الفصل الثاني

كيف أن الذي يفتح الباب أحيانًا لا يدخل البيت

يوجد بالقرب من باب سانت أنطوان قبةٌ عظيمة، كثيرًا ما ينتابها اللصوص فيكمنون بها لأبناء السبيل.

وكانت هذه القبة واقعةً في الطريق المؤدية إلى فندق التورنيل، وهي طريق مقفرة خالية يكاد أن لا يمر بها الناسُ في النهار، وأما في الليل، ولا سيما في ليالي الشتاء الباردة، فلم يكن يمر بها أحدٌ لوعورة مسالكها، وكثرة المخاوف فيها.

وقد كان الجو في هذه الليلة، التي نقصُّ بها هذا الحديثَ، مقتمًا والأفق مربدًّا بالغيوم السوداء، والسماء تمطر كرات الثلوج من خلال الرعود القاصفة، فكأنها المدافع ترسل قنابلها.

ولم يكن المار بهذه الطريق يستطيع أن يرى أحدًا فيها لاشتداد الظلام، على أنه لو حدَّقَ لَرأى من خلال وميض البرق جماعةً مختبئين في هذه القبة المتسعة، وقد كانوا يتكلمون بصوت منخفض يكاد أن يكون همسًا، فقال أحدهم: لقد أصابَ باسي، فإن البرد في هذه الليلة لا يُحتمَل، وإن جلدي يكاد أن يتمزق.

فأجابه صوت آخَر: أنت يا موجيرون تشكو من البرد شكوى النساء، ولا أنكر أنه لا يوجد حر، ولكن لو تزملت بردائك ووضعت يديك في جيوبك لَذهب عنك ما تشكوه من البرد.

فأجابه صوت آخَر: وأنت يا شومبرج، فإنك تتكلم كما تشاء لأني أشعر بأن شفتي تدمي من البرد.

وقال آخَر: إني أشعر بأن يدي قد يبستا، وأنه ليس لي يدان.

فقال كاليس: إننا إذا كنَّا نشكو الآن من البرد يا أبرنون، فسنشكو الحر بعد حين.

فقال أبرنون: لستُ أنا الذي يتحدَّث، فإني أخشى إذ تحدَّثت أن يجمد كلامي من البرد فلا يبلغ إلى مسامعكم.

وفيما هم على ذلك إذ سمعوا وقع أقدام، فذُعِروا والتفتوا جميعهم إلى جهة الصوت ثم قال أحدهم: ليس هو؛ لأن هذا القادم آتٍ من جهة سانت بول، وقد قال باسي بأنه يقدم من جهة أخرى.

فقال كاليس: ربما يكون قد وقعت له ريبة بنا فغيَّرَ الطريق.

فأجابه موجيرون: أنت لا تعرف دي باسي، فإنه يمر من حيث يقول، ولو أيقن بأن الشياطين كامنة له.

– إذًا فتهيَّئوا للهجوم.

– مهلًا، إني أراهما اثنين، وها هما قد وقفَا أمام منزل.

ثم ومض البرق فأضاء لهم، ورأوا أن أحد هذين الرجلين قد وضع مفتاحًا في قفل هذا المنزل وفتحه.

فقال كاليس: هيا بنا إليهما قبل أن يلِجَا.

وأسرعوا عَدْوًا إلى الرجلين.

وكان بين الفريقين مسافة، فالتفَتَ أحد الرجلين إلى رفيقه وقد سمع وقع أقدام الكامنين، فقال: ما هذا؟

فأجاب رفيقه: لا أعلم يا مولاي، وأحسب ذاك كمينًا، فهل تُبِيحون باسمكم أو تحرصون على التخفِّي؟

– لا هذا ولا ذاك، فَلْندخل إلى هذه السيدة؛ لأني أرى لها كثيرًا من العشاق.

ولم يكد يتم كلامه حتى حال الكامنون بينهما وبين الباب، وقد أقبلوا عَدْوًا وهم يصيحون: ليَمُتْ!

فنظر إليهم أحد هذين الرجلين بعظمة، وقال مخاطبًا كاليس بصوت أجش: لقد سمعتك يا كاليس تقول ليَمُتْ! فهل بلغَتْ منك الجرأةُ إلى هذا الحد؟

فاختلج كاليس وقد علم أن مخاطبه الدوق دانجو، فركع وقال: عفوًا مولاي.

وفعل جميع رفاقه مثل فعله، وقد ذعروا لهذا الاتفاق.

فقال الدوق: أَلَا تزالون تصيحون ليَمُتْ!

فقال أبرنون: عفوًا يا مولاي، فإننا نمزح ولم يخطر لنا في بالٍ أن سموكم تأتون إلى مثل هذا المكان المقفر، في مثل هذه الساعة المتأخرة.

– إن هذا المزح غريب في بابه، وحيث لم أكن المقصود به فَلْنَرَ مع مَن كنتم تمزحون؟

فقال كاليس: لقد رأينا يا مولاي أن سانت ليك قد خرج من منزله واتجه إلى هذا المكان، فتعقَّبناه ثم غاب عنَّا، ورأينا رجلًا يفتح باب هذا المنزل فظننا أنه صديقنا، وأردنا أن نعلم السر الذي حمَلَه على فراق امرأته في الليلة الأولى من زفافه، والمجيء إلى هذا الشارع المقفر، فهجمنا عليه على ما رأيت ونحن لا نريد بذلك غير المزاح.

– إذًا إنكم قد حسبتموني سانت ليك.

قال موجيرون: ذلك لا ريب فيه؛ لأننا لا نجسر على أن نتصدَّى لسموِّكم في سبيل ملاذه.

فانتفَضَ الدوق وقال: إني لم أقدم إلى هذا المكان جريًا وراء الملاذ، بل أنا قادم إلى المنجم مناساس، الذي يقيم في شارع التورنيل كما تعلمون، فاذهبوا الآن في شأنكم، واعلموا بأني لا أريد أن يعلم بوجهتي أحدٌ على الإطلاق.

فانحنى الكامنون أمامه باحترام، وذهبوا إلى حيث كانوا، فقال الدوق لرفيقه: هيا بنا لندخل الآن، فقد ذهبوا ولم يَبْقَ موجب للحذر.

– إني أرى عكس ما يرتئيه مولاي؛ لأنهم لم يذهبوا كما توهم، بل إنهم رجعوا إلى مكمنهم في القبة حيث كانوا مختبئين، وعندي أنه خير لنا لو رجعنا إلى القصر فلا نُبقِي مجالًا للظنون، وسنعود في الغد.

– أنت مصيب، ولكني آسف لضياع هذه الفرصة.

– نعم، غير أني أخبرت سموكم بأن هذا المنزل قد عُقِد إيجاره إلى عام، وقد عرفت أيضًا أن السيدة تقيم في الطبقة العليا منه، وفوق ذلك فقد اتفقتُ مع وصيفتها، فأعطتني مفتاح باب غرفتها، ومفتاح الباب الخارجي معنا.

ولذلك، فإننا نستطيع أن نرجع متى شئنا، أما في هذه الليلة، فلا أرى من الحكمة أن ندخل إلى هذا المنزل؛ نفيًا للمظان، وحذرًا من الشبهات.

– هل أنت واثق من أن المفتاح قد وافق القفل؟

– أتم الثقة؛ لأني جرَّبت ثلاثة مفاتيح حتى فُتِح بالرابع.

– وهل أقفلت الباب؟

وكانَا قد بعدَا عن المنزل وخشي من الرجوع إليه لما كان يراه من مراقبة الكامنين، فقال: نعم، قد أقفلته، ووضعت المفتاح بجيبي على حدة، كي لا أغلط فيه.

– ولكني أحب أن أعرف غاية أولئك الكامنين.

– إنهم يكمنون ولا ريب لعدوٍّ لهم، وما بقاؤنا في هذا المقام إلا إلقاء بأنفسنا إلى الهلاك، فإن لسموكم كثيرًا من الأعداء.

– إذًا لنذهب على أن نعود.

– نعم، ولكن ليس في هذه الليلة؛ لأني لا أرى غير المكامن … ويحق لي أن أخاف عندما أكون بصحبة وريث التاج الفرنسي.

وكأنَّ هذا الحديث قد أثَّرَ تأثيرًا شديدًا على الدوق، فاضطرب وقال بلسان يتلجلج: سِرْ بنا إلى القصر، فأنت مصيب في حذرك.

وللحال عرجَا في عطفة من الطريق وانطلقَا.

ولم يكد الدوق ورفيقه يبتعدان ويحتجبان عن الأنظار حتى سُمِع وقع حوافر فرس في الطريق نفسها التي قدم منها الدوق، بالقرب من ذلك المنزل، وظهر من خلال البرق فارسٌ عالي القامة، كان يسير بفرسه الهوينى، بالرغم من اشتداد البرد وانهمار المطر، فصاح كاليس يقول: هذا هو!

فقال موجيرون: إن هذا محال، فإنه فرد وقد غادرناه وبصحبته فارسان.

– أَلَا تسمع صوتَ سعاله الرنان؟

ولم تخطئ فراسةُ كاليس؛ لأن القادم كان الكونت دي باسي بعينه، وهو يسير على جواده الهوينى في هذا السبيل المخطر، لا يحفل بإنذار ولا يخشى مكيدة.

ولم يحله تحذير سانت ليك، بل أتى من الطريق نفسها التي أخبَرَ عنها المتآمرين عند اجتماعه بهم في حفلة الزفاف، وفوق ذلك فإنه أنف من أن يصحب معه رفاقه لقلة اعتداده بأعدائه، ولفرط شجاعته التي بلغ بها حد الجنون.

وكان يقول في مجالسه: إني لستُ سوى شريف بسيط، ولكني أحمل بين جنبي فؤادَ إمبراطور، وقد قرأتُ تاريخَ أبطال الرومان، فلم أجد بينهم بطلًا مشهورًا حتى سرتُ على نهجه، وسبقته في جميع ما يفتخر به من الإقدام.

وكان هذا الكونت قد فكَّرَ بحديث سانت ليك، وأعاره حقه من الانتباه، غير أنه لم يكن يثق به لعلمه أنه من حزب الملك وخاصته وأشد المقرَّبين إليه؛ ولذلك فإنه خشي أن يكون تحذيره إياه حيلةً يريد إدخالها عليه بقصد تجربته والحط من شجاعته في عيون أخصامه، فأحبَّ أن يؤيد هذه الشجاعة التي اشتهر بها ببرهان جديد.

فأطلق سراح أتباعه وأتى بنفسه على الخطة التي رسمها، وهو يعلم أن ما وراء هذا الإقدام غير الموت، غير أنه لم يعبأ بالهلاك في جانب حفظ سمعته من وصمة الأقاويل.

ولم يكد يبلغ بجواده الباب الذي كان فتحه رفيق الدوق دانجو، حتى أحاط به الخمسة الكامنون من كل صوب، وانقضُّوا عليه والسيوف مشهرة بأيديهم انقضاضَ الصواعق، وهم يصيحون: ليَمُتْ باسي! ليَمُتْ عدونا الألد!

فرجع باسي بجواده خطوة إلى الوراء، وجرَّدَ حسامه بمنتهى البسالة، وقال بصوت الساخر: إذًا أنا هو ذلك الدب الذي كنتم تريدون صيده بأمر الملك، فطيبوا نفسًا، إنكم ستنالون منه ما تشاءون، ولكن بعد أن ينال منكم ما يشاء.

فهجم عليه شومبرج وقال: ليكن ما تريد، ولكنك فارس ونحن على الأقدام، ومن العدل أن نتساوى.

ثم طعن صدر جواده بحسامه فخرق أحشاءه، فصاح الجواد صيحة منكرة وخَرَّ صريعًا.

أما الكونت فإنه قفز عنه إلى الأرض والحسام مشهر في يده، وحمل على خصمه حملةً هائلة فجرحه في فخذه جرحًا بالغًا دعاه إلى اعتزال القتال والاهتمام بجرحه.

ثم هجم على رفاقه وهو غير مكترث بالموت، فجرح كاليس وضرب بحسامه صفحًا أبرنون على زنده فأطار الحسام من يده.

وأخذ يجول بينهم فينال بحسامه أجسادهم ويثخنهم جراحًا، وكلما أصاب واحدًا عاد إلى الآخر، حتى كلَّتْ قواه وأصيب بجرحٍ بالغٍ أسالَ دمَه كأفواه القرب.

وتألَّبوا جميعهم عليه حملةً واحدة، فرجع إلى الوراء يلتمس الحائط ليدرأ به حملاتهم عليه من الوراء.

فلما بلغ إليه صادَفَ بابًا، فرفسه برجله فإذا هو مفتوح، فبرقت عيناه بأشعة الأمل.

وأعاد الكرة عليهم فجرح منهم اثنين.

ثم عاد إلى ذلك الباب وقد نهكت قواه لفرط ما سال من دمائه، فولَجَه وتمكَّنَ من إيصاده بالزلاج الحديدي بعد الدفاع الشديد، فكان له النصر العزيز بنجاته.

وبعد أن أوصد الباب مشى بضع خطوات إلى أن انتهى إلى سلم، فسقط عليه وهو لا يعي.

ثم شعر بسكوت عميق، فخُيِّلَ له أنه هابط إلى ظلمة القبر، ثم أطبَقَ عينَيْه وضاع رشده، فلم يَعُدْ يعي لشيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤