الفصل الرابع عشر

كيف أن سانت ليك وامرأته قد لقيَا في طريقهما رفيقًا للسفر

في صباح اليوم الثاني من هذه الحادثة، بينما كان الأخ غورنفلو يفرك عينَيْه وينظر إلى نفسه ملفوفًا بالحصير، وهو يعجب مما هو فيه ويحسب أنه في حلم.

كان فارسان يسيران جنبًا إلى جنب في طريق غابة ماريدور التي عرفها القارئ فيما مرَّ به من سياق الحديث.

وكان هذان الفارسان سانت ليك وامرأته في ملابس الغلمان، وهما ذاهبان إلى قصر البارون دي ماريدور والد ديانا، للإقامة فيه ريثما يصفح عنهما الملك.

وقد فضَّلَا الذهاب إلى هذا القصر لشدة بُعْده عن باريس، ولما كان بين الأسرتين من علائق الوداد.

وفيما هما يسيران فَرِحين بما لقياه من الحرية، وقد دخلَا في الغابة، إذ سمعَا صوتًا يناديهما عن بُعْدٍ.

فالتفتَا ورأَيَا فارسًا ينهب الأرض بجواده.

فوجف قلب امرأة سانت ليك، وظنَّتْ أن هذا الفارس قد أتى يطاردهما من قِبَل الملك.

فحثَّتْ زوجها على الإسراع بالفرار، ولكزت بطن الجواد تريد الهرب، فأوقفها ذلك الفارس الذي كأنَّه علم بغيتها، فجعل يصيح: بربكما قفَا ولا تهربَا مني، لقد أضعتمَا حاجةً نفيسة، وقد أتيتُ بها لأردَّها إليكما.

فاختلج سانت ليك عند سماعه لهذا الصوت وقال لامرأته: أتعرفين هذا الفارس؟

– كلا، لأني لا أراه، ولكن يخال لي أني أعرفه؛ لأن صوته شبيه بصوت الكونت دي باسي.

– هو بعينه لنقف ريثما يحضر.

فوقفَا وبعد هنيهة أقبَلَ هذا الفارس وهو يقول باسمًا: لقد أضعتَ رسمَ زوجتك، يا سيدي … أَلَا يسرُّكَ أن أعيده إليك؟

فصاح سانت ليك صيحةَ فرحٍ، عندما تبيَّنَ وجه الفارس وعلم أنه باسي.

فترجَّلَ الفارسان وتصافحَا … ثم دَنَا الكونت من زوجة سانت ليك يسلِّم عليها.

فقالت له باسمة: ألعلك قادم أيها الكونت من قِبَل الملك للقبض علينا؟

– أنتِ لا تجهلين يا سيدتي شدة كره الملك لي، فهو لا يعهد إليَّ بمثل هذه المهمة.

– إذًا، كيف كان اجتماعك بنا؟

– لم يكن إلا اتفاقًا؛ لأني نزلتُ في أول فندق في هذه الطريق، فرأيتُ على المائدة رسمك، فسألتُ صاحب الفندق عنه فأخبرني بأنكما كنتما في فندقه، وقد غادرتماه منذ حين، فأخذتُ الرسمَ وأسرعتُ في المسير حتى لقيتكمَا.

– وما الذي حملكَ على السفر؟ … ألعلك مغضوب عليك مثلنا؟

– كلا يا سيدتي، بل إني ذاهب إلى ماريدور لقضاء بعض المهام.

فظهرَتْ ملامح السرور على محيَّا الفتاة، وقالت: إذًا ستكون رفيقنا على الطريق.

– ذلك ما أبتهج له أشد الابتهاج، فإلى أين أنتما ذاهبان؟

– إلى قرية ماريدور أيضًا.

فارتعش باسي لهذا الاسم وقال: لقد فهمتُ الآن، فإنكما تريدان الاختباء بهذه القرية الجميلة من وجه الملك كما تختبئ الحمامة بين الغصون من وجه الصياد … فأهنئكما بما ستنالانه من الراحة والصفاء.

وكنتُ أودُّ لو أني ارتكبتُ مثل جرمكما لأعيش مثلكما في هذه الغياض سعيدًا كما أنتما سعيدان.

– إن السعادة قريبة منك إذا أردتَ؛ لأن مَن أحبَّ أن يكون سعيدًا فَلْيتزوَّجْ.

إن السعادة معقودة بالحب.

– ذلك لا ريب فيه، ولكن حبًّا كحبكما لا يكون بين جميع الأزواج.

– صدقت لأن هذا الهناء غير مطرد، ولكن مَن كان مثلك فهو يقاس عليه؛ لأنك محبوب من الجميع.

فتنهَّدَ باسي وقال: إن مَن كان محبوبًا من الجميع، فهو غير محبوب من أحد.

– إذًا دَعْنِي أزوجك؛ لأني سأظفر لك بفتاةٍ يكون لك بها قرَّة لعينك وهناء لقلبك، فتذيقك من حلاوة العيش ونعيم الحياة ما لم تشعر به من قبلُ.

– إني لا أنكر وجود النعيم يا سيدتي، ولكن هذا النعيم لم يُخلَق لي.

– أنتَ مخطئ؛ لأني سأجد لك هذا النعيم … فقُلْ لي أتريد أن أزوجك؟

– نعم ولا.

– قد فهمتُ الآن؛ لأنك لا بد أن تكون عاشقًا لفتاةٍ لا سبيلَ لك إلى الزواج بها.

– هو ما تقولين يا سيدتي، وأنا أعترف لك بالحقيقة.

– ولكن طِبْ نفسًا، فسأشفيك من هذا الداء.

– ربما، ولكنني لا أظنك تقوين على إيجاد الدواء.

– لا، بل سأجعلك سعيدًا كما تستحق.

– إني أؤثر أن أبقى على ما أنا فيه من الشقاء … فما خُلِقت لأكون سعيدًا!

– إذًا، سِرْ بنا إلى حيث نحن ذاهبان … فتجد أني صادقة فيما أقول.

– وإلى أين أنتما ذاهبان؟

– إلى قصر البارون دي ماريدور.

فاضطرب باسي وعبق وجهه بالاحمرار، ثم تجاهَلَ بمعرفته هذا البارون، وقال بعد أن ملك روعه: مَن عسى أن يكون هذا البارون؟

– هو شخص من أصدقائنا، وهو صاحب هذه القرية التي تُسمَّى باسمه، وله فتاة تُدعَى ديانا، وهي من أجمل فتيات هذا الزمن.

فهيا بنا إلى هذا القصر … فأنت واجد فيه ما ذكرتُه لكَ من النعيم.

فتنهَّدَ باسي تنهُّدًا طويلًا، أخفاه وهو يمتطي جواده.

وسار الثلاثة سيرًا بطيئًا إلى قصر ماريدور، وامرأة سانت ليك لا تفتر عن محادثته بشأن الزواج، وهي تذوب شوقًا للوقوف على سرِّ غرامه.

•••

وما كان أشد عجب امرأة سانت ليك، عندما دخلوا إلى قصر البارون.

فلم يخرج لاستقبالهم غير ذلك الشيخ الجليل، وقد أحنَتْ ظهره الأيامُ، وبيَّضَتْ شعره السنون، وأنحلَتْ محيَّاه الكوارثُ.

فبرز إلى ضيوفه وهو يتوكَّأ على عصاه، مرتديًا بثوب أسود، إشارةً إلى الحداد.

فأنكرَتْ حنة هذا الهزال وهذا السواد، وأجالَتْ في الغرفة نظرًا مضطربًا تبحث عن ديانا.

فلم تجدها …

ثم دَنَتْ من الشيخ وقد هالتها ملامحُ حزنه.

فقبَّلَتْ يده وقالت: ألَمْ تعرفني يا سيدي البارون؟

– اعذريني أيتها السيدة؛ لأن عيون الشيوخ لم تُخلَق للبكاء، وإني أكاد أفقد بصري لفرط ما بكيت.

– نعم، فإني أرى أثر الدموع بين عينَيْكَ، فلا بدعَ إذا لم تعرفني، لا سيما وأنا بملابس الغلمان.

– قولي إذًا مَن أنتِ، لقد أخبرتُكِ أني لا أرى.

– أنا امرأة سانت ليك، وربما لا تعرفني بهذا الاسم أيضًا، فأزيدك بأني أُدعَى حنة دي بريزاك.

فصاح البارون صيحةَ حزن وأسف، وفتح ذراعَيْه للفتاة فضمَّها إلى صدره وهو يبكي بكاءً مرًّا.

ثم سألته حنة قائلةً: ما لي لا أرى ديانا، هل هي غائبة عن المنزل؟

فنزل هذا السؤال على قلب هذا الشيخ الحزين نزولَ الصاعقة، وأجاب: أنت تسألينني عن ديانا؟ …

أَلَا تعلمين ما أصابها؟

ثم خفَتَ صوتُه، وارتجفَتْ أعضاؤه.

ثم حبس لسانه عن الكلام، فسقط على كرسيٍّ واهيَ القوى وهو يشهق بالبكاء.

فاضطربت حنة وقالَتْ: بالله يا سيدي ألا ما قلتَ لي ما أصابها؟ لقد أوجعتَ قلبي.

فرفع العجوز يدَيْه إلى السماء وقد أفعم قلبه من اليأس، ثم قال وعيناه مغرورقتان بالدموع: ويلاه! إن ديانا أصبحَتْ من سكان القبور.

فاصفرَّ وجه حنة وصرخَتْ تقول: ديانا ماتت!

وصاح زوجها نفس صياحها.

وتظاهَرَ باسي بأنه معتقد بموتها أيضًا، وهو يقول لنفسه: أنت ستحبني حبًّا شديدًا أيها البارون.

أما البارون فإنه أجاب بلهجة حزن شديد: نعم، إنها ماتت وقد قتلوها، فادخلوا معي أيها الضيوف الأعزاء لأني أجد في قربكم بعض السلوى.

فمسكته حنة بذراعه، ودخلوا جميعهم إلى قاعة الاستقبال حيث ساد السكوت هنيهة؛ لأنه لم يكن بينهم مَن يجسر على افتتاح الحديث …

إلى أن تكلَّمَ البارون مخاطبًا حنة، فقال: أذكر أنكِ قلتِ لي أيتها العزيزة إنك متزوجة … فهل هذا زوجكِ؟

وأشار إلى باسي.

فأجابَتْ: كلا يا سيدي، بل هو المسيو دي سانت ليك، الجالس بجانبه.

فانحنى البارون له، ثم قال: إذًا فمَن هو الذي يصحبكما، ألعله أخوكِ أو نسيبٌ لكِ؟

– لا هذا ولا ذاك يا سيدي، بل هو صديق لنا وهو الكونت دي باسي الشهير، صفي الدوق دانجو.

فانتصَبَ البارون واقفًا على قدمَيْه عندما سمع اسم الدوق، واتَّقَدَتْ عيناه بشرر الغيظ.

ثم نظر إلى باسي نظرةً هائلةً …

فارتعشت حنة وقالت مخاطبةً باسي: ألعله يعرفك يا سيدي الكونت؟

– كلا … يا سيدتي، فإن هذه هي المرة الأولى التي تشرفت فيها برؤيته.

أما البارون فإنه لم ينتبه لكلامها، بل رمق الكونت بنظرة ملؤها الغضب والوعيد، وقال: أنت صفي هذا الوحش الكاسر، وصديق هذا الشيطان الرجيم، ثم تجسر على القدوم إليَّ والوقوف بوجهي؟

فنظر سانت ليك إلى امرأته، وقال: ماذا أرى؟ … أهو مصاب في عقله؟ … لأن كل ما نراه منه يدل على الجنون …

– لا أخال ذلك … بل أظنه كارهًا للدوق؛ لأنه لم يغضب إلا عند ذكره.

فنظر البارون إلى حنة، وأخذ يدها بين يدَيْه فقال: أنت تنظرين إليَّ نظرَ الرعب، وقد هالَكِ ما سمعتِه فلا تستغربي غضبي لذكر الدوق؛ لأنه هو قاتل ابنتي ومُفجِعي بمَن أحبُّ.

فأدمعَتْ عين الفتاة وقالت: إن المصاب عظيم لا سبيلَ معه إلى العزاء، ولكن الكونت دي باسي هو أعظم نبيل في فرنسا، فلا يمكن أن يكون مطَّلِعًا على هذا الجرم الفظيع، بل يجهل مثلنا حقيقة أسراره، أَلَا تراه يبكي معنا؟

فالتفَتَ الشيخ إليه وقال: أصحيح ما تقول؟

فانحنى الكونت من غير أن يجيب.

فقال الشيخ: لا عجب إذا كان جميع الناس يجهلون موت ابنتي حتى أصحابها؛ لأني لم أكتب كلمة، ولم أنبس ببنت شفة، بل حملتُ هذا السهم بقلبي، كما يحمل الطائر سهم الصياد تحت جناحه، ويذهب به ريثما يستقر ويموت …

فقالت الفتاة باكية: بالله تكلَّمْ أيها الشيخ النبيل؛ لأن الكلام يعزيك.

فتنهَّدَ البارون وقال: إن هذا الخائن الذي هو وصمة عار تصم النبالة والشرف، قد رأى ديانا فراقَتْ بعينَيْه فاختطفها إلى قصره في بوجي … أما ديانا فإنها فضَّلَتِ الموتَ على العار، فألقَتْ نفسها في المياه حيث ماتت غريقةً … شهيدةَ الطهارة والنبل.

فاضطرب الجميع لهذا الخبر، وقالت حنة: إن ذاك الإثم قد بلغ منتهى الفظاعة، ومَن كان في مقامك من النبل أيها الكونت، فهو لا يقيم ساعةً مع هذا البرنس الأثيم.

أما باسي فإنه لم يُجِب بحرف، بل إنه تقدَّمَ من البارون دي ماريدور وقال بسكينة وهدوء: أيسمح لي مولاي البارون بخلوة خاصة؟

فامتثل الشيخ ونهض، فسار بالكونت إلى إحدى الغرف تاركًا سانت ليك وامرأته في حيرة من هذا الاختلاء، وهما لا يعلمان المراد منه.

ولما خلا الكونت بالبارون قال له: أنت قد أهنْتَ يا سيدي رئيسي الدوق أمامي، فوجب عليَّ أن أسألك الإيضاح، ولا تحسب أني أريد الانتقاد فيما أقول، بل إن كل قصدي أن أدفعك إلى حكاية أمرك تلطيفًا للأحزان وتوصُّلًا إلى الخدمة، فتفضَّلْ يا سيدي، واشرح لي عمَّا أشرتَ إليه من أمر هذه القصة المحزنة.

– اسمع لأن حديثي لا يطول وإليك البيان.

ذلك أني أعرف رجلًا نبيلًا يُدعَى المسيو دي مونسورو أحبَّ ابنتي حبًّا شديدًا، وخطبها إليَّ فلم تقبل به ابنتي زوجًا، ومع ذاك لقد بقي الوداد بيننا على ما كان، ولم يقطع هذا الرفض العلائق بيننا، بل زاد إخلاصًا فوق إخلاصه.

وكان هو مَن أنبأني بخيانة الدوق، وهو الذي أرشدني إلى طريق خلاصها وقدَّمَ نفسه لهذه الخدمة بشرط أن أزوِّجَه إيَّاها؛ لأنه سيركب أشد الأخطار بمقاومته للدوق، ولا حقَّ له بحمايتها إذ لم يكن زوجها، وأنه لا يقتحم مثل هذه الأهوال إلا صيانةً للشرف وغيرة على العرض، فرأيتُ كلامه حقًّا، وبرهانه سديدًا، وغايته نبيلة، فصادقتُ على ذلك وانطلق لخلاصها، ولكنه وا أسفاه لم يصل إلا بعد انتحارها …

– ألَمْ يكتب لكَ شيئًا منذ ذلك الحين؟

– كلا، وما أظنه إلا ليأسه من حبوط مسعاه.

فأحنى باسي رأسه وقد علم أن مونسورو يودُّ أن يكتم خبر حياة ديانا حتى عن أبيها خوفًا من الدوق.

فنظر إليه البارون وقال: هذه هي الحكاية وقد قصصتُها عليك، فما تقول؟

– لا أقول شيئًا الآن، سوى أني مكلَّفٌ من قِبَل الدوق أن أذهب بك إلى باريس؛ لأن سموَّه يرغب بأن يراك.

فارتعش البارون وقال: أنا أذهب إلى قاتل ابنتي؟ … وما عسى أن يريد مني هذا الكاسر؟

– لا أعلم، وربما كان يريد الاعتذار.

– كلا، لأن هذا الذنب لا يقبل الغفران، وأنا لا أذهب إلى باريس.

– أرجو أيها البارون أن تسمح لي بالإلحاح عليك؛ لأني ما أتيتُ إلا للذهاب بك.

فاحتدم البارون غيظًا، وقال: إذًا، سأسير وإياك والويل لقاتل ابنتي؛ لأن الملك إذا لم يصغِ إليَّ، فسيصغي إلي نبلاء فرنسا؛ لأنها لا تخلو من الأشراف.

ثم وضع يده على قبضة حسامه وقال: نعم، سأذهب معك … لقد أنساني الحزن أنَّ لي حسامًا طالما كان حيلتي في المعارك.

– وإني أوصيك بالسكينة والصبر أيها النبيل، فأنت ستجد في باريس مَن ينتصر للشرف والمروءة.

فَلْيهدأ بالك وتهيَّأْ للسفر في الغد …

ثم خرجَا من الغرفة وذهبَا إلى سانت ليك وامرأته حيث أقاموا سويةً بقيةَ ذاك النهار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤