إن الإسلام قد فرض للفقراء في أموال الأغنياء حقًّا معلومًا، يتصدق به الغني على الفقير؛ سدًّا لحاجة المعدم، وتفريجًا لكربه الغارم، وتحرُّرًا لرقاب المستعبَدين، وتيسيرًا لأبناء السبيل. ولم يحث على شيء حثَّه على الإنفاق في سبيل الخير، وكثيرًا ما جعله عنوان الإيمان ودليل الاهتداء على الطريق المستقيم، فاستلَّ بذلك ضغائن أهل الفاقة، ومحض صدورهم من الأحقاد على مَن فضَّلهم الله عليه في الرزق، وأشعر قلوب أولئك محبة هؤلاء، وساق الرحمة في نفوس هؤلاء على أولئك البائسين، فاستقرت بذلك الطمأنينة في نفوس الناس أجمعين. وأي دواء لأمراض الاجتماع أنجع من هذا؟ فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم (الرسالة، ص١٨٥–١٨٩).
٢٦  في بيان ما يتغاير الفعل وما يتصل به، الوجوه التي بها يُعلَم تغايُر الأفعال، ما يصح في الفعل الواحد والأفعال من التكليف وما يمتنع، ما يحسن من التكليف في الفعل، الأفعال وما يقبح من ذلك، الدلالة على الفصل بين البداء والنسخ، الوجوه التي إذا كان الفعل عليها حسن فيه الأمر والنهي، لا يمتنع في الفعلَين المثلَين كون أحدهما صلاحًا دون الآخر، الفرق بين ما يجوز أن يختلف حاله في الصلاح والفساد من الأفعال وبين ما لا يجوز، فائدة النسخ وحقيقته (المغني، ج١٥؛ النبوات، رابعًا: الكلام في جواز نسخ الشرائع، ص٤٩–١٤٢). والأمثلة على وقوعه وجوب كون عدة المرأة المتوفَّى عنها زوجها ستةَ أشهر، ثم نُسِخت بأربعة (الكفاية، ص٧٢). والأمثلة كثيرة غيرها، وقد قيل شعرًا:
نعم يجوز نسخُ بعض شرعه
بالبعض فانظر لطفَ وقعِ نفعه
(الوسيلة، ص٧٠)
وأيضًا:
ونسخُ بعض شرعه بالبعض
أجِز وما في ذا له من غض
(الجوهرة، ص١٣)
٢٧  النسخ مُحال في نفسه؛ لأنه يدل على البداء والتغيير، ولاستحالة أن يكون الشيء حسنًا وقبيحًا (الغاية، ص٣٥٨-٣٥٩؛ النهاية، ص٥٠١–٥٠٣). وكل الروافض، إلا القليل منهم، تزعم أن الله يريد الشيء ثم يبدو له فيريد غيره (مقالات، ج١، ص١٠٩؛ الانتصار، ص٨، ص١٠٦، ص١٢٧–١٢٩). وتُعطي بعض الروافض تفسيرًا مجسَّمًا للبداء؛ إذ يتحرك الله لخلق الشيء، ثم يتحرك خلافًا، فيكون ضد الشيء (مقالات، ج٢، ص١٧٨). وعند الكيسانية (من الروافض) يجوز البداء على الله، وأنه يُخبِر أن يفعل الأمر ثم يبدو له فلا يفعل (الانتصار ص٦، ص٤٦). تبدو له البداوات، قد يأمر ثم يبدو له، قد يريد أن يفعل الشيء في وقت من الأوقات ثم لا يفعله؛ لما يحدث له من البداء، وليس على معنى النسخ، ولكن على معنى أنه لم يكن في الوقت الأول عالمًا بما يحدث له لما يبدو له، فإذا أمر بشريعة ثم نسخها؛ فلأنه بدا فيها شيء. من أنكر جواز النسخ عقلًا زعم أنه يُوجِب البداء، وأن يكون القبح حسنًا والعدل جورًا (الأصول، ص٢٢٦-٢٢٧). ما أوجبه الله فقد أخبر عن كونه واجبًا، فلو حظره وأخبر عن كونه محظورًا لانقلب الخبر الأول خلقًا واقعًا على خلاف مُخبِره، وذلك مستحيل (الإرشاد، ص٣٤١-٣٤٢).
٢٨  الإرشاد، ص٣٤١.
٢٩  يتجاوز أهل السنة المسألة لإثبات علم الله المُطلَق؛ فالله لم يزَل عالمًا خبيرًا، استوفى الأشياءَ علمُه، ولم تغرب عنه خفيات الأمور. هو العالم بما تُبطِنه الضمائر، وتنطوي عليه السرائر، وما تُخفيه النفوس، وما تُخبئ البحار، وما تواري الأسراب، وما تفيض به الأرحام وما تزداد، وكل شيء عنده بمقدار، لا توارى عنه كلمة، ولا تغيب عنه غائبة، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، يعلم ما يعمل العاملون وما ينقلب إليه المنقلبون (الإبانة، ص٤-٥). لو أرجعنا هذا التصور إلى الحياة الإنسانية لوجدنا أنها صورة البوليس السياسي، أو المخابرات التي تعلم كل شيء ولا تخفى عنها خافية، وكثيرًا ما اتَّحد التصوُّران، وفي أقسام البوليس ومباني المخابرات تُوضَع لوحة فنية؛ عين مفتوحة ومكتوب تحتها «عين الله الساهرة».
٣٠  الإجابة بالنفي هو موقف هشام الفوطي وعباد (مقالات، ج٢، ص١٦٤). وبالإيجاب موقف معتزلة البصرة وبغداد، فالله لم يزَل عالمًا أنه يعذِّب الكافر إن لم يتُب إليه، وأنه لا يعذِّبه إن تاب (مقالات، ج١، ص٢٣٩). ومسألة البداء موضوع خلاف بين الرافضة والمعتزلة؛ الأولى تُثبِته والثانية تنفيه.
٣١  جوَّز البعض البداء فيما اطلع عليه العباد (مقالات، ج١، ص١٠٩). جائزٌ البداء فيما علِم أنه يكون وأخبر به، حتى لا يكون ما أخبر أنه يكون (مقالات، ج١، ص٢٦٨). وعند الحسن بن محمد بن جهور من الرافضة، أن ما علِم الله وأطلع عليه لا يجوز له أن يبدو فيه، وما علِمه ولم يطَّلع عليه أحد فجائز فيه البداء.
٣٢  ترفض المعتزلة القول بالبداء؛ فقد اتفقت على أن الباري ليس بذي علم مُحدَث، ولا يجوز أن تبدو له البداوات، ولا يجوز على إخباره بالنسخ؛ لأنه لو جاز لكان إذا أخبرنا شيئًا أن شيئًا يكون، ثم نسخ ذلك بأنه أخبر أنه لا يكون، لكان لا بد من أن يكون أحد الخبرَين كذبًا. فالناسخ والمنسوخ في الأمر والنهي لا في العلم (مقالات، ج١، ص٢٥٦). فالمعتزلة هم الذين تصدَّوا للرافضة دفاعًا عن التجربة، ولإثبات العلم المُطلَق ضد الحدوث، وهم المتهَمون بالقول بحدوث الصفات. إذا كانت هناك حاجة للمعتزلة ظهروا، وإذا كان هناك خطر على التجربة بانوا؛ لذلك رفض الخياط التوحيد بين البداء والنسخ، وبين موقف الرافضة والمعتزلة؛ فالبداء في الأخبار، والنسخ في الأمر والنهي.
٣٣  عند البعض لا يجوز على الله الترك، وأنه إذا فعل شيئًا فقد ترك ضده، وعند الحسن أن الترك صفة، وأن الباري لم يزَل تاركًا (مقالات، ج٢، ص٢٠٢). وقد وصل الحد إلى بعض القدرية، مثل أبو مسلم الأصبهاني، قوله بأنه ليس في القرآن آية منسوخة ولا ناسخة؛ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا (٢: ١٠٦).
٣٤  سبب قول المختار (الكيسانية) داعية محمد بن الحنفية بالبداء، أنه لما خرج عليه مصعب بن الزبير لأخذ الكوفة منه، بعث صاحبه أحمد بن شميط على رأس الجند لقتاله، وادعى أن الوحي نزل إليه ووعده بالنصر، فلما انهزم سأله أحمد: لماذا تعِدنا بالنصر على عدوِّنا؟ فقال: إن الله تعالى كان قد وعدني بذلك، ولكن بدا له. واستدل على ذلك قائلًا: يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ (١٣: ٣٩). فهذا كان سبب قول الكيسانية بالبداء (الفِرَق، ص٥١-٥٢). وفي رواية أخرى صار المختار إلى القول بالبداء؛ لأنه كان يدَّعي عِلم ما يحدث من الأحوال، إما بوحي من الله، وإما برسالة من الإمام؛ فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء وحدوث حادثة، فإن وافق كون قوله جعله دليلًا على صدق دعواه، وإن لم يُوافِق قال قد بدا لربكم. وكان لا يفرِّق بين النسخ والبداء؛ إذا جاز النسخ في الأحكام جاز البداء في الأخبار (المِلَل، ج٢، ص٧١-٧٢).
٣٥  النسخ هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بخطاب آخر، على وجهٍ لولاه لاستمر الحكم المنسوخ، ومن ضرورة ثبوت النسخ على التحقيق رفع حكم بعد ثبوته. وترى المعتزلة أن النسخ لا يرفع حكمًا ثابتًا، وإنما يبيِّن انتهاء مدة شريعة، وإلى ذلك مال بعض الأئمة، فقالوا النسخ تخصيص الزمان؛ وعنَوا به أن المكلَّفين إذا خُوطِبوا بشرع مُطلَق فظاهر مُخاطَبتهم به تأييده عليهم، فإذا نُسِخ استبان أنه لم يُرِد باللفظ إلا الأوقات الماضية. وهذا عندنا نفي للنسخ وإنكاره لأصله، ورد له إلى تبيين معنى لفظ لم يُحَط به أولًا، وتنزيل له منزلة تخصيص صيغة عامة، والمخصَّص من الصيغة العامة غير مراد بها، استحالة أن يكون بيانًا؛ لأن من شرط البيان عدم التأخير إلى وقت الحاجة (الإرشاد، ص٣٣٨–٣٤١). معنى النسخ بيان انتهاء مدة العبادة، فإن ورد الأمر بالعباد مؤقَّتًا بغاية، فذلك بيان نهاية، وليس بيان انتهاء (الأصول، ص٢٢٦؛ الإرشاد، ص٢٤٥-٢٤٦). شروط النسخ: (أ) أن يكون الناسخ منفصِلًا عن المنسوخ، فإذا كان توقيت العبادة مبيَّنًا في الأمر بها فليس توقيتها نسخًا لها، بل هو بيان نهاية، وإن كان الحكم معلَّقًا بغاية مجهولة كان بيان تلك الغاية بعدها نسخًا «حتى يتوفاهن الموت». (ب) ألا يُعلَم المنسوخ إلا بنصٍّ يرِد فيها، فأما الغاية التي يُعلَم سقوط الغرض عنها بلا نص فليست بنسخ؛ ولذلك لم يكن سقوط الغرض بالعجز والموت نسخًا. (ﺟ) أن يكون الناسخ والمنسوخ في رتبة واحدة من جهة إيجاب العلم والعمل، أو يكون الناسخ أقوى في ذلك من المنسوخ (فإن كان مما يُوجِب العلم والعمل كان الناسخ أيضًا مثله، وإن كان المنسوخ مُوجِبًا يُوجِب العلم، والعمل أولى بالجواز) (الأصول، ص٢٢٧-٢٢٨).
٣٦  هناك عدة آراء في النسخ: (أ) المنسوخ ما رُفِعت تلاوته وبقي حكمه، وتُرِك العمل بحكم تأويله. (ب) المنسوخ ما بقيت تلاوته؛ فالنسخ لا يقع في قرآن نزل وتُلِي وحُكِم بتأويله، بل النسخ في الحكم من التفسير الذي أزاح الله عنهم المِحَن. (ﺟ) النسخ من اللوح المحفوظ؛ فالنسخ لا يكون إلا من الأصل. (د) النسخ موجود دون بداء ولا خطأ (مقالات، ج٢، ص٢٥٠-٢٥١).
٣٧  النسخ على ضربَين: (أ) نسخ جميع الحكم، كنسخ وجوب الوصية للوالدين والأقربين بميراثهم. (ب) نسخ بعض حكم الشيء، كالصلاة إلى بيت المقدس (الأصول، ص٢٢٦).
٣٨  اختلفت الروافض في الناسخ والمنسوخ؛ هل يقع في الأخبار؟ هناك فرقتان: (أ) يجوز، فيُخبِر الله أن شيئًا يكون ثم لا يكون، وهذا قول أوائلهم وأسلافهم. (ب) لا يجوز؛ لأن ذلك يُوجِب التكذيب في أحد الخبرَين (مقالات، ج١، ص١١٩). واختلفت أيضًا إلى فرقتَين: (أ) الناسخ والمنسوخ في الأمر والنهي. (ب) الرافضة غلَت حتى زعمت أن الله يُخبِر بالشيء ثم يبدو له فيه (مقالات، ج٢، ص١٥٣). وردًّا على سؤال: هل يجوز النسخ في الأخبار وفي مدح الله؟ هناك فرقتان: (أ) طوائف من أهل الأثر: يجوز فيما يتأخر ناسخ لما تقدَّم، مثل المدني للمكي. (ب) لا يجوز (مقالات، ج٢، ص٢٥٣-٢٥٤). غلَت بعض الروافض حتى زعمت أن الله يُخبِر بالشيء ثم يبدو له فيه (مقالات، ج٢، ص١٥٣). مذهب المختار أنه يجوز البداء لله. وله معنيان: البداء في العلم، وهو أن يظهر خلاف ما علِم، والبداء في الإرادة، وهو أن يظهر له صواب على خلاف ما أراد وحكم؛ والبداء في الأمر وهو أن يأمر بشيء ثم يأمر بعده بخلافه، ومنه لم يجُز النسخ ظنًّا أن الأوامر المختلفة في الأوقات المختلفة مُتناسِخة (المِلَل، ج٢، ص٧١-٧٢).
٣٩  من قواعد النسخ: (أ) لا يُنسَخ القرآن إلا بقرآن مثله، ولا يجوز أن يُنسَخ شيء من القرآن بالسنة، وعند البعض القرآنُ والسنة حكمان من الله، العلم والعمل بهما على الخلو واجب؛ فجائز أن ينسخ الله القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن؛ لأنهما جميعًا حكمان لله ينسخ من حكمه ما يشاء (مقالات، ج٢، ص٢٥٢). ومن شروط النسخ أن يكون الناسخ في نفس قوة المنسوخ (الأصول، ص٢٢٧-٢٢٨). (ب) السنة تنسخ القرآن وتقضي عليه، والقرآن لا ينسخ السنة ولا يقضي عليها (مقالات، ج٢، ص٢٥١). من جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة أن السنة لا تُنسَخ بالقرآن (مقالات، ج١، ص٣٢٤). (ﺟ) القرآن ينسخ السنة، والسنة لا تنسخ القرآن (مقالات، ج٢، ص٢٥١). اختلفوا في القرآن؛ هل يُنسَخ إلا بقرآن، وفي السنة؛ هل ينسخها القرآن (الأصول، ص٢٢٨). واختلفوا في القرآن؛ هل يُنسَخ بالسنة: (أ) لا ينسخ القرآنَ إلا قرآن، وأبَوا أن تنسخه السنة. (ب) السنة تنسخ القرآن، والقرآن لا ينسخها. (ﺟ) القرآن ينسخ السنة، والسنة تنسخ القرآن (مقالات، ج٢، ص١٥٣). اختلفوا في نسخ القرآن بالسنة؛ فأجاز أصحاب الرأي نسخه بالسنة المتواترة، ومنع أصحاب الشافعي من نسخ القرآن بالسنة (الأصول، ص٢٢٨).
٤٠  يجوز نسخ خبر الواحد بمثله والمتواتر، ولا يجوز نسخ المتواتر بخبر الواحد ويجوز بمثله (الأصول، ص٢٢٨).
٤١  لا يجوز نسخ شيء من القرآن والسنة بالقياس (الأصول، ص٢٢٨).
٤٢  أجمع الفقهاء على جواز تخصيص العموم بالقياس الجلي، إلا من لا يقول بالقياس. واختلف أهل القياس في تخصيص العموم بالقياس الخفي؛ فأجازه أكثرهم، وأباه قوم منهم، والجواز أصح (الأصول، ص٢٢٨).
٤٣  واختلفوا في الآيتَين، لكل واحدة منهما حكم مخالف لحكم الأخرى؛ مما قد يجوز أن يجتمع حكمهما على اختلافه على إنسان في وقتَين، ويتنافيان في وقت واحد، فيكون الحل إما النسخ؛ لأنه لا ينسخ القرآن إلا القرآن، وإما نسخ آية لسنة عند من يجوِّز ذلك (مقالات، ج٢، ص٢٥٢-٢٥٣).
٤٤  التنبيه، ص٥٤–٨٢. كلام الله لا يتعارض ولا يتدافع (الفصل، ج٣، ص٤٨). كلام الله لا يختلف (الفصل، ج٣، ص٤٨). كلام الله لا يتناقض (الفصل، ج٣، ص٥٧). هلكت الزنادقة وشكُّوا في القرآن، حتى زعموا أن بعضه ينقض بعضًا في تفسير الآي المتشابِه كذبًا وافتراءً على الله؛ من جهلهم بالتفسير للآي المُحكَم (التنبيه، ص٥٤).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤