الفصل العشرون

الدوق دي كيز والدوق دانجو

أما الدوق دانجو فإنه ذهب مسرعًا إلى غرفته، فوجد الدوق دي كيز ينتظره فيها.

وقد ظهرَتْ على وجهه علائم السأم والملالة.

وكان الملك أيضًا قد جلس في مكمنه وأصغى إلى ما دار من الحديث بين الدوقين، وهو كما يأتي:

قال الدوق دي كيز: إني قد استبطأتُكَ جدًّا، حتى خطر لي أن جلالته قد أبقاك لديه للمباحثة في شأننا الخطير.

قال الدوق دانجو: هو ذاك أيها الصديق، فلقد تباحثنا مليًّا في هذا الشأن الخطير.

– وماذا كان جواب جلالته؟

– إنه مصادق على هذا المشروع، ولكنه يخشى من تعيينك رئيسًا للحزب.

– إذًا فنحن على أهبة الانخذال.

– وأنا أخشى ما تخشاه أيها الصديق؛ لأن جلالته أصبح كثيرَ المظان في هذه الأيام، حتى إنه ليحرص من أخلص خلصائه.

– يا للداهية! فإن هذا المشروع سيموت قبل أن يُولَد وسينتهي قبل أن يبدأ.

ثم وجم الاثنان حينًا عن الكلام … إلى أن عاد الدوق دي كيز إلى الكلام فقال: إذًا، فإن جلالته لم يُقابِلني تلك المقابلة السيئة إلا وفي نيته رفض مطلبي.

– هذا ما أرتئيه أنا أيضًا.

هذا لا ريب فيه أيضًا … ولكني لم أَدَعْ له مجالًا لنقْضِه، لقد بادرتُ إلى إسعافك بجميع ما خطر لي من الوسائل، حتى تمكَّنْتُ أخيرًا من الفوز.

– كيف ذاك؟

– ذاك أن جلالته قد أناط بي نقض المشروع وإبرامه … فإذا كنتَ أنت رئيس الحزب فهو ساقط لا محالة؛ لأنه لا يصادق على تعيينك لحذره منك … ولكنه يقبل به على شرط واحد، وهو أن أتولَّى أنا تلك الرئاسة.

فامتعض وجه الدوق دي كيز، واتقدت عيناه بشرر الغضب … ولكنه لم يلبث أن رجع إلى نفسه، فكظم الغيظ، وتلبس بلباس الصبر والسكينة، فقال بعد أن تظاهَرَ بأنه يُعمِل الفكرة: أنت إذا كنتَ قد قبلتَ بمقترح جلالته، فأنت ولا ريب خير سياسي عرفتُه إلى الحين.

– لينعم بالك لقد قبلتُ.

– كيف قبلتُ على الفور من غير مهلةٍ ولا تردُّدٍ؟ ألم تخشَ أن يقع له بكَ ريبة؟

– نعم، ولكن الحوادث ساعدتني على سرعة القبول، ومع ذلك فإني لم أبُتَّ بالأمر، ولم أجعله في حد النهاية بغيةَ أن أراكَ وأقِفُ على آرائكَ.

– كيف ذلك؟ ولماذا؟

– ذلك لأني لا أعلم إلى أيِّ حدٍّ تصل بنا هذه الحادثة.

– لا أقدر أن أقول إلى أي حدٍّ تصل بنا، ولا أستطيع أن أكشف لك الحجاب عن نتائج أعمالنا.

إنها منوطة بالغيب، والغيب بيدِ الله.

لكني أستطيع أن أوضح الفائدةَ التي سننالها من هذا الحزب، وهي أن الحزب سيكون بمثابة جيش ثانٍ.

ولكوني أنا أتولَّى رئاسة الجيش العام، وبيدِ أخي زمام الكنيسة، سيصبح لنا مطلق السلطان في البلاد إذا وحَّدْنا كلمتنا، وجعلنا القوات الثلاث قوة واحدة.

– هذا لا ريب فيه، وقد فاتَكَ أمرٌ آخَر هو أني ولي عهد الملك الذي لم يُرزَق ابنًا يخلفه إلى الآن.

– لم يفتني ذاك، فأنت وإنْ كنتَ وليَ العهد، فيجب عليك أن لا تأمن الحوادث، وأن تحرص من كل شيء.

– أية حوادث تعني؟ ومن أي أمر عليَّ أن أحرص؟

– أول مَن يجب الحرص منه هو ملك النافار.

– أنت واهم فيما تقول؛ لأن هذا الرجل لا يحمل على شيء من القلق؛ لأنه مهتم بالغرام.

فضحك الدوق دي كيز وقال: لستُ أنا الواهم يا مولاي؛ لأني قد أصبتُ مرمى الحرص، ولكن الله قد فطر فؤادكَ على السجية الطيبة والنية الخالصة، فأصبحت تغرك الظواهر وتثق بالأعداء.

أما ملك النافار فهو أشد منك شوقًا إلى عرش فرنسا، وهو يتوقَّع لبس ذاك التاج في كل يوم.

ولذا فهو يرقب حركاتكم وسكناتكم، فلا تخفاه خافية من أمركم على الإطلاق، وعيونه وأرصاده مثبتة في كل مكان، حتى في غرفكم التي تبيتون فيها.

وإني لا أجد له مثلًا إلا مثل الهر الذي يشم رائحة الجرذ، فيبيت طول ليله سهران يتحين فرصةً لينقضَّ بها على فريسته ويمزِّقها بأظافره، فهو يرقبكم كمراقبة الهر لفريسته.

ولا بد لتلك الفريسة أن تخرج من مكمنها، فتغرز فيها أظفار ذاك المراقب الذي لا يغفل.

وربما لا توافقني على هذا القول الآن، ولكن اصبر ريثما يُصَاب مَن هو أسمى منك؛ أي أخوك الملك.

فترى عندئذٍ ذاك الرجل الذي يشغل عنكم بملاهي الغرام كيف ينقضُّ على باريس انقضاضَ الصاعقة، ويجلس على ذاك العرش الذي لا يشغله عن الصبوة إليه شاغل من ملاذ الحياة.

وسترى عندما يُصَاب أخوك!

فبهت الدوق دانجو لكلام محادثه، وقد نبهت حواسه إشارته إلى مصير أخيه فقال: ماذا تريد بإصابة أخي؟ … ومن أي حادث تخشى على الجالس على العرش؟

فقال الدوق دي كيز: إن الحوادث كثيرة في أسرتكم، وأنت تعلم ذاك كما أعلمه أنا، بل كما يعلمه كل واقف على أحوال البلاط.

لقد طالما رأينا رجال تلك الأسرة وهم على أتم العافية يصابون بداءٍ فجائي يخطف أرواحهم ببضع ساعات.

فقال الدوق بصوت أجش: نعم، لا أنكر عليك ذاك، فقد قُدِّرَ لرجال أسرتنا أن يكونوا عرضةً للأقدار وكوارث الدهر … ولكن أخي هنري الثالث هو والحمد لله حسن الصحة، ولا خوف عليه من مثل هذه الكوارث، لا سيما بعد أن نجا من معارك القتال.

فقال الدوق دي كيز: نعم، ولكن أَلَا تذكر يا مولاي كيف كان موت أبيك هنري الثاني؟ فإنه كان في أتم عافية كأخيك، وقد نجا من معامع القتال كأخيك أيضًا، لكنه أيضًا لم يسلم من تلك الحربة التي أجهزَتْ عليه.

نعم إن الملكة قد قتلَتْ به الكونت مونغوميري، ولكن جلالته مات أيضًا ولم يكن موته طبيعيًّا …

ثم انظر إلى أخيك الملك فرنسوا، فإنه كان أيضًا كأبيك وأخيك الملك هنري، ولكنه أحسَّ يومًا بألم في أذنه فمات، ولا أحد يعلم علةَ هذا الموت وكيف وصل إليه هذا الداء.

ولكني قد سمعت كثيرين يقولون همسًا بالآذان إن هذا الداء الذي أصاب فرنسوا الثاني كان مسبَّبًا عن سم قتَّال وضعه في أذنه رجل عظيم مثله، لا نستطيع التصريح باسمه.

فاحمرَّ وجه الدوق دانجو، فتظاهَرَ دي كيز بعدم الانتباه، واستمر في حديثه قائلًا: نعم أيها الدوق العزيز، إن اسم الملك قد أصبح شؤمًا في هذه الأيام على حامله.

فمَن يُسمَّى بملك فكأنه قد دُعِي بالمنكود؛ لأن اسم الملك أصبح مرادفًا لاسم النكد والشقاء.

ثم انظر أخيرًا إلى أنطوان دي بوربون، أَلَمْ يَمُتْ على إثر ضربة أصابته في كتفه؟

فهل كان موت أحد من هؤلاء الثلاثة طبيعيًّا؟

هذا ما أرويه عن ملوك هذه الأسرة، ولو شئتَ أن أعدِّدَ مَن أُصِيب من أعضائها بمثل هذه النكبات والحوادث الفجائية، لَطال تعدادي وضاق المقام دون حصر هذه الحوادث.

ولكني أختم كلامي، بذكر ما أُصِيب به الملك شارل التاسع، فإن موته كان غريبًا، فهو لم يُصَبْ بأذنه ولا بكتفه، بل كانت إصابته بفمه.

أَلَا تذكر هذه الحادثة أيها الدوق؟

– كلا، ولا أعلم شيئًا منها.

– ربما قد نسيتها لطول العهد بها، أما الحادثة الغريبة فهي أن الملك شارل التاسع قد مات وهو يقلِّب صفحات كتاب الصيد.

وذلك أن صفحات الكتاب كانت ملوَّثة بدهان سام، فكان يضع إصبعه في فمه ليأخذ منه الرضاب المسهل لقلب الأوراق، فترجع ملوَّثةً بالسم، ثم يُعِيدها إلى فمه فيسري السم إلى دمائه.

وهكذا فإن الملك قد مات مسمومًا.

فاحتج الدوق دانجو وقال: ماذا تقول أيها الدوق؟ … وماذا تريد بتعداد هذه المآثم والذنوب؟

– إني لا أدعوها بذنوب، بل جلُّ ما أريد أن أقوله هو أن أسرتكم عرضةٌ للحوادث.

أَلَا تذكر ما جرى لشارل التاسع أيضًا عندما كان في الصيد يوم أطلقتَ أنت عيارك الناري على الفريسة التي كنتم تطاردونها، فبدلًا من أن يصيب عيارك الفريسة أصاب مَن لم تكن تريد أن تصيبه.

فجميع ذلك يدل على أن كل عضو من أعضاء أسرتكم عليه أن يحذر دائمًا من كل أمر.

وأن يخاف دائمًا من طوارق الحدثان.

فلما انتهى الدوق دي كيز من قصِّ الحكاية الأخيرة، أراد الدوق دانجو أن يصرف التهمة عنه، ويحول الدوق دي كيز عن أن يظنَّ به ذاك الظنَّ السيئ فقال: أنت مخطئ فيما ظننتَه من إطلاقي العيار الناري على الملك بدلًا من تصويبه إلى الفريسة؛ فإن وريثَ شارل التاسع هو أخي هنري الثالث وليس أنا.

فأية فائدة لي من قتله وأنا لم أكن ولي عهده في ذلك الحين؟

– تمهَّلْ يا مولاي، وأصغِ إليَّ … فأنت تعلم أكثر ما أعلم من جميع هذه الأمور.

وأنت عندما أطلقتَ عيارك على شارل التاسع أو على الفريسة كما تريد، كان لديك تاج بولونيا الذي يُدنِيك من العرش الفرنسي، كما أن موت شارل التاسع يرقيك درجةً في سبيل الوصول إلى ذلك العرش العظيم، ولكن أخاك هنري الثالث أسرَعَ في الحال من فارسوفيا إلى باريس وتولَّى الأريكتين.

فلم يَعُدْ يفيدك غير ما ذكرناه من أمثال تلك الحوادث لتحقيق أمانيك.

فهل تريد الآن أن تعلم ما أقصد إليه بعد هذا الجلاء؟

فتأفَّفَ الدوق دانجو من هذه المباحثة، وقد أراد أن يضع حدًّا لها، فقال: أفصح أيها الدوق، وقُلْ بأتم الجلاء عن الغاية التي تريدها من حديثك الطويل.

– إن ما قلتُه جليٌّ واضح لا يحتاج إلى الإيضاح.

ومع ذلك فإني أوضِّح لك جهد الطاقة، وبقدر ما يسمح به هذا المقام الضيق.

فأقول: تقدَّمَ لي القول إن كل ملك من ملوك أسرتكم كان له حادثة أُصِيب فيها وكانت علةَ وفاتِه.

أما الملك هنري الثالث فأنت وحدك حادثته الوحيدة وعلة مصابه التي لا يجد منها مناصًا.

ولا سيما متى كنتَ رئيس هذا الحزب العظيم، الذي سيعينك عليه بدلًا مني.

فأنت تغدو بهذه الزعامة ملكًا على الملك نفسه، ورئيسًا على كل رئيس.

– إذًا، فإن من رأيكَ أن أقبل الرئاسة.

– لستُ أرتئي قبولك فقط، بل إني أتوسَّل إليك أن تقبل.

فاختلج فؤاد الدوق دانجو وظهرت على وجهه ملامح البشر فقال: وأنت ماذا تصنع في المساء؟

– طِبْ نفسًا، فإني سأجمع جميع رجال الحزب في هذا المساء، وأبثُّ الناسَ في أنحاء باريس يتظاهرون برغبة جلالته في ضمِّ هذا الحزب والمصادقة عليه.

وسأدع الجميع يتسابقون في الانخراط في سلكه والتوقيع على عقوده، بحيث ستكون باريس في هذه الليلة أعجوبة من الأعاجيب.

– حسنًا تفعل أيها الصديق، وسنلتقي في المساء.

– سنلتقي من غير بدٍّ، فاذكر دائمًا حديثنا الأخير.

– أذكرُ ذلك ولا أنساه.

ثم انقطع الصوت …

•••

لم يَعُدِ الملك يسمع شيئًا من حديث الدوقين، فعرف أن المحادثة قد انتهت.

وأن هذين الخائنين قد افترقَا …

فرجع مع شيكو إلى قاعته وهو يلتهب من الحنق على أخيه، وقد وقف على جميع خداعه وأسراره.

فلما خلَا بهما المكان قال لشيكو: ماذا تقول فيما سمعته؟

– أقول إن كل ملك من ملوك أسرتكم كان له حادثة يصاب بها كما قال الدوق دي كيز.

ولكن كل ملك من هؤلاء الملوك كان يجهل ما سيصاب به، ولا يعلم شيئًا من تلك الحادثة التي تنذره.

فإن هنري الثاني لم يكن يتوقَّع أن يُصَاب في عينه.

وفرنسوا الثاني لم يكن يحسب أنه سيُصَاب في أذنه.

وأنطوان دي بوربون لم يخطر في باله أنه يموت بضربةٍ تصيبه في كتفه.

وشارل التاسع لم يَدُرْ في خلده أنه سيموت بفمه.

وهكذا فإن كل ملك قُتِلَ غيلةً وغدرًا كان يجهل عدوه الذي يهدِّده، أما أنت أيها الملك فأنت موفَّق أكثر من الأسلاف …

فأنت تعرف المعرفة الصحيحة أن عدوك الذي يريد قتلك، هو أخوك؛ فتدبَّرْ.

– نعم يا شيكو، إن الأيام بيننا وسنرى ما يكون.

وبات الملك تلك الليلة وهو منقبض الصدر مما لقيه من كيد أخيه، وجعل يدير وسائل الانتقام.

وبات الدوق دانجو وهو منشرح الصدر فَرِح القلب، يعلل النفس بالأماني، ويؤمل أن يرقى إلى سدة العرش، ويُلقِي بأخيه إلى الحضيض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤