الفصل الثامن عشر

الدوق دي كيز في اللوفر

وفي اليوم التالي، بينما كان جلالته ينادم شيكو وهو مفكر مهموم، إذ قدم إليه رئيس الشرطة وقاله له: لديَّ يا مولاي حديث هام، يجب أن ألقيه في الحال على مسمع جلالتكم.

– وماذا عسى أن يكون هذا الحديث الهام الذي تقطع عليَّ فيه ألذَّ حديث خلواتي؟

ألعل البلاد ثارت؟ … أم خرج أمراؤها يتآمرون عليَّ؟

– هو ذاك يا مولاي، لقد حدثَتْ مؤامرة هائلة في دير سانت جنفياف اجتمع فيها أكثر أعيان المملكة، وقاموا بضع ساعات يتآمرون على مولاي الملك، فأنفقتُ كثيرًا من المال حتى توصَّلتُ إلى إدراك كنهِ أسرار هذه المؤامرة ومعرفة أسماء المتآمرين، فأقبلت مسرعًا أخبر جلالتكم بما كان تلافيًا لما سيكون.

– حسنًا فعلتَ أيها القائد، ولكننا عرفنا ذاك من قبلُ من غير أن ننفق شيئًا، فهل تزيدنا على ما نعلمه؟

فأجفل رئيس الشرطة وقد كان يظن أنه هو وحده الواقف على هذا السر العميق، وقال وهو يتلعثم: عفوًا يا مولاي، فإني أعلم أن عين جلالتكم لا تغفل، وشهد الله بأني بذلت النفيس وخاطرتُ بالنفس لاكتشاف هذا السر، وقد سرَّني معرفتكم له من قبلي؛ لأنكم قد اتخذتم ما ينبغي اتخاذه من التدابير ولا ريب، فإني ما أقدمتُ إليكم بهذا النبأ الهائل إلا والرعب ملء قلبي؛ لأن المتآمرين أشداء أقوياء لهم رهبة وبأس.

– خفض عليك أيها القائد؛ لأننا ذاكرون لإخلاصك، شاكرون لتيقُّظِكَ، وهذه حوالة على وكيل الخزانة تدل على رضانا عليك، وحسن ظننا بك، فابقَ على ما كنتَ عليه من المراقبة … واذكر لنا الآن أسماء أولئك المتآمرين … لعله يوجد بينهم مَن لم يصل اسمه إلينا.

فهدأ روع رئيس الشرطة، وأخذ يشرح لجلالته ما علمه من مؤامرة الدير التي يذكر القراء كيف أن شيكو قد وقف على تفاصيلها عندما تلبس بلباس الأخ غورنفلو، وولج الدير بثياب الرهبان، فحضر جميع تلك المؤامرة …

ولما فرغ من حديثه شكره الملك وأطلق سراحه.

فلم يخلُ المكان هنيهة للملك وشيكو حتى أقبَلَ الحاجبُ يخبر بقدوم الدوق دانجو.

فكظم الملك غيظه، وتكلف هيئة الانبساط، فلقي أخاه طلق الوجه باسم الثغر.

وفيما هم يتحدثون إذ سمع من الخارج ضوضاء عظيمة، ووَقْع حوافر خيول كثيرة.

فأطلَّ الجميع من النافذة فرأوا الدوق دي كيز داخلًا بجواده في باب اللوفر العظيم، وهو محفوف بكثيرين من أعيان المملكة وسراة الشعب، والجماهير محيطة به تدعو له دعاء الخلفاء، وهو يجيبهم خيرَ تحيةٍ تزيد تعلُّقهم به وحبهم له.

فذعر الملك مما رأى وقال: ما عسى أن يريد هذا الدوق بقدومه إلينا، وما هذا الموكب الحافل الذي لا يركب به الملوك؟

ثم عاد من النافذة فجلس في مكانه، فلم يَقُمْ حينًا حتى فُتِحت أبواب القصر وعلا الضجيج فيه، وتسابق الحجاب يُنبِئون جلالته بقدوم الدوق دي كيز.

ثم دخل الدوق ودخل في إثره كثيرون من الأعيان، وسلَّموا على الملك.

ثم انحنى الدوق مسلِّمًا بملء الاحترام، فلم يستطع الملك كتم غيظه فأمره بالجلوس، ثم قال: لا أنكر أنك ابن عمي، وأنت أمير، ولكن قد تجاوزتَ بهذا الموكب الحافل المحيط بك حدَّ الأمراء، ولم يَبْقَ إلا أن تُقرَع لك الطبول لتكون في مقام الملوك.

فوقف الدوق وقال: تعلم يا مولاي أن الطبول في العاصمة لا تُقرَع إلا للملوك، وأما في الولايات والأقاليم فهي تُقرَع لرؤساء الجيوش والأمراء، فهي إذا قُرِعت هنا لأميرٍ خرج لها دوي شديد وكذلك هناك.

فعضَّ الملك شفتَيْه من الغيظ، وغيَّرَ نسق الحديث فقال: أأنت قادم من مركز الجيش؟

– نعم يا مولاي.

– أظن لم تدخل العاصمة إلا في هذا الصباح.

فاحمرَّ وجه الدوق وقال: نعم يا مولاي، إني قدمتُ اليوم.

– إن الزيارة الآن هي شرف عظيم لنا أيها الدوق.

فقال الدوق: لا ريب أن مولاي يريد المزاح فيما يقول، وإلا فكيف يصحُّ أن أشرِّفَ بزيارتي مَلِكًا عظيمًا هو مصدر كل شرف.

فقال الملك بلهجة المتهكم: أريد أن أقول يا ابن عمي العزيز إنه ينبغي على كل مؤمن حسن العقيدة أن يبدأ عند إيابه من السفر بزيارة الكنائس والأديرة، وتقديم فروض الشكر لله؛ لأن الملوك بعد الله.

فاحمرَّ وجه الدوق احمرارًا شديدًا عند ذِكْر الدير، ونظر إلى الدوق دانجو نظرةَ ارتيابٍ.

ثم نكص برأسه ولم يُجِبْ …

فعقَّبَ الملك بلهجة التهكُّمِ نفسها قائلًا: ولقد يسرني في كل حال نجاتك من أخطار الحروب، وإن كنتَ تعرِّض نفسَكَ في كل حين إلى أشد الأخطار، فأنت بطل مجرب قد عرفت المخاطر فهربَتْ منكَ.

لكني أنصح لك يابن عمي العزيز، أن تلبس لباس الحكمة ولا تُلقِي بنفسك العزيزة إلى غمرات الموت؛ لأن ذاك شديد علينا، نحن الذين لا شاغل لنا غير حفظ قواعد الدين والتفنُّن في أساليب العبادة.

فقال الدوق: نعم يا مولاي؛ لأننا نعلم جميعًا أنك رجل صالح شديد البر والتقوى، لا تحفل بالملاذ ولا يلهيك أمر دنيوي عن الواجب الديني؛ ولذا جئنا إلى جلالتكم بملء الثقة.

– ومتى لم يكن لكم بي مثل هذه الثقة؟

– عفوًا يا مولاي، فإنما أردتُ بالثقة ثقتي بإجابة الملتمس الذي أتينا لأجله.

– إذًا فأنتم قادمون إلينا مقترحين؟

– نعم يا مولاي.

– اعرض إذًا علينا ما تشاء؛ لأننا مصغون إليك.

– إن ما سأقوله يا مولاي أمر عظيم جَلَل، لم يَرَ مثلَه التاريخُ بغير أيام الصليبيين؛ أيام كانت الناس تلتهب غيرةً على حمى الكثلكة والذود عن ديننا القويم.

ولقد خصَّكَ الله يا مولاي بعرش عظيم تلتفُّ من حوله قلوب الملايين من المؤمنين، فصُنِ الدينَ المكين بصولة ذاك العرش، يَصُنْ الدينُ عرشَك فيؤيِّدك دعاء الشعب وينصرك الله.

– ومَن الذي يهدِّد ديننا أيها الدوق؟ ومما تخشى عليه؟

– إني أخشى عليه من الهوكينوت، لقد انتشروا في البلاد أيما انتشار، وتفرَّقت دعاتهم في كل الأقطار الكاثوليكية، وأصبح الشعب ميَّالًا إلى سماع أقوالهم.

فإذا لم تبعثر تلك الكلمة وتقطع ذاك اللسان، فلا تلبث كلمتنا أن تتبعثر، ولا يلبث ديننا أن يعتريه الفساد.

فنظر الملك إلى شيكو وتبادَلَ الاثنان إشارةً خفيةً.

ثم قال جلالته: إني ممتن لغيرتك أيها الدوق، شاكر لحسن تقواك … ولذا فإني أُظهِر لك رضاي عن هذا المشروع … فقُلْ كيف ترى أن يكون؟

– أن تؤلف من أنصار الكثلكة حزبًا عظيمًا، فتعيِّنون جلالتكم رئيسًا لهذا الحزب.

– هو ذاك، فاجمع كبار أولئك الأنصار، وائتني بهم لأعيِّن عليهم ذاك الرئيس.

فظهرت على وجه الدوق علائم البشر وقال: متى يا مولاي تريد أن يكون هذا الاجتماع؟

– غدًا إن شاء الله.

فانحنى الدوق مسلِّمًا وخرج، فخرج معه جميع الحضور.

وأراد الدوق دانجو أن يسير في إثره.

فاستوقفه الملك وقال: ابْقَ أيها الدوق؛ لأني في حاجة إليك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤