ما حدث بين الدوق دانجو والمسيو دي مونسورو
وعاد الملك بحاشيته العظيمة إلى باريس.
وفي صباح اليوم الثاني أقبل الكونت دي باسي إلى القصر، وجعل ينتظر في البلاط مع الواقفين في انتظار خروج الملك، وكان في جملتهم دي مونسورو.
وفيما هو واقف يتحدَّث مع شيكو، وينظر إلى مونسورو من حينٍ إلى حينٍ نظرات ملؤها الكره والوعيد، إذ أتاه رسول يدعوه من قِبَل الدوق.
فدخل عليه ووجده جالسًا في كرسيِّه، وبيده تلك الرسالة ينظر فيها، وملامحُ الغضب بادية في محيَّاه العبوس.
فنظر إلى الكونت وقال: أَوَصَلَ مونسورو؟
– نعم، وهو ينتظر في ردحة البلاط، فهل أنت باقٍ على عزمك؟
– نعم، وهو عزم ثابت لا يتغيَّر؛ لأني ما فكَّرْتُ في جرمه إلا ورغبتُ أن أسحقه سحق الزجاج.
– وستأمر أيضًا بفصل الزوجين وإلغاء هذا الزواج المغتصب؟
– نعم، لأنه أمر اتفقنا عليه ولا يمكن أن أحول عنه، والآن اخرج وادعه لي لأني أريد أن أكلِّمَه.
فخرج باسي وهو موعب فرحًا إلى ردحة البلاط، فنظر إلى مونسورو بملء العظمة وأخبره أن الدوق يريد أن يراه.
فامتثل مونسورو ودخل إلى غرفة الدوق.
أما باسي فإنه وقف بين أصحابه يتحدَّث معهم وقلبه منشغل بما يجري في الغرفة.
وفيما هم يتحدثون إذ سمعوا الدوق يصيح صياح الغضب، وقد تلا هذا الصوت صوت زجاج قد كُسِر على الأرض بحدةٍ، فامتلأ فؤاد باسي سرورًا وقال في نفسه: هو ذا الدوق قد وفَّى بوعده، وسأكون لديانا وتكون لي.
وجعل الحضور الذين سمعوا صياح الدوق يتكهنون ويرجمون بالغيب عن السبب الذي حمل البرنس على مثل هذا الغضب على مونسورو الذي اشتهر أخيرًا بالميل إليه.
وفيما هم على مثل ذلك، إذ فُتِحَ باب الغرفة وخرج منها مونسورو، فخرج معه الدوق إلى الباب يودِّعه بألطف الابتسام قائلًا: إلى اللقاء أيها الصديق.
فقال له مونسورو، على مسمع من الحضور الذين ذهلوا لما رأوه من الانقلاب: إذًا سأقدِّمها في المساء لجلالته.
– افعل ما تشاء لأني سأهيِّئ كلَّ شيء.
ثم همس في أذنيه بعض الكلام.
فانحنى مونسورو وقال: سأصدع بأمر سموكم.
ثم انحنى مسلِّمًا، وذهب إلى أولئك المجتمعين فقال لهم وعلائم البشر بادية في محيَّاه: اسمحوا لي أيها الأسياد، أن أوقفكم على أمرٍ تجهلونه … وهو أن مولاي الدوق قد أذِنَ لي أن أُشهِرَ زواجي الذي عقدته منذ مدة مع السيدة ديانا دي ماريدور، التي سأقدِّمها في هذه الليلة إلى جلالة الملك.
فنزل هذا الكلام على فؤاد باسي نزول الصاعقة، وأدار وجهه إلى باب غرفة الدوق، فوجده لا يزال واقفًا على الباب، فرماه بنظرةٍ غاية في الاحتقار.
فاصفرَّ وجه الدوق ودخل مذعورًا وأوصَدَ البابَ خلفه.
أما باسي فإنه وضع يده على قبضة حسامه، وجرَّدَ بعضه وهو يلتهب غيظًا.
ولكنه لم يلبث أن ذكر ديانا، حتى لطفت تلك الذكرى حدته، وعاد إليه صوابه.
فخشي إذا بقي في ذاك البلاط المكروه أن تبدر منه بادرة حدة يصنع فيها ما لا تُحمَد عقباه.
فخرج من بين رفاقه وهو يلعن ذاك الأمير الكاذب.
وانطلق واليأس ملء فؤاده إلى منزل ديانا … فدخل عليها وقال: احتقريني أيتها السيدة وأبغضيني، لقد ظننْتُ نفسي رجلًا، وقد حسبت أني أقدر أن أصنع شيئًا …
فإذا أنا رجل خامل ضعيف لا أستطيع أمرًا، حتى إني لا أقدر أن أسحَقَ قلبي وأنزع هذه الحياة الشقية.
والآن فإني أقول: أنتِ زوجة مونسورو الشرعية، وأنتِ ستُقدَّمين لجلالته في هذا المساء، وإني تعيس شقي لا حظَّ لي في هذه الحياة، أما الدوق دانجو فهو رجل خائن سافل.
ثم ترك ديانا وأباها وهما لا يعلمان ما يقولان.
وخرج والدم يكاد أن يخرج من عينَيْه، فركب جواده وأطلقه ينهب الأرض نهبًا وهو لا يعلم أين يسير.
•••
ولا بد أن يكون القارئ ينتظر أن نقصَّ عليه السبب الذي حمل الدوق دانجو على موالاة مونسورو ونقضه لعهده مع باسي.
ولذلك، فإننا نذكر ما جرى من الحديث بين مونسورو والدوق، فيقف القارئ على ما يود الوقوف عليه من تفصيل هذه الحادثة، فنقول:
كان الدوق يتنازعه عاملان عندما دعا إليه بمونسورو؛ وهما خيانة هذا الرجل له بعد ثقته الشديدة بإخلاصه.
وحمِيَّة الكونت دي باسي، وما أظهره في سبيل الدفاع عن البارون دي ماريدور.
وكلا العاملين قد أثارَا غضبه، وهاجَا مكامن حقده على ذلك الرجل الذي كان موضع ثقته في كل أمر.
فلما دخل مونسورو قابَلَه الدوق بوجه عابس وهو يكاد يتميز من الغيظ، وملامح الانتقام بادية بين عينَيْه.
فلم يكترث مونسورو بما لقيه من برود هذه المقابلة، وتكلَّفَ هيئةَ عدم المبالاة فقال: بماذا يأمر مولاي؟
فقال له الدوق: لا تخشَ بأسًا؛ لأننا منفردان بهذه الغرفة حيث نستطيع أن نتباحث فيما نريده بحرية وجلاء.
فانحنى مونسورو … ودار بينهما الحديث الآتي:
فقال الدوق: قلتُ لك إننا سنتكلم بحرية ومن غير خوف، فأنت خادم أمين، ولي بك من الثقة بقدر ما عندك لي من الإخلاص.
– ذاك لا ريب فيه يا مولاي.
– وأنا لا أشك بذلك أيضًا؛ لأنك طالما أرشدتني إلى اعتصاب أعدائي ضدي، وطالما عرَّضْتَ نفسك إلى الأخطار في سبيل خدمتي، ولا سيما في الحادثة الأخيرة التي تستحق عليها خير الجزاء.
– وأية حادثة يعني مولاي؟
– حادثة تلك الفتاة المسكينة ابنة البارون ماريدور.
فتأوَّه مونسورو، ووضع يده على عينَيْه، كأنه يريد أن يطرد تلك الذكرى.
فقال له الدوق: أراكَ آسفًا على تلك الفتاة!
– نعم يا مولاي، أَوَلَسْتَ مشارِكًا لي بهذا الأسف؟ ألعلك نسيتَ ذلك المصاب؟
– كيف أنساه؟ … وأنت الذي اختطفْتَ لي تلك الفتاة … فإذا كنتُ أنساه، فقد وجب أن أنسى صداقتَكَ … وجميع ما بذلْتَه لي من الخدمات.
– لا تحزن يا مولاي؛ لأن موتها إذا كان ذنبًا فإن الله غافر لك هذا الذنب، فإنك لم تكن تريد لها مثل هذا الموت.
– ربما كان ذلك، لا سيما وأن موتها قد ألقى حجابًا كثيفًا على تلك الحادثة المشئومة.
وكان الدوق يتكلم بصوت يرتجف من غيظٍ لم يستطِعْ ستره … فأدرك مونسورو للحال أن الدوق عارف بدخيلة الأمر، ولم يجد بدًّا من التصريح فقال: أيأذن لي مولاي أن أتكلَّمَ بحرية وجلاء؟
فقال له الدوق بعظمة وانذهال: إني أعجب لما تقول! … ولا أدري ما الذي يمنعك عن قول ما تريد أن تقوله.
– ذلك لأني خشيت أن تستاء من اتخاذي الحرية فيما سأقول.
فقهقه الدوق ضاحكًا ضحكًا غريبًا، يدل على أنه قد بلغ منتهى درجات الغيظ، بحيث لم يَبْقَ أقل ريب لدى مونسورو فقال: ألعل سموكم تعتقدون أن ديانا دي ماريدور لا تزال في قيد الحياة؟
– نعم، ولم يَعُدْ مجال إلى التستُّر والكتمان؛ لأني لا أعلم على أي محمل يجب أن أحمل تصرُّفَكَ؟
فإنك كنتَ تعلم شدة حزني لموت تلك الفتاة، وكنتَ تعلم أني لا أذوق طعم الرقاد لفقدها.
فكانت كلمة منك تشفيني مما أنا فيه، وتردُّ إليَّ ما فقدْتُه من الهناء بفقدها.
ولكن هذه الكلمة لم تقلها، فكأنك كنتَ فَرِحًا لأحزاني، فكيف تريد أن أعتبر هذا السلوك؟
وكان الدوق يتكلم وهو في أشد حالات الحنق.
فوقف مونسورو وقال: إن لهجة سموكم تدل على الشكوى مني، وأنكم حانقون عليَّ.
فوقف الدوق أيضًا وخطَا خطوة نحوه وقال: أيها الخائن، إني أشكوك وأعزِّز أسبابَ شكواي بالبراهين، فإنك قد خنتني شرَّ خيانةٍ، وسلبتَ مني تلك الفتاة التي كنتُ هائمًا بها.
فاصفرَّ وجه مونسورو … ولكنه لم يفقد شيئًا من جرأته وثباته وقال: نعم، إن ما تقوله صحيح.
– أتعترف بجريمتك أيضًا من غير خوف أيها الوَقِح المحتال؟
– تفضَّلْ يا مولاي واخفض صوتك بالكلام، فلقد نسيتَ كما يخال لي بأنك تحادث رجلًا شريفًا وخادمًا صادقًا.
فأخذ الدوق يضحك ضحك غيظ وهزء، فعقَّبَ مونسورو قائلًا من غير أن يعبأ بضحك الدوق: خادم مخلص للملك.
فوقف الدوق عندما سمع هذه الكلمة، وقال وهو يرتجف من الرعب: ماذا تعني بما قلتَ؟
– أريد به أن مولاي لو أصغى لكلامي لَعَلِم أن ليَ الحقَّ بأخذ تلك الفتاة التي يحبها سموه.
فوقف الدوق حائرًا باهتًا لهذه الجسارة، وهو لا يعلم بماذا يجيب.
أما مونسورو فإنه قد أتمَّ حديثه قائلًا: وإني إذا كنتُ قد سلبتُ تلك الفتاةَ كما يقول مولاي، فذلك لأني أنا أحبها أيضًا.
– أَلَا تعلم أيها الوَقِح أني أنا أحبها؟
– هذا أكيد يا مولاي، لكن ديانا دي ماريدور لا تحبك.
– ألعلها تحبك أنت؟
– ربما كان ذلك.
– كذبتَ، فإنك قد اختطفتها بالحيلة كما اختطفتُها أنا، ونحن على السواء بإزائها.
ولكني أنا السيد، سقطتُ وأحبطتُ … وأنت الخادم التابع نجحتَ وظفرتَ … وهذا غاية العجب! فاعلم أنه إذا كان لك الخيانة فإن لي القوة.
– مولاي، إني أحبها.
– وما يهمني ذلك، فقد كان يجب ألا تعرِّضَ نفسك لحبِّ فتاةٍ تروق بعين سيدك ومولاك.
– مولاي اذكر.
– أَتُنْذِرُني أيضًا أيها الخائن؟
– لا أنذرك يا مولاي، ولكني أقول لك احذر لأني أحب تلك الفتاة، وما أنا بخادمك كما قلت الآن، فإن امرأتي هي لي كما أن لي الأرض التي أملكها، فلا يحق لأحد أن ينازعني فيها حتى ولا الملك نفسه، ولذلك فقد أردتُ أن أتزوَّجَ بهذه الفتاة وتزوَّجْتُها.
فقام الدوق إلى المنضدة، يريد قرع الجرس ودعوة الخادم، وهو يقول: أنت أخذتها ولكن ستردها.
فأسرع مونسورو وحال بينه وبين المنضدة قائلًا: أنت منخدع يا مولاي، فلا تخطئ بالإساءة إليَّ واعدل عن هذا القصد السيئ، فليس هو في شيء من الحكمة، فأنت إذا دعوتَ الخدم وأهنتَني أمام الناس …
فقاطعه الدوق وقال: إذًا فسترد تلك الفتاة.
– كيف تريد أن أردَّها وهي امرأتي أمام الشرع وأمام الله؟
– إذا كانت امرأتك أمام الله، فأنت ستردها أمام الناس.
– إذًا فأنت عارف بكل أمر.
– نعم، لأن عيني لا تغفل، ولا يمكن لمثلك أن يخونني مثل هذه الخيانة، فأنت ستلغي عقد هذا الزواج المغتصب، بل أنا أنقضه بنفسي ولو عُقِد أمام جميع الآلهة في كل السماوات.
– رويدك، يا مولاي … لقد بلغَتْ بك الحدةُ إلى الجحود والكفران.
– لا تقطع عليَّ الحديثَ ولا تعترضني فيما أقول؛ لأني آمرك أن تردَّ في الغد تلك الفتاة إلى أبيها، وأن تستقيل من المنصب الذي قلَّدْتُكَ إياه، وأن تستعدَّ للذهاب إلى المنفى الذي سأرسلكَ إليه، وهذا جلُّ ما أريده الآن!
فاصدع بهذا الأمر!
وإذا خطَرَ لك العصيان، فاحذر لنفسك … لأني أسحقك كما أسحق هذا القدح.
وأخذ الدوق عند انتهاء كلامه قدحًا من الزجاج وألقاه بحدة إلى الأرض.
فوصل صوته إلى الواقفين في البلاط، وعلموا أن الدوق حانق على صفِيِّه كما قدمناه.
أما مونسورو فإنه لم يكترث بما سمع من تهديد الدوق، وأجابه بمنتهى البرود يقول: إني لا أردُّ تلك الفتاةَ، ولا أنقض عقد الزواج المقدَّس، ولا أستقيلُ من منصبي، ولا أبرح فرنسا … وفي الجملة فلا أصدع بحرفٍ من أوامرك هذه.
فبهت الدوق وقال: لماذا؟
– لأني سأستغيث بملك فرنسا، وأطلب مراحم ذاك الملك الذي وضع على رأسه التاج، وبُويِعَ في دير سانت جنفياف.
فإن هذا الملك الشريف الكريم … لا يرفض إجابةَ أول ملتمَسٍ يُعرَض عليه.
فإني أحبها وهذا خير عذرٍ لي فيما أراه.
فقال الدوق: وأنا أيضًا أحبها.
– هذا أكيد … وأنت سيدي وملكي، ولكن حبي لها هو فوق كل حب.
فاصفرَّ وجه الدوق اصفرارًا شديدًا، وتقدَّمَ نحو مونسورو فقبض على يده بيد مرتجفة وقال: أخفض صوتك أيها الكونت … واعرض هذا الملتمس؛ لأني مصغٍ إليكَ.
فهدأ روع مونسورو وقال: إني يا مولاي من أشد الناس إخلاصًا لسموكم، وما كنت أود أن أصنع شيئًا مما صنعتُه.
ولكن هو الحب يا مولاي، وهو شديد السلطان، وقد فعلتُ ما فعلتُ مُكرَهًا مُرغَمًا.
فإذا كنتُ قد أذنبتُ، فإن الحب شافعي.
– قلتُ لك أيها الكونت إن عملك خيانة لا تقبل الصفح.
– إن حلمك أوسع من ذنبي، فلا أقنط من مراحمك وعفوك … ولقد رأيتك يا مولاي أعظم أمير في هذه البلاد، ثم رأيت نور المستقبل يضيء لك، ونجم سعدك يشرق في أفق المجد، ورأيتك في شاغل عن هزل الغرام بجدِّ ذلك المستقبلِ الخطير اللامع، فقلت: لأَدَعْ هذا الأمير العظيم يجتهد في تحقيق أماني مستقبله، ولأجتهد في تحقيق أماني قلبي.
فلما دانَ له ما يريد وخفق فوق رأسه العلم الملكي …
فاعترضه الدوق وقال: توقَّفْ أيها الكونت وحسبك ما قلتَ.
– إذًا أنت تصفح عني؟
فنظر الدوق إلى الحائط، فرأى معلَّقًا عليه رسم الكونت دي باسي كأنه ينظر إليه ويؤنِّبه على ما سيفعل، ويذكِّره بسابق وعده، فاختلج لمرآه وقال: كلا، لا أصفح عنك؛ لأني لا أستطيع مثل هذا الصفح، والله يعلم أني لا أسألك ردَّ هذه الفتاةِ كي تكونَ لي، بل لأن أباها يطلب أن تُرَدَّ إليه.
وفوق ذلك فهي تقول إن زواجك بها كان مغتصبًا، وتطلب الانفصال عنك والانتقام منك.
فاعلم إذًا أن من واجبات الأمراء العدل، وأني سأدع العدل يجري في مجراه …
لأني أمير والعدل من أهم واجباتي.
فقال منسورو: ولكن فاتك يا مولاي أنه إذا كان العدل من واجبات الأمراء، فإن عرفان الجميل من واجبات الملوك.
– ماذا تقول؟
– أقول إنه لا يخلق بالملك أن ينسى الذي أقامه على العرش وألبسه التاج، وأنت تعلم أنك مدين لي بذاك التاج.
فوقف الدوق منذعرًا، وقال بصوت منخفض خافت تتبيَّنُ منه لهجةُ الرعب: ألعلك تخون الملك أيضًا كما خنتَ الأمير؟
– إني لا أخون أحدًا ولستُ بخائنٍ، ولكني لا أخلص الخدمة إلا لمَن يُحسِن إليَّ ويكافئني بما أستحِقُّه من حُسْن الجزاء.
فأسقط في يد الدوق، وشعر بأنه مغلوب.
فعاد إلى اللطف واللين، ونظر نظرة ثانية إلى صورة الكونت دي باسي، فتأوَّهَ تأوُّهًا شديدًا وقال: أنت أيها الكونت رجل نبيل، وقد علمتَ أني لا أستطيع موافقتك على ما تريد.
– ولماذا يا مولاي؟
– لأن ذاك غير خليق بي وبك، فاترك هذه الفتاة أيها الصديق العزيز، وأنا أعيضك عنها بما تشاء.
فاصفرَّ وجه مونسورو من الغيرة وقال: أَلَا تزال تحبها يا مولاي؟
– كلا، إني لا أحبها، وأقسم على ذلك بأعظم الأيمان.
– إذًا فمَن الذي يجسر على أن يعترض سموكم؛ لأنها امرأتي وأنا رجل نبيل، فمَن يحِقُّ له أن يتدخَّل في شئوني العائلية؟
– ذاك أكيد، ولكنها لا تحبك.
– إذا كانت لم تحبني اليوم، فستحبني في الغد … وماذا يهمني إذا أحَبَّتْني أو كرهتني.
– افعل ما أريد واجعله إكرامًا لي.
– حبذا يا مولاي لو استطعتُ إليه سبيلًا … ولكني لا أطيق سلوانها …
فاحتدم الدوق غيظًا وأطبَقَ يده من الحنق، كأنه يريد أن يسحق بها ذاك الرأس الذي لم يستطع أن يتغلَّبَ عليه، ثم قال: والآن …
فقال مونسورو: أرجو من جلالتكم أن تتأملوا.
فارتاع الدوق لذكر لفظ الجلالة، وجعل العرق البارد يتصبَّب من جبينه، ثم قال: إذًا أنت عازم على إشهار أمري وإطلاع الملك على سري.
– لا أجد بدًّا من ذاك، إذا كنتَ تريد أن تمسَّ شرفي، فإذا كانت خدمة الملك الجديد لا تنفعني … فإني أعود إلى خدمة الملك القديم.
– ويحك! … أين أضعْتَ شرفك وعهودك؟ أَلَا تعلم مقدار هذه الخيانة؟ …
– نعم يا مولاي، ولكن حبي هو أعظم منها.
– أنت سافل دنيء.
– إني أحب الدوق حبًّا شديدًا لا تُذكَر في جانبه السفالة.
فخطا الدوق خطوة نحوه، وقد اتقدت عيناه بشرر الغيظ ووضع يده على حسامه وهو يحاول قتله.
ولكن مونسورو أوقَفَه بنظرة وابتسامة ثم قال: أنت لا تستفيد شيئًا من قتلي؛ لأن من الأسرار ما لا تدخل مع أصحابها إلى القبور، فخير لنا أن نبقى على ما كنَّا عليه، أنت ملك شفوق رحيم، وأنا تابع مخلص أمين.
ففرك الدوق كفَّيْه من الغيظ، حتى إنه كاد يُدمِيهما ويمزِّق جلدهما بأظافره.
ثم أخذ يمشي في الغرفة بخطوات غير موزونة، وهو يكاد يجنُّ من جسارة مونسورو الذي لم يستطع أن يعاقبه على جرأته، ولا يجسر على معاداته لما بينهما من الروابط الهائلة.
فإنه لو فاهَ بكلمة من حادثة الدير لَذهبت جميع أمانيه ضياعًا، ولقتله أخوه الملك شرَّ قتل.
فقال له مونسورو: رويدك يا مولاي، ولا تذهب بك الحدة عن عرفان الجميل، فأنت من أعظم الأشراف، وأنت مثال النبل في هذه البلاد … أَلَا تُحسِن إلى رجل يبذل حياته في سبيل خدمتك، وهو من أخص الأعوان، وأخلص المخلصين.
فوقف الدوق برهةً يتأمل، ثم نظر إليه وقال: والآن ماذا تريد؟
– أطلب إلى جلالتكم أن …
فقاطعه الدوق وقال: تبًّا لك من وَقِح، أَلَا تزال تذكر هذا الاسم أيها التعيس، أتريد أن أتوسَّلَ إليكَ كي تمتنع عن ذكره؟
– سأمتنع عن ذكره يا مولاي.
– قُلْ إذًا ما تريد؟
– أريد قبل كل شيء أن تصفح عني.
– لقد صفحنا عنك.
– ثم تصالحني مع البارون دي ماريدور.
– سنفعل ذاك أيضًا.
– ثم توقِّع على عقد زواجي بابنته ديانا دي ماريدور.
–سنفعل ذاك أيضًا، ثم ماذا؟
– لم يَبْقَ لي سوى التماس واحد، وهو أن تتعطَّفَ على امرأتي بابتسامةٍ يوم أقدِّمها للملكة.
– هذا كل شيء؟
– نعم يا مولاي، ولا أطلب غير ذاك إلا أن أوقف حياتي في سبيل خدمتك.
– طِبْ نفسًا، فسيكون لك كل ما تريد.
فخرج مونسورو وهو يقول في نفسه: لم يَعُدْ عليَّ إلا أن أعلم كيف عرف الدوق.