الفصل الثاني والعشرون

هروب الدوق، ومحاولة مصالحته مع الملك

أما الدوق فإنه خرج من منزل باسي إلى منزل الدوق دي كيز، وهو حانق على باسي طيب النفس لما توهَّمَه من خدعة الملك، فأقام مع الدوق دي كيز يتآمران إلى ما بعد منتصف الليل.

وأما الملك فإنه قد عزم العزم البات على معاقبة أخيه أشد العقاب وإبعاد كل أعوانه.

فبدأ بمونسورو، فأرسله إلى الضواحي بحجة أنه عازم على الصيد في الغد.

ثم أرسَلَ جميع أعوان الدوق إلى جهات مختلفة، وأمر بالقبض على كثيرين منهم.

ثم أمر حرَّاسه أن يحيطوا بغرفة الدوق، وأن لا يأذنوا له بالخروج منها.

وبعد منتصف الليل بساعة، أقبَلَ الدوق وهو منشرح الصدر يعلِّل النفس بالأماني.

فدخل إلى غرفته وهو لم يَرَ الحرَّاس، ولم يفطن إلى أمرٍ من انتقام أخيه.

فلما كان الصباح، حاوَلَ الخروج لمقابلة أخيه، فمنعه الحرَّاس وأخبروه بما تلقَّوه من أمر جلالته بشأنه.

فأجفل الدوق لهذا الخبر، وحرق الأرم من الغيظ، ثم أنذَرَ وتوعَّدَ وحاوَلَ الخروج عنوةً.

ولما رأى أن ذلك محال، عاد إلى غرفته وهو يزأر كاللبوة فقدَتْ أشبالها.

ولم يَقُمْ هنيهة حتى دخل عليه الملك وهو يبسم تبسُّم الهزء والاحتقار.

فدار بينهما حديث طويل، أظهر له الملك في ختامه كيف اطَّلَع على خيانته.

ثم تركه وانصرف.

فعرف الدوق أنه لم يَعُدْ له مناص من قبضة أخيه، وجعل يفكِّر مهمومًا بوسائل الخلاص.

لكنه لم يهتدِ إلى رأي سديد.

ولم ينتصف النهار حتى شاع خبر سجن الدوق في كل باريس، وعلم أكثر المقرَّبين بأن الملك سيصعق أخاه، وسيضربه الضربة القاضية التي طالما توقَّعَ حدوثها العارفون بأسرار البلاط.

أما الدوق فإنه أقام في غرفته منفردًا، وقد علم بأنه لا ينقذه من غضب أخيه ودسائس أعدائه غير الهرب.

ولكن كيف يجد سبيلًا إلى الفرار وهو محاط بحرَّاس لا يغفلون عنه طرفة عين.

فلبث إلى منتصف الليل، وهو لا يقرُّ له بال، ولا تخمد له لوعة.

وبينما هو جالس يفكِّر تفكيرَ القانط، إذ بكرةٍ قد كسرَتْ زجاجَ النافذة ووقعت أمام رجلَيْه.

فأجفل الدوق، وشعر للحال أن يدًا قادرة قد مُدَّتْ إلى إسعافه.

ثم أكَبَّ على الكرة، فأخذها ومزَّقَ جلدها بأسنانه، فرأى في طيِّها رسالة.

فقرأ فيها وهو يختلج من الاضطراب ما يأتي:

إذا كنتَ تُؤثِر الحياة فافتح الخزانةَ الكائنة في غرفتك، تجد في علبة صغيرة فيها سلمًا من الحرير، فعلِّقْه في حديد النافذة تجد في انتظارك جميع معدات الفرار.

مُحِبٌّ لكَ

فطار فؤاد الدوق من الفرح، وأسرع في الحال إلى الخزانة، فوجد فيها العلبة وفي طيِّها السلم.

فتركها في مكانها، وذهب إلى الباب يتفقَّد الحراس … فوجدهم نائمين.

فاطمأن وأخذ السلم فعلَّقها في النافذة، بعد أن تأكَّدَ من متانتها وطولها، ثم نزل عليها حتى بلغ إلى الأرض.

فوجد بانتظاره فارسًا مقنَّعًا فقال: مَن أنت؟

فقال الفارس: طِبْ نفسًا، فأنا ابن عمك هنري.

فدهش الدوق وقال: أنت هنري دي نافار، وكيف أكافئك عن هذا الجميل؟

– خير ما تكافئني به إلى الآن أن تُسرِعَ في الهرب إلى دانجو، وستجد على باب السور أعوانًا لك ينتظرون قدومك … فأسرع الآن قبل فوات الفرصة.

فركب الدوق وانطلق بهما الجوادان يقطعان الأرض نهبًا حتى خرجَا من باريس.

فلقيا خمسة فرسان بالانتظار.

فودَّعه هنري وعاد إلى باريس، وانطلق الدوق مع رفاقه في طريق دانجو وهو لا يكاد يصدِّق بالنجاة.

•••

لنَعُدِ الآن إلى باسي، فإنه غادر باريس مع طبيبه الخاص، فجعل يسير في الليل ويستريح بالنهار … حتى بلغ بعد ستة أيام إلى قرية ماريدور.

وكانت ديانا قد وصلَتْ إليها قبله بيوم واحد مع أبيها، فذهب ساعة وصوله إلى زيارة البارون.

فوجد هناك سانت ليك وامرأته.

فقابَلاه بمنتهى الدهشة والسرور.

أما ديانا فإنها كانت تنظر إليه نظرات ملؤها الحب والحنان لم تَخْفَ عن سانت ليك وامرأته.

فكانَا يبتسمان لرؤية هذين العاشقين اللذين لم يستطيعَا إخفاءَ ما يكابدانه من لواعج الغرام …

ويذكران حبهما القديم.

واغتنم باسي وديانا فرصةَ غياب مونسورو في باريس، فكانا يقضيان أكثر ساعاتهما مختليين في الغابات، يتناجيان ويجنيان ثمر الغرام.

إلى أن افتضَحَ سرهما أمام سانت ليك وامرأته.

فباحَتْ ديانا للزوجة.

وباح باسي للزوج بسرِّ الغرام.

فجعل الزوجان يساعدانهما مكافأةً لباسي عمَّا صنعه معهما من الجميل في يوم عرسهما.

(كما يذكر القراء في مقدمة هذه الرواية.)

ولم يمضِ على قدوم باسي ثلاثة أيام، حتى شاع قدوم الدوق دانجو، فلم يجد باسي بدًّا من الذهاب إليه.

فذهب فرآه قد أقام البلاد وأقعدها وهو يستعدُّ ويتأهَّبُ لإثارة حرب داخلية انتقامًا من أخيه.

فتأهل به الدوق وأخفى ما يحمل عليه من الحقد.

ثم علم منه أن مونسورو لا يزال في باريس، وأن امرأته قد قدمت إلى القرية مع أبيها.

فأفعم فؤاد الدوق فرحًا، ونسي كلَّ ما هو فيه من القلاقل والمشاغل.

فلم يلبث أن خرج من عند باسي، حتى ذهب مُسرِعًا إلى زيارة ديانا التي قابلَتْه بفتورٍ كاد يحبط كلَّ أمانيه.

وعاد في اليوم التالي أيضًا إلى مثل هذه الزيارة، فقابلَتْه بنفس الفتور.

وكان باسي حاضرًا، فعلم الدوق مما كانَا يتبادلانه من نظرات الغرام أن الفتاة عاشقة لباسي، وأنه يضرب في حديد بارد.

فثارَتْ فيه كوامنُ الأحقاد، حتى كاد يبطش بصفِيِّه القديم، لكنه أخفى ما به من الغيرة.

وعاد إلى المنزل وهو يفكِّر باختطاف ديانا والانتقام من باسي.

وفي اليوم الثاني، بينما كان الدوق واقفًا في منزله يسرح الطرف من النافذة في الحقول، وهو قانط من الحب، إذ بصر بفارس ينهب الأرض حتى وصل إلى القصر.

فترجَّلَ عن الجواد ودخل مسرعًا إلى ردهة القصر.

فعرف الدوق أنه مونسورو، وأسرع إلى مقابلته لما رأى على وجهه من ملامح الاهتمام.

فلما اختلَيَا قال له مونسورو: مولاي، إنَّ جلالة الملكة قادمة إلى دانجو لمقابلة سموكم.

فارتاع الدوق لهذا الخبر وقال: ما عساها تريد مني؟

– إنها آتية لعقد الصلح بينكم وبين جلالته.

– ذلك محال؛ لأن أخي لا يريد الصلح بل هو يرغب بالانتقام، وما هو بأشد نزوعًا مني إلى الشر وتكدير كأس السلام.

– هو ما قلتُه لكم يا مولاي، وما أتيتكم إلا بالخبر اليقين.

– إذًا فاروِ لي ما جرى بعد غيابي؟ وما حمل أخي إلى مبادرتي بالصلح ولم أبدأ بعدُ بالحرب؟

– هو ظنُّه بأن الذي ساعَدَك على النجاة لم يكن غير هنري دي نافار.

فأشارَتْ عليه جلالة الملكة والدة سموكم، أن يكون وإياك على هذا العدو الطامع بالعرش.

وذاك حذرًا من أن تتفق وإياه.

ثم اقترحَتْ على جلالته أن تأتي إليك وتعود بك إلى باريس، على أن تضمن لك عفوه ورضاه.

فقبِلَ جلالته بذلك … وهي الآن قادمة، وربما وصلت بعد ثلاثة أيام.

– حسنًا … فاذهب واسترِحْ في منزلك من عناء السفر، وسأعمل الروية في هذا الشأن.

فودَّعه مونسورو وعاد إلى منزله وهو يلتهب شوقًا إلى امرأته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤