الفصل الثاني عشر

ديانا دي ميريدور

ونهض باسي وقلبه موعب فرحًا؛ إذ قد لقي من أنس تلك الفتاة ما كان فوق مأموله، وجعل ينظر إليها مأخوذًا منذهلًا، وهو لا يصدق ما يراه، ولا يجسر أن يتمادى في التصور بما ناله من السعادة، وبتحقيق تلك الأحلام.

أما ديانا هذه فكانت في الثامنة عشرة من عمرها، أي كالزهرة تفتق أكمامها، فتخرج فتنة للعيون.

وقد ورد وصفها في حلم باسي فلا حاجة إلى زيادة البيان، بل نكتفي بالقول إنها خُلِقت كما اشتهت.

ولما دخلت بباسي إلى الغرفة جلست إلى جانبه فقالت: إنني قد ألقيت عليك سؤالين فأجبتني على الواحد دون الآخر.

– نعم يا سيدتي، ولعلك تريدين الوقوف على السبب الذي وُجِدتُ لأجله في هذا المكان، وهو ما ستعلمينه متى ذكرتِ لي ما وعدتني به من حكاية أمرك، أَلَمْ تعديني بذلك؟

– نعم يا سيدي الكونت، فإني سأحدثك عن كل شيء، فقد طالما سمعتُ اسمك يتردَّد في الأفواه كمثال النبل والإقدام والمروءة؛ ولذلك فإني أرى بك خير نصير لي.

فانحنى باسي شاكرًا.

وعقَّبت ديانا قائلة: لا بد أن تكون علمتَ من قليل مما سمعت أني أُدعَى ديانا، ابنة البارون ماريدور، وأنا وريثته الوحيدة؛ فإن الله لم يرزقه ولدًا غيري، وقد صحب فرنسوا الأول إلى مدريد، وأبلى في الحرب بلاء حسنًا، فكافأه ذلك الملك العظيم خير مكافأة.

ولما عاد من إسبانيا تزوَّجَ، فلم يسلم له من بنيه سواي، فانصرف جميع جنوده إليَّ، وكنَّا نقيم في قصرنا في ميريدور، وهو قصر محاط بغابات كثيرة هي أملاك الدوق دانجو …

وأنا أحكي لك الآن ما يتعلق بقصتي مع هذا الدوق ومع المسيو دي مونسورو فأقول:

كانت أول معرفتي بالمسيو دي مونسورو أنه كان في تلك الغابات غزلان ترعى فيها، وكانت شديدة الألفة لي، وفيها غزالة كانت لا تأكل إلا من يدي وتكاد لا تفارقني.

واتفق يومًا أني بينما كنتُ آتية لأطعمها إذ سمعت نباح كلاب كثيرة، ثم رأيت تلك الغزلان تفر منذعرة، وقد تأخَّرَتْ عنها تلك الغزالة وهي فارة معها.

فناديتها فلم تسمع.

وعدوت في إثرها وأنا أكاد أذوب حنانًا عليها، فسبقني إليها صياد كان يطاردها على جواد أشهب.

وأطلق عليها عيارًا ناريًّا فسقطت على الأرض قتيلة، وسقطتُ أنا مغشيًّا عليَّ من هول ما رأيتُ.

ولم أفِقْ إلا وأنا في منزلي محاطة بأبي والخدم.

أما هذا الصياد القاسي فكان المسيو دي مونسورو، وهو الذي حملني إلى منزلي، فعرفته وعرفني في ذلك اليوم، وكانت هذه المعرفة سبب بغضي له وسبب حبِّه لي.

وجعل يزورنا من حين إلى حين فينظر إليَّ نظرات ملؤها الحب، لكني لم أطق تلك النظرات.

ثم اتسعت علائق المودة بينه وبين أبي، ومرضتُ بعد ذلك، وكان يعودني في كل يوم ثلاث مرات.

ولما نقهت خطبني إلى أبي، فتوسَّلْتُ إليه باكيةً ألَّا يجيبه إلى هذا الطلب، وكانت أول مرة رآني فيها أبي.

فطيَّبَ قلبي ووعدني بأن يصرفه عن هذا الطلب بما سيختلقه من الأعذار.

ومرَّ على ذلك أيام وهو لم ينقطع عن زياراته، ولم أكن أجلس إليه إلا فيما ندر.

واتفق أن الدوق دانجو جاء يومًا يتفقَّد غاباته، وأحيا له المسيو دي مونسورو ليلة راقصة، كنتُ مع أبي في عداد المدعوين إليها.

وهناك عرفت هذا الدوق الفاسد الأخلاق، وكان لا يحول نظره عني، وكنت أشعر كلما نظرت إليه أو افتكرت به بأنه سيصل إليَّ منه شرٌّ عظيم.

وفي اليوم الثاني خرجت إلى النزهة في الغابات، ولما عدتُ منها أخبرتني خادمتي أن المسيو دي مونسورو قد أتى في غيابي، وخلا بأبي طويلًا، وداخَلَ الرعبُ قلبي من هذه الخلوة، ودخلتُ إلى غرفتي وأنا أتوقَّع الإنذار بمصاب كما كان يدلني قلبي.

ولم يَطُلِ انتظاري حينًا حتى فُتِح الباب ودخل أبي، وعلى وجهه علائم الكدر فقال لي: لا تحزني يا ابنتي فإننا سنفترق بضعة أيام لسببٍ خطير لا حاجةَ إلى أن تعرفيه ولا تسأليني عنه.

وانتصبتُ واقفةً مرعوبة وقلتُ: كيف نفترق يا أبي؟

– نعم؛ لأن هذا الفراق لا بد منه، ولكنه فراق مؤقَّت، ولا تجزعي واستعدي للرحيل في هذا المساء إلى منزل عمتك في مدينة ليد.

– أَلَا تسير معي أنت؟

– كلا، بل يجب أن أبقى نفيًا للظنون؛ لأن لا أحد يعلم أين أنت ذاهبة.

– إذًا فمَن الذي يسير معي؟

– لقد عهدتُ بخفارتك إلى رجلين هما موضع ثقتي، وستصحبك جرتريدة.

فبكيتُ وتوسَّلْتُ.

ولم يُجْدِ بكاي نفعًا …

وعلمتُ أن الأمر خطير.

وإلا فإن أبي لم يكن يسمح بفراقي بعدَ ما رآه من خوفي، فكفكفت دموعي المنهملة …

وجعلت أستعدُّ للرحيل.

وفي الساعة الثامنة أقبَلَ عليَّ أبي، ووجدني مستعدة كما أمر، فخرج بي من المنزل إلى الحديقة، ففتح بابًا سريًّا فيها يُطِل على الغابات.

وكان هناك مركبة تنتظرني، فصعدت إليها مع جرتريدة، ثم ودَّعت أبي فسارت المركبة في تلك الغابات يسير في جانبَيْها فارسان، وكانت ليلة باردة حالكة الأديم.

وما لبثت أن سارت بضعة أميال حتى غفوت، وما صحوت إلا وجرتريدة تهزني بيدها وعليها علائم الرعب.

فانتبهت مذعورةً وقلت: ما حملك على إيقاظي؟

– انظري تعلمي.

ورفعت ستائر المركبة ونظرت بين تلك الغابات، وفي ذاك الظلام المخيف، ورأيت المركبة محاطةً بستة فرسان مقنَّعين، وقد أوقفوها عن السير.

وامتلأ قلبي من الرعب، وتلجلج لساني عن الكلام، فلم أستطع الاستغاثة.

وفيما أنا على هذه الحال إذ دَنَا مني رئيس العصابة وقال: لا بأس عليك يا سيدتي، فلا نريد بك شرًّا، فاطمئني واتبعينا.

– إلى أين؟

– إلى مكان بعيد، لا خوفَ عليك فيه، فأنتِ ستكونين كملكة.

ولم يكن هذا الكلام إلا ليزيدني خوفًا على خوفي، فقلت: كيف تريد أن أطمئن؟ بل كيف يخطر في بالي أن أعصاكم وأنا ابنة ضعيفة وأنتم جماعة؟ فافعلوا بنا ما تشاءون.

وللحال صعد أحد رجال العصابة إلى مكان السائق، فسار بالمركبة بغير الطريق الذي كنَّا نسير فيه.

وسارت بقية الفرسان بحراستها.

وما زلنا نسير أربع ساعات متوالية، حتى انتهت المركبة إلى قصر شاهق، ونفخ أحد رجال العصابة في بوق، وللحال فُتِحت أبواب القصر ودخلت المركبة منه إلى ساحة فسيحة.

فأحدقت النظر أنا وجرتريدة في تلك الأرجاء عسى نعرف منها شيئًا، ولكننا لم نُوفَّق لمعرفة شيء.

ثم فُتِح باب المركبة، وسألني زعيم العصابة أن أنزل، فنزلت مع جرتريدة ومشينا وإياه إلى القصر الذي كان يقودنا إليه رجل يحمل مصباحًا، حتى دخلنا إلى قاعة جميلة فأجلسنا فيها، وقال لي: أنتِ الآن في منزلك، وجميع مَن فيه تحت إمرتك، فإذا احتجتِ إلى شيء اقرعي الباب يهرعوا إلى تلبيتك في الحال.

ثم سار بنا إلى غرفتين متجاورتين وقال: هما لكما كي لا تفترقَا.

وغادرنا وانصرف.

وأقمنا تلك الليلة إلى مطلع الفجر، ففتحتُ النافذة ورأيتُ مياه النهر تجري من تحتها، وقريةً جميلة تبيَّنْتُ منازلها وعرفتُها.

وعلمت عندها أني سجينة في قصر بومبه، أي قصر الدوق دانجو.

وعلمت للحال سر النظرات الهائلة التي كان يرمقني بها الدوق في الليلة الراقصة التي أحياها له مونسورو.

فأدركتُ موقفي الخطير، وعولت على الانتحار بأن ألقي بنفسي من النافذة إلى النهر.

وعندما طلع النهار أحضروا لنا الطعام، ولم أَذُقْ منه شيئًا، وفي المساء أحضروا لنا الطعام أيضًا، وشقَّتْ جرتريدة الرغيف ورأَتْ فيه ورقة وأخذْتُها منها وقرأْتُها.

وإذا هي تحتوي على سطر واحد من غير توقيعٍ، وهو:

لا تخشي شيئًا؛ لأن لك صديقًا يسهر عليك، وستعلمين غدًا أخباره وأخبار أبيك.

وسررتُ بهذا النبأ وصبرت إلى اليوم الثاني، ولما أحضروا الطعام شققْتُ الرغيف ووجدتُ هذه الرسالة وهي:

إن الرجل الذي خطفك سيحضر إلى القصر اليوم، في الساعة العاشرة …

غير أن الرجل الذي يسعى في إنقاذك سيأتي قبله، ويكون في الساعة التاسعة، وهو يحمل رسالة من والدك توصيك بالثقة به؛ لأنه يعلم أنك لا تثقين به بغير هذه الرسالة.

احرقي رسالتي هذه وانتظري.

وكانت هذه الرسالة أيضًا بغير توقيع.

وأقمت أنتظر وأنا لا أعرف أأطمئن أم أخاف.

وكنتُ أنهض من حين إلى حين إلى النافذة أطل منها آملة أن أرى ذاك الرجل الذي وعدني بالمجيء لإنقاذي.

وبينما أنا على ذلك إذ قُرِع الباب ودخل عليَّ زعيم تلك العصابة الذي لم أقدر أن أعرفه؛ لأنه كان لا يزال مقنعًا، وأعطاني رسالةً ولم يرضَ أن يقول لي ممَّن هي.

ولم أجد بدًّا من أخذها، وأخذتها وقرأتها وهي لا تزال عندي، وسأُطلِعكَ عليها.

ثم قامَتْ إلى خزانة وأخذت منها تلك الرسالة وأعطتها إلى الكونت دي باسي.

ولم يكد يقع نظره على عنوانها حتى اضطرب وقال: إنني أعرف هذا الخط، وهو خط الدوق دانجو.

– نعم هو ذاك، واقرأ الآن ما كتب هذا الأمير.

ففَضَّها باسي وقرأ ما يأتي:

إلى ديانا دي ماريدور الجميلة

إن أميرًا تعيسًا قيَّدَتْه عوامل غرامك وتمكَّنَ حبُّك من فؤاده العليل سيأتي في الساعة العاشرة من هذا المساء ليعتذِرَ إليك عن تصرُّف مستنكر، لم يدفعه إليه غير حبٍّ لا يُقاوَم وغرامٍ لا يُغلَب.

التوقيع
فرنسوا

ولما فرغ باسي من تلاوة الرسالة عقبت ديانا وقالت: ولما تلوتُ هذه الرسالةَ هاج قلبي من الخوف، ولكني كنتُ أرجو النجاةَ بعض الرجاء من الرسالة التي كانت قد وردت إليَّ قبلها، وما كنتُ أخشى هذا الدوق؛ لأني كنتُ قد عولت على الانتحار، إذا لم يتيسر لي الخلاص.

وكانت تلك الليلة من ليالي الشتاء، حيث يكون النهار قصير الأمد، فما حانت الساعة الخامسة حتى أذنت الشمس بالمغيب، وأقبل الليل فكانت السماء مزدانةً بالكواكب، مشرقةً بالقمر التِّمِّ.

ففتحتُ النافذة وجلست أنظر إلى مياه الغدير تنساب كالأفعوان، وتنكسر فوقها أشعة ذاك الكوكب المنير.

فيعبث بها النسيم فتتماوج، وقد اتشحت بلون ذهبي يحرك سواكب القلوب.

ونظرت إلى الأشجار على ضفة ذاك الغدير، وقد طبع خيالها فوق مياهه، وارتسمت هيئة السماء بكواكبها على تلك المياه، بحيث كنتُ أرى فلكين وروضتين وقمرين.

وذكَّراني بالموقف الذي أنا فيه.

ورَقَّ فؤادي لرقة ما رأيت، وجعلت أبكي بكاءً مرًّا، ولكني ما ذكرتُ تلك الساعة إلا واستعذبت ذلك البكاء، وشعرت بحلاوة تلك الذكرى على مرارتها.

وطال جلوسي في تلك النافذة وأنا غارقة في لجج من التصورات، إلى أن كانت الساعة التاسعة.

فانتبهت من غفلة التصوُّر إلى صوت حركة في المياه، فالتفَتُّ فإذا بسفينة تمخر في تلك المياه، وفيها ثلاثة رجال يجذفون.

فناديتُ جرتريدة وقلتُ لها: هذه هي السفينة المُعَدَّة لنجاتنا فيما أظن؛ لأني أراها قادمة إلينا.

– ربما كان ذاك.

وجلسنا ننتظر وصولها إلى أن دنَتْ من النافذة وألقَتْ مرساها، وتبيَّنْتُ أولئك الرجال.

ورأيت بأشعة القمر وجهَ دي مونسورو، نحيلًا مصفرًّا، وهو يكاد يسقط من الاضطراب.

فصحت صيحة منكرة ورجعت منذعرة إلى الوراء …

وكانت النافذة التي أنا فيها، لا تعلو عن سطح المياه أكثر من مترين، ورآني كما رأيته، ونظر إلى ما داخل قلبي من الرعب، فتجاهل وقال: أظنك بانتظاري يا سيدتي.

– بل أنتظر سهدًا يريد إنقاذي، وكنتُ أجهل مَن هو.

– إذا لم أكن الذي يسعى لإنقاذك فمَن يكون؟

– إني أسديكَ جميل الشكر يا سيدي، وأذكِّركَ بما كتبتَه لي من أنك قادم من عند أبي.

– نعم يا سيدتي، لقد قدرت بأنك لا تثقين بي؛ ولذا أتيتُ برسالة منه وهذه هي.

ثم أعطاني هذه الرسالة، ففضضْتُها وتلوْتُ ما يأتي:

ابنتي العزيزة

إن الذي يعطيك رسالتي يا ابنتي العزيزة، هو المسيو دي مونسورو الذي أرسلَتْه السماء لإنقاذك من الخطر المحدق بك، ثقي به كما تثقين بي، وسيخبرك بعد إنقاذك عن رغبتي الشديدة بوفائي لوعدي السابق له.

أبوكِ
البارون دي ماريدور

ولما انتهيتُ من قراءتها، قلتُ: إن أبي يقول إنك ستنقذني، ولكنه لم يقل لي إلى أين ستذهب بي.

– سأذهب بك إلى قصر ماريدور حيث تجدين فيه أباكِ.

– إذًا سأرى أبي.

– نعم، بعد ساعتين.

وسررتُ لهذا النبأ … ولكني كنتُ أشعر بشيء من الخوف من هذا الرجل.

غير أني لم أجد بدًّا من الذهاب معه.

وقبلتُ بعد التردد الطويل، وبعد شديد توسُّله إليَّ وإقناعه إياي بالبراهين.

ثم نزلت إليه من النافذة، وأخذني بين يدَيْه وضمَّني ضمةً شديدة إلى صدره …

وفيما أنا أنفر منه سقط الخمار عن رأسي إلى النهر، وصحتُ في طلبه، فقال: كلا، دَعِيه يَعُمْ على المياه؛ لأن الدوق لا يلبث أن يحضر ويراه، فيعلم أنك قد انتحرت غرقًا فينقطع عن مطاردتنا.

لم أُجِبْ بحرف، ثم نزلت جرتريدة بعدي، وسارت بنا السفينة إلى الضفة الثانية.

ورأينا ثلاثة جياد مُعَدَّة لركوبنا، فامتطيناها وسار معنا فارس أردف جرتريدة وراءه.

وسرنا، ولما وصلنا إلى منعطف في الطريق بصرتُ ولم أجد جرتريدة في أثري، فأوقفتُ جوادي وسألتُه عنها مستنكرةً غيابها، فقال: اطمئني يا سيدتي، إني قد أمرتُ الفارسَ أن يسير بها في طريق آخَر، كي يضيع أثرك عن الدوق، فهي تسير الآن في السبل المطروقة، ولا بد أن يبلغ الدوق أمرها ويحسبها إياك، ويتعقَّبها بدلًا من أن يتعقَّبنا.

ووجدتُ جوابه مفحمًا، ولكني لم أزل موجسةً خوفًا، وامتنعتُ عن المسير فقال: إن لكِ معي أيضًا كتابًا آخَر من والدك، وسأُطلِعك عليه عندما نصل إلى مكان فيه نور، ولا تلبثين أن تقفي عليه حتى تتبعيني راضيةً حيث أقودك.

وقبلتُ بهذا الشرط وسرتُ معه حتى وصلنا إلى فندقٍ بعد مسير ثلاث ساعات.

وأول ما سألته إياه أن أطَّلِعَ على الرسالة، فأعطاني إياها وقرأتُ ما يأتي:

أيتها الابنة العزيزة

لا بد أن تكوني قد امتثلْتِ لإرادتي، وسرتِ مع الكونت دي مونسورو، الذي لا بد أيضًا أن يكون قد أخبركِ بأنْ قد وقعتِ لسوء الحظ موقعَ الاستحسان من الدوق دانجو … فخطفكِ إلى قصر بوجي.

وانظري الآن إلى الموقف الحرج الذي نحن فيه، وإلى ما يتهددنا من العار الذي لا حياةَ لنا بعده، إذا قُدِّر لكِ الوقوع فيه لا سمح الله.

ولذا لا نجد طريقةً للبُعْد عن هذا العار، إلا بزواجك من الكونت دي مونسورو.

وأنتِ متى غدوتِ امرأته، يقف الدوق عند حدِّه ولا يعود يجرأ على اختطافك.

وفوق ذاك فأنتِ تجدين بقُرْبك زوجًا يحبك، ويكون لك خيرَ محامٍ وخيرَ نصير.

فاجتهدي أن تعقدي هذا الزواج في الحال.

وإني أسأل الله أن يبارك هذا الزفاف، ويجعله هنيًّا رضيًّا، وينقذك من كل عدو خائن.

أبوكِ
الذي لا يأمركِ بل يتوسَّل إليكِ
البارون دي ماريدور

ولما انتهيتُ من تلاوة الرسالة، قال: ماذا ترتئين يا سيدتي؟

– وأنتَ … على ماذا عزمتَ إذا قبلتُ بما يأمرني به أبي؟

– عزمتُ على أن أذهب بكِ إلى باريس؛ لأنها خير محل أقدر أن أخفيك فيه.

– وأبي؟

– سيحضر إلينا أو نذهب إليه متى زال عنَّا كلُّ خطر.

– حسنًا، أنا أقبل بذلك … ولكن لي شروط ثلاثة أشترطها عليكَ، ولا أعمل بإرادة أبي إلا متى تمَّتْ.

أما هذه الشروط فهي:
  • أولًا: أن تردَّ إليَّ جرتريدة.
  • ثانيًا: أن لا تصحبني في ذهابي إلى باريس.
  • ثالثًا: أن لا يُعقَد بيننا زواجٌ إلا بحضور أبي.

– إني أقبل بجميع ذلك، وأشير عليك أن لا تسافري إلا في الظلام، وأن تُقِيمي في المنزل الذي أعددْتُه لكِ في باريس وإن كان بسيطًا معتزلًا؛ لأن الغاية أن تكوني بعيدةً عن رقباء الدوق.

– لكَ أيضًا ما تريد؛ لأن لا أحب إليَّ من العزلة في مثل هذه الأحوال.

ثم دعا بثلاثة من الفرسان، فأمرهم أن يوصلوني إلى باريس، ثم ودَّعني وانصرف.

وسرت في ظلام الليل مع أولئك الفرسان حتى وصلنا إلى هذا المنزل ورأيتُ فيه جرتريدة.

وسررتُ برؤياها سرورًا عظيمًا.

وفي اليوم الثاني قُرِع الباب ونحن جلوس على المائدة، وأمرتُ جرتريدة أن تفتح الباب، ففتحَتْه ودخل دي مونسورو، ووجف قلبي لمرآه وقلتُ: ما وراءكَ من الأخبار عن أبي؟

– لم أذهب إلى ماريدور، بل أنا قادم من قصر بوجي، حيث كنتُ فيه مع الدوق، وهو يعتقد أنك قد انتحرتِ غرقًا حيث رأى خمارك على المياه.

وقد كان في ريبٍ من ذلك … ولم أزَلْ به حتى أقنعْتُه، وهو سيكافئني لإخلاصي في خدمته، ويعيِّنني في وظيفة مدير الصيد.

فهلع قلبي لذِكْر الصيد وذكرتُ قتله للغزالة؛ حيث كانَتْ أول معرفتي به وزاد كُرْهي له.

ولبث مقيمًا بضع دقائق يرشدني إلى وجوب التخفِّي وعدم الخروج من المنزل.

ثم دلَّني على كنيسةٍ بجوار البيت، وقال لي: إذا كان لا بد لكِ من الصلاة يوم الأحد، فاذهبي إليها دون سواها.

وبعدها تحفَّزَ للقيام، فقلتُ: أتذهب؟

– نعم، متى تأذنين بالعودة؟

– أليس معكَ مفتاح المنزل؟

– كلا، لا يحقُّ لغير زوجكِ أن يكون لدَيْه مثل هذا المفتاح.

– إذًا ارجع متى شئتَ، أو متى كان لديك ما تقوله لي.

وانصرف وأنا متعجبة من حُسْن سلوكه؛ لأني لم أكن أتوقَّع منه مثل هذا السلوك.

وفي اليوم التالي كان يوم الأحد، وذهبتُ إلى الكنيسة وقد تقنَّعْتُ بخمار ثمين يسترني عن العيون.

وبينما أنا راكعة أصلي، سقط الخمار عن وجهي، فلم أعبأ به لأني كنتُ في بيت الله، فلم أفتكر بغير الله.

فنبَّهَتْني جرتريدة، والتفَتُّ ورأيتُ الدوق دانجو واقفًا في باب الكنيسة مع رفيقٍ له وهو ينظر إليَّ بغاية التحديق، وسقط فؤادي خوفًا وتقنَّعْتُ جيدًا بالخمار.

ولما انتهينا من الصلاة قمتُ لأذهب، ووجدتُ الدوق واقفًا أمام إناء الماء المقدس، وقدَّمَ لي الماء … فتظاهرتُ بأني لم أَرَه، وانصرفتُ مع جرتريدة.

ولكني ما خطوت بضع خطوات، حتى شعرت بأنه يتبعني مع رفيقه.

وكنت أجهل شوارع باريس، فما استطعتُ أن أخدعه بالمسير في طريق آخَر.

وفي المساء جاء مونسورو وأخبرني بجميع ما جرى لي في الكنيسة، وقد أخبره الدوق.

وفي اليوم الثاني خرجَتْ جرتريدة لقضاء بعض الشئون، فلقيها رفيق الدوق وسألها عني، فأخبرَتْه بأني أرملة أحد الضباط.

ورشاها بالمال وصرَّحَ لها بأن الدوق دانجو قد رآني شبيهة لامرأة كان يهواها، وعرض عليها كلَّ نفيس في سبيل مساعدته على إدخال الدوق إلى منزلي.

وكانت كل يوم تخرج فتلقَى الرجل في انتظارها، وفي كل يوم يأتي مونسورو فأخبره بما كان.

حتى إنه أتاني في إحدى الليالي، فقال لي بأن الدوق قد عيَّنَه مديرًا للصيد، وهو يطمع أن هذا المنصب يعجِّل بقبولي.

ثم قال لي: إن الدوق يهواني، وإنه رجل عنيد لا يحول عن مراده.

وبعدها ذكر لي أنه سيسافر.

قلت: فمَن يردُّ عني كيدَ الدوق؟

فتنهَّدَ وقال: كيف تريدين أن أحميك من مثل هذا الرجل العظيم، وأنا لا حقَّ لي بحمايتكِ!

وسكَتَ، ثم ساد السكوت حينًا علينا، إلى أن عاد هو إلى الكلام، فقال: والآن على ماذا عولتِ؟

– إني أؤثر أن أكون حليلةَ مونسورو على أن أكون خليلةَ الدوق، فاذهب الآن وسنرى يوم سفرك في هذا الأمر.

وانصرف مهمومًا مفكِّرًا، كأنما لم يَثِق بوعدي، أو كأنما اليأس يجول في قلبه.

ولما انصرف قمتُ إلى النافذة المطلة على الطريق، فما جلست حينًا حتى رأيتُ رجلين قد وقفَا أمام الباب، ورأيتُ خمسة رجال واقفين أيضًا في قنطرة.

وهلع قلبي وقلتُ: هذا هو الدوق ورفيقه لا محالةَ.

ثم سمعت أحد هذين الرجلين يقول لرفيقه: أأنت واثق من أن هذا الباب هو باب المنزل؟

– نعم يا مولاي، وستتأكد من ذلك متى فتحتَ الباب.

– إذًا افتح.

ووضع ذلك الرجل المفتاح في القفل وأداره به ففتح الباب.

كل ذلك وأنا ناظرة كمَن ينظر إلى الموت بعينَيْه، وحاولتُ أن أصرخ وأستغيث.

ولكني قبل أن أفعل، رأيتُ أولئك الخمسة الذين كانوا مختبئين قد هجموا هجومًا واحدًا، وحالوا بين الباب وبين الرجلين وهم يصيحون: إلى الموت!

ولكن هذا الرجل كان الدوق بعينه، لم يلبث أن ذكر اسمه حتى وجمَتْ تلك الأصوات وردَّتِ السيوف إلى أغمادها، ورجعوا جميعهم إلى الوراء معتذرين.

فتكلَّمَ الدوق معهم كلامًا لم أسمعه، ثم غادرهم ومضى، فرجعوا إلى المكان الذي كانوا فيه.

ولم يَطُلْ انتظارهم حتى أتيتَ أنت، وكان ما كان من هجومهم عليك ودخولك الباب الذي كان قد فتحه الدوق، بعد أن أثخنْتَهم جراحًا … فانصرفوا عنك وهم يحسبونك ميتًا، وسقطْتَ أنت مغمًى عليك على السلم.

وبادرتُ إليكَ وحملتُكَ مع جرتريدة إلى هذه الغرفة التي كنتَ مختبئًا فيها تسمع حديثي مع المسيو دي مونسورو.

وأسرعت جرتريدة وأتَتْ بطبيب، بعد أن عصبت عينَيْه كي لا يعرف المنزل.

ولكنها شعرت على الطريق بأنه يعدُّ خطواته.

فأوجسنا خيفةً وخشينا أن يصل إلينا الأذى من معرفته المنزل.

واضطررتُ مكرهةً إلى إخراجك منه، وبعد أن عصب الطبيب جراحك واطمأننا عليك … خرج الطبيب معصوبَ العينين تقوده جرتريدة …

ولما عادت ساعدتني على حملك، فخرجنا بك من المنزل ووضعناك تحت المذبح على بساط من العشب، وعدنا وقد أخذني الخوف عليك كلَّ مأخذٍ، ولما وصلتُ إلى المنزل سقطتُ مغمًى عليَّ.

فانحنى باسي على يدها يقبِّلها ويقول: إنني لو بذلتُ حياتي في خدمتك، لما كافأْتُكِ عمَّا فعلتِه لأجلي.

فجذبَتْ ديانا يدها من يده بلطفٍ وعادَتْ إلى حديثها قائلةً: وفي اليوم الثاني، خرجَتْ جرتريدة لقضاء حاجات المنزل حسب عادتها.

ولقيت رفيق الدوق بانتظارها، فقال لها: إن الدوق يريد أن يحدِّثني في شأنٍ هامٍّ، وإنه لا بد من هذه المقابلة!

وتظاهَرَتْ جرتريدة أنها من حزبه وقبلت رشواه، ووعدته بهذه المقابلة بعد أربعة أيام، أي يوم سفر المسيو دي مونسورو، وهو اليوم المعيَّن لجوابي له عن عقد الزواج … فرضي بهذا الوعد.

ولما أتى المسيو دي مونسورو أطلعْتُه على كل ما حدث، ولم أُخْفِ عنه سوى دخولك إلينا.

وفي مساء اليوم الرابع رأيتُ وأنا جالسة إلى النافذة، أربعة رجال قادمين إلى المنزل، فلم أشك أنهم الدوق وأتباعه، ثم فتح أحدهم الباب بمفتاحٍ كان معه ودخلوا جميعهم.

فزال مني كل ريبٍ، وأسرعتُ وأخذت خنجرًا جعلته مشهرًا في يدي لأقتل به نفسي متى تحقَّقَ لي سوء قصد الدوق.

ولكني لم ألبث على هذه الحالة المزعجة حينًا، حتى دخلت جرتريدة وقالت: طيبي نفسًا يا سيدتي؛ لأن القادم هو المسيو دي مونسورو.

وردَّ إليَّ بعض روعي وأرجعت الخنجر إلى مكانه، فبصُر به وهو يدخل إليَّ فارتاع وقال: على ماذا كنتِ عازمةً؟

– قد حسبتك الدوق فعزمت على الانتحار.

وجعل يضطرب وساد السكوت حينًا، ثم افتتح الحديث فقال: أتنظرين إلى الذين صحبتهم معي؟

– نعم، إن الواحد كاهن وأظنُّ الآخَرين شهود.

– هو ذاك أيتها الحبيبة، فهل تزالين على سابق وعدك؟

– نعم، ولكنك تذكر ما اتفقنا عليه من أنه لا يُعقَد بيننا زواج إلا بحضرة أبي.

– نعم، أذكر ذلك ولا أنساه … ولكن أَلَا تنظرين إلى خطورة الموقف؟

– إذًا فسأقبل بعقد الزواج بيننا، ولكنني لا أكون امرأتك في الحقيقة قبل أن يحضر أبي.

فعضَّ شفته من الغيظ، وقال: أنتِ حرة في إجراء ما تشائين.

ثمَّ نظر من النافذة وأشار بيده وهو يقول: ولكن انظري من هذه النافذة!

فالتفتُّ ورأيتُ رجلًا ملتفًّا بردائه وهو يحاول الدخول إلى المنزل، ثم دَنَا منه رجل آخَر بيده مصباح.

وارتعتُ لهذا المنظر وقلتُ: مَن ترى يكون هذان الرجلان؟

– ومَن عسى أن يكونَا غير الدوق ورفيقه.

فوجف قلبي وقلتُ: إذًا عجِّلْ بعقد الزواج.

وارتاع الكونت دي باسي وانتصب واقفًا على قدمَيْه وهو يقول: لله ما أشد تعاستي! وما أنكد حظي! … لأن الشخص الملتف بالرداء لم يكن إلا أنا … والذي كان يحمل المصباح، لم يكن إلا الطبيب!

فانقبَضَ صدر ديانا وقالَتْ: لستَ أنت التعيس بل أنا التعيسة … لأني حسبتك الدوق، ولولا ذلك لما كان حدث شيء بيننا.

– إذًا أنت امرأته الآن!

– نعم، وا أسفاه منذ أمس.

ثم تنهَّدَتْ وقالت: إني أخبرتُكَ بجميع أمري … فأخبرني الآن، كيف دخلتَ إلى هنا؟

فأراها الكونت المفتاح وقال: ألَمْ تَعِدْ جرتريدة الدوق بإدخاله إلى منزلك؟

– نعم.

– وقد رأى الدوق المسيو دي مونسورو داخلًا إلى منزلك، فارتاب به وأعطاني هذا المفتاح لأكون كالرقيب عليه … ولأدخل المنزل عند مسيس الحاجة.

فقالَتْ له بصوت المؤنِّب: كيف يقبل مَن كان مثلك هذه المهمة؟

– قد قبلتُها لأني لا أستطيع أن أراك بغير هذه الواسطة، فهل تمنعين عن تعيسٍ مثلي هذه السعادة؟

– معاذ الله، بل أحب أن تعود إليَّ دائمًا فتراني وأراكَ؛ لأن البُعْدَ يدعو إلى السلوان.

– أنتِ مخطئة يا سيدتي؛ لأن مثلي لا ينسى مثلك، وقد أرسلني الله لأكون لك خير نصير، وسأبدأ بنصرتك منذ اليوم، فهل تريدين أن تعلمي أخبارَ أبيك؟

– نعم؛ لأني لا أعلم شيئًا منها.

– سأتعهد بذلك، فاحفظي بقلبك الطاهر تذكارَ ذلك المخلص الأمين الذي لا يحيا إلا بكِ ولأجلكِ.

فقالَتْ ديانا وقد ظهرَتْ عليها ملامح القلق: ولكن هذا المفتاح الذي معك؟

– سأردُّه إليكِ ولا آخذه إلا من يدكِ، ولكن ثقي بأني مخلص لكِ، وأنه لو كان لكِ أخٌ لما كان يخدمك بمثل هذا الإخلاص.

– إني أثق بك أشدَّ الثقة، وهذا المفتاح أردُّه إليك ليكون دليلًا على إخلاصي لكَ واعتمادي عليكَ.

ونهض الكونت وهو يقول: سنعلم بعد حينٍ حقيقةَ حال مونسور … وستقفين على مجمل أحوال أبيكِ.

ثم أخذ يدها وقبَّلَها قبلةً حارة وخرج، ووقفت ديانا على النافذة تشيعه بالنظر وعيناها مغرورقتان بالدموع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤