الفصل السادس عشر

كيف علم الدوق دانجو أن ديانا دي ماريدور في قيد الحياة

بينما كان الكونت دي باسي في منزل ديانا يجمعها بأبيها، ويعدها بأن يجد لها مخرجًا مما هي فيه، كان الملك وبطانته في قرية شارتر يصلِّي إلى الله في كنيستها ويتوب عن خطاياه، وهي عادة له كان يُجرِيها في كل عام في يومٍ مخصَّصٍ.

فيقتدي به جميع أعوانه والمقرَّبين إليه.

وكان في جملة أولئك التائبين المصلين الدوق دانجو.

ففيما هم وقوف في ساحة الكنيسة، والدوق مشتَّت البال ساهي الطرف، إذ شعر برجل قد التصَقَ به.

فالتفت وصاح منذهلًا يقول: أهذا أنت يا باسي؟ وما جاء بك؟

– نعم يا مولاي، وقد أتيتُ من باريس على جناح السرعة، لأكلمك في بعض المهام.

– لماذا لم تأتِ من قبلُ فتشترك معنا بهذا التذكار السنوي؟

– ذلك لأني كنتُ بعيدًا عن باريس منذ ثلاثة أسابيع، ولم أَعُدْ إليها إلا اليوم.

– وما عسى أن يكون حدث أثناء غيابك من المهام؟

– إني لأجل هذا أتيتُكَ، فعيِّنْ لي موعدًا أجيئك فيه.

– سنلتقي بعد الفراغ من الصلاة، فإنها على وشك الانتهاء، ومتى خرجنا من الكنيسة نذهب في الحال إلى المنزل فنتحدث بما نشاء.

فوقف الكونت مع الواقفين.

وبعد حينٍ انتهت الصلاة.

فخرج الجميع يتقدَّمهم الملك وعلى وجهه آثار الخشوع، وفي جملتهم الدوق.

فدَنَا من الملك واستأذن منه بالذهاب، فأذن له …

فسار على الفور مع الكونت دي باسي حتى بلغَا إلى المنزل، فاختليَا فيه ودار بينهما الحديث الآتي …

فقال الدوق: اجلس أيها الصديق وحدِّثني بما جرى لك، فإني حسبتك في عداد الأموات، وقد سُرَّ جميع أعدائك لبُعْدِكَ، ولكن لنَدَع الآن هذه الأحاديث وقُلْ لي ما علمتَه من شأن تلك الفتاة التي كنتَ تسير في إثرها، فقد عرفت شيئًا من أمرك.

وقال باسي وهو يحتدم غيظًا: مولاي يجب أن تحصد ما زرعتَ، أي العار والخجل.

فاصفرَّ وجه الدوق وقال: ماذا تقول؟

– لقد سمع مولاي ما قلتُه، فلا حاجةَ إلى الإعادة.

– أوضِحْ ما تقول أيها الكونت ودَعِ الهزل، فليس الهزل من شأنك.

وقال باسي: لستُ بهازلٍ يا مولاي؛ لأن ما سمعته هو الذي أريد أن أقوله، فاذكر أمرَ تلك الفتاة تعلم صحةَ ما أقول.

– ولكن مَن هي تلك الفتاة؟

– هي بعينها.

– هل رأيتَها؟

– نعم.

– وهل كلَّمْتَها؟

– نعم، ولا بدعَ إذا كان يظن مولاي بأنها ميتة؛ لأن كل ما فعل كان يؤيد هذا الظن.

فاصفرَّ وجه الدوق ووقف باهتًا يضطرب مغتاظًا مما سمع، ولم يبالِ باسي بما رأى عليه من سمات الغضب، بل عقب وقال: إنك يا مولاي، وإن كنتَ قد ألقيتَ بتلك الفتاة الطاهرة النبيلة إلى مهاوي الفجور، غير أنها قد نجَتْ من تلك الوهدة الشائنة، ولكنك لم تبرأ بعدُ من وصمة جرمك الهائل؛ لأن تلك الفتاة التي نَجَتْ من مخالب الموت والعار قد وقعَتْ بما هو أشد من الموت ومن العار.

فقال الدوق وهو يضطرب كريشة بمهب الريح: قُلْ ما أصابها؟

– إن الذي أصابها يا مولاي هو أن رجلًا أنقَذَ شرفها من العار وحياتها من الموت … ولكنه كافَأَ نفسه عن هذه الخدمة بما ودَّتْ لو لم يكن قدم لها؛ فإن تلك الفتاة التي كانت تُدعَى الآنسة دي ماريدور قد اضطرت بالرغم منها أن تُدعَى مدام دي مونسورو؛ حذرًا من أن تُدعَى خليلةَ الدوق دانجو.

فاصفرَّ وجه الدوق اصفرارًا شديدًا من الغيظ وقال: أصحيح ما تقول يا كونت؟

– هي الحقيقة بعينها؛ لأن مثلي لا يعرف الكذب أيها الدوق.

– إني ما أردتُ بسؤالي أن أُظهِرَ عدمَ الثقة بكلامك، لكني أوردته على سبيل الإنكار لما أتاه مونسورو؛ لأنه لم يَدُرْ في خلدي أن رجلًا من أتباعي يجسر على خيانتي ومزاحمتي فيمَن أحبُّ.

– ولماذا تستنكر ذلك؟

– لأنه منكر بالطبع … ألعلك كنتَ تفعل فعله … لو كنتَ في مكانه؟

– بل كنتُ أصنع أحسن من ذلك، أي كنتُ أحذِّر سيدي الدوق وأقول له إن شرفه معرض للضياع.

– تمهَّلْ أيها الكونت واعلم أني لا أُحاكَم.

– هذا خطأ منك، فإنك إذا كنتَ دوقًا، فأنت رجل نبيل أيضًا، ومن شروط النبالةِ الوفاءُ.

– إذًا أسألك أن تكون الحكم بيني وبين مونسورو.

– أنا؟

– نعم أنت، وأريد أن تحكم بالقسط بيني وبينه، أَلَا تَعُدُّ هذا الرجل خائنًا لي بعد فعله الشنيع وهو يعلم نواياي؟

– ما هي نواياك؟

– لم تكن نيتي في اختطاف الفتاة واغتصابها، بل كان جل قصدي أن أدعها تحبني مع مرور الأيام.

فابتسم باسي ابتسامة المتهكم وقال: أهذه هي نواياك يا مولاي؟

– نعم، ولقد حافظتُ على هذه النيات إلى آخِر دقيقة، بالرغم من معارضة مونسورو لي فيها.

– ماذا أسمع يا مولاي؟ … ألعل مونسورو كان يدفعك إلى اغتصابها؟

– نعم، وهو الذي اختطفها وبعث بها إلى قصري في بوجي، وهذا كتاب منه سأُطلِعكَ عليه لتستدلَّ منه على صحة ما أقول.

ثم غادره الدوق حينًا وعاد يحمل رسالة مفضوضة، فألقاها إلى باسي وقال له: اقرأ.

فأخذ الكونت الرسالة بيدٍ ترتجف، وتلا بصوت أجش ما يأتي:

مولاي …

ليطمئن بال سموكم، فإن الطير قد وقع في الشَّرَك وستنالون ما تبتغونه من غير خطر؛ لأن الفتاة مسافرة في هذا المساء إلى منزل عمتها، حيث تقيم فيه ثمانية أيام، وسأخطفها في الطريق وأبعث بها إلى قصركم في بوجي، فتنالون منها ما تشاءون، وأنا هنا أحول الأنظارَ عن كل ريب.

خادم سموكم المطيع
مونسورو

فقال الدوق: ما تقول أيها الكونت بعد أن قرأتَ هذا الكتاب؟

– إنه خدمك أجلَّ خدمة.

– تريد أن تقول إنه خانني أشدَّ خيانة، فإنه لم يكتفِ باختطافها مني، بل إنه جعلني أعتقد أيضًا أنها لم تَعُدْ في قيد الحياة.

فأجابه الكونت يقول بلهجة المتهكم: لا أنكر أن هذه الخيانة عظيمة لا تطاق، لكن حبه للفتاة يمهِّد له سبيل العذر عن هذه الخيانة، وقد فعل أيضًا ما لستَ تعلمه، وهو أنه أقنع الأب والابنة أنك أنت المغتصب، وأنه هو المنتصر لهما غيرةً على الشرف وصيانةً لكرامة الأسرات، فجاء إلى قصر بوجي مصحوبًا بكتاب من أبيها يأمرها فيه بالوثوق به والمسير معه، فأنقذها من القصر على قارب صغير خاض فيه النهر إليها، وجاء بها إلى باريس، فما زال يعظم لها أمرك، ويحذِّرها من عودة الوقوع في أشراكك، حتى اضطرت على الكره منها إلى إجابة مطالبه، فقبلت أن تكون له امرأة، وهي عروسه منذ بضعة أيام.

فاحتدم الدوق غيظًا وهدَّدَ السماء بقبضتَيْه وقال: مَن الذي ينقذه من غضبي بعد هذه الخيانة الهائلة، وسترى أيها الكونت كيف يكون انتقامي!

فعبس باسي وقال: كلا يا مولاي، فإن الأمراء لا ينتقمون، بل يُظهِرون الجريمةَ ويعاقبون عليها عقابًا؛ لأن مَن كان قادرًا على البطش فهو مُعاقِب لا منتقم.

– وكيف ترى أن يكون العقاب؟

– أن تُطلِقَ سراح ابنة ماريدور.

– أتظن بأن ذلك مستطاع؟

– نعم، وهو سهل أيضًا، فإن زواجه بها كان مغتصبًا ولا يصح الزواج بالاغتصاب، فاجتهد إذًا بإلغاء الزواج تُحسِن إلى الفتاة، وتعاقب الخائن، وتنهج نهج الأمراء والأشراف، فإني يسوءني أن يقال بأن الكونت دي باسي يخدم أميرًا لا ينتصر للنبل والنبلاء.

– سيكون ما تريد أيها الكونت، لكن قُلْ لي كيف يمكن نقض الزواج؟ وبأية طريقةٍ يُلغَى؟

– ذلك بأن تدع أباها يبدأ بالطلب.

– ولكنه بعيد عنَّا، فهو في ماريدور.

– كلا يا مولاي، بل هو في باريس.

– ألعله في منزلك؟

– بل هو مقيم مع ابنته، فاجعله يا مولاي يغيِّر عهدَه فيكَ، ويثق بكَ، فيباركك ويذكر اسمك بالخير ما بقي له من العمر … لا تنظر يا مولاي إلى نبله وكرم أصله، بل اعتبر أنه أب، وأن ابنته شقية، وأن هناءهما موقوف على كلمة تصدر من فمك.

– سأفعل جميع ذلك أيها الكونت … فمتى أقدر أن أرى ذاك البارون؟

– عند عودتنا إلى باريس، فهل أتكل على وعدك؟

– طِبْ نفسًا لأني موفٍ بما أقول.

– وأين أراكَ في باريس؟

– غدًا صباحًا في قصر الملك.

فافترق عنه باسي وطار بأجنحة الغرام إلى ديانا ليخبرها بما كان، وإلى البارون ليعزِّيه عمَّا هو فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤