الفصل الثالث عشر

في هذه المرة لم يستطع وجدان أن يُخفيَ عن أبيه السبب الذي ذهب من أجله إلى النيابة. ولم يعجب وجدان حين استقبل أبوه النبأ وكأنه لا يعرف شيئًا عن صفوت بك يتصل به بأسباب مصاهرة.

كان كالطود الراسخ وهو يقول في وقار: أمر كنت أنتظره بين لحظة وأخرى.

بل إن وجدان لم يعجب أيضًا حين قالت أمه: وماذا كُنَّا ننتظر من نسبٍ كهذا! أتظنني فرحت بالشقة وشهادات الاستثمار؟ لا وشرفك، لا أنا فرحت ولا عرفت هذه الأموال أن تعطيَني أي طُمأنينة.

صنْف آخر من الناس أمه وأبوه. صنف رأى الكرامة في الشرف، ولم يتصور أن المال يصنع كرامة.

وهكذا وجدان، ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يكون في هدوء أبيه وأمه، فإن السن وانتساب الأسرة إلى مِنصَّة القضاء جعل الأبوين كالجبال الرواسي. كانت التجارب بالنسبة إليهما قد جعلت منهما حجارة كريمة كالماس لا تخف ولا يضيع لها وقار.

أمَّا هو، فهو لم يبلغ بعد ما بلغاه من رسوخ وشمم، فوجد الغمَّ يملأ نفسه.

لماذا كُتب عليه أن يختار أخوه هذه الأسرة؟ بل ولماذا كُتب عليه أن يكون أخوه بهذه النظريات التي لا يرى لها أثرًا في بيت أبيه.

ما موقفه أمام زملائه؟ ربما قدروا أنه هو لا شأن له وأن ما يصنعه حمو أخيه لا صلة له به. وهذا حق، ولكنه هو كان يتمنَّى أن يكون كل ما يحيط به شريفًا. ومتى أعطت الحياة الإنسان كل ما يتمنى؟!

أحسَّت ميرفت ما يعانيه زوجها: أعرف أن كلَّ ما يمكن أن أقوله لك تعرفه.

– لا شيء يُقال يا ميرفت.

– فقط كلمة واحدة. انظر إلى عمِّي عزام بك وإلى نينا.

– كنت أتمنى أن أكون مثلهما.

– فكن.

– أتظنين أنني أستطيع؟

– إذا لم تستطع اليوم فإن الأيام ستجعلك تستطيع شئتَ هذا أم أبَيت.

دقَّ جرس التليفون في حجرة وجدان وأجاب: نعم أنا.

وجاءه صوت لا يعرفه يقول له: يا سعادة البك، أنا متولي عبد القادر، وكيل أعمال صفوت بك.

– ولماذا تطلبني؟ وكيف تجرؤ على الاتصال بي؟ أقفِل السكة فورًا.

– يا بك، اهدأ واسمع الكلام لآخره.

– أنا ليس بيني وبين كلام.

– أنا أكلمك بصفات كثيرة، ومن المصلحة العامة والخاصة أن تسمع.

– لا أريد أن أسمع.

– حتى لو عرفت أنني أنا الذي بلغت عن صفوت.

– ماذا؟

– اسمع إذن، صفوت متهرب من مبالغ أكبر من هذه بكثير، وعندي المستندات. وعندي مستندات أيضًا أنه يُهرِّب أموالًا إلى الخارج وعنده حسابات في بلدين في أوروبا.

– يا جدع أنت، هل جُننت؟ ولماذا لا تُبلغ رسميًّا؟ وأنا ما شأني؟

– يا سعادة البك اسمع الكلام لآخره. عليك أن تُبلغ أخاك أنه إذا لم يدفع لي مائة ألف جنيه في ظرف أسبوع فستصل هذه الأوراق للنيابة فورًا.

– أنا سأبلغ عنك أنت. أنت قاطع طريق وتستعمل وكيل نيابة في معاونتك.

– ولهذا كلمتك في التليفون. إذا بلَّغت عني فسأقول إن آخرين أحبُّوا أن يستغلوا الفرصة ويُدخلوني في موضوعٍ لا شأن لي به. وإذا لم تُخبر أخاك أصبحت جريمة نسيبك تهرُّبًا من الضرائب وتهريبَ أموال إلى الخارج، وأنت أشرف واحد أعرفه في كل المتصلين بأخيك. وهذه التهم لن تمسَّ أحدًا منهم؛ لأنهم جميعًا والحمد لله بلا شرف إلا أنت وطبعًا السيد الوالد.

– أتريدني أن أدافع عن شرفي بارتكاب جريمة.

– أي جريمةٍ يا سعادة البك؟

– أساعد مجرمًا على الابتزاز، وهو في نفس الوقت يتستَّر على جرائم من واجبي التبليغ عنها.

– تبلغ عن ماذا؟ إذا بلَّغت عنها دون أن أقدِّم مستنداتي من يثبت أي شيء على صفوت. هذه جرائم أنا وحدي الذي أملك الدليل عليها. وأظن لا يصح أن يقول سعادة وكيل النيابة كلامًا لا يستطيع إثباته ولا يملك أيَّ دليل عليه. السلام عليكم يا سعادة البك أنا آسف. ولكني محتاج إلى هذا المبلغ في أشياء شريفة وربما يجعلك هذا مرتاحَ الضمير بعض الشيء. السلام عليكم.

•••

ضاقت الدنيا بي؛ لأن نسيب أخي مُتَّهم، فكيف أفعل الآن وأنا على وشك ارتكاب عدة جرائم؟ اشتراك في ابتزاز وتستُّر على جريمة تهرُّب من الضرائب؟ أتستر على جريمة تهريب أموال إلى دول أجنبية.

أستقيل.

أستقيل.

أستقيل.

– وماذا أعمل إذا أنا استقلت؟

محاميًا، محاميًا؟! محاميًا؟!

هل أنسى يوم جاءني الزَّبون ليوكلني في قضية ضرائب كان سيُعطيني مقدَّم أتعاب ألف جنيه ومثلها مؤخر أتعاب، وقد رفض أن يُوكِّل صاحب المكتب وأصرَّ على توكيلي أنا بالذات؟ ويومها استأذنت إسماعيل بك وقبِل، وحين اطلعت على القضية قلت للوكيل: لماذا جئت لي أنا بالذات؟

– شهرة سعادتك.

– أنا لا شهرة لي. أنت تعلم أن مأمور الضرائب الذي عنده أوراقك صديقي. هذه قضية وساطة. أنا لا أقبل قضية وساطة.

وأريد أن أعمل محاميًا.

والحكاية الأخرى، الألعن، والأدهى؛ يوم اشترك عبد المطلب ابن مربيتي دادة رئيفة في جريمة قتل، وجاءني أخوه فوزي لأترافع عنه مُقدِّرًا طبعًا أنني لن أتقاضى أتعابًا، وكانت قضية شهيرة، وكان من شأنها أن تعطيَني فرصة ليذيع اسمي. وقرأتها ووجدت القرائن جميعًا ضد المتهم ووجدته معترفًا في محضر الشرطة وإن كان رجَع عن اعترافه في محضر النيابة. وكان إسماعيل العدوي يقول لي دائمًا أنت لا شأن لك بالمتهم. إن صلتك بالدوسيه، هو الذي يتكلم معك. إياك أن تسأل مُتَّهمًا إن كان ارتكب الجريمة أم لا؛ فهو إما سيكذب عليك وحينئذٍ لن تستفيد شيئًا، وإما أن يقول لك إنه ارتكب الجريمة وحينئذٍ سيصبح العبء عليك في المرافعة أكبر من أن تُطيقه، وخصوصًا مع ضميرك اليقظ هذا. ولم أكن مقتنعًا بهذه النصيحة. فأنا لا أتصور نفسي أترافع عن باطلٍ أبدًا، وحين جاء فوزي ليسألني رأيي سألته: لماذا لم تُعطِ القضية للأستاذ إسماعيل العدوي نفسه؟

– ومن أين لنا بأتعابه؟

وفكَّرتُ قليلًا، وكنت أتمنَّى أن أترافع في هذه القضية. وقد قبِلَ الأستاذ إسماعيل أن تكون القضية لي، بل كان سعيدًا أن تكون أول قضية أترافع فيها في محكمة الجنايات، جناية قتل مع سبق الإصرار، ووعدني أن يعاونني في القضية.

لو كنت أتغاضى عن ضميري قليلًا لقلبت القضية، ومن يدري ربما كنت بها اليوم واحدًا من كبار المحامين. فقد كنت محاميًا مُوفَّقًا في المحكمة دائمًا. أمَّا في التعامل مع الزبائن وجدتُ نفسي أسأل فوزي: هل ارتكب أخوك الجريمة؟

وتردَّد قليلًا ثم قال: نعم.

ودون تفكير قلت له: إننا أقسمنا اليمين ألَّا نكذب، فأنا مستعد أن أترافع في قضية أخيك وأطلب تخفيف الحكم، لا البراءة، فإذا قبلت هذا أنت ووالدتك فأنا مستعد.

– أردُّ عليك.

ولم يرتدَّ إليَّ بعد ذلك قط.

أي محامٍ أريد أن أكون؟ إنني حين قلت إنني لا أريد أن أفتح مكتبًا لم أكن خائفًا من عدم الشهرة أو من بطء البداية، وإنما كنت خائفًا من نفسي. واليوم وأنا أفكِّر في الاستقالة من النيابة لا بُدَّ لي أن أواجه نفسي. لا أستطيع مخادعة نفسي. أنا لا أصلح محاميًا. وما كنتُ لأتركَ النيابة حتى ولو لم أوفَّق فيها هذا التوفيق.

أستقيل من النيابة؟!

ماذا أعمل؟ أجلس في البيت؟ أبحث لي عن مقهًى؟

ماذا أعمل؟ أذهب إلى الأرض؟ وماذا أعمل فيها؟ إنها الآن أقل من أن تحتاج إلى إشراف. وماذا أفهم أنا في الزراعة؟ إذا ذهبت ضاع الرَّيْع.

ماذا أعمل الآن مع هذا المجرم الذي يريد أن يُورطني في جرائم أنا لا شأن لي بها؟ أنا أعرف ماذا أعمل.

نعم أعرف ماذا أعمل.

إن أحدًا لم يكلمني. من أين أعرف أنا متولي هذا، وكيف أعرف أن هذا صوته. هل أستطيع التجاهل؟ هيهات.

أنا أعرف ماذا سأفعل.

أنا لن أُبلغ أخي شيئًا، فليست هذه وظيفتي، وإنما سأُبلغ رئيس النيابة غدًا بهذا الحديث وأترك له التصرف. هذه هي وظيفتي كممثل للعدالة.

وكان الفجر قد طلع، فقام وجدان من جوار ميرفت التي لم تعرف شيئًا عن الدوامة التي أُلقي إليها زوجها بهذا الرنين الذي أصدره التليفون قبل أن تتهيَّأ هي وزوجها للنوم. نامت هي وواجه وجدان الليل كله وحده.

صلى وجدان الفجر. واتخذ سمته إلى مكتب رئيس النيابة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤