الفصل الحادي عشر

كيف أن باسي قد وجد الرسم وصاحب الرسم

وبقي الملك ورفاقه يصيدون إلى الساعة الرابعة، فعادوا جميعهم بموكب حافل.

واتفق أن الملك أمر أن يسير الموكب من طريق فندق التورنيل، وكان المسيو دي مونسورو قد استأذن من الملك عند انتهاء الصيد، وذهب إلى حيث لم يعلم …

ولما دنوا من الفندق المذكور أشار الدوق دانجو إلى باسي كي يدنو منه، فقال له: انظر إلى هذه المنازل المتلاصقة، فإنك تجد جميع نوافذها مفتوحةً، والناس تطلُّ منها للفرجة على الموكب، أَلَا ترى بين هذه المنازل منزلًا واحدًا موصد النوافذ؟

– نعم.

– هذا هو المنزل الذي أعطيتك مفتاحه، وهو الذي تسكن فيه الفتاة، فهل أنت باقٍ على عهدك؟

– نعم يا مولاي، فكُنْ مطمئنَ البال، وسأصدع بأمرك.

ثم تفرَّقَ الموكب.

فذهب الكونت إلى منزله، وسأل الطبيب إذا كان علم شيئًا.

– كلا.

– إني وُفِّقتُ أكثر منك، وقد عرفتُ بالصدفة والاتفاق ما لا يمكن أن يتفق لي معرفته بالسعي والجد.

ثم قصَّ عليه ما كان بينه وبين الدوق، وكيف أنه دلَّه على المنزل وأعطاه مفتاحه، وأنه عازم على الذهاب إلى المنزل والوقوف على أسراره.

فأوصاه الطبيب بأن يكون حكيمًا في أعماله، وأقام معه إلى الساعة التاسعة.

وبعد ذلك خرج من المنزل وسار توًّا إلى تلك القبة التي كمن له فيها أعداؤه يوم أرادوا اغتياله.

فلبث فيها يتربَّص مجيءَ مَن كان يخشى الدوق من مجيئه، وقد قال في نفسه: إنني سأصبر ساعتين فأرقب الطريق لخدمة الدوق، فإذا لم يأتِ أحد فإني ألِجُ المنزلَ وأخدم نفسي.

وطال وقوفه إلى الساعة العاشرة والنصف حتى كاد يقنط من مجيء ذلك الرجل، وفيما هو ينتفض من البرد وقد فرغ صبره من الانتظار، إذ رأى من بعيد رجلَيْن مُقبِلين على فرسين، يسير الواحد منهما وراء الآخر، وعلم أنهما خادم ومخدوم.

فما زالَا يسيران حتى وصلَا إلى المنزل المعهود ووقَفَا على بابه، فهلع قلب الكونت وبدأ يشعر بآلام الغيرة.

أما ذانك الرجلان فإن أحدهما الذي كان يسير أمام رفيقه ترجَّلَ عن جواده، فأعطى عنانه إلى رفيقه، وأمره أن يقف بالجوادين بعيدًا عن المنزل؛ دفعًا للمظانِّ ونفيًا للريب.

ثم أخذ مفتاحًا من جيبه ففتح الباب وولج فيه وأوصده وراءه وصعد على السلم، وترجَّلَ الكونت دي باسي أيضًا عن جواده، فربط عنانه إلى حجر ضخم تحت القبة وذهب إلى المنزل، ففتح الباب بتأنٍّ وسكينة، بحيث لم يسمع صرير المفتاح ضمن القفل.

ثم دخل ووقف في أول السلم ينصت عساه يسمع صوت هذا الرجل، ولم يَطُلْ وقوفه حتى سمعه ينقر على الباب بإصبعه وينادي امرأةً اسمها جرتريدة فيقول: قولي لسيدتك يا جرتريدة إني قد أتيتُ، وإني أحبُّ أن أراها.

وانطلقَتِ الخادمة وعادت بعد حين قائلةً له: ادخل وانتظرها في قاعة الاجتماع، فسوف تأتي إليك.

ودخل ذلك الرجل.

أما الكونت فإنه صعد السلم ببطء وسكينة حتى بلغ إلى آخِره، فوجد أمامه غرفةً لا نورَ فيها، ودفع بابها فإذا هو مفتوح، فولَجَ إليها وأجال نظره فيها، ورأى من خلال نور ضعيف كان ينبعث من نافذة الغرفة المجاورة لها صورةً معلَّقةً على الحائط.

وتفرَّسَ بها فإذا هي نفس الصورة التي كان يحسب أنه رآها في حلمه، فوقف أمامها حائرًا مبهوتًا واجفَ القلب.

ثم بصر بسقف الغرفة فرأى فيه تماثيل تشبه تلك الخيالات التي كان يراها في الحلم تتعارك وتتراكض جيئة وذهابًا، وتحول بينه وبين رسم مَن يحب.

فمشى خطوتين …

فعثر بسرير مُذهب الأعمدة، فأيقن عند ذلك أنه مقيم في الغرفة نفسها التي كان مقيمًا فيها ليلة جرحه.

فدَنَا من الباب والتَفَّ بستائره ووضع أذنه على ثقب القفل، فأصغى كي يسمع حديث ذلك الزائر، ولم يَطُلْ وقوفه حتى سمع أن باب قاعة الاجتماع قد فُتِح.

ثم سمع صوتًا لطيفًا حنونًا يقول بلهجة الخوف والازدراء: ها قد أتيتُ، فما عسى أن تريد مني أيضًا؟

فقال الزائر بصوت مختلج: إني مسافر غدًا إلى فونتنبلو، ولذلك فقد أتيتُ أُحيِي هذه الليلة بقُرْبكِ.

– هل تحمل إليَّ أخبارًا عن أبي؟

– أصغي إليَّ يا سيدتي.

– أنت تعلم يا سيدي، ما اتفقنا عليه بالأمس، من أني لا أرضى بك بعلًا لي إلا بأحد شرطين: إما أن يأتي أبي إلى باريس، وإما أن أذهب إليه.

– ذلك لا ريب فيه، فإننا ذاهبون إليه لا محالةَ بعد عودتي من فونتنبلو، ولكن في انتظار ذلك …

ثم قام إلى الباب يغلقه.

فاعترضَتْ سبيله وقالت: ذلك محال يا سيدي، فقد آليتُ على نفسي ألَّا أبيتُ وإياك ليلة واحدة تحت سقف واحد قبل أن أقف على حقيقةِ ما جرى لأبي.

ثم نفخَتْ بصافورة كانت بيدها …

وكان هذا اصطلاح أهل ذلك العصر في استدعاء الخدم، قبل أن تُخترَع الأجراس.

وأتَتِ الخادمة عندما سمعت الصفير، فقالت لها: احذري يا جرتريدة من أن تنامي، بل انتظري على الباب وكوني مستعِدَّةً لتلبيتي عندما أناديك.

فامتثَلَتِ الخادمة وخرجت.

ووضع الكونت عينه على قفل الباب، فنظر من ثقبه فرأى تلك الفتاة التي أخذت بمجامع قلبه مستوية على كرسي، وعلائم الرعب بادية بين ثنايا وجهها الفتَّان.

فخفق فؤاده وهاجت مكامن قلبه، فكاد أن يكسر الباب ويدخل إليها فيزيل أثر ذلك الرعب من قلبها.

ثم نظر إلى ذلك الرجل الجالس بجانبها، فرأى أنه المسيو دي مونسورو، فذكر للحال ما سمعه من صديقه عن حديث الغابة وخطف الفتاة، وقال في نفسه: إني سأقف على حقيقة هذا السر.

وعند ذلك رجع فوضع أذنه على القفل.

وسمع مونسورو يقول: لا تطمعي يا سيدتي أن يطول اضطهادك لي، فإنك الآن في باريس، بل إنك الآن الكونتس دي مونسورو أي امرأتي.

– إذا كنتُ امرأتَكَ كما تقول فلماذا لا تذهب بي إلى أبي، بل لماذا تُخفِيني عن العيون؟

– ألعلكِ نسيتِ يا سيدتي الدوقَ دانجو؟

– وأنت ألعلكَ نسيتَ ما طالما قرعتَ به سمعي من أني غدوتُ امرأتَكَ فلا أخشى من شيء؟

– لا أنكر ذلك، ولكن بقي عليَّ بعض احتياطات يجب أن أتخذها.

– خُذْ ما تشاء من الاحتياطات، ولكن لا ترجع إليَّ قبل أن تكون قد اتخذتها.

فاحتدم غيظًا وقال: إني أنصح لك يا ديانا أن لا تعبثي برباط زواجنا، فإنما هو مقدَّس.

– وأنا من رأيك يا سيدي، فإني أحترم ذلك الزواج، ولكني غير واثقة من هذا الزوج.

– ذلك عجيب منك، فإن كل ما كان مني إلى الآن يحمل على الثقة الشديدة ولا يدعو إلى شيء من الريب.

– ذلك ما تراه أنت يا سيدي، ولكني أرى عكسَ ما تراه.

فبرقت عيناه بشرر الغضب وقال: لقد نفَدَ الصبرَ، فلكِ أن تقولي ما تشائين، غير أني لا أعبأ بشيء من هذه الأقوال، وما أنتِ إلا امرأتي، وستكونين لي هذه الليلة بالرغم منك …

فوضع الكونت دي باسي يده على حسامه وحاوَلَ الهجوم، ثم توقَّفَ عندما سمع الفتاة تقول وقد جرَّدَتْ خنجرًا: كُنْ واثقًا أيها الشريف من أني سأجيبك بهذا الخنجر خيرَ جواب.

ثم نهضت مذعورةً وهي تقول: احذر أن تتبعني، فإني أقتل نفسي لا محالة.

وفتحت باب الغرفة المختبئ بها باسي.

ثم أوصدت الباب وراءها … فشعرَتْ بيدَيْن قد ضمَّتْها وسمعت صوتًا ضعيفا يقول لها بمنتهى الحنان: لا تخشي يا سيدتي، فإني أحميك من كلِّ مَن كان على الأرض.

وكادَتِ الفتاة أن تصيح صياح الرعب، لكن معظم خوفها كان من زوجها فلم تُصِحْ، غير أنها أفلتَتْ مرعوبةً من يدي الشاب، وسمعت المسيو دي مونسورو يضرب الأرض برجله من الغيظ مُنذِرًا متوعِّدًا … ثم فتح الباب بعنفٍ وخرج منه مغضبًا لاعنًا.

فاطمأنت الفتاة عندما سمعت وقع أقدامه على السلم وعادت إلى باسي، فقالت منكرة مستغربة: وأنت يا سيدي، كيف أتيْتَ إلى هنا؟ ومَن أنت؟

ففتح باسي الباب لينفذ النور وجَثَا على ركبتَيْه أمام ديانا، فقال: أنا هو ذلك الرجل الذي أنقذتِ حياته من الموت، فكيف تُنكِرين قدومي؟ بل كيف يخطر في بالك أني أسيء النيةَ لك بعد هذا؟

فضمَّتِ الفتاةُ يدَيْها إلى بعضهما وقد رأت من خلال النور ذلك الوجه الصبوح الشريف، فقالت: هذا أنت يا سيدي، ألعلك سمعتَ حديثنا؟

– نعم، فوا أسفاه!

– مَن أنت؟ وكيف تُدعَى؟

– أنا الكونت دي باسي …

فبرقت أسرة وجه الفتاة بشعاع الفرح، وقالت: أنت هو باسي الشجاع النبيل. ثم صاحت بجرتريدة تقول: لم أَعُدْ أخاف أمرًا، فإني سأضع شرفي تحت حماية أنبل رجال فرنسا.

وبعد ذلك أخذت يد باسي بيدَيْها وقالت له: قُمْ يا سيدي، لقد عرفتُ مَن أنت، فيجب أن تعرف مَن أنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤