المسيو دي مونسورو
وأقام الكونت يحادث الطبيب طول ذاك الليل عن تلك الفتاة، شأن مَن دخل شعاع الحب إلى قلبه، أول مرة في حياته، فيملأ ما فيه من الخلاء، ويطفح ذلك القلب فلا يرتاح إلا إلى الحديث عمَّن يحب، وفي اليوم الثاني كلَّفَ الطبيبَ في البحث عن تلك الفتاة.
وانصرف هو إلى قصر الدوق دانجو، الذي كان قد أعدَّ حفلةَ صيدٍ للملك برئاسة المسيو دي مونسورو، الذي قد عيَّنَه الملك حديثًا لهذا المنصب بوساطة أخيه الدوق.
فهاج تعيينُه فضولَ جميع المقرَّبين من الملك وأخيه؛ لأنه كان غريبًا عن باريس غير معروف فيها.
ولم يكن من المرشحين لهذا المنصب الذي كان يأمل الحصول عليه كثيرون من أولئك المقرَّبين.
وكانوا يتساءلون عن السبب الذي حمل الملك على تعيينه، والدوق على الوساطة، فلا يستطيعون الوقوف على شيء.
وكان من الذين هاجهم هذا الفضول أيضًا الكونت دي باسي، وقد سأل الدوق فلم يقدر أن يقف منه على شيء.
فلما انتظم عقد الحفلة وكان الجميع بانتظار جلالته للذهاب إلى الصيد، وفي مقدمتهم المسيو دي مونسورو، اجتمع باسي بأحد أصحابه ودار بينهما الحديث عن هذا الرجل، فقال له صديقه: إني لا أعرف شيئًا عن هذا الرجل غير حادثة واحدة؛ لأني لم أَرَه قبل اليوم غير مرة واحدة، ولم أعرفه قبل أن يعرفنا به الدوق.
وذلك أني كنتُ قادمًا يومًا من غابة ميريدور منذ ستة أشهر، فرأيتُ رجلًا ممتطيًا فرسًا أسود، وأمامه امرأة لم أقدر أن أرى وجهها، وهو قابض بإحدى يدَيْه على لجام الفرس، وواضع يده الثانية على فم تلك المرأة وهو يقطع الأرض نهبًا بجواده.
ولم يكن بيننا غير مسافة مرمى الرصاص، فعرفت وجهه وعلمت أنه سارقٌ لتلك الفتاة.
فصحتُ به فلم يقف بل زاد عَدْوًا، فلكزتُ بطن جوادي بغيةَ لحاقه وأطلقتُ عليه بندقيتي فأخطأتُه.
وما زال يعدو وأنا أعدو وراءه حتى سبقني بمراحل وتوغَّلَ في الغابة، فلم أَعُدْ أراه.
ولم أعلم بعدها شيئًا عنه وعن الفتاة.
فعرف باسي السبب في وساطة الدوق لهذا الرجل بالمنصب الذي تولَّاه، وأنه لم يسرق الفتاة إلا ليجعلها مقدمة لأغراضه عند شقيق الملك الذي لم يكن يُؤخَذ بغير هذه المكائد.
وفيما هو يحادث صديقه، إذ سمع الدوق يناديه وهو منفرد في عزلة عن الناس.
فذهب إليه، فقال له الدوق: إني ما دعوتُكَ وأنا في هذه الخلوة إلا لأعهد إليك بأمر جلل لا يُعهَد به إلا لمَن كان مثلك من الأصدقاء المخلصين.
– قُلْ ما تشاء فأنت تعرف إخلاصي.
– هو سر لا أحب أن يعلم به سواك، وذلك أني ذهبت منذ أيام إلى كنيسة كائنة بالقرب من مدفن التورنيل، فرأيت فيها فتاةً كنتُ أعرفها من قبلُ، وكنت أحسبها قد هلكت منذ ستة أشهر.
وإن لي مع هذه الفتاة شأنًا هامًّا، وأحب أن أعرف كيف وصلت إلى باريس؟ وكيف تعيش فيها؟ ومَن يأتي إليها؟ وذلك لا يتم إلا بمراقبتها …
ولا أقدر أن أعهد بهذه المراقبة إلى سواك، حرصًا على هذا السر من أن يُهتَكَ، ومثلك يصون مثل هذه الأسرار، ولا يأنف من قضاء مثل هذه المهمة لصديق مخلص له مثلي.
فاستغرب الكونت هذه الحكاية أشد الاستغراب، وكاد أن يعامل الدوق بالجفاء.
ثم تمثَّلَ له خيال تلك الفتاة التي يهواها، وخشي أن تكون هي نفسها تلك الفتاة التي يبحث عنها الدوق، فأحبَّ أن يقف على حقيقة الأمر.
فأخفى اضطرابه تحت مظاهر المزح، وبشَّ للدوق وأظهَرَ له رغبته في قضاء ما عهد به إليه.
ثم سأله إذا كان يعرف منزلها؟
فدَلَّه على نفس المنزل الذي دخل إليه باسي ورأى فيه الفتاة، فزاد اضطرابه وقال: أنت سألتني أن أراقب مَن يدخل إلى هذا المنزل، وذلك لا يكون إلا بالليل، وكيف أستطيع أن أعرف ذاك الداخل وأتبيَّن وجهَه في الظلام؟
– يجب أن تتبعه حينما يدخل.
– وإذا قفل الباب؟
– إن معي مفتاحًا يفتح قفله، وأنا أعطيك إياه منذ الآن.
ثم أخذ مفتاحًا من جيبه وأعطاه إياه، فأخذه منه الكونت وهو فرح به كأنه قد ولي التاج وفتح أبواب الكنوز، ووعد الدوق بأن يراقب المنزلَ أشد المراقبة.
ثم أقبَلَ الملك بحاشيته، فبحَثَ الكونت بينهم عن سانت ليك فلم يَرَه، فسأل عنه فعرف أن جلالته قد نفاه.
وبعد برهة نفخ المسيو دي مونسورو في البوق، فمشى الجميع بانتظام إلى غابة الصيد.