الفصل التاسع عشر

الملك والدوق دانجو

وكان جلالته قد أطلق سراح كلِّ مَن في القاعة حتى ندمائه، فلم يفضل لديه غير أخيه وشيكو.

وكان الدوق دانجو قد تمكَّنَ في حادثة الدوق دي كيز أن يُخفِيَ اضطرابه عن كل الذين كانوا ينظرون إليه، ما عدا شيكو.

فإن نظراته كانت تنفذ إلى أعماق قلبه، فيستخرج جميع خباياه ويُطلِع عليها جلالته بالرمز.

فلما خَلَا بهم المكان، نظر الملك إلى أخيه الدوق وقال له: أتعلم أيها الأخ العزيز أني من أسعد الملوك.

– إذا لم تكن أنت سعيدًا، فمَن عسى أن يكون؟

– نعم إني من أسعد البشر، وذاك أني إذا لم أتوفق إلى ابتكار الآراء الصائبة، فإني أجد حولي كثيرين من المخلصين الذين يبتكرون مثل هذه الآراء.

أَلَا ترى ذاك المشروع العظيم الذي اقترحه ابن عمنا الدوق دي كيز؟

فأحنى الدوق رأسه إشارةً إلى المصادقة.

فعقَّبَ جلالته قائلًا: نعم إنه خير مشروع؛ لأننا تحت مظاهر التحالف الديني نجهز فرنسا من حدود كاليس إلى لانكيدوس، ومن بريطانيا إلى بورغونيا، بحيث يكون لنا جيش عرمرم، نزحف به إلى إنكلترا وفلامندا وإسبانيا من غير أن يقع لأولئك الشعوب أقل ريبةٍ بنا.

ومثل هذا الفكر العظيم يستحق كل عناية واهتمام، بل يستحق مبتكره أن يُجازَى خيرَ الجزاء، فهل تظن بأن الدوق دي كيز هو الذي ابتكره؟

فهزَّ الدوق رأسه وقال: أنت تعلم علمي يا صاحب الجلالة، أن الكردينال دي لورين هو أول مَن اقترح هذا المشروع، وذاك منذ عشرين عامًا، أي من عهد مذبحة برتيلماوس.

وهذه المذبحة وحدها هي التي منعت نفاذه.

– إذًا فأنا مدين بهذا الرأي الثاقب للكردينال دي لورين.

– كلا.

– الدوق دي ماين؟

– كلا.

– إذًا فلمَن؟

– لي أنا يا مولاي.

فتكلَّفَ هنري هيئةَ الدهش وقال: أنت أيها الأخ الأمين المخلص واضع هذا الفكر العجيب، وأنت الذي تسهر على نجاح المملكة بينما أنا أتيه في غياهب الخمول، وأخيرًا أنت ذلك المخلص الصدوق الذي كنت أحسبه في مصاف أعدائي، وإني أعدُّ نفسي مجرمًا بعدها، ولا أبرِّئك أيضًا من تبعة ذاك الذنب.

فأنت تكتم عني مثل هذا الإخلاص، والآن فقد خطر لي خاطر.

– ما هو؟

– إن هذا الحزب يحتاج إلى رئيس كما ذكرنا اليوم.

– ذاك لا ريبَ فيه.

– وهذا الرئيس ينبغي أن يكون شجاع القلب، ولكني لا أجد بين المحيطين بي المخلصين لي مَن يصلح لهذه الرئاسة.

فإن كاليس شجاع، ولكنه لا يهتم بغير الغرام.

وموجيرون شجاع، ولكنه أنوف فخور.

وأبرنون شجاع، ولكنه مدلس كذاب.

وهكذا جميع أصحابي، فإن لكل واحد منهم عيبًا يُبعِده عن مثل هذا المنصب؛ ولذا فقد خطر لي أن أعيِّن الدوق دي كيز لأني لا أجد أخلق منه لهذا المنصب.

فرعب الدوق دانجو وقال: ما تقول يا مولاي؟ أتعيِّنُ الدوق دي كيز في مثل هذا المنصب الخطير؟

– نعم، فإن هذا المنصب الخطير يقتضي له رجل خطير أيضًا.

– ولكن … احرص يا مولاي … فإن الرجل نافذ الكلمة، شديد القوة.

– ولذلك أردتُ تعيينَه، فإني في حاجة إلى مثل هذه القوة.

– ولكن أَلَا تعلم يا مولاي أن الدوق دي كيز قائد الجيش العام، وأن أخاه الكردينال رئيس الكنيسة، وأن الدوق دي ماين آلة في أيديهما، فكأنك تريد أن تجمع السلطتين في بيت واحد، وتعزِّزها بهذه القوة الجديدة.

وفي ذاك خطر على العرش يجب أن تخشاه.

ولو كان هذا الدوق أميرًا فرنسيًّا لَهان الأمر، وساغ لنا أن نقول إن مجد فرنسا يشغله عن المطامع الذاتية، ولكنه من اللورين؛ فهو يُؤثِر نفسه على صالح تلك البلاد التي يخدمها ويعيش في ربوعها.

فقال الملك: أنت مصيب في رأيك، وقد افتكرتُ في العاقبة مثلك، ولكنني أحببتُ أن أستطلعك الرأي … أما وقد تيقَّنْتُ الآن من إخلاصك، ووثقتُ من صداقتك لي، فلم يَعُدْ بدٌّ من إطلاعك على أفكاري بشأن هذه الأسرة ومخاوفي منها.

فاعلم الآن أني أكرهها الكرهَ الشديد، وأُضمِرُ لها أشدَّ الحقد؛ لأنها سبب أحزاني وعلة جميع مخاوفي.

فإنه لا يمر بنا يوم حتى يسلبني أولئك الثلاثة قوةً من قواي، ويُطفِئون نورًا من أنوار مجدي، سواء بالقوة أو بالحيلة والدهاء، حتى صرتُ أتهيَّبُ من كيدهم وأترقَّبُ الفرصَ للإيقاع بهم.

ولكن هيهات أن يكون لي ذلك، فإن بأسهم شديد وكلمتهم مجتمعة، ولو علمتُ من إخلاصك من قبلُ ما علمتُه اليومَ، لكنَّا اتفقنا يدًا واحدة عليهم، ونكلنا بهم شرَّ تنكيلٍ.

ولكن وا أسفاه! قد فات الأوان.

– لماذا تظن ذلك؟

– لأن صدامهم بعد اشتدادهم مُتعِب لي، وأنا أتجنَّبُ الآن كل تعب؛ ولذا فإني سأعيِّن الدوق دي كيز وأنجو من المتاعب.

– ذاك إليك، ولكن تخطئ في ذاك الخطأ الشديد.

– لا أنكر ما تقول، ولكن مَن تريد أن أعيِّنَ بدلًا منه في هذا المركز الخطير، بعد أن تبيَّنَ لي من حديثه أنه يريد أن يكون ذلك الرئيس؟

– وأين وجه الخطر؟

– إن الرجل الذي سيتولى هذا الحزب سيكون عدوه الألد.

– إذًا، فعيِّنْ مكانه رجلًا قادرًا مثله، فإذا أضفتَ قدرةَ هذا الرجل إلى قدرتك يكون لك قوتان تغلب بهما كلَّ قوةٍ.

– هذا فكرٌ حسن، ولكن أين أجد هذا الرجل القادر المستكمل لهذه الشروط.

– انظر حواليك تره.

– لم أعلم مَن تريد، إلا إذا كان مرادك شيكو.

– أَلَا ترى في القاعة غير شيكو؟

– لا أرى إلَّاك!

– أَلَا تجد بي الكفاءة لهذا المركز؟

فتظاهَرَ الملك بالانذهال والعجب الشديد وقال: أنت تقبل أن تكون رئيسًا لحزب كهذا؛ حيث يجب على الزعيم أن يعمل ليل نهار، وأن ينظر في كل شيء من مهام العامة، ويختلط بين زعانف الناس، ويَلِجُ في كل مكان، ويراجع بنفسه كلَّ خطاب يُتلَى، ويقرأ كلَّ منشور يُذَاع … أنت الذي تُعَدُّ بعد الملك أعظمَ عظيم في فرنسا، تتدانى إلى مثل هذه الأعمال، إن ذاك غريب لا يحتمل التصديق!

– نعم، إني لا أصنع شيئًا من ذاك لأجلي، ولكني أفعل كل شيء لأجلك، فإذا شئتَ أن تعيِّنَني في مكان الدوق دي كيز، فإني أقبل المركز راضيًا، فنصون عرشَ أسرتنا من أطماع تلك الأسرة.

– وهو غاية ما أتمناه، لقد جعلتَني في الحقيقة من أسعد الناس لقبولِكَ هذا المركز، فأنا سأعيِّنُكَ فيه، ولكن احرص أيها الأخ العزيز من الدوق دي كيز فإنه طويل الباع، وربما دفع البلاد إلى حرب مدنية، فإنه لم يجدِّدِ البحثَ في هذا الحزب إلا على أمل أن يكون رئيسًا له، وهذا الذي أخشاه.

– إذا كان هذا الذي تخافه يا مولاي، فطِبْ نفسًا؛ فأنا سأتفق مع الدوق على وجهٍ يضمن السلام.

– متى؟

– في الحال؛ لأني سأجتمع به الآن وأُباحِثُه في هذا الشأن مليًّا.

– كيف ذلك؟ أتذهب إليه؟ أَوَلَا تعلم أنه محط لنا؟

– لا تَخَفْ؛ لأني أحرص مثلك على ذلك، وإني لا أذهب إليه بل أجتمع به في غرفتي حيث ينتظرني.

– أهو ينتظركَ في الغرفة؟

– نعم يا مولاي.

– كيف ذاك؟ لقد رأيتُه بعيني خارجًا من باب اللوفر.

– نعم، ولكنه سيعود إليَّ من الباب الآخَر.

– إذًا اذهب إلى لقائه، وسنرى ما يكون.

فقام الدوق ودَنَا من أخيه ليقبِّل يده، حسب العادة المألوفة في ذاك العهد.

فجذب الملك يده مسرعًا وقال: لستُ الآن بملككَ ومولاك، بل أنا أخوك وصديقك بعدما ثبت لديَّ إخلاصك وإخاؤك.

ولذا فإني أمدُّ يدي إليكَ للمصافحة لا للتقبيل.

فصافَحَه الدوق وقد انطلَتْ عليه خدعة الملك، وخرج من حضرته وقلبه ممتلئ فرحًا.

ولكنه لم يكد يخرج من غرفة الملك، حتى خرج الملك أيضًا من باب آخَر.

ثم تبعه شيكو …

فذهبَا توًّا إلى غرفةٍ ملاصقة لغرفة الدوق دانجو، كانت لمارغريت دي نافار.

ولم يكن يفصل بين الغرفتين غير حاجز رقيق من الخشب، بحيث لا يفوت الواقف المتنصت فيها كلمة من المحادثات التي تدور في غرفة الدوق دانجو.

وكان ذهاب الملك إليها بإغراء شيكو، ليقفَا على حديث الدوقين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤