الفصل الأول

عرس سانت ليك

كان يوم الأحد من عام ١٥٧٨م موافقًا لعيد وطني يعيد فيه الشعب الباريسي ويبتهج بهجة عامة، فتناول جميع سكان تلك العاصمة على اختلاف درجاتهم وتباين مقاماتهم، فيشترك الجميع فيه على السواء بإعداد الحفلات والولائم متسابقين إلى الافتخار بصدق وطنيتهم، وعلائمُ البشر والسرور لائحةٌ بين المباسم وفي ثنايا الوجوه.

فلم تكد تنتهي حفلات ذلك اليوم، وتغرب شمسه عن سماء باريس، حتى بزغت شموس من الأنوار في قصرٍ مشيدِ الأركان واقعٍ على إحدى ضفتي نهر السين تجاه قصر اللوفر.

ذلك أن الملك قد صادق على زفاف حنة دي بريزاك، ابنة أحد مارشالية فرنسا، إلى نديمه وأخص المقرَّبين إليه في ذلك العهد، وهو فرانسوا دي سانت ليك.

وقد تناول العروسان الطعام مع جميع المدعوين في قصر اللوفر، حيث جرت حفلة الزفاف.

وكان الجميع بمظاهر الابتهاج والسرور ما عدا الملك الذي لم يصادق على هذا الزواج إلا بعد العناء الشديد، فإنه كان عابس الوجه، مقطم الجبين، ولوائح الغضب والقسوة ماثلة بين عينيه.

فلما فرغت حفلة الإكليل، دنَتِ امرأةُ سانت ليك منه وشكرته، فأعرض عنها ولم يجبها بحرفٍ ممَّا دلَّ جميع الحضور أن الملك غير راضٍ عن هذا الزواج، وأنه لم يصادق عليه غير مكره.

ومع ذلك فلم يستغرب أحد منهم هذا لعلمهم بأن السبب فيه سر من أسرار البلاط، وأن هذا الغضب سحابة صيف ستنقشع عن قريب.

أما سانت ليك فإنه نظر إلى امرأته نظرةً خفية يحثُّها بها على السكينة والصبر، ثم دنا من الملك وقد رآه يتأهَّب للرحيل، فوقف أمامه وقفة المهابة وقال له بلهجة الخشوع والاحترام: أَلَا يشرفني مولاي بحضور الحفلة التي أعدُّها لجلالته هذه الليلة في قصر مونمورانسي؟

فأجابه الملك بمنتهى العظمة: نعم سنحضرها، وإن كنتَ لا تستحق مثل هذه المودة منَّا.

ثم ارفضَّتِ الحفلةُ، وانصرف الملك بخاصته.

ومضى العروسان وبعض المدعوين إلى قصر مونمورانسي، فلم يكن يشغل القوم غير حديث العروسين، وما لقوه من نفرة الملك منهما، وغضبه عليهما.

فكانوا يتسابقون إلى سؤال سانت ليك عن السبب في غضب الملك على ما هو مشهور فيه من صداقته والميل إليه.

فكان يجيبهم بالكلام المبهم ويطمئن امرأته وحميه بقدر ما يسمح له المقام.

وأقام المدعوون ينتظرون قدوم الملك وسواه من كبار المدعوين، كملك النافار وامرأته، والدوق دانجو شقيق الملك، وكاترين والدته، وغيرهم من رؤساء فرنسا.

أما ملك النافار، فقد كان ذهب إلى بيران مع امرأته للنظر في شأن حزب الهوكينوت الذي كان يرأسه، فلم يَعُدْ مطمعٌ في حضوره، وأما الدوق دانجو فإنه كان من طباعه أن يتأخر عن الجميع في مثل هذه الحفلات، ولكنه يرسل رجالًا أشداء كان بينهم وبين رجال الملك إحن وعدوان، فلا يمر يوم حتى يكون بين الفريقين معركة يلتحم فيها القتال فتُسفِر عن جريح، أو يُستباح فيها قتيل.

وأما كاترين فإنها كانت قد بلغت ما تشتهيه من بلوغ ولدها إلى العرش، فكانت تحقِّق باسمه أمانيها، وتتلاعب في الشئون السياسية فتقضي منها أوطارها على ما تشاء، وهي تتظاهر بانقطاعها عن العالم والانصراف إلى العبادة والتزهد.

لذلك لم يكن سانت ليك يطمع في حضورها، فلم يَبْقَ بين أولئك العظام غير الملك، الذي لم يكن يشغله شاغل عن مثل هذه الولائم والحفلات لفرط شغفه بالرقص، فكان صاحب الحفلة واثقًا من حضوره، لا سيما وقد سبق إليه وعده بذلك على ما تقدَّمَ.

وفيما هو جازع، وقد أخذ الجميع يقنطون من حضوره، إذ علا الصياح في جوانب القصر، وارتفعت أصوات الضحك من جميع الحضور، فتسارعوا إلى معرفة السبب في هذا الضحك، فرأوا شيكو نديم الملك لابسًا لباس الملك وتاجه، وهو يتهادى في مشيته مقلِّدًا الملك في جميع حركاته، ويمد يده إلى السيدات كي يقبِّلنها.

وكان شيكو هذا من أشراف فرنسا، وهو وافرُ الذكاء، كثيرُ الدهاء، شديدُ الإخلاص لمولاه، وقد دخل إلى البلاط بصفة مضحك الملك، وهي عادة جرى عليها ملوك فرنسا في ذلك العهد، وكان يتجاوز الحد أحيانًا في الهزل، غير أن الملك كان راضيًا عنه لشدة ثقته به وحاجته إلى آرائه.

ثم دخل الملك في إثره يحيط به رجاله أعداء رجال أخيه الدوق دانجو، وهم موجيرون وكاليس وشومبرج والبارون أو وأبرنون، فانتظمت الحفلة وهدأ روع امرأة سانت ليك، فدَنَتْ من زوجها وقالت: لم أَعُدْ أخشى أمرًا بعد أن قدم الملك، ولا يسوءني غير تأخُّر أخيه الدوق.

فتنهَّدَ زوجها وقال: إني على عكس ما ترتئينه، فإني أخاف الملك حاضرًا أكثر مما أخافه غائبًا؛ لأنه لم يحضر إلا لإساءتي، وسترين أن أخاه لم يمتنع عن الحضور إلا ليكيد لي.

ولم يمضِ على هذا برهة وجيزة، حتى أعلن الحاجب عن قدوم الكونت دي باسي، فاتجهت كل العيون إلى هذا الكونت، وأحدق به الحضور من كل جانب، ولا سيما رجال الملك الذين كانوا ينظرون إليه شزرًا؛ لأنه كان صفي الدوق دانجو، وقد اشتهر بالبسالة والإقدام وكره رجال الملك والازدراء بكل عظيم.

وكان فوق ما هو عليه من الشجاعة شريف النسب كبير النفس، وقد سأله الملك مرةً أن يكون من أتباعه، فأبَى عليه بعظمةٍ جعلت الملك يحنق عليه ويريد له الأذى.

وقد حاول مرارًا أن ينكل به بالسياسة والقوة، فكان الدوق دانجو يحميه من كيد السياسة، وهو يدفع عن نفسه بنفسه حملاتِ رجال الملك ويسيء إليهم في كل حين حتى سئم الملك منه، وأخذ يترقَّب الفرص للتنكيل به بواسطة رجاله.

فلما دخل هذا الكونت إلى قاعة الاجتماع، أخذ يحيل نظره بين الحضور فيرمق أعداءه، ولا سيما رجال الملك بالنظر الشزر، ويبشُّ إلى أصحابه وأصفيائه، ولم يكد يسير بضع خطوات في القاعة حتى دخل في إثره ستة رجال من بطانته، بل من حاشية الدوق، وهم مرتدون بأحسن الملابس.

فجعلوا ينهجون نهج رئيسهم من احتقار رجال الملك الذين كادوا أن يتميزوا من الغيظ، وحاولوا أن ينقضُّوا على الكونت فيقطِّعوه بشفار سيوفهم، لو لم تسبق إليهم إشارةٌ خفية من الملك نفسه الذي ناله ما نالهم من قحة الكونت، فصبروا عليه ورموه بنظرات ملؤها الإنذار والوعيد، نفذت إلى قلب الكونت كالسهام.

وكان شيكو ينظر إلى الفريقين وهو يخشى عاقبة تلك النظرات، فجعل يؤنِّب الكونت دي باسي لقدومه بمثل هذه الحاشية التي لا يقدم بها الملوك، ويكلمه بلسان الملك وهو يمزج الهزل بالجد، ويجمع بين القسوة واللين.

ثم أشار بطرفٍ خفيٍّ إلى سانت ليك، فذهب إلى الكونت يحتفل به ويشكره لقدومه، ويبعده عن رجال الملك حذرًا من وقوع مكروه، لما كان يعلمه من جرأة الكونت الذي لا يحترم سلطةً، ولا يهاب مقام الملوك.

ورأى الملك أن سانت ليك قد زاد في مؤانسة الكونت، فحنق عليه ودعا به، فلما مَثُلَ بين يديه وبَّخَه على ما أظهره من إكرام هذا الرجل، لا سيما وهو يعلم أنه عدوه الألَدُّ.

فاعتذرَ سانت ليك بأنه ضيفه، وأنه لا يسعه إلا إكرام ذلك الضيف في منزله …

ورأى سانت ليك أن عينَيِ الملك قد اتَّقَدتا لهذا الكلام بشرر الغيظ، فعقَّبَ على كلامه فقال: ولكنه سيخرج من منزلي وسيكون له شأن.

فهدأ روع الملك، وسكن ثائر غضبه، ونظر إلى الكونت نظرة ملؤها الكره والاحتقار، وقال لسانت ليك على مسمع من رجاله: نعم، أحب أن أفرغ من شأن هذا الرجل، فأنا أحلُّ لكم دمَه، ولكن احذروا منه لأن بأسه شديد.

وكان لهذا الكلام تأثير عظيم على رجال الملك، الذين تقدَّمَ لنا ذِكْرُ أسمائهم.

فاجتمعوا حلقة في القاعة، وبينهم سانت ليك، ليتآمروا على قتل هذا البطل العظيم اغتيالًا، إذ لم يكن بينهم مَن يجسر على أن يلقاه فردًا، ولما انتظم عقدهم قال أبرنون: إنني سأذهب بعد حفلة الزفاف إلى الصيد.

قال دي أو: لصيد ماذا؟

– لصيد الدب، فإن الملك أمرنا بذاك.

قال موجيرون: لقد فهمت وسنذهب جميعًا، ولكن أتظن أن الملك يرضى بذاك؟

– هو الذي أمَرَ.

وطالَ اجتماعهم حتى تيقَّظَ له الكونت دي باسي، فدَنَا منهم مع بعض رفاقه وقال لهم تحت طيِّ الهزل: إن مَن يراكم على هذه الحالة لا يشكُّ أنكم تتآمرون.

فقال كاليس: كلا، ولكننا عزمنا على الصيد في هذه الليلة بعد خروجنا من حفلة الزفاف، ونحن نتشاور في أمر هذا الصيد.

– ولكني لا أشير عليكم بذاك؛ لأن البرد قارص، وسينالكم منه أذًى شديدٌ؛ ولذا فلا أظن أن جلالته يسمح لرجاله الأصفياء أن يركبوا متنَ هذا الخطر.

– إنما نحن نصدع بأمره، فهو الذي أمرنا أن نصطاد، فهل تودُّ أن تكون معنا؟

– كلا، لأني مرتبط غدًا مع الدوق.

– إننا سنصيد هذه الليلة بعد انقضاء الحفلة.

– ويسوءني أنني مقيَّد في هذه الليلة أيضًا، فقد ضربت موعدًا في فندق التورنيل، ولا بد لي من الذهاب إليه.

– ومن أي جهة تسير إليه، فإن السُّبُل غير آمنةٍ في هذه الأيام، وأخاف أن يحيق بك مكروه.

– إني أشكر صدق ودِّكَ، وأيُّ طريقٍ تشير عليَّ أن أتخذَ؟

– سِرْ بالطريق الذي يؤدِّي إلى الفندق من وراء اللوفر.

فعلِمَ الكونت مرادَه بإشارته إلى هذا الطريق المقفر الذي أصبح في ذاك العهد ساحةً يلتقي بها المتبارزون، وقال له: هو ذاك أيها الناصح الصادق، فسأذهب في هذا الطريق.

ثم نظر إلى الخمسة نظرةَ تهكُّمٍ وازدراء أشعلَتْ في قلوبهم نار الحقد، وانصرف عنهم فاختلط بين المدعوين.

ولما خلا المكان بالمتآمرين قال كاليس: إني أبشِّركم بنيل بغيتنا من هذا الرجل، فإنه ذاهب لا محالة في الطريق التي هديناه إليها.

فقال موجيرون: أنذهب بجملتنا للفتك برجل فرد؟

فأجاب كاليس: نعم، وما يؤمننا أن يصحب معه رجاله، فيعود الوبال على مَن يخاطر بالذهاب إلى لقائه فردًا؛ ولذا فيجب أن نذهب جميعنا ما عدا سانت ليك الذي هو مضطر إلى البقاء مع امرأته، ولا سيما في أول ليلة من زفافه.

فتأوَّهَ سانت ليك وقال: ليسَتِ امرأتي التي تحول دون ذهابي معكم لقضاء هذه المهمة، بل الملك نفسه، فإنه أمرني أن أذهب معه إلى اللوفر، وربما أمرني أن أبيت فيه أيضًا.

فقال كاليس: هذا برهان آخَر يدل على شدة تعلُّق الملك بك؛ فإنه لا يطيق أن يفارقك ساعةً حتى في ليلة الزفاف.

فكظم سانت ليك غيظه، ثم سمع شيكو يناديه، فغادر رفاقه يتباحثون في المكيدة التي نصبوها للكونت دي باسي، وانطلق إلى امرأته فقال لها كي تخبر شيكو بأنه قادم إليه.

وذهب للبحث عن الكونت حتى لقيه، فخلا به في إحدى الغرف وقال له: إني لم أبحث عنك يا سيدي إلا لأقول لك إنه إذا كان لك موعد في فندق التورنيل، فإني أنصح لك أن تؤجِّلَه إلى الغد؛ لأن الطريق مخطرة، وفيها مكامن يقدر أن يختبئ بها كثير من الرجال، أقول هذا وأنا أجلك عن المهابة، وأعيذ نفسي من أن أتهمك بالخوف، ولكني قلتُ ما قلته من قبيل النصح والخوف عليك، فتأمل وافعل ما تريد.

وعندها سمع شيكو يناديه باسم الملك، فيقول: أين أنت مختبئ، وأنت تعلم أني في انتظارك للذهاب إلى اللوفر؟

فعلم سانت ليك أن الملك مُصِرٌّ على عزمه، وأن ليس من الحكمة مخالفته، فقال في نفسه: لقد مهَّدْتُ أسبابَ السلام بيني وبين الدوق دانجو، بما أطلعتُ عليه صفيَّه الكونت دي باسي من مؤامرة أعدائه عليه، وعزمهم على الفتك به، فَلْأجتهد الآن بتمهيد تلك الأسباب بيني وبين الملك؛ لأن حنقه عليَّ شديد.

ثم ودَّعَ الكونت وانطلق إلى الملك الذي كان ينتظره.

فأمر جلالته بالرحيل، وأنْ يُعَدَّ مكانٌ لسانت ليك في مركبته الخاصة، فامتثل القوم وارفضَّ الجمهور.

وذهب الملك، يصحبه شيكو وسانت ليك.

أما امرأته فإنها ولجَتْ إلى غرفتها مع نسائها، فجعلت تبكي البكاءَ المرَّ، وأما أبوها فإنه أرسَلَ ستة من الفرسان إلى اللوفر، كي يحرسوا صهره عند عودته منه، فعادوا إليه بعد حين وهم يقولون: لم يَعُدْ لنا أمل بعودة سانت ليك هذه الليلة، فإن الملك قد رقد، وأُقفِلت أبواب القصر.

فأخبر ابنته بما علم، فباتت ليلتها على أحر من الجمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤